ـــــــــ*×*ـــ((5))ـــ*×*ـــــــــ
دفعت باب الحديقة في هدوء و أنا ألقي نظرة على السيارة المتوقفة أمام المستودع... طارق عندنا اليوم... خيرا إن شاء الله...
قبل أن أتجاوز الباب الرئيسي تناهت إلي، كالعادة ضحكات أخي ماهر... ألا يكبر هذا الشقي و ينضج قليلا!! ضحكه العالي يصل إلى مسامع الجيران...
كانت عمتي سهام و سارة تجلسان في قاعة الاستقبال رفقة أمي، في حين كان طارق يبادل ماهر الدعابات في غرفة هدا الأخير. ألقيت التحية و جلست في قاعة الاستقبال... و مند الوهلة الأولى لاحظت النظرة الغريبة التي طالعتني بها عمتي. صحيح أنها نظراتها كلها غريبة مذ جاءت إلى بيتنا أول مرة... لكنها نظرات مختلفة، نظرات عتاب... أو انزعاج... على أية حال، كنت أتوقع خيبة أملها من رغبة طارق في خطبة راوية، فقد تبعثرت أحلامها في لم شمل الأسرة من جديد عبر المصاهرة!
لكنني تجاهلت تماما نظراتها تلك و اقتربت من سارة هامسة :
ـ هل اتفق طارق مع عمتي على موعد زيارة والدي راوية؟
أشارت إلي سارة أن أغير الموضوع و هي تقول في صوت خفيض :
ـ يبدو أنهما تجادلا في السيارة في طريق قدومهما... سأحدثك لاحقا بما حصل...
رفعت رأسي لأجد عمتي تحدجني بنظرات فاحصة، فابتسمت بسرعة و أنا أقوم من مجلسي قائلة :
ـ آسفة يا جماعة... لدي الكثير من الدراسة هاته الأيام، فالامتحانات على وشك أن تبدأ... لذا سأذهب إلى غرفتي...
غادرت الصالة تتبعني دعوات أمي و عمتي بالنجاح و التوفيق. و ما إن أغلقت باب الغرفة خلفي حتى طرق أحدهم الباب. عقدت حاجبي في تساؤل و استغراب ثم فتحت الباب من جديد. كان طارق الذي سمع صوتي و وقع أقدامي في الرواق فتبعني!
ـ آسف على الإزعاج... كنت فقط أريد أن أتحدث إليك في أمر ما، بعجالة... لن آخذ من وقتك الكثير...
ـ طبعا... تفضل...
بدا عليه بعض التردد ثم قال :
ـ أمي ليست موافقة على ارتباطي براوية... لكنني وعدتها بأن أتقدم في أقرب وقت ممكن. و لا أريد بأي حال من الأحوال أن تشك في جديتي في مسألة الارتباط... لذلك، سأضطر إلى لقاء والدها و أمي غير راضية... على أمل أن تقتنع فيما بعد... لذا هلا أخبرتها بأنني سأزورهم في نهاية الأسبوع؟
نظرت إليه في دهشة... لكنني سرعان ما أومأت برأسي قائلة :
ـ طبعا... سأخبرها...
ـ شكرا جزيلا لك يا مرام...
عاد طارق أدراجه إلى غرفة ماهر... و ماهي إلا لحظات قليلة حتى لحقت بي سارة إلى غرفتي. ارتمت على الفراش و هتفت في إعياء :
ـ طارق المسكين... أبي يضيق عليه من أجل مسألة العودة النهائية إلى الوطن... و أمي تعكر عليه مسألة الزواج!
جلست إلى جانبها و أنا أقول في اهتمام :
ـ أخبريني... ما الذي حصل بين طارق و عمتي؟
اعتدلت سارة في جلستها مستعدة لحديث طويل، ثم تنحنحت و هي تقول :
ـ حسن... أنت تعلمين كم أمي متعلقة بطارق، خاصة أنه ولدها الذكر الوحيد... و هي تخاف عليه كأنه لا يزال طفلا صغيرا، و عندما أعرب عن رغبته في الاستقرار في البلد شجعته على الزواج حتى تطمئن عليه بسرعة... لكنها كانت تفكر في ارتباطه بإحدى فتيات العائلة... يعني أنت أو حنان ابنة خالتي هيام...
امتقع لوني مع جملتها الأخيرة، و واصلت سارة قائلة و هي تلاحظ تغير سحنتي :
ـ لكن طارق أخبرها بأنك مرتبطة بحسام... و بما أن الخبر لم ينتشر بعد في العائلة و الخطبة لم تعلن رسميا، فهي كانت تميل إلى عدم تصديق ذلك... و أصرت على المحاولة، لكن طارق كان يمنعها بشدة في كل مرة تجنبا للإحراج... ثم حين أخبرها بأنه عزم على خطبة راوية، صديقتك، جن جنونها... و قالت بأنه إن لم يتزوجك أنت فالأولى أن يتزوج حنان... و هي ذهبت البارحة بالفعل لزيارة خالتي هيام، و حاولت جس النبض... و لعلها وجدت ترحيبا من خالتي و حنان نفسها فأصرت على رفضها لراوية... لكن كما ترين، طارق مصر على موقفه... و هي أكثر منه إصرارا، و لست أدري ما الذي سيحصل بينهما!!
سرحت للحظات في مشكلة طارق، و مشكلة راوية... فطارق ممزق بين رغبته التي لا أدري ما دافعها، هل هو حب صادق أم تحد أم خداع لنفسه و للعالم... و بين رغبة والدته في لم شمل الأسرة من جديد. و راوية هي الأخرى ممزقة بين حبها القديم لجاد... و بين رغبتها في الخلاص من الدوامة التي تكاد تغرقها بتفكيرها المستمر في الصعوبات و العراقيل التي تعيق ارتباطهما...
ماذا لو كان طارق غير واثق من مشاعره تجاه راوية... فهو حينها سيظلمها بإبعادها عن جاد و يظلم نفسه معها بزواج لم يكن مقتنعا به يوما! يا إلهي... يجب أن أعرف سبب تعلق طارق براوية و دوافعه الحقيقية من الارتباط بها... لكن كيف؟!
التفتت إلى سارة التي كانت تتأملي ملامحي القلقة المتفكرة و على شفتيها ابتسامة غامضة، فقلت في اهتمام :
ـ سارة... هناك مشكلة كبيرة...
ترددت للحظات... لا يمكنني أن أخبرها عن مشاعر راوية السابقة نحو جاد، فقد يزل لسانها أمام طارق و يفسد كل شيء...
ـ سارة، هل حدثك طارق عن ارتباطه براوية؟
نظرت إلي في استغراب و هي تقول في تساؤل :
ـ ماذا تقصدين؟
قلت موضحة :
ـ هل قال مثلا أنه يحب راوية، أو معجب بها... هل ذكر أسباب رغبته في الارتباط بها؟
رفعت سارة عينيها نحو السقف و عقدت حاجبيها في تفكير ثم قالت في بطء :
ـ لست أدري... ربما... لكنه لم يفصح تماما... و لكنني أظنها تعجبه و إلا لما فكر في الارتباط بها... أليس ذلك منطقيا؟!
تنهدت في يأس و أنا أقول في نفسي : لو كانت تصرفات البشر دائما منطقية، لانتشر السلام في أرجاء المعمورة... و لكن هيهات... فقد تعمي بعض المشاعر الطفيلية بصيرة الإنسان و تدفعه إلى تصرفات حمقاء لا يدرك نتائجها إلا بعد فوات الأوان! فكيف تفكر يا طارق؟ هل تحاول مجرد نسيان القصة القديمة... أم أنك شفيت منها و تبحث عن استقرار حقيقي؟!
انتبهت إلى سارة التي لازالت تتأملني و نفس الابتسامة الغريبة على شفتيها و قلت :
ـ و حنان؟ ماهو موقفه منها؟!
هزت رأسها و هي تقول :
ـ لقد رفض الذهاب إلى منزل خالتي هيام حين عرف عن رغبة أمي تلك في تزويجه من حنان... و هو إلى الآن لم يزرهم! أيمن جاء لزيارتنا... لكن حنان لم تأت... أليس الأمر غريبا؟
انتبهت إلى اتساع ابتسامة سارة و هي تطرح سؤالها الأخير و ترمقني بنظرة عميقة. ظهرت علامات الدهشة على وجهي و أنا أنظر إلى عيني سارة التي صارت تتصرف بغرابة. فقلت :
ـ ما الغريب في الأمر؟
ـ أن طارق يزوركم باستمرار... في حين أنه لم يزر خالتي هيام أبدا!
تملكتني الدهشة و أنا أقول في حيرة :
ـ ربما كان يشعر بالحرج بما أنه يعلم أن عمتي تريد تزويجه من حنان!
قاطعتني سارة :
ـ لكنها كانت تريد منه الارتباط بك أنت قبل حنان... فلم لا يشعر بالحرج من لقائك؟
ـ سارة ماذا تقصدين؟ طارق يعلم أنني مرتبطة بحسام، و الأمر منته!
هزت سارة كتفيها في لامبالاة و هي تقول :
ـ لكن والدتك أكدت بأنك غير مرتبطة... و أنت لم تتحدثي معه عن حسام مجددا منذ قدومنا... كما أنك غاضبة من حسام مؤخرا، أليس كذلك؟
اتسعت عيناي دهشة و أنا أقول في حيرة متزايدة :
ـ و ما علاقة كل هذا بموضوعنا؟ ثم كيف سيعلم طارق بغضبي من حسام...
توقفت الكلمات على لساني و نظرت إليها في عدم تصديق :
ـ أنت؟!
هزت سارة رأسها موافقة و هي تقول :
ـ طارق كان يسألني باستمرار عن علاقتك بحسام... و أخبرته البارحة بأنك غاضبة منه للغاية و أنه سيسافر و يتركك...
ـ و لكن لماذا؟! لماذا يسأل طارق عن علاقتي بحسام؟ و كيف تخبرينه أنت بكل التفاصيل؟ كيف؟!
تجاهلت سارة سؤالي و هي تقول :
ـ مرام... هل أنت منزعجة من ارتباط طارق براوية؟!
أحسست بجمود ملامحي، فقد استفرغت كل دهشتي و لم يعد لدي طاقة لأعبر أكثر عما اعتراني من الذهول أمام نظرات سارة الغريبة و عباراتها الأغرب... لكنني نطقت بعد فترة من الصمت العجيب :
ـ و ما الذي يجعلك تعتقدين ذلك؟
وقفت سارة و هزت كتفيها و هي تقول :
ـ لست أدري... إحساس خامرني... كما أنك تتساءلين عن مشاعر طارق نحو راوية... فهل لديك تفسير آخر؟
وقفت بدوري في عصبية و أنا أهتف :
ـ كنت أتساءل لأنني أتمنى لصديقتي كل الخير و أخشى أن يطلبها طارق دون اقتناع منه بما يفعل فيظلمها و يظلم نفسه!
حاصرتني نظرات سارة و هي تتساءل :
ـ و لم يطلبها دون اقتناع؟ ما الذي يدفعه إلى ذلك؟!
حارت الكلمات على شفتي و لم أدر كيف يجب أن أتصرف. لكن سؤال سارة الموالي فاجأني للغاية :
ـ هل تصالحت مع حسام؟
ـ و هل تشاجرنا لنتصالح؟!
ـ و مسألة السفر... و المقاطعة؟!
ـ حتى هذه أخبرت بها طارق؟! لماذا يا سارة؟ و أنا التي ظننتك تكتمين أسراري و تحافظين على كل ما يقال بيننا؟ و لكن ما يجنني هو ما الذي ينويه طارق و لماذا يتتبع تفاصيل علاقتي بحسام؟
ترددت سارة ثم قالت و هي تتوجه ناحية باب الغرفة :
ـ ابحثي عن الجواب في نظراته... فهي تقول الكثير لمن يهتم بفهمها...
ثم فتحت الباب و اختفت وراءه تاركة إياي في منتهى الدهشة... و الأسى...
أيقظني من ذهول رنين هاتفي الجوال... إنها راوية! أحسست بالألم يعتصر قلبي... ما الذي سأقوله لها؟ ابن عمتي لا يزال يحبني و لم يطلب الارتباط بك إلا ليبقى قريبا مني؟!
أجبت بعد تردد قصير فجاءني صوت راوية الحزين... تذكرت المشكلة الأخرى التي تتربص بها : زيارة جاد غير المتوقعة!
ـ كيف حالك اليوم؟ هل اتصل جاد؟
ـ لا... ليس بعد...
ساد صمت قصير قبل أن أقول و أنا أحاول إخفاء انفعالي :
ـ طارق عندنا اليوم... لقد أخبري مند قليل بأنه ينوي زيارتكم في نهاية الأسبوع للقاء والدك... هل يناسبك الموعد؟
أجابت راوية بدون تردد... بل ربما بدا عليها الحماس، مما جعل قلبي ينقبض بشدة :
ـ طبعا... لا بأس! سأخبر أمي حالا!
لست أدري لم استوقفتها و أنا أقول في صوت ضعيف :
ـ راوية... هل أنت مقتنعة بطارق؟
أحسست بدهشة راوية التي لم تجب على الفور، لكنها عاجلتني بسؤال آخر :
ـ مرام... هل أنت مقتنعة بحسام؟
تملكتني الدهشة و أنا أجيب باعتراض :
ـ ما هذا السؤال يا راوية؟ طبعا مقتنعة به! و إلا لما قبلت بالارتباط به!
قاطعتني راوية و هي تقول :
ـ لكنك لا تعرفينه! بل جل ما تعرفين عنه هي مواقف قليلة أثارت إعجابك...
تمهلت قبل أن أرد عليها و أنا أفكر فيما قالت. لكنها واصلت قائلة :
ـ مرام لا يمكنني الجزم الآن إن كنت مقتنعة بطارق أم لا، لأنني لا أعرفه جيدا... لكنني أدين له بإنقاذ حياتي و سمعتي... كما أنه شخص ملتزم و أخلاقه عالية، و إضافة إلى ذلك فهو يرغب في الاقتران بي... فأقل ما يمكنني فعله هو أن أمنحه فرصة إقناعي بنفسه... و لا يمكن أن يحدث ذلك إلا في فترة الخطوبة...
استمعت إلى راوية بانتباه و لم أملك إلا أن أجيب :
ـ نعم... أنت محقة!
وضعت الهاتف، ثم ارتميت على الفراش في إعياء شديد... قلبي متعب، عقلي متعب، روحي متعبة... ما الذي أملك فعله من أجل حبيبتي راوية؟ سأكون مذنبة إن تركتها ترتبط بطارق دون أن أحذرها. أو ربما يمكنني أن أتحدث إلى طارق و أجعله يعدل عن قراره... أو إلى عمتي و أجعلها تصر أكثر على رفضها لزواجه من راوية... أو حتى عمي محمود، فأشجعه على رفض استقرار طارق هنا...
كيف يمكنني أن أمنع مأساة من الوقوع دون أن يتحطم قلب ما؟ كيف؟ يا إلهي ألهمني الصواب... يا رب!
فتحت سارة الباب فجأة فانتفضت في مكاني و انتصبت جالسة. نظرت سارة طويلا إلى الدموع التي تجمعت في مقلتي منذرة بالنزول... ثم قالت في صوت خال من التعابير :
ـ لدينا ضيوف... خالتي هيام و حنان... و أيمن...
غادرت سارة الغرفة بسرعة، مثلما ظهرت. سارعت بالوقوف و تعديل حجابي أمام المرآة و أنا أفكر... علاقتنا بعائلة عمتي هيام ليس جد مميزة, فهي على خلاف متواصل مع أبي حول مواضيع قديمة بخصوص الميراث و ما إليه، على خلاف عمتي سهام التي تحبنا كثيرا... أما حنان فهي من النوع المنطوي... و المغرور! صحيح أن سارة خجولة أيضا، لكننا كبرنا معنا و كنا مقربتين لزمن طويل. أما أيمن و حنان فلم أكن أراهما إلا في المناسبات و الأعياد... فما المناسبة التي دعتهم إلى زيارتنا هاته المرة؟!
خرجت من غرفتي باتجاه قاعة الجلوس... فالتقيت في الرواق بطارق الذي خرج لتوه من غرفة ماهر. توقفت فجأة و التقت عيناي بعيني طارق... تذكرت في تلك اللحظة عبارة سارة : "ابحثي في عينيه عن الجواب" فغضضت بصري بسرعة و واصلت سيري بعد أن أفسح لي الطريق و تبعني في خطوات بطيئة... كنت أشعر بالاضطراب و أنا أحس بعينيه تتبعان حركاتي من ورائي...
كانت عمتاي سهام و هيام تتبادلان الأحاديث رفقة أمي... في حين جلست حنان على الأريكة المقابلة في صمت و نظراتها مركزة على الباب. أيمن لم يكن هنالك.
سارعت لأسلم على عمتي التي لم أرها منذ زمن بعيد، و جلست إلى جوار حنان التي لم تفارق عيناها المدخل. فجأة التفتت إلي وقالت :
ـ أليس طارق هنا؟
التفتت إليها في دهشة... و لكنني لم أملك الجواب، فقد كان يسير خلفي و ظننته قادما لإلقاء التحية لكنه لم يظهر! تمالكت نفسي و ابتسمت قائلة :
ـ إنه مع ماهر في الداخل...
ثم سألتها بدوري :
ـ سارة قالت بأن أيمن جاء معكم... ألم يدخل؟
ـ نعم... لكنه فضل البقاء في الحديقة... فهو خجول و لا يحب جلسات النساء...
سكتت للحظات قبل أن تعاجلني في اهتمام :
ـ لم لا تدعين طارق و ماهر و سارة و ننضم جميعا إلى أيمن في الحديقة؟
ثم أضافت ضاحكة :
ـ و نترك العجائز يتبادلن أحاديثهن و ذكرياتهن المملة...
تطلعت إليها في ذهول. كانت عيناها الخضراوان الجذابتان تلتمعان في سرور ظاهر، و هي تسوي خصلات شعرها الكستنائي في رفق و حرص. حنان تكبرني بسنة واحدة، لكن الناظر إلينا يجد فرقا شاسعا بيننا... فهي كانت تبدو باهتمامها المتواصل بمظهرها و هندامها سيدة مكتملة النضج... في حين تفضح ملابسي الفضفاضة و أظافري المقلمة قلة خبرتي في مجال الزينة و الأزياء...
وقفت بناء على طلبها و توجهت إلى الداخل باحثة عن سارة. فتحت باب المطبخ فجأة فالتفت إلي طارق و سارة بحركة واحدة و قد توقفا عن الكلام... تلعثمت و أنا أقول في حرج :
ـ هل تريدان الانضمام إلينا في الحديقة؟ حنان و أيمن يريدان الجلوس إليكما...
أحنى طارق رأسه موافقا... في حين ابتسمت سارة نفس الابتسامة الغامضة التي باتت تثير اشمئزازي... و لست أدري كيف تمالكت نفسي بصعوبة حتى لا أصرخ في وجهها و أنا أعلم أنها كانت تقص على طارق تفاصيل الحوار الذي دار بيننا منذ قليل!!
لماذا تفعلين هذا يا سارة؟ أعلم أنه أخوك... لكن يجب عليك أن توقفيه بدل أن تشجعيه و تساعديه! فالموضوع منته بالنسبة إلي... و لست أدري ما الذي تضمره يا طارق و ما الذي تخفيه من مفاجآت لي... و لراوية المسكينة!
تحلقنا حول المائدة الصغيرة في طرف الحديقة. وضعت طبق الحلويات و العصير و أنا أرسم ابتسامة على شفتي أردتها أن تكون تلقائية قدر الإمكان و قلت :
ـ تفضلوا... ما أجمله من لقاء بين أبناء العم...
تناول أيمن كأسه و هو يقول في صوت مهذب و دافئ دون أن يرفع رأسه عن الأرض :
ـ سلمت يداك...
أما حنان فإنها أطلقت ضحكتها العذبة و هي تناول طارق كأسه، ثم تتناول كأسها بدورها و ترفع ساقها اليمنى فوق اليسرى ثم هتفت في حماس مخاطبة طارق :
ـ ألا تحدثنا عن حياتك في أمريكا يا ابن الخالة؟ و الله إني عجبت حين عملت من أيمن أنك تنوي العودة النهائية قبل أن تقطف ثمار مشروعك الذي بدأته هناك...
قاطعتها سارة في برود و هي تقول :
ـ أخبرينا أنت أولا يا ابنة خالتي العزيزة... ماذا فعلت بدراستك؟ فقد سمعت أنك تخليت عنها قبل أن تقطفي ثمار شهادة ختم التعليم الثانوي...
فوجئت بهجوم سارة غير المتوقع، و رأيت علامات الغيظ على وجه حنان الجميل و قد تشنجت أعصابها و همت بالدفاع عن نفسها أو ربما رد الهجوم و الثأر لكرامتها... لكنها توقفت فجأة. فقد كانت قبضة أيمن تطبق على ذراعها في شدة، و نظراته العميقة الحازمة جعلتها تهدأ بسرعة و تخفض رأسها في استسلام... كانت اللحظات الموالية أقل توترا... و استلم أيمن دفة الحديث و تبادل و طارق الحوار في مواضيع شتى... في حين تبادلت سارة و حنان نظرات حاقدة أراها للمرة الأولى في عيني كل منهما... ما الذي يحصل هنا؟ أي نوايا يخفيها كل منهم؟!
كنت أتابع حوار أيمن و طارق في اهتمام حول التحولات الاقتصادية في البلاد، و أيمن يسدي النصائح إلى طارق بخصوص مشروعه الجديد... فأيمن هو أكبرنا، و قد اقترب من الثامنة و العشرين من عمره...
فجأة خطر ببالي خاطر غريب جعلني أراقب حركات كل منهما... بدا لي أن طارق كان يقلد حركات أيمن! فطارق الذي أمامي مختلف عن طارق الذي زارنا منذ شهور... لكنه صار يشبه أيمن كثيرا، في نظراته الحيية إلى الأرض و في طريقة حديثه الهادئة المتزنة... و فجأة تذكرت أن طارق حين غادرنا بعد خيبة الأمل التي مني بها منذ بضعة شهور، قضى بقية فترة إقامته في البلد عند عمتي هيام، و لا شك أنه كان يلازم أيمن و قد تأثر بتصرفاته... ابتسمت و أنا أصل إلى ذاك الاستنتاج،
و انتبهت فجأة إلى عيني سارة التي لاتزال تراقبني و تلحظ تصرفاتي... فيم تفكر يا ترى؟!
رن الهاتف، فوقفت بسرعة لأجيب فارة من نظرات سارة التي صارت تشعرني بالحرج و القلق و الغضب! كانت دالية...
ـ كيف سارت الأمور؟
أجابت دالية و علامات السرور تقفز بين كلماتها :
ـ لقد رفضت وليد يا مرام!
وجدتني أهتف في فرح كأنني أهنئها بإنجاز هام :
ـ ألف مبروك يا دالية... أنت تستحقين من هو خير منه بألف مرة...
وقعت عيناي فجأة على أيمن و طارق المنسجمين في حديثهما،
فابتسمت دون أن أشعر... و تمنيت أمنية في سري. انتبهت لصوت دالية و هي تقول :
ـ اطمئني الآن... حسام لن يسافر...
اتسعت ابتسامتي و أنا أسألها :
ـ و كيف قابل والدك الأمر؟
ـ لا تذكريني... أنا الآن محبوسة في غرفتي، لأن أبي غاضب من تصرفي و يراه طيش شباب... لأنه كان قد اتفق على مشروع مع وليد... كما أنه كان قد شرع في معاملات السفر... لكنني سعيدة، و حسام سعيد... و أمي أعطتني الحرية الكاملة لاتخاذ قراري... و لا داعي للقلق من ناحية أبي، فهو سيتقبل الأمر عاجلا أم آجلا... أعلم أنه لا يقدر على إجباري... و سعادتي بالنسبة له أهم من كل المشاريع...
ابتسمت في جذل و أنا أتمتم :
ـ الحمد لله...
تمت الحلقة الحادية عشر بحمد الله