الحلقة الحادية عشر
ـــــــــ*×*ـــ((1))ـــ*×*ـــــــــ
موافقة...
لم أصدق أذنيّ و أنا أسمع تلك الكلمة، و اتسعت عيناي عن آخرهما و أنا أحملق في الفراغ، و قد ارتخت يدي عن سماعة الهاتف التي كانت في يميني... هتفت في تنبيه :
ـ راوية، هل فكّرت جيدا في قرارك؟ لا تتسرعي... إنه زواج و ليس لعبة!
جاءني صوتها و قد شابه بعض التردد :
ـ إنها موافقة مبدئية يا مرام... ثم فترة الخطبة ستمكن كلينا من اتخاذ القرار النهائي... أليس كذلك؟
قلت في قلق :
ـ و جاد؟ ماذا عنه؟
أجابت راوية في استغراب :
ـ ماذا عنه؟
هتفت من جديد و الدهشة تغمرني :
ـ هل نسيته بسرعة؟ ألم تكوني تعيشين في أرق و سهاد متواصل لأنك ظننتك أنك تسرعتِ في رفضه؟
تنهدت راوية تنهيدة قصيرة و قالت :
ـ حين فكرت في الأمر أكثر، وجدت أنني قد أغامر طويلا و أحارب عائلتي و أهلي و أهله إلى أجل غير مسمى من أجل هدف غير مضمون... و قد أرفض خطابا كثيرين في انتظاره، ثم لا يكون هنالك نصيب! لذا فقد استخرت الله و قررت الموافقة على طارق... و إن لم نكن متوافقين فسيظهر ذلك جليا في فترة الخطوبة. ما رأيك؟
تنهدت في تسليم... لم أكن أستطيع أن أقول أية كلمة أخرى! راوية لم تكن تعلم عن مشاعر طارق السابقة ناحيتي... و لم أملك أن أخبرها عن شيء منها حتى لا تساورها شكوك في نواياه... لكنني في نفس الوقت كنت متخوفة منه.
و خطرت على بالي كلماته الأخيرة في الحديقة... حياني و ابتعد باتجاه الباب الخارجي، لكن قبل أن يختفي تماما، التفت نصف التفاتة و همس مبتسما، نفس الابتسامة المرة التي لمحتها على شفتيه حين مغادرته منزلنا منذ بضعة أشهر :
ـ وفقك الله مع حبيبك...
ثم انصرف دون أن ينتظر تعليقي... أما أنا فقد وقفت مشدوهة، لا أدري ما علي عمله أو قوله!
أخرجني نداء أمي القادم من خارج الغرفة من تخيلاتي فقلت لراوية :
ـ حسن، أتركك الآن... نداء عاجل من والدتي... أراك لاحقا... السلام عليكم و رحمة الله...
وضعت السماعة في نفس اللحظة التي أدارت فيها أمي مقبض الباب و هي تقول مبتسمة :
ـ عندك ضيوف...
ثم ظهرت من خلفها دالية و على شفتيها ابتسامة واسعة. قفزت من مكاني و سارعت إلى معانقتها في فرح :
ـ ما هذه المفاجأة الرائعة! و أخيرا ظهرت!!
جلست إلى جانبي على السرير و هي تقول :
ـ لا تعلمين يا مرام كم كنت مشغولة في الفترة الماضية...
هززت رأسي في عتاب و قلت :
ـ طبعا مشغولة عن كل الناس... فتختفين بكل بساطة، و إن اتصلت بك تقول أمك بأنك خرجت إلى مكان ما... و لا تكلفين نفسك عناء الاتصال فيما بعد! حتى في الكلية لا تظهرين بتاتا... ما الأمر يا دالية؟ أنت تخفين شيئا ما!
احمر وجه دالية و هي تطرق في خفر و قد علت شفتيها ابتسامة جذلة...
حملقت فيها في دهشة :
ـ انطقي بسرعة، فقلبي يحدثني بأمر جلل!
ضحكت دالية ضحكة قصيرة وقالت :
ـ في الحقيقة... كنت أجهز... لزفافي...
ظهرت علي علامات عدم التصديق و قلت في بلاهة غير مقصودة :
ـ زفاف من؟!
ضحكت من جديد و قالت معتذرة :
ـ حدث كل شيء بسرعة شديدة، و لم تكن لدي فرصة لأخبرك... أنا آسفة حقا لأنني لم أخبرك في الإبان...
عانقتها في فرح حقيقي و أنا أقول مهنئة :
ـ ألف مبروك يا حبيبتي... مع أنني أعتب عليك كثيرا! لكن اشرحي لي بالتفصيل، من هو و كيف حصل ذلك... ولماذا و متى ووو...
اعتدلت في جلستها و قالت :
ـ حسن... في الحقيقة هو أحد أقربائنا... لكنه سافر للدراسة ثم العمل في كندا، و لم أكن قد رأيته منذ فترة طويلة... لكن أمه تزورنا باستمرار و هي من صديقات أمي المقربات... و قد طلب منها مؤخرا بأن تبحث له عن زوجة مناسبة، فوقع اختيارها علي! فسأل أبي عن العريس عن طريق أحد معارفنا في كندا... ثم تمت الموافقة!
نظرت إليها في دهشة و هتفت :
ـ و أنت ما رأيك في العريس؟
اكتسى وجهها حمرة من جديد :
ـ يقولون بأنه على قدر من التدين و الأخلاق... و مستواه الاجتماعي جيد... يعمل مهندسا في شركة مرموقة في كندا... وسيم و أنيق...
عاجلتها بسؤال ثان :
ـ هل رأيته؟
ـ كنت أعرفه في الصغر... ثم رأيته في الصور... ثم التقينا منذ أسبوع حين جاء للقاء أبي...
ـ هل تحدثت إليه؟
ـ قليلا... كان مستعجلا نوعا ما... و عليه الاهتمام بالكثير من الترتيبات قبل السفر... فهو سيبقى هنا ثلاثة أسابيع فقط، سيتم خلالها عقد القران... على أن يقام الزفاف في أجازته المقبلة...
هتفت في استغراب شديد :
ـ أية معاملات من الممكن أن تكون أكثر أهمية من الجلوس إلى زوجته المستقبلية و التعرف عليها عن كثب؟!
خطر على بالي سؤال آخر بدا لي ملحا :
ـ كم عمر العريس؟
بدا عليها الارتباك و هي تقول :
ـ فارق السن ليس مهما... فكلما كان الرجل أكبر، كلما كان أكثر نضجا و كلما كانت حنكته في الحياة و خبرته المهنية كافية ليتحمل مسؤولية بيت و زوجة، خاصة في الغربة...
قاطعتها في إصرار :
ـ دالية، كم عمره؟
ـ 38 سنة...
شهقت في فزع و هتفت في استنكار :
ـ دالية! أنت لم تبلغي الثانية و العشرين بعد! كيف ترتبطين برجل يكبرك بأكثر من 15 عاما؟!
ابتسمت دالية و هي تقول في حرج :
ـ لماذا ترين المسألة على أنها كارثة؟
هتفت من جديد و أنا أقول :
ـ طبعا كارثة، أن تنقطعي عن دراستك و ترتبطي بشخص يكبرك بعدد لا يستهان به من السنوات، لا تعرفينه، و لا يهتم هو بأن يتعرف عليك، ثم تسافرين و تبتعدين عن أهلك لتلاقي حياة مجهولة المعالم في الغربة! و ما رأي حسام في الأمر؟
أطرقت دالية للحظات و هي تقول :
ـ حسام لم يكن موافقا في البداية... و قد قال نفس كلامك... لكن وليد تحدث إليه و أقنعه بأنني لن أنقطع عن دراستي بل سأواصلها هناك، كما أنه وعده بأن يسهل له الانضمام إلى كلية الطب في كندا، حتى يسافر معنا...
أحسست بدوار عنيف، و مادت الأرض تحت قدمي و لم أنطق بكلمة... حسام؟! هل تبيع أختك بسهولة من أجل مستقبلك المهني؟ كيف تفكر بهاته الطريقة؟
لاحظت دالية علامات الذهول في عيني فقالت مطمئنة :
ـ لا تسيئي الظن بحسام، فهو لم يوافق من أجل دراسته و مستقبله... بل لأنها طريقة تمكنه من البقاء إلى جانبي حتى لا أحس بالغربة وحدي و حتى يتأكد من سلامة نوايا وليد و معاملته الحسنة لي! ثم هو لم يوافق إلا لأن أمي و أبي كانا موافقين على وليد و لم يملك أن يغير رأيهما فوافق على اقتراحه... ثم ألا تجدين أن اقتراح وليد يدل على إخلاصه و صدقه؟
كنت قد هدأت بعض الشيء... و سرحت قليلا أفكر في سفر حسام إلى كندا، فانتابني قلق مفاجئ... هل كل من يسافر إلى الغرب يتغير؟ و ما أدراني بأنه يعود مثلما سافر، حسام الذي عرفته و أعجبت به؟
التفتت إلى دالية مجددا و أنا أقول :
ـ و لكن يا دالية... أنت حتى لم تحضي بفترة خطبة تدرسين فيها شخصية زوجك المستقبلي لتعرفي مدى ملائمة طباعه لطبعك! ألا تحسين بالغيظ لأنه اهتم بكل التفاصيل إلا الجلوس إليك و محادثتك عن مشاريعه و اهتماماته؟
ـ في الحقيقة هو جلس إلى أبي و حسام... حتى حسام كان مقتنعا بشخصيته، لكن جل ما يقلقه هو فارق السن...
ساد الصمت للحظات قبل أن تهتف دالية :
ـ كدت أنسى سبب زيارتي لك...
تطلعت إليها في اهتمام فقالت مبتسمة :
ـ حسام يقرئك السلام... و يطلب موعدا مع والدك قبل سفره...
ثم اقتربت مني و همست :
ـ كما أنه يريد أن يراك... غدا... في المكتبة...