مثل من أعرض عن كلام الله
فصل ومنها قوله تعالى في تشبيه من أعرض عن كلامه وتدبره فما لهم عن التذكرة معرضين كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة شبههم في إعراضهم ونفورهم عن القرآن بحمر رأت الأسد والرماة ففرت منه وهذا من بديع التمثيل فإن القوم من جهلهم بما بعث الله سبحانه رسوله كالحمر فهي لا تعقل شيئا فإذا سمعت صوت الأسد أو الرامي نفرت منه أشد النفور وهذا غاية الذم لهؤلاء فإنهم نفروا عن الهدى الذي فيه سعادتهم وحياتهم كنفور الحمر عما يهلكها ويعقرها وتحت المستنفرة معنى أبلغ من النافرة فإنها لشدة نفورها قد استنفر بعضها بعضا وحضه على النفور فإن في الاستفعال من الطلب قدرا زائدا على الفعل المجرد فكأنها تواصت بالنفور وتواطأت عليه ومن قرأها بفتح الفاء فالمعنى أن القسورة استنفرها وحملها على النفور ببأسه وشدته
فصل ومنها قوله تعالى مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين فقاس سبحانه من حمله كتابه لؤمن به ويتدبره ويعمل به ويدعو إليه ثم خالف ذلك ولم يحمله إلا على ظهر قلب فقرأه به بغير تدبر ولا تفهم ولا اتباع له ولا تحكيم له وعمل بموجبه كحمار على ظهره زاملة أسفار لا يدري ما فيها وحظه منها حملها على ظهره ليس إلا فحظه
مثل الذين حملوا التوراة
من كتاب الله كحظ هذا الحمار من الكتب التي على ظهره فهذا المثل وإن كان قد ضرب لليهود فهو متناول من حيث المعنى لمن حمل القرآن فترك العمل به ولم يؤد حقه ولم يرعه حق رعايته
فصل ومنها قوله تعالى واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون فشبه سبحانه من آتاه كتابه وعلمه العلم الذي منعه غيره فترك العمل به واتبع هواه وآثر سخط الله على رضاه ودنياه على آخرته والمخلوق على الخالق بالكلب الذي هو من أخبث الحيوانات و أوضعها قدرا و أخبثها نفسا وهمته لا تتعدى بطنه وأشدها شرها وحرصا ومن حرصه أنه لا يمشي إلا وخطمه في الأرض يتشمم و يتروح حرصا وشرها ولا يزال يشم دبره دون سائر أجزائه وإذا رميت له بحجر رجع إليه ليعضه من فرط نهمته وهو من أمهن الحيوانات وأحملها للهوان وأرضاها بالدنايا والجيف المروحة أحب إليه من اللحم الطري والقذرة أحب إليه من الحلوى وإذا ظفر بميتة تكفي مائة كلب لم يدع كلبا يتناول معه منه شيء إلا هر عليه وقهره لحرصه وبخله وشره ومن عجيب أمره وحرصه أنه إذا رأى ذا هيئة رثة وثياب دنية وحال زرية نبحه وحمل عليه كأنه يتصور مشاركته له ومنازعته في قوته وإذا رأى ذا هيئة حسنة وثياب جميلة ورئاسة وضع له خطمه بالأرض وخضع له ولم يرفع إليه رأسه وفي تشبيه من آثر الدنيا وعاجلها على
مثل الذي أوتى الكتاب ولم يعمل به الله والدار الآخرة مع وفور علمه بالكلب في لهثه سر بديع وهو أن الذي حاله ما ذكره الله من انسلاخه من آياته واتباعه هواه إنما كان لشدة لهفه على الدنيا لانقطاع قلبه عن الله والدار الآخرة فهو شديد اللهف عليها ولهفه نظير لهف الكلب الدائم في حال ازعاجه وتركه واللهف واللهث شقيقان وأخوان في اللفظ والمعنى قال ابن جريج الكلب منقطع الفؤاد لا فؤاد له أن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث فهو مثل الذي يترك الهدى لا فؤاد له إنما فؤاده ينقطع قلت مراده بانقطاع فؤاده أنه ليس له فؤاد يحمله على الصبر وترك اللهث وهكذا الذي انسلخ من آيات الله لم يبق معه فؤاد يحمله على الصبر عن الدنيا وترك اللهف عليها فهذا يلهف على الدنيا من قلة صبره عليها وهذا يلهث من قلة صبره على الماء فالكلب من أقل الحيوانات صبرا عن الماء وإذا عطش أكل الثرى من العطش وإن كان صبر عن الجوع وعلى كل حال فهو من أشد الحيوانات لهثا يلهث قائما وقاعدا وماشيا وواقفا ذلك لشدة حرصه فحرارة الحرص في كبده توجب له دوام اللهث فهكذا مشبهه شدة حرارة الشهوة في قلبه توجب له دوام اللهث
فإن حملت عليه بالموعظة والنصيحة فهو يلهث وإن تركته ولم تعظه فهو يلهف قال مجاهد وذلك مثال الذي أوتى الكتاب ولم يعمل به وقال ابن عباس إن تحمل عليه الكلمة لم يحملها وإن تركته لم يهتد إلى الخير
سبب الانسلاخ كالكلب إن كان رابضا لهث وإن طرد لهث وقال الحسن وهو المنافق لا يثبت على الحق دعي أو لم يدع وعظ أم لم يوعظ كالكلب يلهث طرد أو ترك وقال عطاء ينبح إن حملت عليه أو لم تحمل عليه وقال محمد بن قتيبة كل شيء يلهث إنما يلهث من إعياء أو عطش ألا الكلب فإنه يلهث في حال الكلال أو حال الراحة وحال الصحة وحال المرض والعطش فضربه الله مثلا لمن كذب بآياته وقال ابن عطية إن وعظته فهو ضال وإن تركته فهو ضال كالكلب إن طردته لهث وإن تركته على حاله لهث ونظيره قوله تعالى وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون
وتأمل ما في هذا المثل من الحكم و المعنى فمنها قوله وآتيناه آياتنا فأخبر سبحانه أنه هو الذي آتاه آياته فإنها نعمة والله هو الذي أنعم بها عليه فأضافها إلى نفسه ثم قال فانسلخ منها أي خرج منها كما تنسلخ الحية من جلدها وفارقها فراق الجلد ينسلخ عن اللحم ولم يقل فسلخناه منها لأنه هو الذي تسبب إلى انسلاخه منها باتباع هواه ومنها قوله سبحانه فأتبعه الشيطان أي لحقه وأدركه كما قال تعالى في قوم فرعون فأتبعوهم مشرقين فكان محفوظا محروسا بآيات الله محمي الجانب بها من الشيطان لا ينال منه شيئا إلا غلى غرة وخطفة فلما انسلخ من آيات الله ظفر به الشيطان ظفر الأسد بفريسته فكان من الغاوين العاملين بخلاف علمهم الذين يعرفون الحق ويعملون