الـحـــــــــلقةالـعــــــــــاشرة
ـــــــــ*×*ـــ((1))ـــ*×*ـــــــــ
كانت راوية مكتئبة حزينة طوال الأسبوع... كنت أعلم السبب،لكنني لم أستطع مواساتها. فقد كان قرارها و عليها الآن أن تتحمل مسؤوليته كاملة وترمي بالماضي وراء ظهرها...
كانت المحاضرة على وشك البدء، و كنت أتخذ مكانيعلى المدرج. انتبهت إلى فتاتين جلستا أمامنا و قد راحتا في ضحك خافت متواصل، ثمسمعت إحداهما تهمس في لهفة :
ـ ها... و ماذا حصل فيما بعد؟
فردت الأخرى وهي تسيطر على ضحكها بصعوبة :
ـ و ماذا تظنين؟ بالطبع تركته بعد أن جعلته يتعلقبها... فتلك كانت خطتها من البداية! و لا أشك أن رهانا ما كان بينها و بين صديقتهاعلى الإيقاع به!
شهقت الأخرى و هي تهتف :
ـ اللئيمة! بعد كل التنازلاتالتي أقدم عليها من أجل إرضائها؟! الحقيقة لقد دهشت حين علمت أنه بالفعل نفذ كلطلباتها الغريبة تلك...
هتفت راوية في ضيق :
ـ لم أعد أتحمل... يجب أنأخرج!
جمعت أدواتها بسرعة و حملتها على ذراعها ثم خرجت على عجل منالقاعة!
ترددت نظراتي بين المحاضر الذي دخل القاعة للتو و بين راوية التيخرجت دون سابق إنذار، و لم أدر ما يتوجب علي فعله...
لكن حيرتي لم تدم كثيرا، إذاقترب مني شاب وصل متأخرا و استأذن في الجلوس إلى جانبي... فأفسحت له الطريق و خرجتبسرعة على إثر راوية...
تلفتت حولي للحظات حين وجدت نفسي في الساحة التيأقفرت تقريبا إلا من عدد قليل من الطلبة المتخلفين عن محاضراتهم. كنت أبحث عن راويةالتي خرجت كالسهم فلم أتمكن من اللحاق بها في الحين. ظللت أجيل بصري لبعض الوقت ولا أثر لراوية! ركضت نحو المشرب العام، المكتبة العمومية... ثم ناحية دوراتالمياه... لا فائدة!
عدت إلى الساحة و أنا أعقد حاجبي تساؤلا و دهشة... أين تكونقد اختفت تلك الفتاة؟؟ لم يبق إلا موقف السيارات لم أبحث فيه بعد... و رغم أننيأعلم جيدا أن راوية ليس لديها سيارة إلا أنني توجهت إلى هنالك كحل أخير ليس بعد حلإلا أن تكون غادرت الكلية تماما... مع أننا لا نزال في أول النهار!
و لشد مادهشت حين لمحت راوية عن بعد تجلس على مقعد حجري في آخر الموقف و قد أسندت رأسها إلىالجدار الخلفي، مغمضة العينين في إعياء واضح... اقتربت منها في هدوء و جلست إلىجانبها.
انتبهت إلى حفيف ثوبي فقالت دون أن تفتح عينيها :
ـ آه... وجدتنيإذن...
ابتسمت و قلت مداعبة :
ـ يا سلام... و هل تظنين بأنك قادرة علىالاختفاء و الهرب مني؟؟
ابتسمت بدورها و هي تعتدل في جلستها و تلتفت إلي :
ـ طبعا طبعا... و كيف لي أن أهرب منك... و أنت تلازمينني كظلي!
دفعتهادفعة خفيفة متصنعة الغيظ و قلت :
ـ و الآن... ها قد حرمتني من المحاضرة... هلاأخبرتني ما الذي يضايقك؟
لم أجد منها إلا صمتا و إطراقا فتابعت :
ـ أعلمأن حديث تينك الفتاتين أثار في نفسك أشياء و أشياء... هل أنا مخطئة؟
ردتمتجاهلة كلامي :
ـ كنت في حاجة إلى بعض الهدوء و حسب...
لكنني واصلت فيتأكيد :
ـ ربما ظننت ما تقولانه ينطبق عليك... لكنك يا راوية لم تفعلي مع جادشيئا مما كانتا تتحدثان عنه! فأنت لم تلق بشبابك نحوه و لم تحاولي شده إليك... وقرارك بالرفض كان عن اقتناع بأنه لا أمل في نجاح علاقتكما... أليس كذلك؟ إنه لم يكنمن باب اللهو بمشاعره أو التلاعب به...
فجأة قاطعتني راوية و هي تهتف :
ـلماذا لم يعاود المحاولة يا مرام؟ لماذا؟؟ لو كان متعلقا بي حقا ما كان لييأس منالمحاولة الأولى و يتخلى عني بسهولة!
تطلعت إليها في دهشة و قلت في حيرة :
ـ راوية... أنت رفضته يا راوية! و ابتعاده النهائي و توقفه عن مراسلتك ما هوإلا احترام لقرارك... فهو لا يريد أن يفرض عليك نفسه و لا أن يسيء إليك بعد أن مددتإليه يد المساعدة!
أشاحت بوجهها و همست في خجل و تردد :
ـ لكنني كنتأتوقع أن يفهم أسبابي... و يحاول إقناعي بأنه الشخص المناسب... و أنه قادر على تحملمسؤولية الوضع و إيجاد الحل المناسب له...
قاطعتها و أنا أتمالك نفسي حتى لاأحتد في وجهها :
ـ راوية! أنت أظهرت له بأنك لا تثقين فيه! بل لم تعطه فرصة أصلاو لم تصارحيه بمخاوفك! هل تذكرين... حين طليت مني أن أعطي فرصة لحسام و أن لا أرفضبناء على مخاوفي الشخصية و حسب؟ أين ذاك الكلام الآن؟
تأففت راوية و هي تهتففي يأس :
ـ مرام... قلت لك مائة مرة الأمر مختلف هنا...
قاطعتها مجددا وأنا أقول في هدوء أكبر :
ـ ليس مختلفا يا عزيزتي... لكن كلا منا يملك النصائحالمناسبة ليقدمها لغيره. لكن حين تصبح المشكلة خاصة به فإن وضعه دائما مختلف، ومشكلته نادرة الوجود و المعوقات أمامه لا حدود لها، و ما من أحد يمكنه أن يفهم مايمر به، و كل الأبواب مغلقة في وجهه، و العالم كله لا يستوعب درجة عذابهو...
قاطعتني راوية هاته المرة و هي تمسك بذراعي التي كنت أحركها في حركةمسرحية شارحة مدى تفرد المشكلة الشخصية في نظر صاحبها...
ـ كفى، كفى... فهمت...
ابتسمت و أنا أقول :
ـ لا تقلقي... كلنا هكذا... أنا أيضا حينرفضت حسام في المرة الأولى كنت أرى المسألة من نفس الزاوية... لكنك كنت تملكين رؤيةأوضح من رؤيتي...
التقت عيوننا لبرهة قصيرة فتابعت شارحة :
ـ لكنني لمأملك رؤية واضحة لعلاقتك مع جاد... لأن ثقتك كانت مهتزة، ليس في قدرة جاد على إقناعالعالم بمسألة ارتباطكما... بل ثقتك في جاد نفسه، في ملاءمته لك، أو ربما في طاقةتحملك أنت من أجل إنجاح العلاقة كانت مهتزة! و لما وجدت أنك غير متأكدة من موقفك لمأستطع أن أوضح أمامك الرؤية لأنك لم تتركي لي بصيصا أهتدي به...
كان الشرودباديا في عيني راوية، و أخيرا انفرجت شفتاها عن تنهيدة طويلة و هي تقول في أسى :
ـ هل تراه عاد إليها؟
ربتت على كتفها في عتاب و أنا أقول :
ـ هلترين كيف تسيئين الظن به من جديد؟! أنت تعلمين أنه لم يتركها من أجلك... بل من أجلالإسلام، و من أجل أن يجد نفسه بعيدا عنها... و أنه لن يعود إليها لمجرد أنكرفضته... إلا إن كانت أسلمت و غيرت طريقة تفكيرها في الفترة القصيرة الماضية... والله يهدي من يشاء! لكنك تستمرين في النظر إلى المسألة كأنها مشكلة المشكلات التيليس لها حل... بل أن المخرج الوحيد هو أن يتراجع جاد عن موقفه أو أن يخيب ظنك فيهحتى يجد ضميرك الحجة المقنعة للتسليم! تريدين رأيي؟
نظرت إلي في لهفة و هتفت :
ـ طبعا أريد رأيك! ماذا تنتظرين؟!
ابتسمت و أنا أواصل :
ـ كنت أنتظرأن تطلبيه! فالتردد الذي أنت فيه يثبت أنك لم تنسي الموضوع... و لن تنسيه بسهولة... لأنك غير مقتنعة أصلا بالقرار الذي اتخذته! أو ربما لم تحسي بالراحة بعد الاستخارةمن جديد...
هزت رأسها موافقة و هي تقول :
ـ صدقيني، رغم أنني أنهيتالموضوع، فإنني واظبت على الاستخارة و أنا أدعو الله أن يهديني إلى سبيل إصلاح خطئيإن كنت اتخذت القرار الخطأ...
ـ طيب... و الآن ما يمكنه فعله هو الدعاء والاستخارة بعمق و خشوع... حتى تخرجي من الحيرة التي أنت فيها. حين تصبحين متأكدة منموقفك تجاه جاد سيكون بيننا حديث آخر!
ترددت راوية للحظات قبل أن تهتف :
ـ أصبحت متأكدة من موقفي!
اتسعت عيناي دهشة و أن أرسل ضحكة قصيرة :
ـ بهاته السرعة!
ـ مرام، أنا جادة... لقد ندمت على تسرعي، لكنني لاأدري كيف أتصرف!
ثم مالت نحوي في تساؤل :
ـ ألا يزال على اتصال معحسام؟
هززت كتفي و رفعت كفي أمامها كالمتهم ينفي إدانته :
ـ و كيف لي أنأعلم يا حبيبتي! فقد أعطيت عنوانه لدالية حتى تسلمه له كما طلبت مني، و شرحت لهادون إسهاب بأنه أسلم مؤخرا و في حاجة إلى من يقف إلى جانبه... و فقط! و من يومها لمأعد لسؤالها حتى لا تشك في الأمر!
بدا على راوية التفكير العميق و هي تتمتمفي خفوت :
ـ هل تراه يفضي إلى حسام بشيء ما عن علاقتنا؟
نهرتها بشدة هاتهالمرة :
ـ راوية! ثقي فيه و لو لمرة واحدة! كيف له أن يتحدث عن علاقتكما مع شخصغريب و هو يعلم أنه يسيء إليك و إلى سمعته بذلك؟! إن كان يعتقد في أن لحسام تأثيراما عليك أو قدرة على إقناعك فكيف له أن يثق فيك بعد ذلك؟
ردت راوية في خجل :
ـ ربما يطمع في مساعدته... أو ربما يعلم أنني صديقة أخته...
ـ يا راويةيا حبيبتي... طلبه كان واضحا و رفضك كان أوضح... و المسألة لا تحتاج إلىالمراجعة!
نظرت إلي في قلق و هي تهمس :
ـ و ما العمل إذن؟
وضعتيدي على خدي و أنا أهمس في تفكر :
ـ لا بد من وجود حلما...
|