الفصل الثالث عشر
إياس : كنت أفكر بها في كل وقت وفي كل مكان ، لكني لا أستطيع الوصول إليها رغم أنها قريبة مني جداً جداً ، أجد حاجزاً من نار يفصلني عنها لا حاجزاً خشبياً ، صعب أن تعيش ممتلكاً خيارات غير قابلة للتنفيذ على أرض الواقع .. وأن تمتلك ضغوطات غير قابلة للتنفيس .. ومشاعر لا يشعر بها أحد ، صحيح أني أستطيع الوصول إلى الدكتور ومحادثته لكن في ذلك بعض بجاحة ، صحيح أن باستطاعتي محادثتها لكن عقاب الله بالمرصاد ، صحيح أني أحبها لكن حبي مكبّل ضعيف مقابل الكثير من القيود ..كالموءودة التي تكافح لأجل الحياة مبعدة بعض التراب عن أنفها لمجرّد أن تتنفس .. وفي النهاية يكون دفنها ودفن يديها وأنفها المشهد الآخير !
كان حالي أشبه ما يكون بطنجرة ضغط ، أغلي من الداخل موشكاً الانفجار وظاهري هادئ ساكن لا يبدي أي شيء ، كنتُ في تلك الأيام حساساً جداً سريع الانفعال على غير عادتي في البيت والجامعة والعمل .
وتحت تأثير حالي تلك .. كنت أشعرُ بعينيّ أمي ترمقني من أعلاي إلى أسفلي بتأمل ، أحس ببرد عينيها يلفني مسكناً بعض الحرارة التي أجدها في داخلي ، وقد كنتُ لا أظهر لها أني أشعر بها تنظر إلي وبشكل ملفت ، حتى إني أذكر مداعبة أخي لها بقوله : ( أكل هذا الحب في قلبك يا أمي مكنون لإياس ؟ ) ، فتتبسّم معلنة محبتها للجميع بنفس القدر !
بعد مرور أيـام .. وحين دخولي إلى البيت في العاشرة مسـاءاً قادماً من العمـل نادتني أمي - وكانت تجلس في صالة البيت - ، لم أنتبه لندائها إذ كنتُ غارقاً ساهياً سارحاً في خيالات كثيرة ، نادت مرّة أخرى بصوتٍ أعلى قليلاً فالتفتُ صوبها وابتسمتُ ، دعتني للجلوس وإياها فوضعتُ حقيبتي عند الدرج وأقبلتُ نحوها بخطوات أجرّها جراً حتى لا تشعر صاحبة القلب الرقيق بما أعانيه من إعياء نفسي وذهني وجسدي .
قدّمت لي كوباً من العصير ثم انطلقت بروح الأمومة تحلّق في سمائي ، تحدثَت عن كل شيء .. الجامعة والمسجد والبيت والعمل وبيوت الأعمام والأخوال والسفر والذكريات القديمة ، كانت تستولد الضحكة من فِيّ وتعصرها من شفتيّ عصراً ، إن ابتسمتُ ضحكتْ .. وإن ضحكتُ من طرفة انفجرتْ مقهقهة سعيدة ، لم يبقَ إلا بابٌ واحدٌ في حديثها لم تطرقه - كعادتها - وقد كنتُ أنتظر قلِقاً خشية أن تشرع في الحديث عنه وأنا لا طاقة لي به .
وكان ما أخشاه .. قالت أمي بعد أن ارتشفت من كوب عصير البرتقال الذي أمامها :
أم إياس : ما رأيك الآن يا بني ؟ أنبحث عن المحظوظة التي ستسرقك مني ؟ كنت أسأل في الأيام الماضية عن بعض الفتيات ذوات الدين والخلق والجمال والدلال والحسب والنسب ، أسأل عن فتياتٍ بعينهنّ ممن هن جديرات بك ولن أستخسر أن أهبك لإحداهنّ ، فما ترى ؟
كنتُ أمسك بفطيرة صغيرة محشية بالجبن موشكاً قضمها ، ولمّا أن انتهت أمي من سؤالها كنت قد قضمتها ومضغتها وبلعتها ، ارتبكتُ وتغير وجهي مُفترّاً عن ابتسامة صفراء ميتة قائلاً ..
إياس : من أين لكم هذا الجبن الطيّب ؟ لا أذكر أن اشتريت لكم جبناً آخر مرة ؟
أم إياس : ألهذه الدرجة تستحيي من ذكـر الزواج ، لا تغيرّ الموضوع يا ولدي وأجبني ، لقد وجدتُ لك فتاة باسم الله ما شاء الله ، لا أدري كيف أعماني الله عنها من قبل ، وهي بالتمام والكمال على مواصفاتك وأكثر ، إن وافقتَ اتصلتُ بهم غداً أخطبها لك .
إياس : همممففف .. قبل ذلك أريد أن أحدّثك بحديثٍ ما كنت لأطلع عليه أحداً أي أمّه ، استقر في صـدري منذ أسبوعين وأنا أكتمه وأتحاشا إظهاره رغبة في قتله ، وبما أنك حدثتِني يا قرة العين بموضوع الزواج فأريد أن أفاتحك به !
أم إياس : أشعر بك يا ولدي .. أشعر بك ، ما جلستُ هنا إلا منتظرة هذا الحديث منك وإن ألبسته عدة ملابس إلا أن القصد يأبى إلا أن يكون جلياً في النهاية ، قل ما عندك يا روح أمك .
إياس : أمي .. لمّا اتصلتِ بأم رؤى تخطبينها أكانت مُرحّبة أو لم تكن مرحبة ؟ وهل ذكَرت موقف الأب من الزواج من طالب أم لا ؟ وهل عرّضت نحو عيبٍ ما وهي تتحدث ؟ أريد أن أعرف فقط .
أم إياس : وأيضاً كنت أظن أن هذا ما يشغل تفكيرك ، الحق أني لستُ من اتصل عليهم يا بني ، ولكن لي صديقة قريبة جداً مني تكون ابنة عم أم رؤى كانت هي واسطة ما بيننا ، والحق أنهم لم يذكروك بعيبٍ ولا بسوء ولم يشيرو إلى أيٍ من ذلك .
إياس : أمي ! لستِ أنتِ من خطبها منهم ؟
أم إياس : لا يا بني ...
إياس : ولمَ يا أمي ؟ لمَ ؟ أترينني شاباً تائهاً ضائعاً لا يُرفع به رأس ؟ أم ترينني سيئ خلق قليل دينٍ لا يُفخر بقربه ؟ أم أنا طالب لا أحد يقبل به فأردتِ أن يكون الرد على غيرك وليس في وجهك ؟ لمَ يا أمي ؟ ألا ترين أن تواصل الأهل وثقتهم بأبنائهم وسمعتهم وتقديمهم إلى غيرهم أكثر بريقاً وأكثر لمعاناً وأجمل في أعين أهل الفتاة ، ذلك أن الشاب يبدو في أعينهم حائزاً على ثقة والديه !
أم إياس : بلى والله .. بلى والله .. أفخر بك وأعتز ، وما جلستُ مجلساً من مجالس النساء إلا قلتُ قال ابني إياس وفعل ابني إياس وأهدى لي ابني إياس ، لكني فعلت ما فعلت ظناً مني أنه الأفضل ، خصوصاً وأنهم لا يعرفون من نكون ، ولا يُستساغ أن أمدحك وأنت ابني وأن أمدح والدك وهو زوجي ، فأحببت أن أجعل صاحبتي بيننا حتى تخبرهم عنّا ما يشاؤون ، لا تقسُ عليّ يا ولدي فأنا والله لك ناصحة محبة .
إياس : ولمّا رأيت والدتي تاثرت من حديثي الذي أطلقته دون إدراك مني بادرتُ إليها مقبلاً رأسها ويديها معتذراً ومتأسفاً ثم أهويتُ إلى قدميها لأقبلهما فأمسكت رأسي من شعره ورفعته إليها ثم نظرت إليّ وقالت ...
أم إياس : ليس لرأسٍ حوى القرآن أن يكون تحتي ولا لفمٍ قرأ القرآن أن يقبل قدمي ، ارفع رأسك فما غضبتُ عليك يا بني وما أنا بالغضوبة ، ولكني أحببت أن تقدر موقفي وأني إلى جانبك في صفك ولست إلى ضدك !
إياس : أمي .. لي طلبٌ واحدٌ منك ، أعـدك وعد حرٍ كريم أن لا أسألك بعده سؤالاً ، وأرجو أن تجيبيني إليه ، ارحمي فلذة كبدك يا أمي واشفِ قلبه المعلّق بفتاة أحبّها ، أمي .. أرجوك .. أرجوك اخطبيها منهم مرة أخرى فلقد دعوت ربي من قبل ولا أظنه إلا سيستجيب لي !
أم إياس : ماذا ؟؟؟؟ أخطبها مرة ثانية ؟؟؟؟ وماذا يقول عنّا الناس ؟؟؟؟ إياس يخطب فيُرد ثم يعود مرة ثانية لمن ردته ؟؟؟؟ أليس لديك كرامة نفس ؟؟؟؟ ألا تحترم سمعة والدك الكريم المحبوب ؟؟؟؟ كنت أظنك أعقل من ذلك وأرقى فكراً وأكثر احتراماً لذاتك وأهلك ، نحن عائلة محترمة كريمة ذات مكانة وقدر ، إن ردت فتاة ابننا فهي الخاسرة إذ حُرمت شاباً ديّناً خلوقاً مهذباً ذا جاه وسمعة حسنة ، اعذرني يا ولدي لا أستطيع أن أفعل ما تريد !
إياس : لكِ ما تريدين يا أمي .. أمركِ مطاع ، لكنكِ علمتِني صغيراً أن لا أهتم بأقوال الناس كثيراً ما دمتُ أعمل ما أراه صحيحاً ، أتذكرين يوم أن امتنعتُ عن الذهاب للحلقة بحجة أن كل من فيها أصغر مني ولأن أبناء الحي يسخرون مني لجلوسي مع الصغار ؟ أتذكرين أنك قلتِ لي أن أفعل ما أراه صائباً وما يرضي ربي وأن أترك من يسخر مني لأنه سيندم يوماً أن لم يفعل مثل فعلي الصحيح ؟ هذا كل شيء يا أمي .. نظرت للأشياء كما علمتِني أنتِ ، ما نظرتُ إلى قول الناس ولا إلى رأيهم ما دام ما أفعله يرضي ربي أولاً ثم يرضيني .
إياس : قبلتُ يدها ثم دعوت لها بخير الصباح وقمت نحو غرفتي ، كنت أغالب دمعتي ألا تسقط متشبثاً ببعض ما تبقى لدي من تماسك الرجولة وبأسها ، استلقيتُ على فراشي أنظر إلى السقف بحزنٍ طاغٍ جارف ، كون بابٍ فُتح ثم أغلق سريعاً .
كنت أنظر إلى السقف بحزنٍ وأتأمله وأرسم عليه أحزاني وألوّنها .. بالأسود ! يا لهذا السقف ؛ بالأمس كنت أنظر فيه إلى نفسي ممسكاً بيد رؤى نجري على أرضٍ خضراء أسبقها وتسبقني .. كنتُ أنظرُ فيه إلى قدحٍ مزخرفٍ سُكب فيه عصير بارد أشرب منه مرة وتشرب هي منه أخرى .. كنتُ أنظر فيه إلى رؤى وقد سخطت عليّ في أمرٍ وهي تصرخ وتعاتب وأنا أسمع إليها بهدوء .. كنتُ أنظر فيه إلى رؤى حاملاً .. نفساءَ .. أماً تُعد ابنها للمدرسة .. كنتُ أنظر فيه إلى كل شيء ، أما الآن .. فهو جدار أسود عديم الآلوان ... ورحتُ أغط في نومٍ عميق !
صباحاً .. استيقظتُ ونزلتُ لأفطر ، فإذا والدي ووالدتي بانتظاري على طاولة الإفطار - بعد أن ذهب إخوتي لمدارسهم وجامعاتهم - ، تحدثنا سوياً واستمعنا إلى نشرة أخبار الصباح من الجريدة التي يمسك بها والدي ويقرأ ، ولمّا أوشكتُ على القيام والتأهب للذهاب لجامعتي قالت لي والدتي وهي باسمة :
أم إياس : تحدّثتُ مع والدك بشأن الموضوع الذي حدثتني عنه البارحة ، اختلف معي كثيراً فيما ذهبت أنا إليه ، وطلب مني أن أقوم بما طلبته مني لأريحك وأريح قلبك يا ولدي ، وهاهو رقم أم رؤى في جوّالي وسأتصل بها في أقرب وقت .
إياس : حقاً ؟ جزاكم الله خيراً .. جزاكما الله خيراً !
إياس : كِدتُ أفقد عقلي من فرحي ، حتى إنني نسيت أن أقبل رأسي والديّ ، خرجتُ من البيت والسعادة تملؤني وكأن الله أعاد إليّ الحياة من جديد ، كنت طول الطريق أحمد الله وأستغفره وأسبحّه دون شعور ، ياااااه .. أصبحَ الحلمُ ممكناً وقريباً مرة أخرى !
مرّ اليوم سريعاً .. عُدتُ ظُهراً إلى البيت تحملني الريح .. لا قدميّ ، وكان المطبخ قبلتي فاستقبلته أبحث عن أمي ، استفسرتُ منها أكان شيء ؟ وماذا قالوا ؟ ومتى سيردون ؟ متعجلاً الأمرَ كنتُ ، فأرتني جوّالها فإذا هي قد اتّصلت على أم رؤى خمس مرات وفي كلها كان جوّالها مقفلاً ، أخذتُ جوّال أمي منها حتى أتصل أنا لها ، كنت أتصل كل خمس أو عشر دقائق تقريباً ويكون الجهاز مقفلاً ، وبعد العشاء .. جربتُ أن أتصل وكانت المفاجأة أن تم الاتصال فعلاً ، فرميتُ الجوّال على والدتي وأشرتُ إليها أن تحدّثي ، قامت والدتي مسرعةُ صوب غرفتها وأقفلت الباب، ثم خرجت بعد نصف دقيقة ، كان صوت الباب وهو يُفتح بهذه السرعة مُزعجاً لي ، ولكن وجه والدتي كان فرحاً ...
إياس : ما الأمر يا أمي ؟