بوابة الثانوية العامة المصرية

بوابة الثانوية العامة المصرية (https://www.thanwya.com/vb/index.php)
-   محمد نبينا .. للخير ينادينا (https://www.thanwya.com/vb/forumdisplay.php?f=43)
-   -   السيرة النبوية -عرض وقائع وتحليل احداث (https://www.thanwya.com/vb/showthread.php?t=615694)

محمد رافع 52 19-09-2014 11:24 PM

ثالثـًا: التربية الجسدية:
حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تربية أصحابه جسديًّا، واستمد أصول تلك التربية من القرآن الكريم، بحيث يؤدي الجسم وظيفته التي خلق لها من دون إسراف أو تقتير، ودون محاباة لطاقة من طاقاته على حساب طاقة أخرى.
لذلك ضبط القرآن الكريم حاجات الجسم البشري على النحو التالي:
1- ضبط حاجته إلى الطعام والشراب.
2- وضبط حاجته إلى الملبس والمأوى، بأن أوجب من اللباس ما يستر العورة، ويحفظ الجسم من عاديات الحر والبرد، وندب إلى ما يكون زينة عند الذهاب إلى المسجد.
3- وضبط الحاجة إلى المأوى.
4- وضبط حاجته إلى الزواج والأسرة بإباحة النكاح، بل إيجابه في بعض الأحيان وتحريم الزنا والمخادنة، واللواط.
5- وضبط حاجته إلى التملك والسيادة، وأباح التملك للمال والعقار وفق ضوابط شرعية.
6- وضبط الإسلام السيادة بتحريم الظلم والعدوان والبغي.
7- وضبط حاجته إلى العمل والنجاح، بأن جعل من اللازم أن يكون العمل مشروعًا، وغير ضار بأحد من الناس، ونادى على المسلمين أن يعملوا في هذه الدنيا ما يكفل لهم القيام بعبء الدعوة والدين، وما يدخرون عند الله سبحانه.
8- وحذر سبحانه من الدعة والبطر، والاغترار بالنعمة.
هذه بعض الأسس التي قامت عليها التربية النبوية للأجسام، حتى تستطيع أن تتحمل أثقال الجهاد، وهموم الدعوة وصعوبة الحياة.
رابعًا: تربية الصحابة على مكارم الأخلاق، وتنقيتهم من الرذائل:
إن الأخلاق الرفيعة جزء مهم من العقيدة، فالعقيدة الصحيحة لا تكون بغير خلق وقد ربى رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابته على مكارم الأخلاق بأساليب متنوعة.
فعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق، وإن الله تعالى ليبغض الفاحش البذيء»([6]).
وسئل رسول الله عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ فقال: «تقوى الله، وحسن الخلق» وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار؟ فقال: «الفم والفرج»([7]).
إن الأخلاق ليست شيئًا ثانويًا في هذا الدين، وليست محصورة في نطاق معين من نطاقات السلوك البشري، إنما هي الترجمة العملية للاعتقاد والإيمان الصحيح؛ لأن الإيمان ليس مشاعر مكنونة في داخل الضمير فحسب، إنما هو عمل سلوكي ظاهر كذلك، بحيث يحق لنا حين لا نرى ذلك السلوك العملي, أو حين نرى عكسه، أن نتساءل أين الإيمان إذن؟ وما قيمته إذا لم يتحول إلى سلوك([8])؟
ولذلك نجد القرآن الكريم يربط الأخلاق بالعقيدة ربطًا قويًا والأمثلة على ذلك كثيرة([9]).
لقد تربى الصحابة رضي الله عنهم على أن العبادة نوع من الأخلاق؛ لأنها من باب الوفاء لله، والشكر للنعمة، والاعتراف بالجميل، والتوقير لمن هو أهل التوقير والتعظيم, وكلها من مكارم الأخلاق([10])، فكانت أخلاق الصحابة ربانية، باعثها الإيمان بالله، وحاديها الرجاء في الآخرة وغرضها رضوان الله ومثوبته.
إن الأخلاق في التربية النبوية شيء شامل يعم كل تصرفات الإنسان وكل أحاسيسه ومشاعره وتفكيره، فالصلاة لها أخلاق، هي: الخشوع، والكلام له أخلاق, هي: الإعراض عن اللغو، وال*** له أخلاق, هي: الالتزام بحدود الله وحرماته، والتعامل مع الآخرين له أخلاق, هي: التوسط بين التقتير والإسراف، والحياة الجماعية لها أخلاق, هي: أن يكون الأمر شورى بين الناس، والغضب له أخلاق, هي: العفو والصفح، ووقوع العدوان من الأعداء يستتبعه أخلاق, هي: الانتصار أي رد العدوان، وهكذا لا يوجد شيء واحد في حياة المسلم ليست له أخلاق تكيفه ولا شيء واحد ليست له دلالة أخلاقية مصاحبة.
إن الله سبحانه وتعالى، قد جعل التوحيد، أي: إفراد الله بالعبادة على رأس هذا المنهج الخلقي الذي رسمته آيات سورة الإسراء [38:23] مدحًا وذمًا؛ لأن التوحيد له في الحقيقة جانب أخلاقي أصيل، إذ الاستجابة إلى ذلك ترجع إلى خلق العدل والإنصاف، والصدق مع النفس، كما أن الإعراض عن ذلك يرجع في الحقيقة إلى بؤرة سوء الأخلاق في المقام الأول، مثل الكبر عن قبول الحق، والاستكبار عن اتباع الرسل غرورًا وأنفة، أو الولوع بالمراء, والجدل بالباطل مغالبة وتطالعًا للظهور، أو تقليدًا وجمودًا على الإلف والعرف مع ضلاله وبهتانه، وكلها -وأمثالها- أخلاق سوء تهلك أصحابها، وتصدهم عن الحق بعد ما تبين، وعن سعادة الدارين مع استيقان أنفسهم بأن طريق الرسل هو السبيل إليها.

محمد رافع 52 19-09-2014 11:26 PM

خامسًا: تربية الصحابة على مكارم الأخلاق من خلال القصص القرآني:
إن القصص القرآني غني بالمواعظ والحكم والأصول العقدية، والتوجيهات الأخلاقية، والأساليب التربوية، والاعتبار بالأمم والشعوب، والقصص القرآني ليس أمورًا تاريخية لا تفيد إلا المؤرخين، وإنما هي أعلى وأشرف وأفضل من ذلك؛ فالقصص القرآني مملوء بالتوحيد، والعلم، ومكارم الأخلاق، والحجج العقلية، والتبصرة والتذكرة، والمحاورات العجيبة.
وأضرب لك مثلاً من قصة يوسف -عليه السلام- متأملاً في جانب الأخلاق التي عرضت في مشاهدها الرائعة، قال علماء الأخلاق والحكماء: «لا ينتظم أمر الأمة إلا بمصلحين، ورجال أعمال قائمين، وفضلاء مرشدين هادين، لهم شروط معلومة وأخلاق معهودة، فإن كان القائم بالأعمال نبيًّا فله أربعون خصلة ذكروها، كلها آداب وفضائل بها يسوس أمته، وإن كان رئيسًا فاضلاً، اكتفوا من الشروط الأربعين ببعضها، وسيدنا يوسف -عليه السلام- حاز من كمال المرسلين وجمال النبيين، ولقد جاء في سيرته هذه ما يتخذه عقلاء الأمم هديًا لاختيار الأكفاء في مهام الأعمال، إذ قد حاز الملك والنبوة، ونحن لا قبل لنا بالنبوة لانقطاعها، وإنما نذكر ما يليق بمقام رئاسة المدينة الفاضلة، ولنذكر منها اثنتي عشرة خصلة هي أهم خصال رئيس المدينة الفاضلة, لتكون ذكرى لمن يتفكر في القرآن وتنبيهًا للمتعلمين الساعين للفضائل»([11]).
أهم ما شرطه الحكماء في رئيس المدينة الفاضلة:
1- العفة عن الشهوات، ليضبط نفسه وتتوافر قوته النفسية: ( كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ )[يوسف:24].
2- الحلم عند الغضب، ليضبط نفسه ( قَالُوا إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ )[يوسف:77].
3- وضع اللين في موضعه، والشدة في موضعها: ( وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ.فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلاَ تَقْرَبُونِ )[يوسف: 59،60] فبداية الآية لين، ونهايتها للشدة.
4- ثقته بنفسه بالاعتماد على ربه: ( قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ )[يوسف:55].
5- قوة الذاكرة, ليمكنه تذكر ما غاب ومضى له سنون، ليضبط السياسات، ويعرف للناس أعمالهم: ( وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ )[يوسف:58].
6- جودة المصَوِّرة والقوة المخيلة حتى تأتي بالأشياء تامة الوضوح: ( إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ )[يوسف:4].
7- استعداده للعلم، وحبه له، وتمكنه منه: ( وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ ) [يوسف:38]( رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَِ ) [يوسف:101].
8- شفقته على الضعفاء وتواضعه مع جلال قدره وعلو منصبه، فخاطب الفتيين المسجونين بالتواضع فقال: ( يَا صَاحِبَيْ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ )[يوسف:39] وحادثهما في أمور دينهما ودنياهما بقوله: ( قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ )[يوسف:37] والثاني بقوله: ( إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ) [يوسف:37] وشهدا له بقولهما:( نَبّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) [يوسف:36].
9- العفو مع المقدرة: ( قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ )

[يوسف:92].

10- إكرام العشيرة: ( اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ )[يوسف:93].
11- قوة البيان والفصاحة بتعبير رؤيا الملك، واقتداره على الأخذ بأفئدة الراعي والرعية والسوقة، ما كان هذا إلا بالفصاحة المبنية على الحكمة والعلم: ( فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ )[يوسف:54].
12- حسن التدبير ( قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ )[يوسف:47] تالله، ما أجمل القرآن, وما أبهج العلم.
لا شك أن العلاقة بين القصص القرآني والأخلاق متينة؛ لأن من أهداف القصص القرآني التذكير بالأخلاق الرفيعة التي تفيد الفرد، والأسرة، والجماعة والدولة، والأمة، والحضارة، كما أن من أهداف القصص القرآني التنفير من الأخلاق الذميمة التي تكون سببًا في هلاك الأمم والشعوب.
لقد استخدم المنهاج النبوي أساليب التأثير والاستجابة, والالتزام في تربيته للصحابة، لكي يحول الخلق من دائرة النظريات إلى صميم الواقع التنفيذي والعمل التطبيقي سواء كانت اعتقادية، كمراقبة الله تعالى ورجاء الآخرة، أو عبادية كالشعائر التي تعمل على تربية الضمائر، وصقل الإرادات، وتزكية النفس. ومع تطور الدعوة الإسلامية ووصولها إلى الدولة أصبحت هناك حوافز إلزامية تأتي من خارج النفس متمثلة في:
أ- التشريع:
الذي وضع لحماية القيم الخلقية, كشرائع الحدود والقصاص, التي تحمي الفرد والمجتمع من رذائل البغي على الغير: (بال*** أو السرقة) وانتهاك الأعراض، (بالزنى، والقذف) أو البغي على النفس وإهدار العقل: (بالخمر، والمسكرات المختلفة).
ب- سلطة المجتمع:
التي تقوم على أساس ما أوجبه الله تعالى من الأمر بالمعروف, والنهي عن المنكر, والتناصح بين المؤمنين، ومسئولية بعضهم على بعض، وقد جعل الله تعالى هذه المسئولية قرينة الزكاة، والصلاة، وطاعة الله ورسوله: ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )[التوبة:71].
بل جعلها المقوم الأصلي لخيرية هذه الأمة: ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ )[آل عمران:110].
وقد ظهرت هذه السلطة وأثرها في الفترة المدنية.
ج- سلطة الدولة:
التي وجب قيامها، وأقيمت على أسس أخلاقية وطيدة، ولزمها أن تقوم على رعاية هذه الأخلاق وبثها في سائر أفرادها ومؤسساتها، وتجعلها من مهام وجودها ومبرراته([12]).
وبذلك اجتمع للخلق الإسلامي أطراف الكمال كلها, وأصبح للمجتمع النبوي نظام واقعي مثالي بسبب الالتزام بالمنهج الرباني.
هذه بعض الخطوط في البناء العقائدي والروحي والأخلاقي في الفترة المكية، ولقد آتت هذه التربية أكُلها فقد كان ما ينوف على العشرين من الصحابة الكرام الخمسين الأوائل السابقين إلى الإسلام مارسوا مسؤوليات قيادية بعد توسع الدعوة وانطلاقها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته وأصبحوا القادة الكبار للأمة، وعشرون آخرون منهم معظمهم استشهدوا أو ماتوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان في الرعيل الأول أعظم شخصيات الأمة على الإطلاق، كان فيه تسعة من العشرة المبشرين بالجنة، وهم أفضل الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم, ومنهم نماذج ساهمت في صناعة الحضارة العظيمة بتضحياتهم الجسيمة، كعمار بن ياسر، وعبد الله بن مسعود، وأبي ذر، وجعفر بن أبي طالب، وغيرهم رضي الله عنهم، وكان من هذا الرعيل أعظم نساء الأمة خديجة رضي الله عنها، ونماذج عالية أخرى، مثل أم الفضل بنت الحارث، وأسماء ذات النطاقين، وأسماء بنت عميس، وغيرهن.
لقد أتيح للرعيل الأول أكبر قدر من التربية العقدية والروحية، والعقلية والأخلاقية.. على يد مربي البشرية الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم, فكانوا هم حداة الركب، وهداة الأمة([13]), فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزكيهم ويربيهم وينقيهم من أوضار الجاهلية، فإذا كان السعيد الذي فاز بفضل الصحبة من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو مرة واحدة في حياته وآمن به، فكيف بمن كان الرفيق اليومي له، ويتلقى منه، ويتعبق من نوره، ويتغذى من كلامه ويتربى على عينه([14]).

* * *






([1]) فقه الدعوة، عبد الحليم محمود (1/471، 472).
([2]) مسلم، كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، رقم 395.
([3]) أبو داود في الصلاة, رقم 1319. (3) الحاكم (2/160) وأقره الذهبي.

([5]) انظر: منهج الإسلام في تزكية النفس (1/227).
([6]) الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في حسن الخلق رقم 2002«حسن صحيح».
([7]) الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في حسن الخلق رقم 2004 «صحيح غريب».
([8]) انظر: دراسات قرآنية، لمحمد قطب، ص130.
([9]) انظر آيات سورة (المؤمنون – الآيات: 1-11)، وسورة (الأنعام- الآيات: 151- 153) ، وسورة (الرعد- الآيات : 19-22) وسورة (الإسراء – الآيات: 23-38) وغيرها.
([10]) انظر: الوسطية في القرآن الكريم ص591.
([11]) انظر: تفسير القاسمي، (9/310).
([12]) المنهاج القرآني في التشريع، ص433. (2) انظر: التربية القياديةللغضبان (1/201).


([14]) نفس المصدر (1/202، 203).

محمد رافع 52 21-09-2014 09:45 AM

الفصل الثالث


الجهر بالدعوة وأساليب المشركين في محاربتها


المبحث الأول


الجهر بالدعــــــــوة

بعد الإعداد العظيم الذي قام به النبي صلى الله عليه وسلم لتربية أصحابه, وبناء الجماعة المسلمة المنظمة الأولى على أسس عقدية, وتعبدية وخلقية رفيعة المستوى, حان موعد إعلان الدعوة بنزول قول الله تعالى: ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ` وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ )

[الشعراء:214، 215].

فجمع قبيلته صلى الله عليه وسلم وعشيرته, ودعاهم علانية إلى الإيمان بإله واحد، وخوَّفهم من العذاب الشديد إن عصوه، وأمرهم بإنقاذ أنفسهم من النار، وبين لهم مسؤولية كل إنسان عن نفسه([1]).
عن ابن عباس t قال: لما نزلت ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ ) صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي: «يا بني فهر، يا بني عدي» لبطون قريش – حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو، فجاء أبو لهب، وقريش، فقال: «أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟» قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقًا، قال: «فإنني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» فقال أبو لهب: تبًّا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟ فنزلت ( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ )([2]). وفي رواية- ناداهم بطنًا بطنًا، ويقول لكل بطن: «أنقذوا أنفسكم من النار....» ثم قال: «يا فاطمة أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لكم من الله شيئًا غير أن لكم رحما سأبُلها ببلالها» ([3]).
كان القرشيون واقعيين عمليين، فلما رأوا محمدًا صلى الله عليه وسلم وهو الصادق الأمين، قد وقف على جبل يرى ما أمامه، وينظر إلى ما وراءه، وهم ما يرون إلا ما هو أمامهم، فهداهم إنصافهم وذكاؤهم إلى تصديقه، فقالوا: نعم.
ولما تمت هذه المرحلية الطبيعية البدائية، وتحققت شهادة المستمعين, قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: «فإنني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» وكان ذلك تعريفًا بمقام النبوة، وما ينفرد به من علم بالحقائق الغيبية والعلوم الوهبية، وموعظة وإنذارًا، في حكمة وبلاغة، لا نظير لهما في تاريخ الديانات والنبوات، فلم تكن طريق أقصر من هذا الطريق، ولا أسلوب أوضح من هذا الأسلوب، فسكت القوم([4]) ولكن أبا لهب قال: تبا لك سائر اليوم أما دعوتنا إلا لهذا؟.. وبهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد وضع للأمة أسس الإعلام, فقد اختار مكانًا عاليًا وهو الجبل ليقف عليه, وينادي على جميع الناس فيصل صوته إلى الجميع، وهذا ما تفعله محطات الإرسال في عصرنا الحديث, لتزيد من عمليات الانتشار الإذاعي، ثم اختار لدعوته الأساس المتين ليبني عليه كلامه وهو الصدق؛ وبهذا يكون صلى الله عليه وسلم قد علم رجال الإعلام والدعوة أن الاتصال بالناس بهدف إعلامهم أو دعوتهم، يجب أن يعتمد وبصفة أساسية على الثقة التامة بين المرسل والمستقبل, أو بين مصدر الرسالة والجمهور الذي يتلقى الرسالة، كما أن المضمون أو المحتوى يجب أن يكون صادقا لا كذب فيه([5]).

«ومن الطبيعي أن يبدأ الرسول صلى الله عليه وسلم دعوته العلنية بإنذار عشيرته الأقربين، إذ أن مكة بلد توغلت فيه الروح القبلية، فبدء الدعوة بالعشيرة, قد يعين على نصرته وتأييده وحمايته، كما أن القيام بالدعوة في مكة لا بد أن يكون له أثر خاص, لما لهذا البلد من مركز ديني خطير، فجلبها إلى حظيرة الإسلام لا بد أن يكون له وقع كبير على بقية القبائل، على أن هذا لا يعني أن رسالة الإسلام كانت في أدوارها الأولى محدودة بقريش؛ لأن الإسلام كما يتجلى من القرآن الكريم اتخذ الدعوة في قريش خطوة أولى لتحقيق رسالته العالمية»([6]) فقد جاءت الآيات المكية تبين عالمية الدعوة، قال تعالى: ( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا )[الفرقان:1].
وقال تعالى: ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ )[الأنبياء:107]. وقال تعالى: ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ )[سبأ:28].
ثم جاءت مرحلة أخرى بعدها، فأصبح يدعو فيها كل من يلتقي به من الناس على اختلاف قبائلهم وبلدانهم ويتبع الناس في أنديتهم، ومجامعهم ومحافلهم، وفي المواسم ومواقف الحج، ويدعو من لقيه من حر وعبد، وقوي وضعيف، وغني وفقير([7]), حين نزول قوله تعالى: ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ` إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ` الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْمَلُونَ` وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ )[الحجر:94-97].
كانت النتيجة لهذا الصدع هي الصد والإعراض والسخرية والإيذاء والتكذيب، والكيد المدبر المدروس، وقد اشتد الصراع بين النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه, وبين شيوخ الوثنية وزعمائها، وأصبح الناس في مكة يتناقلون أخبار ذلك الصراع في كل مكان، وكان هذا في حد ذاته مكسبًا عظيمًا للدعوة، ساهم فيه أشد وألد أعدائها, ممن كان يشيعون في القبائل قالة السوء عنها، فليس كل الناس يسلمون بدعاوي زعماء الكفر والشرك.
كانت الوسيلة الإعلامية في ذلك العصر تناقل الناس للأخبار مشافهة, وسمع القاصي والداني بنبوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وصار هذا الحدث العظيم حديث الناس في المجالس ونوادي القبائل، وفي بيوت الناس([8]).
أهم اعتراضات المشركين:
كانت أهم اعتراضات زعماء الشرك موجهة نحو وحدانية الله تعالى، والإيمان باليوم الآخر، ورسالة النبي صلى الله عليه وسلم، والقرآن الكريم الذي أنزل عليه من رب العالمين.
وفيما يلي تفصيل لهذه الاعتراضات والرد عليها:
أولاً: اعتراضهم على الوحدانية:
لم يكن كفار مكة ينكرون بأن الله خلقهم وخلق كل شيء: قال تعالى: ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ )[لقمان:25]. لكنهم كانوا يعبدون الأصنام، ويزعمون أنها تقربهم إلى الله، قال تعالى: ( أَلاَ للهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ )([9])[الزمر:3].
وقد انتقلت عبادة الأصنام إليهم من الأمم المجاورة لهم، ولهذا قابلوا الدعوة إلى التوحيد بأعظم إنكار وأشد استغراب([10]) قال تعالى: ( وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنْذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ` أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ` وَانطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ` مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآَخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ )[ص:4-7].
ولم يكن تصورهم لله تعالى ولعلاقته بخلقه صحيحًا، إذ كانوا يزعمون أن لله تعالى صاحبة من الجن، وأنها ولدت الملائكة، وأن الملائكة بنات الله –تعالى الله عما يقولون
علوًّا كبيرًا.
فكانت الآيات تنزل مبيِّنة أن الله عز وجل خلق الجن والملائكة كما خلق الإنس، وأنه لم يتخذ ولدًا، ولم تكن له صاحبة, قال تعالى: ( وَجَعَلُوا للهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ` بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ )[الأنعام:100-101].
ومبينةٌ أن الجن يقرون لله بالعبودية، وينكرون أن يكون بينهم وبينه علاقة نسب: ( وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ )[الصافات:158].
ومطالبةً المشركين باتباع الحق وعدم القول بالظنون والأوهام: ( إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلاَئِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى` وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا )[النجم:27-28].
وموضحةً أنه لا يعقل أن يمنح الله المشركين البنين، ويكون له بنات، وهن أدنى قيمة في رأيهم من البنين: ( أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا )[الإسراء:40].
ومحملةً المشركين مسئولية أقوالهم التي لا تقوم على دليل: ( وَجَعَلُوا الْمَلاَئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ )[الزخرف:19].
ثانيًا: كفرهم بالآخرة:
أما دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان باليوم الآخر، فقد قابلها المشركون بالسخرية والتكذيب: ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ` أَفْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلاَلِ الْبَعِيدِ )[سبأ:7-8] فقد كانوا ينكرون بعث الموتى: ( وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ )

[الأنعام:29].

ويقسمون على ذلك بالأيمان المغلظة. ( وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ` لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ )[النحل: 38،39] وكانوا يظنون أنه لا توجد حياة في غير الدنيا, ويطلبون إحياء آبائهم ليصدقوا بالآخرة: قال تعالى: ( وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ` وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ` قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ` وَللهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ )[الجاثية:24-27].
وفاتهم أن الذي خلقهم أول مرة قادر على أن يحييهم يوم القيامة, قال مجاهد وغيره: جاء أُبي بن خلف([11]) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده عظم رميم، وهو يفتته ويذروه في الهواء، وهو يقول: يا محمد أتزعم أن الله يبعث هذا؟ قال صلى الله عليه وسلم: «نعم يميتك الله تعالى، ثم يبعثك، ثم يحشرك إلى النار» ونزلت هذه الآيات([12])( أَوَ لَمْ يَرَ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ` وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ` قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ )[يس:77-79].
كانت أساليب القرآن الكريم في إقناع الناس بالبعث اعتمدت على خطاب العقل، والانسجام مع الفطرة، والتجاوب مع القلوب، فقد ذكَّر الله عباده أن حكمته تقتضي بعث العباد للجزاء والحساب، فإن الله خلق الخلق لعبادته، وأرسل الرسل, وأنزل الكتب, لبيان الطريق الذي به يعبدونه ويطيعونه ويتبعون أمره ويجتنبون نهيه، فمن العباد من رفض الاستقامة على طاعة الله، وطغى وبغى، أفليس بعد أن يموت الطالح والصالح, ولا بد أن يجزي الله المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته, قال تعالى: ( أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ` مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ`أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ`إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ )[القلم:35-38]إن الملاحدة الذين ظلموا أنفسهم هم الذين يظنون الكون خلق عبثًا وباطلاً لا لحكمة، وأنه لا فرق بين مصير المؤمن المصلح والكافر المفسد، ولا بين التقي والفاجر([13])، قال تعالى ( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ` أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ )[ص: 27،28].
وضرب القرآن الكريم للناس الأمثلة في إحياء الأرض بالنبات, وإن الذي أحيا الأرض بعد موتها قادر على إعادة الحياة إلى الجثث الهامدة والعظام البالية ( فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْييِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )[الروم:50].
وذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه إحياء بعض الأموات في هذه الحياة الدنيا، فأخبر الناس في كتابه عن أصحاب الكهف, بأنه ضرب على آذانهم في الكهف ثلاثمائة وتسع سنين, ثم قاموا من رقدتهم بعد تلك الأزمان المتطاولة, قال تعالى: ( ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا )[الكهف:12]. ( وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا )[الكهف:19].( وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاَثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا )[الكهف:25] وغير ذلك من الأدلة والبراهين التي استخدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم في مناظراته مع زعماء الكفر والشرك.

محمد رافع 52 21-09-2014 09:46 AM

ثالثـًا: اعتراضهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم:
اعترضوا على شخص الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد كانوا يتصورون أن الرسول لا يكون بشرا مثلهم، وأنه ينبغي أن يكون ملكا، أو مصحوبا بالملائكة: ( وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَرًا رَّسُولاً )[الإسراء:94]( وَقَالُوا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنْظَرُونَ )[الأنعام:8]( وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ ) [الأنعام:9] أي لو بعثنا إلى البشر رسولاً من الملائكة لكان على هيئة الرجل يمكنهم مخاطبته والأخذ عنه، ولو كان كذلك لالتبس عليهم الأمر كما هم يلبسون على أنفسهم في قبول رسالة البشر([14]), وكانوا يريدون رسولاً لا يحتاج إلى طعام وسعى في الأسواق: ( وَقَالُوا مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأسْوَاقِ لَوْلاَ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا`أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا )[الفرقان: 7، 8] وكأنهم لم يسمعوا بأن الرسل جميعًا كانوا يأكلون ويسعون ويعملون ( وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا )([15])[الفرقان:20].
ويريدون أن يكون الرسول كثير المال كبيرًا في أعينهم: ( وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ )[الزخرف:31]. يريدون الوليد بن المغيرة بمكة وعروة بن مسعود الثقفي بالطائف([16]).
ونسبوا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الجنون: ( وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ` لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ )[الحجر:6،7]( أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ` ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ )[الدخان: 13، 14]
ورد الله عليهم بقوله: ( مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ )[القلم:2]
كما نسبوه إلى الكهانة والشعر: ( فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ` أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ )[الطور:29، 30].
كما أنهم كانوا يعلمون أنه لا ينظم الشعر، وأنه راجح العقل، وأن ما يقوله بعيد عن سجع الكهان وقول السحرة([17]).
ونسبوه صلى الله عليه وسلم إلى السحر والكذب: ( وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنْذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ )[ص:4]. ( نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا` انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثَالَ فَضَلُّوا فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً )[الإسراء: 47،48]، وكانت الآيات تتنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم تفند مزاعم المشركين، وتبين له أن الرسل السابقين استهزئ بهم، وأن العذاب عاقبة المستهزئين: ( وَلَقَدِ اسْتُهْزِئ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ )[الأنعام:10] وتعلمه أن المشركين لا يكذبون شخصه، ولكنهم يكذبون رسالته، ويدفعون آيات الله بتلك الأقاويل([18]): ( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ )[الأنعام:33].
رابعًا: موقفهم من القرآن الكريم:
كذلك لم يصدقوا أن القرآن الكريم منزل من الله واعتبروه ضربًا من الشعر الذي كان ينظمه الشعراء، مع أن كل من قارن بين القرآن وبين أشعار العرب يعلم أنه مختلف عنها: ( وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ` لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ )[يس:69، 70] وكيف يكون القرآن شعرًا وقد نزل فيه ذم للشعراء الذين يضلون الناس, ويقولون خلاف الحقيقة([19]). ( وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ` أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ` وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ )[الشعراء:224 -226].
فهو كلام الله المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم وليس شبيهًا بقول الشعراء، ولا بقول الكهان: ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ` وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ` وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ` تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ )[الحاقة:40-43].
وقد أدرك الشعراء قبل غيرهم أن القرآن الكريم ليس شعرًا([20]) ومن فرط تكذيبهم وعنادهم قالوا: إن محمدًا يتعلم القرآن من رجل أعجمي([21]) كان غلامًا لبعض بطون قريش، وكان بياعًا يبيع عند الصفا، وربما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يجلس إليه ويكلمه بعض الشيء، وذاك كان أعجمي اللسان لا يعرف من العربية إلا اليسير، بقدر ما يرد جواب الخطاب فيما لا بد منه، ولهذا قال تعالى ( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ )[النحل:103].
أي فكيف يتعلم من جاء بهذا القرآن من فصاحته وبلاغته ومعانيه التامة الشاملة من رجل أعجمي؟ لا يقول هذا من له أدنى مسكة من العقل([22]).
واعترضوا على طريقة نزول القرآن، فطلبوا أن ينزل جملة واحدة، مع أن نزوله مفرقًا أدعى لتثبيت قلوب المؤمنين به وتيسير فهمه وحفظه وامتثاله: ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً )[الفرقان:32].
فلما اعترض المشركون على القرآن, وعلى من أنزل عليه بهذه الاعتراضات
تحداهم الله بأن يأتوا بمثله، وأعلن عن عجز الإنس والجن مجتمعين عن ذلك: ( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا )[الإسراء:88].

بل هم عاجزون عن أن يأتوا بعشر سور مثله: ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ` فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ )[هود:13، 14].
وحتى السورة الواحدة هم عاجزون عنها: ( وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُّفْتَرَى مِن دُونِ اللهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ` أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ )[يونس:37-38].
فعجزهم مع أن الفصاحة كانت من سجاياهم، وكانت أشعارهم ومعلقاتهم في قمة البيان دليل على أن القرآن كلام الله الذي لا يشبهه شيء في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله وأقواله، وكلامه لا يشبه كلام المخلوقين([23]).

* * *






([1]) رسالة الأنبياء، عمر أحمد عمر (3/46).
([2]) البخاري- كتاب التفسير- سورة الشعراء ورقمه (4770)، الآيتان من سورة المسد (1، 2).
([3]) مسلم, كتاب الإيمان [348- (204)].
([4]) انظر: السيرة النبوية لأبي الحسن الندوي ص138.
([5]) انظر: الحرب النفسية ضد الإسلام، د. عبد الوهاب كحيل، ص121.
([6]) انظر: دراسات في السيرة، عماد الدين خليل، ص66.
([7]) انظر: رسالة الأنبياء (3/48، 49).
(1) انظر: الغرباء الأولون، ص167(2) زلفى: قربى.
(3) انظر: رسالة الأنبياء (3/52).


([11]) وفي رواية عن ابن عباس أنه العاص بن وائل. (2) تفسير ابن كثير (3/581).

([13]) انظر: الوسطية في القرآن الكريم ص402.
([14]) تفسير ابن كثير (2/124). (2) اختبرنا بعضكم ببعض.


([16]) تفسير ابن كثير (4/126، 127). (4) انظر: رسالة الأنبياء (3/57).

(1) انظر: رسالة الأنبياء (3/58). (2) نفس المصدر (3/59).


(3) نفس المصدر (3/59) (4) انظر: تهذيب السيرة (1/74، 90)


([22]) انظر: تفسير ابن كثير (2/586).
(1) انظر: رسالة الأنبياء (3/66).

محمد رافع 52 21-09-2014 09:49 AM

المبحث الثاني


ســـنة الابتــــــلاء

الابتلاء - بصفة عامة- سنة الله في خلقه, وهذا واضح في تقريرات القرآن الكريم, قال تعالى: ( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِيمَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ )[الأنعام:165] وقال سبحانه: ( إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً )[الكهف:7] وقال جل شأنه: ( إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا )[الإنسان:2].
الابتلاء مرتبط بالتمكين ارتباطا وثيقا، فلقد جرت سنة الله تعالى ألا يُمكِّن لأمة إلا بعد أن تمر بمراحل الاختبار المختلفة، وإلا بعد أن ينصهر معدنها في بوتقة الأحداث، فيميز الله الخبيث من الطيب, وهي سنة جارية على الأمة الإسلامية لا تتخلف, فقد شاء الله تعالى أن يبتلي المؤمنين ويختبرهم، ليمحص إيمانهم ثم يكون لهم التمكين في الأرض بعد ذلك، ولذلك جاء هذا المعنى على لسان الإمام الشافعي t حين سأله رجل: أيهما أفضل للمرء، أن يُمكن أو يبتلى؟ فقال الإمام الشافعي: لا يمكن حتى يبتلى، فإن الله تعالى ابتلى نوحًا وإبراهيم، وموسى وعيسى، ومحمدًا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فلما صبروا مكنهم, فلا يظن أحد أن يخلص من الألم البتة([1]).
حكمة الابتلاء وفوائده:
للابتلاء حكم كثيرة من أهمها:
1- تصفية الصفوف:
جعل الله الابتلاء وسيلة لتصفية نفوس الناس، ومعرفة المحق منهم والمبطل؛ وذلك لأن المرء قد لا يُكشف في الرخاء، لكنه تكشفه الشدة، قال تعالى: ( أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ )[العنكبوت:2].
2- تربية الجماعة المسلمة:
وفي هذا يقول سيد قطب رحمه الله: «ثم إنه الطريق الذي لا طريق غيره لإنشاء الجماعة, التي تحمل هذه الدعوة وتنهض بتكاليفها، طريق التربية لهذه الجماعة، وإخراج مكنوناتها من الخير والقوة والاحتمال، وهو طريق المزاولة العملية للتكاليف, والمعرفة الواقعية لحقيقة الناس وحقيقة الحياة، ذلك ليثبت على هذه الدعوة أصلب أصحابها عودًا، فهؤلاء هم الذين يصلحون لحملها, إذن بالصبر عليها، فهم عليها مؤتمنون»([2]).
3- الكشف عن خبايا النفوس:
وفي هذا المعنى يقول صاحب الظلال: «والله يعلم حقيقة القلوب قبل الابتلاء، ولكن الابتلاء يكشف في عالم الواقع ما هو مكشوف لعلم الله، مغيب عن علم البشر, فيحاسب الناس إذن على ما يقع من عملهم لا على مجرد ما يعلمه سبحانه من أمرهم، وهو فضل من الله من جانب، وعدل من جانب، وتربية للناس من جانب، فلا يأخذوا أحدًا إلا بما استعلن من أمره وبما حققه فعله، فليسوا بأعلم من الله بحقيقة قلبه»([3]).
4- الإعداد الحقيقي لتحمل الأمانة:
وفي هذا المعنى يقول صاحب الظلال: «وما بالله – حاشا لله – أن يعذب المؤمنين بالابتلاء، وأن يؤذيهم بالفتنة، ولكنه الإعداد الحقيقي لتحمل الأمانة، فهي في حاجة إلى إعداد خاص لا يتم إلا بالمعاناة العملية للمشاق، وإلا بالاستعلاء الحقيقي على الشهوات, وإلا بالصبر الحقيقي على الآلام, وإلا بالثقة الحقيقية في نصر الله وثوابه على الرغم من طول الفتنة وشدة الابتلاء، والنفس تصهرها الشدائد, فتنفي عنها الخبث وتستجيش كامن قواها المذخورة فتستيقظ وتتجمع، وتطرقها ب*** وشدة فيشتد عودها ويصلب ويصقل، وكذلك تفعل الشدائد بالجماعات، فلا يبقى صامدًا إلا أصلبها عودًا وأقواها طبيعة، وأشدها اتصالاً بالله، وثقة فيما عنده من الحسنيين النصر أو الأجر، وهؤلاء هم الذين يسلمون الراية في النهاية مؤتمنين عليها بعد الاستعداد والاختبار»([4]).

محمد رافع 52 21-09-2014 09:50 AM

5- معرفة حقيقة النفس:
وفي هذا المعنى يقول صاحب الظلال: «وذلك لكي يعرف أصحاب الدعوة حقيقتهم هم أنفسهم، وهم يزاولون الحياة والجهاد مزاولة عملية واقعية، ويعرفوا حقيقة النفس البشرية وخباياها، حقيقة الجماعات والمجتمعات، وهم يرون كيف تصطرع مبادئ دعوتهم مع الشهوات في أنفسهم، وفي أنفس الناس، ويعرفون مداخل الشيطان إلى هذه النفوس، ومزالق الطريق ومسارب الضلال»([5]).
6- معرفة قدر الدعوة:
وفي هذا المعنى يقول صاحب الظلال: «وذلك لكي تعز هذه الدعوة عليهم، وتغلو بقدر ما يصيبهم في سبيلها من غث وبلاء، وبقدر ما يضحون في سبيلها من عزيز وغالٍ، فلا يفرطوا فيها بعد ذلك مهما كانت الأحوال»([6]).
7- الدعاية لها:
فصبر المؤمنين على الابتلاء دعوة صامتة لهذا الدين وهي التي تدخل الناس في دين الله، ولو وهنوا أو استكانوا لما استجاب لهم أحد، لقد كان الفرد الواحد يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم, ثم يأتيه أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يمضي إلى قومه يدعوهم، ويصبر على تكذيبهم وأذاهم، ويتابع طريقه حتى يعود بقومه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم([7]). وسنرى ذلك في الصفحات القادمة إن شاء الله.
8- جذب بعض العناصر القوية إليها:
وأمام صمود المسلمين وتضحياتهم، تتوق النفوس القوية إلى هذه العقيدة، ومن خلال الصلابة الإيمانية تكبر عند هذه الشخصيات الدعوة وحاملوها، فيسارعون إلى الإسلام دون تردد، وأعظم الشخصيات التي يعتز بها الإسلام دخلت إلى هذا الدين من خلال هذا الطريق([8]).
9- رفع المنزلة والدرجة عند الله، وتكفير السيئات:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما يصيب المؤمن من شوكة فما فوقها إلا رفعه الله بها درجة، وحط عنه خطيئة» ([9]) فقد يكون للعبد درجة عند الله تعالى لا يبلغها بعمله فيبتليه الله تعالى حتى يرفعه إليها، كما أن الابتلاء طريق لتكفير سيئات المسلم([10]).
كما أن للابتلاء فوائد عظيمة منها: معرفة عز الربوبية وقهرها، معرفة ذل العبودية وكسرها، الإخلاص، الإنابة إلى الله والإقبال عليه، التضرع والدعاء، الحلم عمن صدرت عنه المصيبة، العفو عن صاحبها، الصبر عليها، الفرح بها لأجل فوائدها، الشكر عليها، رحمة أهل البلاء ومساعدتهم على بلواهم، معرفة قدر نعمة العافية والشكر عليها، ما أعده الله تعالى على هذه الفوائد من ثواب الآخرة على اختلاف مراتبها، وغير ذلك من الفوائد. ومن أراد التوسع فليراجع كتاب فقه الابتلاء([11]).

***






([1]) الفوائد لابن القيم, ص283.
([2]) في ظلال القرآن (2/180). (2) نفس المصدر (6/387).


([4]) نفس المصدر (6/389). (4) نفس المصدر (2/181).

([6]) في ظلال القرآن(2/180). (2) انظر: فقه السيرة النبوية، ص192، 193.


([8]) انظر: فقد السيرة النبوية، ص193، 194.
([9]) مسلم شرح النووي (6/127، 128) كتاب البر والصلة، باب ثواب المؤمن.
([10]) انظر: التمكين للأمة الإسلامية ص244، وانظر: فقه الابتلاء، محمد أبو صعيليك ص8: 11.
([11]) انظر: فقه الابتلاء، محمد أبو صعيليك، ص15: 28.

محمد رافع 52 21-09-2014 10:04 AM

المبحث الثالث


أساليب المشركين في محاربة الدعوة

أجمع المشركون على محاربة الدعوة التي عرَّت واقعهم الجاهلي, وعابت آلهتهم وسفهت أحلامهم، أي آراءهم وأفكارهم، وتصوراتهم عن الله والحياة والإنسان والكون، فاتخذوا العديد من الوسائل والمحاولات لإيقاف الدعوة وإسكات صوتها، أو تحجيمها وتحديد مجال انتشارها.
أولاً: محاولة قريش لإبعاد أبي طالب عن مناصرة وحماية رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«جاءت قريش إلى أبي طالب فقالوا: إن ابن أخيك هذا قد آذانا في نادينا ومسجدنا فانهه عنا، فقال أبو طالب لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بني عمك هؤلاء زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم ومسجدهم، فانته عن أذاهم، فحلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ببصره إلى السماء فقال: «ترون هذه الشمس؟» قالوا: نعم، قال: «فما أنا بأقدر أن أدع ذلك منكم على أن تشعلوا منها بشعلة» وفي رواية: «والله ما أنا بأقدر أن أدع ما بعثت به من أن يشعل أحد من هذه الشمس شعلة من نار» فقال أبو طالب: «والله ما كذب ابن أخي قط، فارجعوا راشدين»([1])، وحاولت قريش مرات عديدة الضغط على رسول الله صلى الله عليه وسلم بواسطة عائلته ولكنها فشلت.
ذاع أمر حماية أبي طالب لابن أخيه, وتصميمه على مناصرته وعدم خذلانه، فاشتد ذلك على قريش غمًّا وحسدًا ومكرًا, فمشوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة، فقالوا له: «يا أبا طالب هذا عمارة بن الوليد, أنهد فتى في قريش, وأجملهم، فلك عقله([2]) ونصره، واتخذه ولدًا فهو لك، وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي خالف دينك، ودين آبائك، وفرق جماعة قومك وسفه أحلامنا، فن***ه فإنما هو رجل برجل» قال: «والله لبئس ما تسومونني أتعطوني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني فت***ونه، هذا والله ما لا يكون أبدا»([3]).
وإن المرء ليسمع عجبًا، ويقف مذهولاً أمام مروءة أبي طالب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ربط أبو طالب مصيره بمصير ابن أخيه محمد صلى الله عليه وسلم، بل واستفاد من كونه زعيم بني هاشم أن ضم بني هاشم وبني المطلب إليه في حلف واحد على الحياة والموت، تأييدًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم, مسلمهم ومشركهم على السواء,([4]) وأجار ابن أخيه محمدا إجارة مفتوحة لا تقبل التردد أو الإحجام، كانت هذه الأعراف الجاهلية والتقاليد العربية تسخر من قبل النبي صلى الله عليه وسلم لخدمة الإسلام، وقد قام أبو طالب حين رأى قريشًا تصنع ما تصنع في بني هاشم وبني المطلب، فدعاهم إلى ما هو عليه، من منع رسول الله صلى الله عليه وسلم والقيام دونه، فاجتمعوا إليه وقاموا معه وأجابوه إلى ما دعاهم إليه، إلا ما كان من أبي لهب عدو الله اللعين.
فلما رأى أبو طالب من قومه ما سره من جهدهم معهم، وحدبهم عليه، جعل يمدحهم، ويذكر قديمهم، ويذكر فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم، ومكانه منهم ليشد لهم رأيهم، وليحدبوا معه على أمره فقال:
إذا اجتمعت يومًا قريش لمفخر --- فعبد مناف سرها وصميمُها



وإن حُصلت أشراف عبد منافها --- ففي هاشم أشرافُها وقديمها



وإن فَخَرَت يومًا فإن محمدا --- هو المصطفى من سر وكريمُها



تداعت قريش غثها وثمينها --- علينا فلم تظفر وطاشت حلومها



وكنا قديمًا لا نُقر ظُلامة --- إذا ما ثنوا صُعْر الخدود نُقيمها([5])




وحين حاول أبو جهل أن يخفر جوار أبي طالب تصدى له حمزة، فشجه بقوسه، وقال له: تشتم محمدا وأنا على دينه، فرد ذلك إن استطعت.
إنها ظاهرة فذة أن تقوم الجاهلية بحماية من يسب آلهتها، ويعيب دينها، ويسفه أحلامها، وباسم هذه القيم يقدمون المهج والأرواح، ويخوضون المعارك والحروب، و لا يُمسُّ محمد صلى الله عليه وسلم بسوء.
ولما خشي أبو طالب دهماء العرب أن يركبوه مع قومه، قال قصيدته التي تعوذ فيها بحرمة مكة، وبمكانه منها، وتودد فيها أشراف قومه، وهو على ذلك يخبرهم في ذلك من شعره أنه غير مُسْلِمٍ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، ولا تاركه لشيء أبدا حتى يهلك دونه فقال:
ولما رأيت القوم لا ود فيهم --- وقد قطعوا كل العرى والوسائل



وقد صارحونا بالعداوة والأذى --- وقد طاوعوا أمر العدو المزايل



وقد حالفوا قومًا علينا أَظِنَّةً --- يعضون غيظًا خلفنا بالأنامل



صبرت لهم نفسي بسمراء([6]) سمحة --- وأبيض عضب([7]) من ترات المقاول



وأحضرت عند البيت رهطي وإخوتي --- وأمسكت من أثوابه بالوصائل([8])




وتعوذ بالبيت وبكل المقدسات التي فيه، وأقسم بالبيت بأنه لن يسلم محمدا ولو سالت الدماء أنهارًا واشتدت المعارك مع بطون قريش:
كذبتم وبيت الله نُبْزَى محمدا --- ولما نطاعن دونه ونناضل



ونسلمه حتى نصرع حوله([9]) --- ونذهل عن أبنائنا والحلائل([10])



وينهض قوم في الحديد إليكم --- نهوض الروايا([11]) تحت ذات الصلاصل




وقرّع زعماء بني عبد مناف بأسمائهم لخذلانهم إياه، فلعتبة بن ربيعة يقول:
فعتبة لا تسمع بنا قول كاشح --- حسود كذوب مبغض ذي دغاول([12])




ولأبي سفيان بن حرب يقول:
ومر أبو سفيان عني معرضا --- كما مَرَّ قَيْل([13]) من عظام المقاول



يفر إلى نجد وبردِ مياهه --- ويزعم أني لست عنكم بغافل([14])




وللمطعِم بن عدي سيد بني نوفل يقول:
أمطعِم لم أخذُلك في يوم نجدة --- ولا معظم عند الأمور الجلائل



أمطعم إن القوم ساموك خطة --- وإني متى أوكل فلست بوائل([15])



جزى الله عنا عبد شمس ونوفلاً --- عقوبة شر عاجلاً غير آجل([16])




لقد كان كسب النبي صلى الله عليه وسلم عمه في صف الدفاع عنه، نصرًا عظيمًا، وقد استفاد صلى الله عليه وسلم من العرف القبلي فتمتع بحماية العشيرة، ومنع من أي اعتداء يقع عليه, وأعطى حرية التحرك والتفكير، وهذا يدل على فهم النبي صلى الله عليه وسلم للواقع الذي يتحرك فيه, وفي ذلك درس بالغ للدعاة إلى الله تعالى, للتعامل مع بيئتهم ومجتمعاتهم والاستفادة من القوانين والأعراف والتقاليد لخدمة دين الله.
ثانيًا: محاولة تشويه دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم:
قام مشركو مكة بمحاولة تشويه دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم, ولذلك نظمت قريش حربًا إعلامية ضده لتشويهه, قادها الوليد بن المغيرة، حيث اجتمع مع نفر من قومه، وكان ذا سن فيهم، وقد حضر موسم الحج فقال لهم: يا معشر قريش إنه قد حضر الموسم، وإن وفود العرب ستقدم عليكم، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأيا واحدا، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضًا، ويرد قولكم بعضه بعضا.
- فقالوا: فأنت يا أبا عبد شمس, فقل وأقم لنا رأيًا نقول به.
- قال: بل أنتم قولوا أسمع.
- فقالوا: نقول كاهن.
- فقال: ما هو بكاهن، لقد رأيت الكهان فما هو بزمزمة([17]) الكاهن وسجعه.
- فقالوا: نقول مجنون.
- فقال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو تخنقه, ولا تخالجه ولا وسوسته.
- فقالوا: نقول شاعر.
- فقال: ما هو بشاعر، قد عرفنا الشعر برجزه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر.
- قالوا: فنقول ساحر.
- قال: ما هو بساحر، لقد رأينا السحّار وسحرهم، فما هو بنفثه، ولا عقده.
- قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس؟
قال: والله إن لقوله لحلاوة وإن أصله لعذق([18]) وإن فرعه لجناة([19])، وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول لأن تقولوا: ساحر، فقولوا: ساحر يفرق بين المرء وبين أبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وعشيرته([20]).
فأنزل الله تعالى في الوليد: ( ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا` وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُودًا` وَبَنِينَ شُهُودًا` وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا` ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ` كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لآَيَاتِنَا عَنِيدًا` سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا` إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ` فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ` ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ` ثُمَّ نَظَرَ` ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ` ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ`` فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ` إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ` سَأُصْلِيهِ سَقَرَ )[المدثر:11-26].
ويتضح من هذه القصة أن الحرب النفسية المضادة للرسول صلى الله عليه وسلم لم تكن توجه اعتباطًا، وإنما كانت تعد بإحكام ودقة بين زعماء الكفار، وحسب قواعد معينة, هي أساس القواعد المعمول بها في تخطيط الحرب النفسية في العصر الحديث، كاختيار الوقت المناسب، فهم يختارون وقت تجمع الناس في موسم الحج، والاتفاق وعدم التناقض، وغير ذلك من هذه الأسس حتى تكون حملتهم منظمة، وبالتالي لها تأثير على وفود الحجيج، فتؤتي ثمارها المرجوة منها، ومع اختيارهم للزمان المناسب, فقد اختاروا أيضا مكانـًا مناسبًا حتى تصل جميع الوفود القادمة إلى مكة([21]), ويتضح من هذا الخبر عظمة النبي صلى الله عليه وسلم وقوته في التأثير بالقرآن على سامعيه، فالوليد بن المغيرة كبير قريش ومن أكبر ساداتهم، ومع ما يحصل عادة للكبراء من التكبر والتعاظم فإنه قد تأثر بالقرآن، ورق له، واعترف بعظمته ووصفه بذلك الوصف البليغ([22]) وهو في حالة استجابة لنداء العقل، ولم تستطع تلك الحرب الإعلامية المنظمة أن تحاصر دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم, بل استطاع محمد صلى الله عليه وسلم أن يخترق حصار الأعداء, الذين لم يكتفوا بتنفير ساكني مكة من رسول الله صلى الله عليه وسلم, وتشويه سمعته عندهم, بل صاروا يتلقون الوافدين إليهم ليسمموا أفكارهم, وليحولوا بينهم وبين سماع كلامه، والتأثر بدعوته، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عظيم النجاح في دعوته, بليغًا في التأثير على من خاطبه، حيث يؤثر على من جالسه بهيئته وسمته ووقاره, قبل أن يتكلم، ثم إذا تحدث أَسَرَ سامعيه بمنطقه البليغ المتمثل في العقل السليم, والعاطفة الجياشة بالحب والصفاء, والنية الخالصة في هداية الأمة, بوحي الله تعالى([23]). ومن أبرز الأمثلة على قوته في التأثير بالكلمة المعبرة والأخلاق الكريمة, وقدرته على اختراق الجدار الحديدي الذي حاول زعماء مكة ضربه عليه, ما كان من موقفه مع ضماد الأزدي، وعمرو بن الطفيل الدوسي، وأبي ذر، وعمرو بن عبسة رضي الله عنهم.

محمد رافع 52 21-09-2014 10:08 AM

1- إسلام ضماد الأزدي t:
وفد ضماد الأزدي إلى مكة, وتأثر بدعاوى المشركين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, حتى استقر في نفسه أنه مصاب بالجنون، كما يتهمه بذلك زعماء مكة، وكان ضماد من أزد شنوءة، وكان يعالج من الجنون, فلما سمع سفهاء مكة يقولون إن محمدًا صلى الله عليه وسلم مجنون فقال: لو أني رأيت هذا الرجل لعل الله يشفيه على يدي.
قال: فلقيه، فقال: يا محمد إني أرقي من هذه الريح، وإن الله يشفي على يدي من شاء. فهل لك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ومن يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد».
قال: فقال: أعد علي كلماتك هؤلاء، فأعادهن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، قال: فقال: لقد سمعت قول الكهنة وقول السحرة وقول الشعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغن قاموس البحر,([24]) فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: «هات يدك أبايعك على الإسلام» قال: فبايعه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وعلى قومك»، قال: وعلى قومي.
وعندما قامت دولة الإسلام في المدينة, وكانت سرايا رسول الله تبعث, فمروا على قوم ضماد, فقال صاحب السرية للجيش: هل أصبتم من هؤلاء شيئا؟ فقال رجل من القوم: أصبت منهم مطهرة، فقال: ردوها. فإن هؤلاء قوم ضماد([25]).
دروس وفوائد:
أ- دعاية قريش وتشويه شخص الرسول صلى الله عليه وسلم، واتهامه بالجنون حمل ضمادًا على السير للرسول صلى الله عليه وسلم من أجل رقيته، فكانت الحرب الإعلامية المكية ضد الرسول صلى الله عليه وسلم سببًا في إسلامه وإسلام قومه.
ب- تتضح صفتا الصبر والحلم في شخص النبي صلى الله عليه وسلم فقد عرض ضماد على رسول الله صلى الله عليه وسلم معالجته من مرض الجنون، وهذا موقف يثير الغضب، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم استقبل الأمر بحلم وهدوء، مما أثار إعجاب ضماد واحترامه لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ج- أهمية هذه المقدمة التي يستفتح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض خطبه, فقد اشتملت على تعظيم الله وتمجيده, وصرف العبادة له سبحانه، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يجعلها بين يدي خطبه ومواعظه.
د- تأثر ضماد بفصاحة الرسول صلى الله عليه وسلم وقوة بيانه؛ لأن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم انبعث من قلب مُليء إيمانًا ويقينًا وحكمة، فأصبح حديثه يصل إلى القلوب ويجذبها إلى الإيمان.
هـ- في سرعة إسلام ضماد دليل على أن الإسلام دين الفطرة، وأن النفوس إذا تجردت من الضغوط الداخلية والخارجية فإنها غالبًا تتأثر وتستجيب، إما بسماع قول مؤثر، أو الإعجاب بسلوك قويم.
و- حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على انتشار دعوته, حيث رأى في ضماد صدق إيمانه, وحماسته للإسلام، وقوة اقتناعه به، فدفعه ذلك إلى أخذ البيعة منه لقومه.
ز- وفي هذا بيان واضح لأهمية الدعوة إلى الله تعالى، حيث جعلها النبي صلى الله عليه وسلم قرينة الالتزام الشخصي، فقد بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الالتزام بالدين، فلم يكتف رسول الله بذلك بل أخذ منه البيعة على دعوة قومه إلى الإسلام.
ح- حفظ المعروف والود لأهل السابقة والفضل «ردوها فإن هؤلاء من قوم ضماد»([26]).
ط- في الحديث بعض الوسائل التربوية التي استعملها النبي صلى الله عليه وسلم مع ضماد كالتأني في الحديث، وأسلوب الحوار، والتوجيه المباشر، وتظهر بعض الصفات في شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم كمربٍّ، كالحلم والصبر، والتشجيع على الإكثار من الخيرات.
2- إسلام عمرو بن عَبَسةt:
قال عمرو بن عبسة السلمي: كنت وأنا في الجاهلية أظن أن الناس على ضلالة، وأنهم ليسوا على شيء وهم يعبدون الأوثان, فسمعت برجل بمكة يخبر أخبارًا فقعدت على راحلتي فقدمت عليه، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفيًا، جرآء عليه قومه، فتلطفت حتى دخلت عليه بمكة فقلت له: ما أنت؟ قال: «أنا نبي» فقلت: وما نبي؟ قال: «أرسلني الله» فقلت: وبأي شيء أرسلك؟ قال: «أرسلني بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يوحد الله لا يُشرك به شيء» قلت له: فمن معك على هذا؟ قال: «حر وعبد» قال: ومعه يومئذ أبو بكر وبلال ممن آمن به فقلت: إني متبعك قال: «إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا، ألا ترى حالي وحال الناس؟ ولكن ارجع إلى أهلك، فإذا سمعت بي قد ظهرت فأتني».
قال فذهبت إلى أهلي، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وكنت في أهلي, فجعلت أتخير الأخبار وأسأل الناس حين قدم المدينة، حتى قدم عليَّ نفر من أهل يثرب من أهل المدينة فقلت: ما فعل هذا الرجل الذي قدم المدينة؟ فقالوا: الناس إليه سِراع، وقد أراد قومه ***ه فلم يستطيعوا ذلك، فقدمت المدينة فدخلت عليه، فقلت: يا رسول الله أتعرفني؟ قال: «نعم. أنت الذي لقيتني بمكة».
وذكر بقية الحديث وفيه أنه سأله عن الصلاة والوضوء([27]).
دروس وعبر:
أ- عمرو بن عبسة كان من الحنفاء المنكرين لعبادة غير الله تعالى في الجاهلية.
ب- كانت الحروب الإعلامية الضروس التي شنتها قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم سببًا في تتبع عمرو بن عبسة لأخبار الرسول صلى الله عليه وسلم.
ج- جرأة وشدة قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقد وجده عمرو بن عبسة مستخفيًا وقومه جرآء عليه.
د- الأدب في الدخول على أهل الفضل والمنزلة, قال عمرو بن عبسة: «فتلطفت حتى دخلت عليه».
هـ- الرسالة المحمدية تقوم على ركيزتين: حق الله، وحق الخلق قال صلى الله عليه وسلم: «أرسلني بصلة الأرحام، وكسر الأوثان». وفي هذا دليل على أهمية صلة الأرحام حيث كان هذا الخلق العظيم ألصق ما يكون بدعوة الإسلام، مع اقترانه بالدعوة إلى التوحيد، وقد ظهر في هذا البيان الهجوم على الأوثان بقوة, مع أنها كانت أقدس شيء عند العرب، وفي هذا دلالة على أهمية إزالة معالم الجاهلية، وأن دعوة التوحيد لا تستقر ولا تنتشر إلا بزوال هذه المعالم.
و- وفي اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم المبكر بإزالة الأوثان مع عدم قدرته على تنفيذ ذلك في ذلك الوقت دلالة على أن أمور الدين لا يجوز تأخير بيانها للناس بحجة عدم القدرة على تطبيقها، فالذين يبينون للناس من أمور الدين ما يستطيعون تطبيقه بسهولة وأمن، ويحجمون عن بيان أمور الدين التي يحتاج تطبيقها إلى شيء من المواجهة والجهاد, هؤلاء دعوتهم ناقصة، ولم يقتدوا برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي واجه الجاهلية وطغاتها وهو في قلة من أنصاره، والسيادة في بلده لأعدائه([28]).
ز- حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على أمان صحابته وتوفير الجو الآمن، والسير بهم إلى بر الأمان وإبعادهم عن التعرض للمضايقات، قال لعمرو بن عبسة: «إنك لا تستطيع يومك هذا».
ح- تذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحوال أصحابه وعدم نسيان مواقفهم، قال: «أنت الذي لقيتني بمكة».
ط- لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعطي كل من أسلم قائمة بأسماء أتباعه، فهذا ليس للسائل منه مصلحة ولا يتعلق به بلاغ؛ ولذلك لما سأل عمرو بن عبسة عمن تبعه قال: «حر وعبد» وهذه تورية كما قال ابن كثير: بأن هذا اسم *** فهم منه عمرو أنه اسم عين([29]).
ي- في قوله صلى الله عليه وسلم: «ارجع إلى أهلك، فإذا سمعت بي ظهرت فأتني» نأخذ منه درسًا في الدعوة: إن تكديس المريدين والأعضاء حيث المحنة والإيذاء ليس هو الأصل، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوجه نحو الرجوع إلى الأقوام، وأمر كما نرى بالهجرتين إلى الحبشة، فذلك تخفيف عن المسلمين وإبعاد لهم عن مواطن الخطر وستر لقوة المسلمين، وإعطاء فرصة للقائد حتى لا ينشغل، وضمان للسرية، وإفادة للمكان المرسل إليه، وإعداد للمستقبل وملاحظة لضمان الاستمرار وتجنب الاستئصال([30]).
وممن أسلم بسبب الحرب الإعلامية ضد الرسول صلى الله عليه وسلم الطفيل بن عمرو الدوسي، وجاءت قصته مفصلة في كتب السيرة، ويرى الدكتور أكرم ضياء العمري أنه لم يثبت منها إلا أنه دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم للالتجاء إلى حصن دوس المنيع فأبى رسول الله ذلك([31]) وأشارت رواية صحيحة إلى أن الطفيل دعا قومه إلى الإسلام ولقي منهم صدودا حتى طلب الطفيل من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو عليهم، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لهم بالهداية([32]) وكان الرسول آنئذ بالمدينة المنورة([33]).

محمد رافع 52 21-09-2014 10:12 AM

3- إسلام الحصين والد عمران رضي الله عنهما:
جاءت قريش إلى الحصين –وكانت تعظمه– فقالوا له: كلم لنا هذا الرجل، فإنه يذكر آلهتنا، ويسبهم, فجاءوا معه حتى جلسوا قريبًا من باب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أوسعوا للشيخ» وعمران وأصحابه متوافرون فقال حصين: ما هذا الذي بلغنا عنك, أنك تشتم آلهتنا، وتذكرهم، وقد كان أبوك حصينة([34]) وخيرًا؟ فقال: «يا حصين، إن أبي وأباك في النار, يا حصين، كم تعبد من إله؟» قال: سبعًا في الأرض، وواحدًا في السماء، فقال: «فإذا أصابك الضر من تدعو؟» قال: الذي في السماء، قال: «فإذا هلك المال من تدعو؟» قال: الذي في السماء، قال: «فيستجيب لك وحده وتشركهم معه، أرضيته في الشكر أم تخاف أن يغلب عليك؟» قال: ولا واحدة من هاتين، قال: وعلمت أني لم أكلم مثله، قال: «يا حصين، أسلم تسلم» قال: إن لي قومًا وعشيرة، فماذا أقول؟ قال: «قل: اللهم أستهديك لأرشد أمري وزدني علمًا ينفعني» فقالها حصين فلم يقم حتى أسلم، فقام إليه عمران فقبل رأسه ويديه ورجليه، فلما رأى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بكى، وقال: «بكيت من صنيع عمران دخل حصين وهو كافر فلم يقم إليه عمران، ولم يلتفت ناحيته، فلما أسلم قضى حقه فدخلني من ذلك الرقة» فلما أراد حصين أن يخرج قال لأصحابه: «قوموا فشيعوه إلى منزله» فلما خرج من سدة الباب رأته قريش، فقالوا: صبأ وتفرقوا عنه»([35]).
ولعل الذي حدا بالحصين والد عمران أن يسلم بهذه السرعة، سلامة فطرته، وحسن استعداده من ناحية، وقوة حجة الرسول صلى الله عليه وسلم وسلامة منطقه من ناحية أخرى([36]).
ونلاحظ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استخدم أسلوب الحوار مع الحصين t, لغرس معاني التوحيد في نفسه ونسف العقائد الباطلة التي كان يعتقدها.
4- إسلام أبي ذر t:
كان أبو ذر t منكرًا لحال الجاهلية، ويأبى عبادة الأصنام، وينكر على من يشرك بالله، وكان يصلي لله قبل إسلامه بثلاث سنوات, دون أن يخص قبلة بعينها بالتوجه، ويظهر أنه كان على نهج الأحناف، ولما سمع بالنبي صلى الله عليه وسلم قدم إلى مكة وكره أن يسأل عنه حتى أدركه الليل، فاضطجع فرآه علي t فعرف أنه غريب فاستضافه ولم يسأله عن شيء، ثم غادره صباحًا إلى المسجد الحرام فمكث حتى أمسى، فرآه علي فاستضافه لليلة ثانية، وحدث مثل ذلك في الليلة الثالثة، ثم سأله عن سبب قدومه، فلما استوثق منه أبو ذر أخبره بأنه يريد مقابلة الرسول صلى الله عليه وسلم فقال له علي: فإنه حق وهو رسول الله, فإذا أصبحت فاتبعني, فإني إن رأيت شيئًا أخاف عليك قمت كأني أريق الماء، فإن مضيت فاتبعني, فتبعه وقابل الرسول صلى الله عليه وسلم واستمع إلى قوله فأسلم, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري» فقال: والذي نفسي بيده لأصرخن بها بين ظهرانيهم، فخرج حتى أتى المسجد، فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وثار القوم حتى أضجعوه, فأتى العباس بن عبد المطلب فحذرهم من انتقام غفار, والتعرض لتجارتهم التي تمر بديارهم إلى الشام، فأنقذه منهم([37]). وكان أبو ذر قبل مجيئه قد أرسل أخاه، ليعلم له علم النبي صلى الله عليه وسلم, ويسمع من قوله ثم يأتيه، فانطلق الأخ حتى قدمه وسمع من قوله، ثم رجع إلى أبي ذر فقال له: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وكلامًا ما هو بالشعر، فقال: ما شفيتني([38]) مما أردت([39]) وعزم على الذهاب بنفسه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أخوه له: «وكن على حذر من أهل مكة فإنهم قد شنفوا له وتجهموا» ([40]).
دروس وعبر وفوائد:
* شيوع ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين القبائل، وأكثر من ساهم في ذلك مشركو قريش, بما اتخذوه من منهج التحذير والتشويه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولما جاء به، حتى وصل ذكره قبيلة غفار.
* تميز أبي ذر بأنه رجل مستقل في رأيه, لا تؤثر عليه الإشاعات، ولا تستفزه الدعايات, فيقبل كل ما تنشره قريش؛ ولذلك أرسل أخاه يستوثق له من خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيدًا عن التأثيرات الإعلامية.
* شدة اهتمام أبي ذر بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم فلم يكتف بالمعلومات العامة التي جاء بها أخوه أنيس بل أراد أن يقف على الحقيقة بعينها، حيث إن مجال البحث ليس عن رجل يأمر بالخير فحسب، وإنما عن رجل يذكر أنه نبي؛ ولذلك تحمل المشاق والمتاعب وشظف العيش، والغربة عن الأهل والوطن في سبيل الحق، فأبو ذر ترك أهله واكتفى من الزاد بجراب، وارتحل إلى مكة لمعرفة أمر النبوة([41]).
* التأني والتريث في الحصول على المعلومة: حيث تأنى أبو ذر t لما يعرفه من كراهية قريش لكل من يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم, وهذا التأني تصرف أمني تقتضيه حساسية الموقف, فلو سأل عنه لعلمت به قريش، وبالتالي قد يتعرض للأذى والطرد, ويخسر الوصول إلى هدفه, الذي من أجله ترك مضارب قومه, وتحمل في سبيله مصاعب ومشاق السفر.
* الاحتياط والحذر قبل النطق بالمعلومة: حين سأل علي t أبا ذر t عن أمره وسبب مجيئه إلى مكة، لم يخبره بالرغم من أنه استضافه ثلاثة أيام، إمعانًا في الحذر، فاشترط عليه قبل أن يخبره أن يكتم عنه، وفي الوقت ذاته أن يرشده فهذا غاية في الاحتياط، وتم ما أراده.
* التغطية الأمنية للتحرك: تم الاتفاق بين علي وأبي ذر رضي الله عنهما على إشارة أو حركة معينة، كأنه يصلح نعله، أو كأنه يريق الماء, وذلك عندما يرى علي t من يترصدهما، أو يراقبهما، فهذه تغطية أمنية لتحركهم اتجاه المقر (دار الأرقم). هذا إلى جانب أن أبا ذر كان يسير على مسافة من علي, فيعد هذا الموقف احتياطًا، وتحسبًا لكل طارئ قد يحدث أثناء التحرك.
* هذه الإشارات الأمنية العابرة تدل على تفوق الصحابة رضي الله عنهم في الجوانب الأمنية، وعلى مدى توافر الحس الأمني لديهم, وتغلغله في نفوسهم, حتى أصبح سمة مميزة لكل تصرف من تصرفاتهم الخاصة والعامة، فأتت تحركاتهم منظمة ومدروسة، فما أحوجنا لمثل هذا الحس الذي كان عند الصحابة, بعد أن أصبح للأمن في عصرنا أهمية بالغة في زوال واستمرار الحضارات([42])، وأصبحت له مدارسه الخاصة وتقنياته المتقدمة، وأساليبه ووسائله المتطورة، وأجهزته المستقلة, وميزانياته ذات الأرقام الكبيرة، وأضحت المعلومات عامة والمعلومات الأمنية خاصة، تباع بأغلى الأثمان، ويضحي في سبيل الحصول عليها بالنفس إذا لزم الأمر.
وما دام الأمر كذلك فعلى المسلمين الاهتمام بالناحية الأمنية، حتى لا تصبح قضايانا مستباحة للأعداء، وأسرارنا في متناول أيديهم([43]).
* صدق أبي ذر في البحث عن الحق, ورجاحة عقله وقوة فهمه، فقد أسلم بعد عرض الإسلام عليه.
* حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم واهتمامه بأمن أصحابه وسلامتهم: حيث أمر أبا ذر بالرجوع إلى أهله وكتمان أمره حتى يظهره الله.
* شجاعة أبي ذر وقوته في الحق: فقد جهر بإسلامه في نوادي قريش, ومجتمعاتهم تحديًّا لهم وإظهارًا للحق([44]) وكأنه فهم أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالكتمان ليس على الإيجاب بل على سبيل الشفقة عليه, فأعلمه بأنه به قوة على ذلك؛ ولهذا أقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، ويؤخذ منه جواز قول الحق عند من يخشى منه الأذية لمن قاله, وإن كان السكوت جائزًا، والتحقيق أن ذلك مختلف باختلاف الأحوال والمقاصد, وبحسب ذلك يترتب وجود الأجر وعدمه([45]).
* كان موقف أبي ذر مفيدًا للدعوة, وساهم في مقاومة الحرب النفسية التي شنتها قريش ضد الرسول صلى الله عليه وسلم, وكانت ضربة معنوية أصابت كفار مكة في الصميم, بسبب شجاعة ورجولة أبي ذر وقدرته على التحمل، فقد سالت الدماء من جسده ثم عاد مرة أخرى للصدع بالشهادة.
* مدافعة العباس عن المسلمين, وسعيه لتخليص أبي ذر من أذى قريش, دليل على تعاطفه مع المسلمين، وكان أسلوبه في رد الاعتداء يدل على خبرته بنفوس كفار مكة، حيث حذرهم من الأخطار التي ستواجهها تجارتهم عندما تمر بديار غفار([46]).
* امتثل أبو ذر للترتيبات الأمنية التي اتخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة، فمع تعلق أبي ذر بالرسول صلى الله عليه وسلم وحبه له وحرصه على لقائه، إلا أنه امتثل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مغادرة مكة إلى قومه، واهتم بصلاح وهداية الأهل, ودعوتهم للإسلام، فبدأ بأخيه، وأمه وقومه.
* أثر أبي ذر الدعوي على قومه وقدرته على هدايتهم وإقناعهم بالإسلام، ومع ذلك فلا يصلح للإمارة, روى مسلم في صحيحه عن أبي قال: قلت: يا رسول الله ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبي ثم قال: «يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها»([47]). فلكل شخص مجاله الذي سخره الله فيه, وميدانه الذي يقوم بواجبه فيه، فلا يعني أنه نجح في الدعوة، وإقناع الناس أنه يصلح لكل شيء.
* تفويض أبي ذر الإمامة إلى سيد غفار (أيماء بن رَحَضة) ومع تقدم أبي ذر عليه في الإسلام وعلو منزلته, يدل على مهارة إدارية, وهي عدم جمع كل الأعمال في يده، وتقدير الناس وإنزالهم منازلهم([48]).
* نجاح أبي ذر الباهر في الدعوة: حيث أسلمت نصف غفار، وأسلم نصفها الثاني بعد الهجرة([49]).
لقد فشلت محاولات التشويه والحرب الإعلامية, والحجر الفكري الذي كان الكفار يمارسونه على الدعوة الإسلامية في بداية عهدها؛ لأن صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أقوى من أصواتهم، ووسائله في التبليغ كانت أبلغ من وسائلهم، وثباته على مبدئه السامي, كان أعلى بكثير مما كان يتوقعه أعداؤه، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يجلس في بيته، ولم ينزو في زاوية من زوايا المسجد الحرام، ليستخفي بدعوته، وليقي نفسه من سهام أعدائه المسمومة، بل إنه غامر بنفسه، فكان يخرج في مضارب العرب, قبل أن يفدوا مكة، وكان يجهر بتلاوة القرآن في المسجد الحرام, ليسمع من كان في قلبه بقية من حياة, وأثارة من حرية وإباء, فيتسرب نور الهدى إلى مجامع لبه، وسويداء قلبه([50]), وكان من هؤلاء ضماد الأزدي، وعمرو بن عبسة، وأبي ذر الغفاري، والطفيل بن عمرو الدوسي, وحصين والد عمران بن الحصين رضي الله عنهم, وهذا دليل قاطع، وبرهان ساطع, على فشل حملات التشويه التي شنتها قريش ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم, فعلينا أن نعتبر ونستفيد من الدروس والعبر.

محمد رافع 52 21-09-2014 10:16 AM

ثالثًا: ما تعرض له رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى وال*****:
لم يفتر المشركون عن أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم, منذ أن صدع بدعوته إلى أن خرج من بين أظهرهم, وأظهره الله عليهم، ويدل على مبلغ هذا الأذى تلك الآيات الكثيرة التي كانت تتنزل عليه في هذه الفترة تأمره بالصبر، وتدله على وسائله وتنهاه عن الحزن، وتضرب له أمثلة من واقع إخوانه المرسلين، مثل قوله تعالى: ( وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً )[المزمل:10]. وقوله: ( فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا )[الإنسان:24]. وقوله: ( وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ )[النمل:70]. وقوله: ( مَا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ )[فصلت:43].
وهذه أمثلة تدل على ما تعرض له صلى الله عليه وسلم من الإيذاء:
1- قال أبو جهل: هل يعفر محمد وجهه([51]) بين أظهركم؟ قال: فقيل: نعم، فقال: واللات والعزى، لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته, أو لأعفرنَّ وجهه في التراب. قال: فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، زعم ليطأ على رقبته، قال: فما فجِئَهم([52]) منه إلا وهو ينكص على عقبيه([53]) ويتقي بيديه، قال: فقيل له: ما لك؟ فقال: إن بيني وبينه لخندقًا من نار وهولاً وأجنحة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا»([54]).
وفي حديث ابن عباس قال: كان النبي يصلي فجاء أبو جهل: فقال: (ألم أنهك عن هذا؟ ألم أنهك عن هذا؟ ألم أنهك عن هذا؟ فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم فزبره([55]) فقال: أبو جهل: إنك لتعلم ما بها نادٍ أكثرُ مني، فأنزل الله تعالى ( فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ`سَنَدْعُو الزَّبَانِيَةَ )[العلق: 17،18] قال ابن عباس: لو دعا ناديه لأخذته زبانية الله»([56]).
2- وعن ابن مسعود t: «بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي عند الكعبة، وجمع من قريش في مجالسهم إذ قال قائل منهم: ألا تنظرون إلى هذا المرائي؟ أيكم يقوم إلى جَزور آل فلان، فيعمد إلى فرثها ودمها وسَلاها، فيجيء به ثم يمهله حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه؟ فانبعث أشقاهم، فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وضعه بين كتفيه، وثبت النبي صلى الله عليه وسلم ساجدًا، فضحكوا حتى مال بعضهم إلى بعض من الضحك، فانطلق منطلق إلى فاطمة عليها السلام -وهي جويرية- فأقبلت تسعى، وثبت النبي صلى الله عليه وسلم حتى ألقته عنه، وأقبلت عليهم تسبهم, فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قال: «اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش» ثم سمّى: «اللهم عليك بعمرو بن هشام، وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط، وعمارة بن الوليد» قال ابن مسعود: فوالله لقد رأيتهم صرعى يوم بدر، ثم سحبوا إلى القليب([57]) -قليب بدر-، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وأتبع أصحاب القليب لعنة»([58]).
وقد بينت الروايات الصحيحة الأخرى أن الذي رمى الفرث عليه هو عقبة بن أبي معيط، وأن الذي حرضه هو أبو جهل([59])، وأن المشركين تأثروا لدعوة الرسول، وشق عليهم الأمر؛ لأنهم يرون أن الدعوة بمكة مستجابة([60]).
3- اجتماع الملأ من قريش وضربهم الرسول صلى الله عليه وسلم: اجتمع أشراف قريش يوما في الحجر، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من أمر هذا الرجل قط, سفه أحلامنا وسب آلهتنا، لقد صبرنا منه على أمر عظيم، فبينما هم في ذلك طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوثبوا وثبة رجل واحد, وأحاطوا به يقولون: أنت الذي تقول كذا وكذا – لما كان يقول من عيب آلهتهم ودينهم- فيقول: «نعم، أنا الذي أقول ذلك», ثم أخذ رجل منهم بمجمع ردائه، فقام أبو بكر t دونه وهو يبكي ويقول: أت***ون رجلا أن يقول: ربي الله([61]).
4- كان أبو لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم من أشد الناس عداوة له، وكذلك كانت امرأته أم جميل من أشد الناس عداوة للنبي صلى الله عليه وسلم, وكانت تسعى بالإفساد بينه وبين الناس بالنميمة, وتضع الشوك في طريقه، والقذر على بابه فلا عجب, أن نزل فيهما قول الله تعالى: ( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ`مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ`سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ`وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ`فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ ) [المسد] فحين سمعت ما نزل فيها وفي زوجها من القرآن أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس عند الكعبة، ومعه أبو بكر الصديق، وفي يدها فهر من حجارة، فلما وقفت عليهما قالت: يا أبا بكر، أين صاحبك؟ فقد بلغني أنه يهجوني، والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه. ثم انصرفت، فقال أبو بكر: يا رسول الله أما تراها رأتك؟ فقال: «لقد أخذ الله ببصرها عني»، وكانت تنشد:
مذمم أبينا.. ودينه قلينا.. وأمره عصينا..
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفرح؛ لأن المشركين يسبون مذممًا يقول: «ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم، يشتمون مذممًا ويلعنون مذممًا وأنا محمد» ([62]).
وقد بلغ من أمر أبي لهب أنه كان يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأسواق والمجامع، ومواسم الحج ويكذبه([63]).
هذا بعض ما لاقاه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أذية المشركين، وقد ختم المشركون أذاهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بمحاولة ***ه في أواخر المرحلة المكية([64]). وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر ما لاقاه من أذى قريش قبل أن ينال الأذى أحدًا من أتباعه يقول: «لقد أخفت في الله عز وجل وما يخاف أحد، ولقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، ولقد أتت علي ثلاثون من بين يوم وليلة وما لي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال»([65]).
ومع ما له صلى الله عليه وسلم من عظيم القدر ومنتهى الشرف، إلا أنه قد حظي من البلاء بالحِمْل الثقيل، والعناء الطويل, منذ أول يوم صدع فيه بالدعوة، ولقد لقي النبي صلى الله عليه وسلم من سفهاء قريش أذى كثيرًا، فكان إذا مر على مجالسهم بمكة استهزءوا به، وقالوا ساخرين: هذا ابن أبي كبشة([66]) يُكلم من السماء، وكان أحدهم يمر على الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول له ساخرًا: أما كُلمت اليوم من السماء؟ ([67]).
ولم يقتصر الأمر على مجرد السخرية والاستهزاء والإيذاء النفسي، بل تعداه إلى الإيذاء البدني، بل قد وصل الأمر إلى أن يبصق عدو الله أمية بن خلف في وجه النبي صلى الله عليه وسلم([68]), وحتى بعد هجرته عليه السلام إلى المدينة لم تتوقف حدة الابتلاء والأذى، بل أخذت خطًّا جديدا بظهور أعداء جدد، فبعد أن كانت العداوة تكاد تكون مقصورة على قريش بمكة، صار له صلى الله عليه وسلم أعداء من المنافقين المجاورين بالمدينة، ومن اليهود والفرس والروم، وأحلافهم، وبعد أن كان الأذى بمكة شتمًا وسخرية، وحصارًا، وضربًا، صار مواجهة عسكرية مسلحة، حامية الوطيس، فيها كر وفر وضرب وطعن، فكان ذلك بلاء في الأموال والأنفس على السواء([69]), وهكذا كانت فترة رسالته صلى الله عليه وسلم وحياته سلسلة متصلة من المحن والابتلاء، فما وهن لما أصابه في سبيل الله، بل صبر واحتسب حتى لقي ربه([70]).
لقد واجه الرسول صلى الله عليه وسلم من الفتن والأذى والمحن ما لا يخطر على بال، في مواقف متعددة، وكان ذلك على قدر الرسالة التي حملها، ولذلك استحق المقام المحمود, والمنزلة الرفيعة عند ربه، وقد صبر على ما أصابه، إشفاقًا على قومه أن يصيبهم مثل ما أصاب الأمم الماضية من العذاب، وليكون قدوة للدعاة والمصلحين([71])، فإذا كان الاعتداء الأثيم، قد نال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يعد هناك أحد, لكرامته, هو أكبر من الابتلاء والمحنة، وتلك سنة الله في الدعوات. فعن أبي سعيد الخدري t قلت: يا رسول الله أي الناس أشد بلاءً؟ قال: «الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة»([72]).
رابعًا: ما تعرض له أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى وال*****:
1- ما لاقاه أبو بكر الصديق t:
تحمل الصحابة رضوان الله عليهم من البلاء العظيم ما تنوء به الرواسي الشامخات وبذلوا أموالهم ودماءهم في سبيل الله، وبلغ بهم الجهد ما شاء الله أن يبلغ، ولم يسلم أشراف المسلمين من هذا الابتلاء، فلقد أوذي أبو بكر t، وحُثي على رأسه التراب، وضرب في المسجد الحرام بالنعال، حتى ما يعرف وجهه من أنفه, وحُمل إلى بيته في ثوبه، وهو ما بين الحياة والموت([73]). فقد روت عائشة رضي الله تعالى عنها, أنه لما اجتمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا ثمانية وثلاثين رجلاً ألح أبو بكر t على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهور، فقال: «يا أبا بكر إنا قليل» فلم يزل أبو بكر يلح حتى ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفرق المسلمون في نواحي المسجد كل رجل في عشيرته، وقام أبو بكر في الناس خطيبًا ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، فكان أول خطيب دعا إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وثار المشركون على أبي بكر وعلى المسلمين، فضربوهم في نواحي المسجد ضربًا شديدًا، ووُطئ أبو بكر وضرب ضربًا شديدًا، ودنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة فجعل يضربه بنعلين مخصوفتين ويُحرِّفهما لوجهه، ونزا على بطن أبي بكر t، حتى ما يعرف وجهه من أنفه، وجاءت بنو تيم يتعادون, فأجلت المشركين عن أبي بكر، وحملت بنو تيم أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه منزله، ولا يشكون في موته، ثم رجعت بنو تيم فدخلوا المسجد وقالوا: والله لئن مات أبو بكر لن***ن عتبة بن ربيعة, فرجعوا إلى أبي بكر فجعل أبو قحافة (والده) وبنو تيم يكلمون أبا بكر حتى أجاب، فتكلم آخر النهار، فقال: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فمسوا منه بألسنتهم وعذلوه، وقالوا لأمه أم الخير: انظري أن تطعميه شيئًا أو تسقيه إياه، فلما خلت به ألحت عليه، وجعل يقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: والله ما لي علم بصاحبك، فقال: اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه، فخرجت حتى جاءت أم جميل، فقالت: إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله. فقالت: ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبد الله، وإن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك، قالت: نعم، فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعًا دنفًا، فدنت أم جميل وأعلنت بالصياح، وقالت: والله إن قومًا نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر، إنني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم، قال: فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: هذه أمك تسمع، قال: فلا شيء عليك منها، قالت: سالم صالح. قل: أين هو؟ قالت: في دار الأرقم، قال: فإن لله علي أن لا أذوق طعامًا ولا أشرب شرابًا أو آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمهلتا حتى إذا هدأت الرِّجْل وسكن الناس، خرجتا به يتكئ عليهما، حتى أدخلتاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: فأكب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله، وأكب عليه المسلمون، ورقَّ له رسول الله صلى الله عليه وسلم رقة شديدة، فقال أبو بكر: بأبي وأمي يا رسول الله، ليس بي بأس إلا ما نال الفاسق من وجهي، وهذه أمي برة بولدها, وأنت مبارك فادعها إلى الله، وادع الله لها, عسى الله أن يستنقذها بك من النار، قال: فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم, ودعاها إلى الله فأسلمت([74]).
دروس وعبر وفوائد:
أ- حرص أبي بكر t على إعلان الإسلام، وإظهاره أمام الكفار, وهذا يدل على قوة إيمانه وشجاعته، وقد تحمل الأذى العظيم حتى إن قومه كانوا لا يشكون في موته.
ب- مدى الحب الذي كان يكنه أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث إنه- وهو في تلك الحال الحرجة- يسأل عنه ويلح إلحاحًا عجيبًا في السؤال، ثم يحلف ألا يأكل ولا يشرب حتى يراه، كيف يتم ذلك وهو لا يستطيع النهوض بل المشي؟ ولكنه الحب في الله، والعزائم التي تقهر الصعاب، وكل مصاب في سبيل الله ومن أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم هين ويسير.
ج- إن العصبية القبلية كان لها في ذلك الحين دور في توجيه الأحداث والتعامل مع الأفراد حتى مع اختلاف العقيدة، فهذه قبيلة أبي بكر تهدد ب*** عتبة إن مات أبو بكر([75]).
د- الحس الأمني لأم جميل -رضي الله عنها- فقد برز في عدة تصرفات لعل من أهمها:
* إخفاء الشخصية والمعلومة عن طريق الإنكار:
عندما سألت أم الخير أم جميل، عن مكان الرسول صلى الله عليه وسلم أنكرت أنها تعرف أبا بكر ومحمد بن عبد الله، فهذا تصرف حذر سليم، إذ لم تكن أم الخير ساعتئذ مسلمة، وأم جميل كانت تخفي إسلامها، ولا تود أن تعلم به أم الخير، وفي ذات الوقت أخفت عنها مكان الرسول صلى الله عليه وسلم مخافة أن تكون عينًا لقريش([76]).
* استغلال الموقف لإيصال المعلومة:
فأم جميل أرادت أن تقوم بإيصال المعلومة بنفسها لأبي بكر t, وفي ذات الوقت لم تظهر ذلك لأم الخير إمعانًا في السرية والكتمان، فاستغلت الموقف لصالحها قائلة: «إن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك فعلت», وقد عرضت عليها هذا الطلب بطريقة تنم عن الذكاء, وحسن التصرف، فقولها: «إن كنت تحبين» وهي أمه وقولها: «إلى ابنك» ولم تقل لها: إلى أبي بكر، كل ذلك يحرك في أم الخير عاطفة الأمومة، فغالبًا ما ترضخ لهذا الطلب، وهذا ما تم بالفعل، حيث أجابتها بقولها: «نعم» وبالتالي نجحت أم جميل في إيصال المعلومة بنفسها.
*استغلال الموقف في كسب عطف أم أبي بكر:
يبدو أن أم جميل حاولت أن تكسب عطف أم الخير، فاستغلت وضع أبي بكر t الذي يظهر فيه صريعًا دنفًا، فأعلنت بالصياح، وسبَّت من قام بهذا الفعل بقولها: «إن قوما نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر» فلا شك أن هذا الموقف من أم جميل يشفي بعض غليل أم الخير، من الذين فعلوا ذلك بابنها، فقد تكن شيئًا من الحب لأم جميل, وبهذا تكون أم جميل كسبت عطف أم الخير وثقتها, الأمر الذي يسهل مهمة أم جميل في إيصال المعلومة إلى أبي بكر t([77]).
*الاحتياط والتأني قبل النطق بالمعلومة:
لقد كانت أم جميل في غاية الحيطة والحذر, من أن تتسرب هذه المعلومة الخطيرة عن مكان قائد الدعوة، فهي لم تطمئن بعد إلى أم الخير؛ لأنها ما زالت مشركة آنذاك، وبالتالي لم تأمن جانبها، لذا ترددت عندما سألها أبو بكر t, عن حال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له: «هذه أمك تسمع؟» فقال لها: لا شيء عليك منها، فأخبرته ساعتها بأن الرسول صلى الله عليه وسلم سالم صالح([78]), وزيادة في الحيطة والحذر والتكتم لم تخبره بمكانه, إلا بعد أن سألها عنه قائلا: أين هو؟ فأجابته في دار الأرقم.
*تخير الوقت المناسب لتنفيذ المهمة:
حين طلب أبو بكر t الذهاب إلى دار الأرقم، لم تستجب له أم جميل على الفور، بل تأخرت عن الاستجابة، حتى إذا هدأت الرِّجل وسكن الناس، خرجت به ومعها أمه يتكئ عليهما، فهذا هو أنسب وقت للتحرك وتنفيذ هذه المهمة حيث تنعدم الرقابة من قبل أعداء الدعوة، مما يقلل من فرص كشفها، وقد نفذت المهمة بالفعل دون أن يشعر بها الأعداء, حتى دخلت أم جميل وأم الخير بصحبة أبي بكر إلى دار الأرقم، وهذا يؤكد أن الوقت المختار كان أنسب الأوقات([79]).
د- قانون المنحة بعد المحنة، حيث أسلمت أم الخير أم أبي بكر, بسبب رغبة الصديق في إدخال أمه إلى حظيرة الإسلام، وطلبه من الرسول صلى الله عليه وسلم الدعاء لها، لما رأى من برها به، وقد كان t حريصًا على هداية الناس الآخرين فكيف بأقرب الناس إليه([80]).
هـ- إن من أكثر الصحابة الذين تعرضوا لمحنة الأذى والفتنة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم, أبا بكر الصديق t نظرا لصحبته الخاصة له، والتصاقه به في المواطن التي كان يتعرض فيها للأذى من قومه، فينبري الصديق مدافعًا عنه وفاديًا إياه بنفسه، فيصيبه من أذى القوم وسفههم, هذا مع أن الصديق يعتبر من كبار رجال قريش المعروفين بالعقل والإحسان([81]).

محمد رافع 52 21-09-2014 10:21 AM

2- بلال رضي الله عنه:
تضاعف أذى المشركين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه, حتى وصل إلى ذروة ال***, وخاصة في معاملة المستضعفين من المسلمين، فنكلت بهم لتفتنهم عن عقيدتهم وإسلامهم، ولتجعلهم عبرة لغيرهم، ولتنفس عن حقدها, وغضبها, بما تصبه عليهم من العذاب.
قال عبد الله بن مسعود t: «أول من أظهر الإسلام سبعة، رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمار، وأمه سمية، وصهيب، وبلال، والمقداد، فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه الله بعمه أبي طالب، وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم أدراع الحديد، وصهروهم في الشمس، فما منهم إنسان إلا وقد واتاهم على ما أرادوا إلا بلال، فإنه هانت عليه نفسه في الله وهان على قومه، فأعطوه الولدان, وأخذوا يطوفون به شعاب مكة، وهو يقول: أحد أحد» ([82]).
لم يكن لبلال t ظهر يسنده، ولا عشيرة تحميه، ولا سيوف تذود عنه، ومثل هذا الإنسان في المجتمع الجاهلي المكي, يعادل رقمًا من الأرقام، فليس له دور في الحياة إلا أن يخدم ويطيع، ويباع ويشترى كالسائمة، أما أن يكون له رأي, أو يكون صاحب فكر، أو صاحب دعوة, أو صاحب قضية، فهذه جريمة شنعاء في المجتمع الجاهلي المكي تهز أركانه وتزلزل أقدامه، ولكن الدعوة الجديدة التي سارع لها الفتيان, وهم يتحدون تقاليد وأعراف آبائهم الكبار لامست قلب هذا العبد المرمي المنسي، فأخرجته إنسانًا جديدًا على الوجود([83]), فقد تفجرت معاني الإيمان في أعماقه بعد أن آمن بهذا الدين، وانضم إلى محمد صلى الله عليه وسلم وإخوانه في موكب الإيمان العظيم, وها هو الآن يتعرض لل***** من أجل عقيدته ودينه, فقصد وزير رسول الله صلى الله عليه وسلم الصديق, موقع ال***** وفاوض أمية بن خلف وقال له: «ألا تتقي الله في هذا المسكين؟ حتى متى! قال: أنت الذي أفسدته فأنقذه مما ترى، فقال أبو بكر: أفعل، عندي غلام أسود أجلد منه وأقوى على دينك أعطيكه به، قال: قد قبلت، فقال: هو لك فأعطاه أبو بكر الصديق t غلامه ذلك وأخذه فاعتقه»([84])، وفي رواية: اشتراه بسبع أواق, أو بأربعين أوقية ذهبًا([85])، ما أصبر بلالاً وما أصلبه t, فقد كان صادق الإسلام، طاهر القلب، ولذلك صَلُبَ, ولم تلن قناته أمام التحديات وأمام صنوف العذاب، وكان صبره وثباته مما يغيظهم ويزيد حنقهم, خاصة أنه كان الرجل الوحيد من ضعفاء المسلمين الذي ثبت على الإسلام فلم يوات الكفار فيما يريدون, مرددًا كلمة التوحيد بتحدٍّ صارخ، وهانت عليه نفسه في الله وهان على قومه([86]).
وبعد كل محنة منحة فقد تخلص بلال من العذاب والنكال، وتخلص من أسر العبودية، وعاش مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقية حياته ملازمًا له، ومات راضيًا عنه مبشرًا إياه بالجنة، فقد قال صلى الله عليه وسلم لبلال: «... فإني سمعت خشف نعليك بين يدي في الجنة»([87]).
وأما مقامه عند الصحابة فقد كان عمر t يقول: «أبو بكر سيدنا، وأعتق سيدنا» يعني بلالاً([88]).
وأصبح منهج الصديق في فك رقاب المستضعفين, ضمن الخطة التي تبنتها القيادة الإسلامية لمقاومة ال***** الذي نزل بالمستضعفين، فمضى يضع ماله في تحرير رقاب المؤمنين المنضمين إلى هذا الدين الجديد من الرق: (.. ثم أعتق معه على الإسلام قبل أن يهاجر إلى المدينة ست رقاب, بلال سابعهم:
عامر بن فهيرة شهد بدرًا وأحدًا، و*** يوم بئر معونة شهيدًا، وأم عُبيس، وزنِّيرة وأصيب بصرها حين أعتقها، فقالت قريش: ما أذهب بصرها إلا اللات والعزى، فقالت: «كذبوا وبيت الله ما تضر اللات والعزى وما تنفعان، فرد الله بصرها»([89]) وأعتق النهدية وبنتها وكانتا لامرأة من بني عبد الدار فمرَّ بهما، وقد بعثتهما سيدتهما بطحين لها وهي تقول: والله لا أعتقكما أبدًا: فقال أبو بكر t: حِل([90]) يا أم فلان، فقالت: حل أنت، أفسدتهما فأعتقهما، قال: فبكم هما؟ قالت: بكذا وكذا، قال: قد أخذتهما وهما حرتان، أرجعا إليها طحينها، قالتا: أو نفرغ منه يا أبا بكر ثم نرده إليها؟ قال: وذلك إن شئتما»([91]).
وهنا وقفة تأمل ترينا كيف سوَّى الإسلام بين الصديق والجاريتين حتى خاطبتاه، خطاب الند للند، لا خطاب المسود للسيد، وتقبل الصديق على شرفه وجلالته في الجاهلية والإسلام منهما ذلك، مع أنه له يدًا عليهما بالعتق، وكيف صقل الإسلام الجاريتين حتى تخلقتا بهذا الخلق الكريم، وكان يمكنهما وقد أعتقتا وتحررتا من الظلم, أن تدعا لها طحينها يذهب أدراج الرياح، أو يأكله الحيوان والطير، ولكنهما أبتا، تفضلاً, إلا أن تفرغا منه وترداه إليها([92]).
ومر الصديق بجارية بني مؤمل, حي من بني عدي بن كعب, وكانت مسلمة, وعمر بن الخطاب يعذبها لتترك الإسلام، وهو يومئذ مشرك وهو يضربها، حتى إذا ملَّ قال: إني أعتذر إليك, إني لم أتركك إلا عن ملالة فتقول: كذلك فعل الله بك, فابتاعها أبو بكر فأعتقها([93]).
هكذا كان واهب الحريات، ومحرر العبيد، شيخ الإسلام الوقور، الذي عرف بين قومه بأنه يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق، لم ينغمس في إثم في جاهليته، أليف مألوف, يسيل قلبه رقة ورحمة على الضعفاء، والأرقاء، أنفق جزءًا كبيرًا من ماله في شراء العبيد وأعتقهم لله، وفي الله، قبل أن تنزل التشريعات الإسلامية المحببة في العتق، والواعدة عليه أجزل الثواب([94]).
كان المجتمع المكي يتندر بأبي بكر t الذي يبذل هذا المال كله لهؤلاء المستضعفين, أما في نظر الصديق، فهؤلاء إخوانه في الدين الجديد، فكل واحد من هؤلاء لا يساوي عنده مشركي الأرض وطغاتها، وبهذه العناصر وغيرها تبنى دولة التوحيد، وتصنع حضارة الإسلام الرائدة والرائعة([95]), ولم يكن الصديق يقصد بعمله هذا محمدة، ولا جاهًا، ولا دنيا، وإنما كان يريد وجه الله ذا الجلال والإكرام، لقد قال له أبوه ذات يوم: «يا بني إني أراك تعتق رقابًا ضعافًا، فلو أنك إذ فعلت أعتقت رجالاً جلدًا يمنعونك، ويقومون دونك؟ فقال أبو بكر t: يا أبت إني إنما أريد ما أريد لله عز وجل فلا عجب إذا كان الله سبحانه أنزل في شأن الصديق قرآنًا يتلى إلى يوم الدين، قال تعالى: ( فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى`وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى`فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى`وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى`وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى`فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى`وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى`إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى`وَإِنَّ لَنَا لَلآَخِرَةَ وَالأُولَى`فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى`لاَ يَصْلاَهَا إِلاَّ الأشْقَى`الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى`وَسَيُجَنَّبُهَا الأتْقَى`الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى`وَمَا لأحَدٍ عِنْدَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى`إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعْلَى`وَلَسَوْفَ يَرْضَى )([96])[الليل: 5-21].
كان هذا التكافل بين أفراد الجماعة الإسلامية الأولى, قمة من قمم الخير والعطاء، وأصبح هؤلاء العبيد بالإسلام أصحاب عقيدة وفكرة, يناقشون بها وينافحون عنها، ويجاهدون في سبيلها، وكان إقدام أبي بكر t على شرائهم ثم إعتاقهم دليلاً على عظمة هذا الدين, ومدى تغلغله في نفسية الصديق t، وما أحوج المسلمين اليوم أن يحيوا هذا المثل الرفيع، والمشاعر السامية ليتم التلاحم والتعايش, والتعاضد بين أبناء الأمة التي يتعرض أبناؤها للإبادة الشاملة من قبل أعداء العقيدة والدين.
3- عمار بن ياسر وأبوه وأمه رضي الله عنهم:
كان والد عمار بن ياسر من بني عنس من قبائل اليمن، قدم مكة وأخواه الحارث ومالك يطلبون أخًا لهم، فرجع الحارث ومالك إلى اليمن، وأقام ياسر بمكة، وحالف أبا حذيفة بن المغيرة المخزومي,([97]) فزوجه أبو حذيفة أَمّة له يقال لها: سُمية بنت خياط، فولدت له عمارًا، فأعتقه أبو حذيفة الذي لم يلبث أن مات، وجاء الإسلام فأسلم ياسر وسمية وعمار, وأخوه عبد الله بن ياسر، فغضب عليهم مواليهم بنو مخزوم غضبًا شديدًا صبوا عليهم العذاب صبًّا، كانوا يخرجونهم إذا حميت الظهيرة فيعذبونهم برمضاء مكة([98]) ويقلبونهم ظهرًا لبطن,([99]) فيمر عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم وهم يعذبون فيقول: «صبرًا آل ياسر فإن موعدكم الجنة» ([100]) وجاء أبو جهل إلى سمية فقال لها: ما آمنت بمحمد إلا لأنك عشقته لجماله، فأغلظت له القول, فطعنها بالحربة في ملمس العفة ف***ها، فهي أول شهيدة في الإسلام رضي الله عنها,([101]) وبذلك سطرت بهذا الموقف الشجاع أعلى وأغلى ما تقدمه امرأة في سبيل الله، لتبقى كل امرأة مسلمة, حتى يرث الله الأرض ومن عليها ترنو إليها ويهفو قلبها في الاقتداء بها، فلا تبخل بشيء في سبيل الله، بعد أن جادت سمية بنت خياط بدمها في سبيل الله([102]).
وقد جاء في حديث عثمان t قال: «أقبلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم آخذًا بيدي نتمشى بالبطحاء، حتى أتى على آل عمار بن ياسر، فقال أبو عمار: يا رسول الله الدهر هكذا؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «اصبر»، ثم قال: «اللهم اغفر لآل ياسر، وقد فعلت»([103]) ثم لم يلبث ياسر أن مات تحت العذاب.
لم يكن في وسع النبي صلى الله عليه وسلم أن يقدم شيئًا لآل ياسر, رموز الفداء والتضحية, فليسوا بأرقاء حتى يشتريهم ويعتقهم، وليست لديه القوة ليستخلصهم من الأذى والعذاب، فكل ما يستطيعه صلى الله عليه وسلم أن يزف لهم البشرى بالمغفرة والجنة, ويحثهم على الصبر, لتصبح هذه الأسرة المباركة قدوة للأجيال المتلاحقة، ويشهد الموكب المستمر على مدار التاريخ هذه الظاهرة «صبرًا آل ياسر فإن موعدكم الجنة»([104]).
أما عمار t فقد عاش بعد أهله زمنًا يكابد من صنوف العذاب ألوانًا، فهو يصنف في طائفة المستضعفين الذين لا عشائر لهم بمكة تحميهم، وليست لهم منعة ولا قوة، فكانت قريش تعذبهم في الرمضاء بمكة أنصاف النهار, ليرجعوا عن دينهم، وكان عمار يعذب حتى لا يدري ما يقول([105])، ولما أخذه المشركون ليعذبوه لم يتركوه حتى سب النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر آلهتهم بخير، فلما أتى النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما وراءك؟» قال: شر، والله ما تركني المشركون حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير، قال: «كيف تجد قلبك؟» قال: مطمئنًا بالإيمان، قال: «فإن عادوا فعد»([106])، ونزل الوحي بشهادة الله تعالى على صدق إيمان عمار، قال تعالى: ( مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ )[النحل:106] وقد حضر المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم([107]).
وفي حادثتي بلال وعمار فقه عظيم يتراوح بين العزيمة والرخصة, يحتاج من الدعاة أن يستوعبوه, ويضعوه في إطاره الصحيح, وفي معاييره الدقيقة دون إفراط أوتفريط.
4- سعد بن أبي وقاص t:
تعرض للفتنة من قبل والدته الكافرة، فامتنعت عن الطعام والشراب, حتى يعود إلى دينها. قال ابن كثير: «قال الطبراني في كتاب العشرة إن سعدًا قال: أنزلت فيّ هذه الآية: ( وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا )[العنكبوت:8].
قال: كنت رجلاً برًا بأمي فلما أسلمتُ قالت: يا سعد: ما هذا الدين الذين أراك قد أحدثت، لتدعنَّ دينك هذا, أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت فتعير بي, فيقال: يا قاتل أمه، فقلت: لا تفعلي يا أمه فإني لا أدع ديني لشيء, فَمَكَثت يومًا وليلة لم تأكل, فأصبحت قد جهدت، فمكثت يومًأ آخر وليلة أخرى لم تأكل، فأصبحت قد جهدت، فمكثت يومًا وليلة أخرى لا تأكل, فأصبحت قد اشتد جهدها، فلما رأيت ذلك قلت يا أُمَّه تعلمين والله لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسًا نفسًا ما تركت ديني هذا لشيء، فإن شئت فكلي وإن شئت لا تأكلي, فأكلت([108]).
وروى مسلم: أن أم سعد حلفت ألا تكلمه أبدًا حتى يكفر بدينه، ولا تأكل ولا تشرب، قالت: زعمتَ أن الله وصاك بوالديك، وأنا أمك وأنا آمرك بهذا، قال: مكثت ثلاثًا حتى غَشي عليها من الجهد، فقام ابن لها يقال له: عُمارة فسقاها فجعلت تدعو على سعد، فأنزل الله عز وجل في القرآن الكريم هذه الآية: ( وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي... ) وفيها ( وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ).
قال: فكانوا إذا أرادوا أن يطعموها شجروا فاها بعصا ثم أوجروها([109]), فمحنة سعد محنة عظيمة، وموقفه موقف فذ يدل على مدى تغلغل الإيمان في قلبه، وأنه لا يقبل فيه مساومة مهما كانت النتيجة([110]).
ومن خلال تتبع القرآن المكي نجد أنه رغم قطع الولاء سواء في الحب أو النصرة بين المسلم وأقاربه الكفار، فإن القرآن أمر بعدم قطع صلتهم وبرهم والإحسان إليهم ومع ذلك فلا ولاء بينهم؛ لأن الولاء لله ورسوله ودينه والمؤمنين([111]).
5- مصعب بن عمير t
كان مصعب بن عمير t أنعم غلام بمكة، وأجوده حلة، وكان أبواه يحبانه، وكانت أمه مليئة كثيرة المال تكسوه أحسن ما يكون من الثياب وأرقه، وكان أعطر أهل مكة، يلبس الحضرمي من النعال([112]), وبلغ من شدة كلف أمه به أنه يبيت وقعب الحيس([113]) عند رأسه فإذا استيقظ من نومه أكل([114]), ولما علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الإسلام في دار الأرقم بن أبي الأرقم دخل عليه فأسلم وصدق به، وخرج فكتم إسلامه خوفًا من أمه وقومه، فكان يختلف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سرًّا، فبصر به عثمان بن طلحة([115]) يصلي, فأخبر أمه وقومه، فأخذوه وحبسوه، فلم يزل محبوسًا حتى خرج إلى أرض الحبشة في الهجرة الأولى([116]).
قال سعد بن أبي وقاص t: لقد رأيته جهد في الإسلام جهدًا شديدًا حتى لقد رأيت جلده يتحشّف، أي يتطاير، تحشف جلد الحية عنها، حتى إن كنا لنعرضه على قتبنا فنحمله مما به من الجهد([117]). وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما ذكره قال: «ما رأيت بمكة أحدًا أحسن لمة ولا أرق حلة ولا أنعم نعمة من مصعب بن عمير»([118])، ومع كل ما أصابه t من بلاء ومحنة ووهن في الجسم والقوة، وجفاء من أقرب الناس إليه, لم يقصر عن شيء مما بلغه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخير, والفضل، والجهاد في سبيل الله تعالى, حتى أكرمه الله تعالى بالشهادة يوم أحد([119]).
يعتبر مصعب t نموذجًا من تربية الإسلام للمترفين الشباب، للمنعمين من أبناء الطبقات الغنية المرفهة، لأبناء القصور والمال والجاه، للمعجبين بأشخاصهم، المبالغين في تأنقهم، الساعين وراء مظاهر الحياة كيف تغيرت؟ ووقف بعد إسلامه قويًّا لا يضعف ولا يتكاسل ولا يتخاذل، ولا تقهره نفسه وشهواته فيسقط في جحيم النعيم الخادع([120]).
لقد ودع ماضيه بكل ما فيه من راحة ولذة وهناءة، يوم دخل هذا الدين وبايع تلك البيعة، وكان لا بد له من المرور في درب المحنة لكي يصقل إيمانه ويتعمق يقينه، وكان مصعب مطمئنا راضيا رغم ما حوله من جبروت ومخاوف، ورغم ما نزل به من البؤس والفقر والعذاب، ورغم ما فقده من مظاهر النعم والراحة([121]), فقد تعرض لمحنة الفقر، ومحنة فقد الوجاهة والمكانة عند أهله، ومحنة الأهل والأقارب والعشيرة، ومحنة الجوع وال*****، ومحنة الغربة والابتعاد عن الوطن، فخرج من كل تلك المحن منتصرا بدينه وإيمانه، مطمئنا أعمق الاطمئنان، ثابتًا أقوى الثبات([122]) ولنا معه وقفات في المدينة بإذن الله تعالى.
6- خباب بن الأرت t:
كان خباب t قينا([123]), وأراد الله له الهداية مبكرًا، فدخل في الإسلام قبل دخول دار الأرقم بن أبي الأرقم([124]), فكان من المستضعفين الذين عذبوا بمكة لكي يرتد عن دينه، وصل به العذاب بأن ألصق المشركون ظهره بالأرض على الحجارة المحماة حتى ذهب ماء مَتْنه([125]).
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يألف خبابًا ويتردد عليه بعد أن أسلم، فلما علمت مولاته بذلك، وهي أم أنمار الخزاعية، أخذت حديدة قد أحمتها، فوضعتها على رأسه، فشكا خبابًا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «اللهم انصر خبابًا»، فاشتكت مولاته رأسها، فكانت تعوي مع الكلاب، فقيل لها: اكتوي، فجاءت إلى خباب ليكويها، فكان يأخذ الحديدة قد أحماها فيكوي بها رأسها، وإن في ذلك لعبرة لمن أراد أن يعتبر, ما أقرب فرج الله ونصره من عباده المؤمنين الصابرين، فانظر كيف جاءت إليه بنفسها تطلب منه أن يكويها على رأسها([126])، ولما زاد ضغط المشركين على ضعفاء المسلمين ولقوا منهم شدة، جاء خباب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقال له: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا، فقعد الرسول صلى الله عليه وسلم وهو محمر وجهه، قال: «كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه، فيشق باثنتين وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون»([127]).
وللشيخ سلمان العودة حفظه الله تعليق لطيف على هذا الحديث: يا سبحان الله ماذا جرى حتى احمرَّ وجه المصطفى صلى الله عليه وسلم، وقعد من ضجعته؟ وخاطب أصحابه بهذا الأسلوب القوي المؤثر، ثم عاتبهم على الاستعجال؟
لأنهم طلبوا الدعاء منه صلى الله عليه وسلم؟
كلا: حاشاه من ذلك، وهو الرءوف الرحيم بأمته.
إن أسلوب الطلب: ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ يوحي بما وراءه وأنه صادر من قلوب أمضَّها العذاب، وأنهكها الجهد، وهدتها البلوى فهي تلتمس الفرج العاجل، وتستبطئ النصر, فتستدعيه.
وهو صلى الله عليه وسلم يعلم أن الأمور مرهونة بأوقاتها، وأسبابها، وأن قبل النصر البلاء، فالرسل تبتلى ثم تكون لها العاقبة. ( حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ )[يوسف:110].
ويلمس عليه السلام من واقع أصحابه وملابسات أحوالهم، برمهم بالعذاب الذي يلاقون، حتى يفتنوا عن دينهم، ويستعلي عليهم الكفرة، ويموت منهم من يموت تحت ال*****.
وقد لا يكون من الميسور أن يدرك المرء, بمجرد قراءة النص، حقيقة الحال التي كانوا عليها حين طلبوا منه عليه الصلاة والسلام الدعاء والاستنصار، ولا أن يعرف المشاعر والإحساسات التي كانت تثور في نفوسهم إلا أن يعيش حالاً قريبًا من حالهم ويعاني في سبيل الله بعض ما عانوا.

محمد رافع 52 21-09-2014 10:28 AM

لقد كان صلى الله عليه وسلم يربيهم على:
أ- التأسي بالسابقين من الأنبياء والمرسلين وأتباعهم, في تحمل الأذى في سبيل الله ويضرب لهم الأمثلة في ذلك.
ب- التعلق بما أعده الله في الجنة للمؤمنين الصابرين من النعيم، وعدم الاغترار بما في أيدي الكافرين من زهرة الحياة الدنيا.
ج- التطلع للمستقبل الذي ينصر الله فيه الإسلام في هذه الحياة الدنيا، ويذل فيه أهل الذل والعصيان.
وثمة أمر آخر كبير ألا وهو: أنه صلى الله عليه وسلم مع هذه الأشياء كلها كان يخطط ويستفيد من الأسباب المادية المتعددة لرفع الأذى والظلم عن أتباعه، وكف المشركين عن فتنتهم، وإقامة الدولة التي تجاهد في سبيل الدين، وتتيح الفرصة لكل مسلم أن يعبد ربه حيث شاء، وتزيل الحواجز والعقبات التي تعترض طريق الدعوة إلى الله([128]).
وقد تحدث خباب t عن بعض ما كان يلقون من المشركين من عنت, وسوء معاملة ومساومة على الحقوق, حتى يعودوا إلى الكفر, قال: كنت قينًا وكان لي على العاص بن وائل دين، فأتيته أتقاضاه، فقال لي: لا أقضيك حتى تكفر بمحمد، فقلت: لن أكفر حتى تموت ثم تبعث، قال: فإني إن مت ثم بعثت جئتني, ولي ثَمَّ مالٌ وولد فأعطيتك, فأنزل الله: ( أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَدًا ) إلى قوله ( فَرْدًا )([129]).
وذكر أن عمر بن الخطاب t في خلافته سأل خبابًا عما لقي في ذات الله تعالى، فكشف خباب عن ظهره، فإذا هو قد برص، فقال عمر: ما رأيت كاليوم، فقال خباب: يا أمير المؤمنين لقد أوقدوا لي نارا ثم سلقوني فيها، ثم وضع رَجُل رجله على صدري فما اتقيت الأرض أو قال: برد الأرض- إلا بظهري، وما أطفأ تلك النار إلا شحمي([130]).
7- عبد الله بن مسعود t:
كان منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في معاملته للناس حكيمًا، وكان يعامل الأكابر وزعماء القبائل بلطف وترفق, وكذلك الصبيان الصغار, فهذا ابن مسعود t يحدثنا عن لقائه اللطيف برسول الله صلى الله عليه وسلم: كنت غلامًا يافعًا أرعى غنما لعقبة بن أبي مُعَيط فمر بي
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر فقال: «يا غلام هل من لبن؟» قلت: نعم ولكني مؤتمن، قال: «فهل من شاة لم ينز عليها فحل؟» فأتيته بشاة فمسح ضرعها فنزل لبن فحلبه في إناء فشرب وسقى أبا بكر، ثم قال للضرع: «اقلص»، فقلص قال: ثم أتيته بعد هذا فقلت: يا رسول الله علمني من هذا القول، قال: فمسح رأسي وقال: «يرحمك الله فإنك غليم معلم» ([131]).
وهكذا كان مفتاح إسلامه كلمتين عظيمتين: الأولى قالها عن نفسه، «إني مؤتمن»، والثانية كانت من الصادق المصدوق حيث قال له: «إنك غليم معلم» ولقد كان لهاتين الكلمتين دور عظيم في حياته، وأصبح فيما بعد من أعيان علماء الصحابة -رضوان الله عليهم- ودخل عبدالله في ركب الإيمان، وهو يمخر بحار الشرك في قلعة الأصنام، فكان واحدًا من أولئك السابقين الذين مدحهم الله في قرآنه العظيم([132]). قال عنه ابن حجر: «أحد السابقين الأولين، أسلم قديمًا، وهاجر الهجرتين، وشهد بدرًا والمشاهد بعدها، ولازم النبي صلى الله عليه وسلم وكان صاحب نعليه» ([133]).
أول من جهر بالقرآن الكريم:
بالرغم من أن ابن مسعود كان حليفًا وليس له عشيرة تحميه، ومع أنه كان ضئيل الجسم, دقيق الساقين، فإن ذلك لم يحل دون ظهور شجاعته وقوة نفسه t, وله مواقف رائعة في ذلك, منها ذلك المشهد المثير في مكة، وإبان الدعوة وشدة وطأة قريش عليها، فلقد وقف على ملئهم وجهر بالقرآن، فقرع به أسماعهم المقفلة وقلوبهم المغلَّفة([134]) فكان أول من جهر بالقرآن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة: اجتمع يومًا أصحاب رسول الله فقالوا: والله ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر لها به قط، فمن رجل يسمعهموه؟ فقال عبد الله بن مسعود: أنا، قالوا: إنا نخشاهم عليك، إنما نريد رجلاً له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه، قال: دعوني فإن الله سيمنعني. قال: فغدا ابن مسعود حتى أتى المقام في الضحى، وقريش في أنديتها، حتى قام عند المقام ثم قرأ: ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) رافعا بها صوته ( الرَّحْمَنُ` عَلَّمَ الْقُرْآنَ ) قال: ثم استقبلها يقرؤها، قال: فتأملوه فجعلوا يقولون: ماذا قال ابن أم عبد؟ قال: ثم قالوا: إنه ليتلو بعض ما جاء به محمد، فقاموا إليه فجعلوا يضربونه في وجهه، وجعل يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ، ثم انصرف إلى أصحابه وقد أثروا في وجهه، فقالوا له: هذا الذي خشينا عليك، فقال: ما كان أعداء الله أهون عليَّ منهم الآن، ولئن شئتم لأغادينهم بمثلها، قالوا: لا، حسبك، قد أسمعتهم ما يكرهون([135]).
وبهذا كان عبد الله بن مسعود أول من جهر بالقرآن بمكة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا غرو أن هذا العمل الذي قام به عبد الله يعتبر تحديًّا عمليًّا لقريش, التي ما كانت لتتحمل مثل هذا الموقف، ويلاحظ جرأة عبد الله عليهم بعد هذه التجربة على الرغم مما أصابه من أذى([136]).
8- خالد بن سعيد بن العاص t:
كان إسلام خالد قديمًا، لرؤيا رآها عند أول ظهور النبي صلى الله عليه وسلم, إذ رأى كأنه وقف على شفير النار، وهناك من يدفعه فيها, والرسول يلتزمه لئلا يقع، ففزع من نومه، معتقدًا أن هذه الرؤيا حق، فقصها على أبي بكر الصديق، فقال له: أُريد بك خيرًا هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعه، فذهب إليه فأسلم، وأخفى إسلامه خوفًا من أبيه، لكن أباه علم لما رأى كثرة تغيبه عنه، فبعث إخوته الذين لم يكونوا قد أسلموا بعد في طلبه، فجيء به، فأنبه وضربه بمقرعة أو عصا كانت في يده حتى كسرها على رأسه، ثم حبسه بمكة, ومنع إخوته من الكلام معه، وحذرهم من عمله، ثم ضيق عليه الخناق فأجاعه, وقطع عنه الماء ثلاثة أيام، وهو صابر محتسب، ثم قال له أبوه: والله لأمنعنك القوت، فقال خالد: إن منعتني فإن الله يرزقني ما أعيش به، وانصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يكرمه، ويكون معه، ثم رأى أن يهاجر إلى الحبشة مع من هاجر إليها من المسلمين في المرة الثانية([137]).
9- عثمان بن مظعون t:
لما أسلم عدا عليه قومه بنو جمح فآذوه، وكان أشدهم عليه وأكثرهم إيذاء له أمية بن خلف؛ ولذلك قال بعد أن خرج إلى الحبشة يعاتبه([138]):
أأخرجتني من بطن مكة آمنًا --- وأسكنتني في صرح بيضاء تقذع



تريش نبالاً لا يواتيك ريشها --- وتبري نبالاً ريشها لك أجمع



وحاربت أقواما كرامًا أعزة --- وأهلكت أقوامًا بهم كنت تفزع



ستعلم إن نابتك يومًا ملمة --- وأسلمك الأوباش ما كانت تصنع




وبقي عثمان بن مظعون فترة في الحبشة، لكنه لم يلبث أن عاد منها ضمن من عاد من المسلمين في المرة الأولى، ولم يستطع أن يدخل مكة إلا بجوار من الوليد بن المغيرة، حيث ظل يغدو في جواره آمنًا مطمئنًا، فلما رأى ما يصيب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من البلاء, وما هو فيه من العافية أنكر ذلك على نفسه، وقال: والله إن غدوي ورواحي آمنا بجوار رجل من أهل الشرك وأصحابي وأهل ديني يلقون من البلاء والأذى في الله ما لا يصيبني لنقص كبير في نفسي,([139]) فذهب إلى الوليد بن المغيرة وقال له: يا أبا عبد شمس وفت ذمتك، وقد رددت إليك جوارك، فقال: لم يا ابن أخي؟ فلعلك أوذيت، أو انتهكت، قال: لا، ولكني أرضى بجوار الله تعالى ولا أريد أن أستجير بغيره، قال: فانطلق إلى المسجد فاردد علي جواري علانية، كما أجرتك علانية، فانطلقا إلى المسجد فرد عليه جواره أمام الناس, ثم انصرف عثمان إلى مجلس من مجالس قريش فجلس معهم، وفيهم لبيد بن ربيعة([140]) الشاعر ينشدهم فقال لبيد: (ألا كل شيء ما خلا الله باطل) فقال عثمان: صدقت, واستمر لبيد في إنشاده فقال: (وكل نعيم لا محالة زائل) فقال عثمان: كذبت، نعيم الجنة لا يزول، قال لبيد: يا معشر قريش، والله ما كان يؤذى جليسكم فمتى حدث هذا فيكم؟ فقال رجل من القوم: إن هذا سفيه في سفهاء معه قد فارقوا ديننا، فلا تجدن في نفسك من قوله، فرد عليه عثمان حتى شرى أمرهما، فقام إليه ذلك الرجل فلطم عينه فاخضرت، والوليد بن المغيرة قريب يرى ما بلغ من عثمان، فقال: أما والله يا ابن أخي إن عينك لغنية عما أصابها، ولقد كنت في ذمة منيعة، فقال عثمان: والله إن عيني الصحيحة لفقيرة إلى مثل ما أصاب أختها في الله،
وإني لفي جوار من هو أعز منك وأقدر يا أبا عبد شمس، ثم عرض عليه الوليد الجوار مرة أخرى فرفض([141]).

وهذا يدل على مدى قوة إيمانه t، ورغبته في الأجر، والمثوبة عند الله, ولذلك
لما مات, رأت امرأة في المنام أن له عينًا تجري, فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال:«ذلك عمله»([142]).

وغير ذلك من الصحابة الكرام تعرض لل*****، وهكذا نرى أولئك الرهط من الشباب القرشي, قد أقبلوا على دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم واستجابوا لها والتفوا حول صاحبها، على الرغم من مواقف آبائهم وذويهم وأقربائهم المتشددة تجاههم، فضحوا بكل ما كانوا يتمتعون به من امتيازات قبل دخولهم في الإسلام، وتعرضوا للفتنة رغبة فيما عند الله تعالى من الأجر والثواب، وتحملوا أذى كثيرًا، وهذا فعل الإيمان في النفوس، عندما يخالطها فتستهين بكل ما يصيبها من عنت وحرمان, إذا كان ذلك يؤدي إلى الفوز برضا الله تعالى وجنته.
هذا, ولم يكن ال***** والأذى مقصورًا على رجال المسلمين دون نسائهم، وإنما طال النساء أيضا قسط كبير من الأذى والعنت بسبب إسلامهن كسمية بنت خياط وفاطمة بنت الخطاب ولبيبة جارية بني المؤمل، وزنيرة الرومية، والنهدية وابنتها، وأم عبيس، وحمامة أم بلال وغيرهن([143]).
خامسًا: حكمة الكفّ عن القتال في مكة واهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بالبناء الداخلي:
كان المسلمون يرغبون في الدفاع عن أنفسهم, ويبدو أن الموقف السلمي أغاظ بعضهم وخاصة الشباب منهم، وقد أتى عبد الرحمن بن عوف وأصحابه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فقالوا: يا نبي الله كنا في عزة ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة قال: «إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم»([144]) وتعرض بعض الباحثين للحكمة الربانية في عدم فرضية القتال في مكة ومن هؤلاء الأستاذ سيد قطب -رحمه الله تعالى- فقد قال: لا نجزم بما نتوصل إليه لأننا حينئذ نتألى على الله ما لم يبين لنا من حكمة، ونفرض أسبابًا وعللاً قد لا تكون هي الأسباب والعلل الحقيقية، أو وقد تكون.
ذلك أن شأن المؤمن أمام أي تكليف, أو أي حكم من أحكام الشريعة, هو التسليم المطلق؛ لأن الله سبحانه هو العليم الخبير، وإنما نقول هذه الحكمة والأسباب من باب الاجتهاد, وعلى أنه مجرد احتمال؛ لأنه لا يعلم الحقيقة إلا الله، ولم يحددها هو لنا ويطلعنا عليها بنص صريح([145]). ومن هذه الأسباب والحكم والعلل بإيجاز:
1- أن الكف عن القتال في مكة, ربما لأن الفترة المكية كانت فترة تربية وإعداد في بيئة معينة، لقوم معينين، وسط ظروف معينة، ومن أهداف التربية في مثل هذه البيئة: تربية الفرد العربي على الصبر, على ما لا يصبر عليه عادة, من الضيم حين يقع عليه أو على من يلوذون به, ليخلص من شخصه ويتجرد من ذاته، فلا يندفع لأول مؤثر، ولا يهتاج لأول مهيج, ومن ثم يتم الاعتدال في طبيعته وحركته، ثم تربيته على أن يتبع نظام المجتمع الجديد بأوامر القيادة الجديدة، حيث لا يتصرف إلا وفق ما تأمره -مهما يكن مخالفًا لمألوفه وعادته- وقد كان هذا هو حجر الأساس في إعداد شخصية العربي المسلم لإنشاء (المجتمع المسلم).
2- وربما كان ذلك أيضا؛ لأن الدعوة السلمية, أشد أثرًا وأنفذ في مثل بيئة قريش ذات العنجهية والشرف، والتي قد يدفعها القتال معها -في مثل هذه الفترة- إلى زيادة العناد, ونشأة ثارات دموية جديدة, كثارات العرب المعروفة أمثال داحس والغبراء وحرب البسوس، وحينئذ يتحول الإسلام من دعوة إلى ثارات, تنسى معها فكرته الأساسية.
3- وربما كان ذلك أيضًا اجتنابًا لإنشاء معركة وم***ة داخل كل بيت، فلم تكن هناك سلطة نظامية عامة هي التي تعذب المؤمنين، وإنما كان ذلك موكولاً إلى أولياء كل فرد, ومعنى الإذن بالقتال، في مثل هذه البيئة، أن تقع معركة وم***ة في كل بيت ثم يقال: هذا هو الإسلام، ولقد قيلت حتى والإسلام يأمر بالكف عن القتال، فقد كانت دعاية قريش في المواسم، إن محمدًا يفرق بين الوالد وولده، فوق تفريقه لقومه وعشيرته, فكيف لو كان كذلك يأمر الولد ب*** الوالد، والمولى ب*** الولي؟
4- وربما كان ذلك أيضًا, لما يعلمه الله, من أن كثيرًا من المعاندين الذين يفتنون المسلمين عن دينهم ويعذبونهم, هم بأنفسهم سيكونون من جند الإسلام المخلص، بل من قادته، ألم يكن عمر بن الخطاب من بين هؤلاء؟
5- وربما كان ذلك أيضًا؛ لأن النخوة العربية في بيئة قبلية من عادتها أن تثور للمظلوم الذي يحتمل الأذى، ولا يتراجع, وبخاصة إذا كان الأذى واقعا على كرام الناس فيهم، وقد وقعت ظواهر كثيرة تثبت صحة هذه النظرة في هذه البيئة، فابن الدُّغُنَّة([146]) لم يرض أن يترك أبا بكر وهو رجل كريم يهاجر ويخرج من مكة، ورأى في ذلك عارًا على العرب، وعرض عليه جواره وحمايته، وآخر هذه الظواهر نقض صحيفة الحصار لبني هاشم في شعب أبي طالب.
6- وربما كان ذلك أيضًا لقلة عدد المسلمين حينئذ, وانحصارهم في مكة، حيث لم تبلغ الدعوة إلى بقية الجزيرة أو بلغت ولكن بصورة متناثرة، حيث كانت القبائل تقف على الحياد من معركة داخلية بين قريش، وبعض أبنائها، لترى ماذا يكون مصير الموقف, ففي مثل هذه الحالة قد تنتهي المعركة المحدودة إلى *** المجموعة المسلمة القليلة، حتى ولو ***وا هم أضعاف من سي*** منهم، ويبقى الشرك ولا يقوم للإسلام في الأرض نظام، ولا يوجد له كيان واقعي، وهو دين جاء ليكون منهج حياة ونظام دنيا وآخرة.
7- إنه لم تكن هناك ضرورة قاهرة ملحة، لتجاوز هذه الاعتبارات كلها، والأمر بالقتال، ودفع الأذى؛ لأن الأمر الأساسي في هذه الدعوة, كان قائمًا ومحققًا وهو (وجود الدعوة), ووجودها في شخص الداعية محمد صلى الله عليه وسلم، وشخصه في حماية سيوف بني هاشم، فلا تمتد إليه يد إلا وهي مهددة بالقطع، ولذلك لا يجرؤ أحد على منعه من إبلاغ الدعوة وإعلانها في ندوات قريش حول الكعبة، ومن فوق جبل الصفا، وفي الاجتماعات العامة، ولا يجرؤ أحد على سجنه أو ***ه، أو أن يفرض عليه كلامًا بعينه يقوله.
إن هذه الاعتبارات كلها -فيما نحسب- كانت بعض ما اقتضت حكمة الله – معه- أن يأمر المسلمين بكف أيديهم, وإقام الصلاة, وإيتاء الزكاة، لتتم تربيتهم وإعدادهم، وليقف المسلمون في انتظار أمر القيادة، في الوقت المناسب، وليخرجوا أنفسهم من المسألة كلها، فلا يكون لذواتهم فيها حظ، لتكن خالصة وفي سبيل الله([147]).
وقد تعلم الصحابة من القرآن الكريم فقه المصالح والمفاسد، وكيفية التعامل مع


هذا الفقه من خلال الواقع, قال تعالى: (
وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا
اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ ) [الأنعام:108].

وهكذا تعلم الصحابة رضي الله عنهم, أن المصلحة إن أدت إلى مفسدة أعظم تترك,([148]) وفي هذا تهذيب أخلاقي، وسمو إيماني، وترفع عن مجاراة السفهاء الذين يجهلون الحقائق، وتخلو أفئدتهم من معرفة الله وتقديسه، وقد ذكر العلماء بأن الحكم باقٍ في الأمة على كل حال، فمتى كان الكافر في منعة, وغير خاضع لسلطان الإسلام والمسلمين، وخيف أن يسب الإسلام أو النبي صلى الله عليه وسلم أو الله عز وجل، فلا يحل لمسلم أن يسب صلبانهم, ولا دينهم, ولا كنائسهم، ولا يتعرض إلى ما يؤدي إلى ذلك؛ لأنه فعل بمنزلة التحريض على المعصية، وهذا نوع من الموادعة, ودليل على وجوب الحكم بسد الذرائع([149]).
والناظر في الفترة المكية, والتي كانت ثلاثة عشر عامًا, كلها في تربية وإعداد وغرس لمفاهيم لا إله إلا الله, يدرك ما لأهمية هذه العقيدة من شأن في عدم الاستعجال, واستباق الزمن، فالعقيدة بحاجة إلى غرس يتعهد بالرعاية والعناية والمداومة, بحيث لا يكون للعجلة والفوضى فيها نصيب، وما أجدر الدعاة إلى الله أن يقفوا أمام تربية المصطفى صلى الله عليه وسلم، لأصحابه على هذه العقيدة وقفة طويلة، فيأخذوا منها العبرة والأسوة؛ لأنه لا يقف في وجه الجاهلية أيًّا كانت قديمة أو حديثة أم مستقبلة, إلا رجال اختلطت قلوبهم ببشاشة العقيدة الربانية، وتعمقت جذور شجرة التوحيد في نفوسهم([150]).
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر أصحابه بضبط النفس والتحلي بالصبر، وكان يربي أصحابه على عينه, ويوجههم نحو توثيق الصلة بالله، والتقرب إليه بالعبادة، وقد نزلت الآيات في المرحلة المكية: ( يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ` قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً` نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً` أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً )[المزمل:1-4]. فقد أرشدت سورة المزمل الصحابة إلى حاجة الدعاة إلى قيام الليل، والدوام على الذكر، والتوكل على الله في جميع الأمور، وضرورة الصبر, ومع الصبر الهجر الجميل، والاستغفار بعد الأعمال الصالحة.
كانت الآيات الأولى من سورة المزمل تأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يخصص شطرًا من الليل للصلاة، وقد خيره الله تعالى أن يقوم للصلاة نصف الليل, أو يزيد عليه, أو ينقص منه، فقام النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه معه قريبًا من عام, حتى ورمت أقدامهم, فنزل التخفيف عنهم, بعد أن علم الله منهم اجتهادهم في طلب رضاه، وتشميرهم لتنفيذ أمره ومبتغاه، فرحمهم ربهم فخفف عنهم, فقال: ( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَلَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ )[المزمل:20].
كان امتحانهم في الفرش, ومقاومة النوم, ومألوفات النفس, لتربيتهم على المجاهدة، وتحريرهم من الخضوع لأهواء النفس، تمهيدًا لحمل زمام القيادة والتوجيه في عالمهم، إذ لابد من إعداد روحي عالٍ لهم، وقد اختارهم الله لحمل رسالته، وائتمنهم على دعوته، واتخذ منهم شهداء على الناس، فالعشرات من المؤمنين في هذه المرحلة التاريخية كانت أمامهم المهمات العظيمة في دعوة الناس إلى التوحيد، وتخليصهم من الشرك، وهي مهمة عظيمة يقدر على تنفيذها أولئك الذين: ( تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا ). وقد وصف الله قيام الليل والصلاة فيه وقراءة القرآن ترتيلاً -أي مع البيان والتؤدة- بقوله: ( إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطئًا وَأَقْوَمُ قِيلاً ) فهو أثبت أثرًا في النفس مع سكون الليل وهدأة الخلق، حيث تخلو من شواغلها وتفرغ للذكر، والمناجاة بعيدًا عن علائق الدنيا وشواغل النهار, وبذلك يتحقق الاستعداد اللازم لتلقي الوحي الإلهي ( إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلاً ), والقول الثقيل هو القرآن الكريم، وقد ظهر أثر هذا الإعداد الدقيق للمسلمين الأوائل في قدرتهم على تحمل أعباء الجهاد وإنشاء الدولة بالمدينة, وفي إخلاصهم العميق للإسلام وتضحيتهم من أجل إقامته في دنيا الناس ونشره بين العالمين([151]).
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم مهتمًا بجبهته الداخلية, وحريصًا على تعبئة أصحابه بالعقيدة القوية التي لا تتزعزع ولا تلين، وكان هذا مبعثا لروح معنوية مرتفعة وقوية للدفاع وتحمل العذاب والأذى في سبيل الدعوة، وأصبحت الجماعة الأولى وحدة متماسكة لا تؤثر فيها حملات العدو النفسية، ولا تجد لها مكانا في هذه الجماعة عن طريق المؤاخاة بين المسلمين, فقد أصبحت رابطة الأخوة في الله تزيد على رابطة الدم والنسب, وتفضلها في الدين الإسلامي، وتعايش الرعيل الأول بمعاني الأخوة الرفيعة القائمة على الحب والمودة والإيثار، وكانت أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم تفعل فعلها في نفوس الصحابة, فكان صلى الله عليه وسلم يحث المسلمين على الأخوة والترابط والتعاون وتفريج الكرب لا لشيء إلا لرضى الله سبحانه, لا نظير خدمة مقابلة أو نحو ذلك، وإنما يفعل المسلم ذلك ابتغاء وجه الله وحده، وهذه المبادئ هي سر استمرار الأخوة الإسلامية, وتماسك المجتمع الإسلامي([152]), وبين لهم الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي الذي يرويه عن ربه سبحانه وتعالى: «المتحابون في جلالي، لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء»([153]).
وهكذا أصبحت الأخوة الصادقة من مقاييس الأعمال، وأصبحت المحبة في الله من أفضل الأعمال، ولها أفضل الدرجات عند الله, وحذر الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين من أن تهون عليهم هذه الرابطة، ووضع لهم أساس الحفاظ عليها, فقال لهم: «لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا»([154]).
واستعان النبي صلى الله عليه وسلم في ربط المجتمع الداخلي, وتوحيد جبهته لتكون قوية في مواجهة الحرب النفسية الموجهة ضدها، بالمساواة بين أفراد هذه الجبهة وإعطائهم الحرية, فهم لا يدخلون إلى هذا المجتمع إلا بالحرية، ثم كانت لهم في داخله حرية الرأي, وحرية التعبير والمشورة، أتى محمد صلى الله عليه وسلم بمبدأ المساواة بين جميع الناس، الحاكم والمحكوم, والغني والفقير، وبين جميع الطبقات، وقد كان لهذا المبدأ العظيم أكبر الأثر في نفوس أتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وجعلهم يتحابون ويتماسكون ويفتدون بأرواحهم ويدافعون عنه بكل ما أوتوا من قوة وعزيمة, فهو صلى الله عليه وسلم لم يقر تفاوتًا بين البشر, بسبب مولد أو أصل, أو حسب أو نسب أو وراثة، أو لون. والاختلاف في الأنساب والأجناس والألوان، لا يؤدي إلى اختلاف في الحقوق والواجبات أو العبادات، فالكل أمام الله سواسية، وعندما طلب أشراف مكة من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم مجلسًا غير مجلس العبيد والضعفاء, حتى لا يضمهم وإياهم مجلس واحد, بَيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم أن جميع الناس متساوون في تلقي الوحي والهداية، ورفض كفار مكة وسادتها في ذلك الوقت أن يجلسوا مع العبيد, ومن يعتبرونهم ضعفاء أذلاء من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم, فنزل القرآن الكريم بقوله تعالى: ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا` وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا )[الكهف:28، 29] بل إن النبي صلى الله عليه وسلم لما أعرض عن ابن أم مكتوم الأعمى، منشغلاً بمحاورة بعض الأشراف، عاتبه الله أشد العتاب.
وكان من أكبر أساليب النبي صلى الله عليه وسلم في ربطه المجتمع الإسلامي وتوحيده، وتقويته للجبهة الداخلية, وجعلها قوية البنيان متماسكة، ما دعا إليه صلى الله عليه وسلم من التكافل المادي, والمعنوي بين المسلمين، ليعين منهم القوي الضعيف، وليعطف الغني على الفقير، ولم يترك صلى الله عليه وسلم ثغرة واحدة تنفذ منها الحرب النفسية إلى هذا الصف الإسلامي الأول, وأصبحت الجماعة الأولى صخرة عظيمة, تحطمت عليها كل الجهود والخطط التي بذلها زعماء مكة للقضاء على الدعوة([155]).
سادسًا: أثر القرآن الكريم في رفع معنويات الصحابة:
كان للقرآن الكريم أثر عظيم في شد أزر المؤمنين من جانب, وتوعده الكفار بالعذاب من جانب آخر، مما كان له وقع القنابل على نفوسهم، وقد كان دفاع القرآن الكريم عن الصحابة يتمثل في نقطتين:
الأولى: حث الرسول صلى الله عليه وسلم على رعايتهم وحسن مجالستهم واستقبالهم, ومعاتبته على بعض المواقف التي ترك فيها بعض الصحابة لانشغاله بأمر الدعوة أيضا.
الثانية: التخفيف عن الصحابة بضرب الأمثلة والقصص لهم, من الأمم السابقة، وأنبيائها، وكيف لاقوا من قومهم الأذى، والعذاب, ليصبروا ويستخفوا بما يلاقون، وأيضًا بمدح بعض تصرفاتهم، ثم بوعدهم بالثواب والنعيم المقيم في الجنة، وكذلك بالتنديد بأعدائهم الذين كانوا يذيقونهم الألم والأذى([156]).
أما النقطة الأولى: حينما كان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس في المسجد مع المستضعفين من أصحابه: خباب وعمار، وابن فكيهة يسار مولى صفوان بن أمية, وصهيب وأشباههم، فكانت قريش تهزأ بهم، وقال الكفار بعضهم لبعض: هؤلاء أصحابه كما ترون، ثم يقولون أهؤلاء منَّ الله عليهم من بيننا بالهدى والحق، لو كان ما جاء به محمد خيرًا ما سبقنا هؤلاء إليه، وما خصهم الله به دوننا([157]).
ورد الله سبحانه وتعالى على استهزاء هؤلاء الكفار مبينًا لهم أن رضا الله لبعض عباده، لا يتوقف على منزلته ولا مكانته بين الناس في الدنيا، كما يؤكد لرسوله صلى الله عليه وسلم هذا المفهوم، حتى لا يتأثر بما يقوله الكفار، من محاولات الانتقاص من شأن هؤلاء الصحابة، ومبينًا له أيضًا مكانتهم فيقول الله تبارك وتعالى: ( وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ` وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِّيَقُولوا أَهَؤُلاَءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ` وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ )[الأنعام:52-54].
وهكذا بين الله لرسوله شأن هؤلاء الصحابة وقيمتهم ومنزلتهم التي يجهلها أو يتجاهلها الكفار، ويحاولون أن ينالوا منها، بل ويزيد الله على ذلك أن ينهى الرسول عن طردهم، كما يأمر بحسن تحيتهم، ويأمره أيضا أن يبشرهم بأن الله سبحانه، قد وعد بمغفرة ذنوبهم بعد توبتهم.
كيف تكون الروح المعنوية لهؤلاء، كيف يجدون الأذى من الكفار بعد ذلك, إنهم يفرحون بهذا الأذى الذي وصلوا بسببه إلى هذه المنازل العظيمة([158]).
ثم نرى عتاب الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في آيات تتلى إلى يوم القيامة، وكان هذا العتاب في شأن رجل فقير أعمى من الصحابة, أعرض عنه الرسول صلى الله عليه وسلم مرة واحدة، ولم يجبه على سؤاله لانشغاله بدعوة بعض أشراف مكة([159]).
فنزل قول الله تعالى: ( عَبَسَ وَتَوَلَّى` أَن جَاءَهُ الأعْمَى` وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى` أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى` أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى` فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى` وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى` وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَى` وَهُوَ يَخْشَى` فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى )[عبس:1-10].
إنه لا مجال للامتيازات في دعوة الحق بسبب الحسب والنسب, أو المال والجاه، فهي إنما جاءت لتأصيل النظرة إلى الإنسان وبيان وحدة الأصل، وما تقتضيه من المساواة والتكافؤ، من هنا يمكن تعليل شدة أسلوب العتاب الذي وجهه الله تعالى لرسوله للاهتمام الكبير الذي أظهره لأبي بن خلف, على حساب استقباله لابن أم مكتوم الضعيف t, فابن أم مكتوم يرجح في ميزان الحق على البلايين من أمثال أبي بن خلف([160]) لعنه الله.
وكانت لهذه القصة دروس وعبر, استفاد منها الرعيل الأول، ومن جاء بعدهم من المسلمين ومن أهم هذه الدروس، الإقبال على المؤمنين, على الدعاة البلاغ, وليس عليهم الهداية، في قصة الأعمى دليل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فلو لم يكن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم رسول الله لكتم هذه الحادثة، ولم يخبر الناس بها لما فيها من عتاب له صلى الله عليه وسلم ولو كان كاتمًا شيئًا من
الوحي لكتم هذه الآيات وآيات قصة زيد وزينب بنت جحش([161]), فعلى الدعاة تقديم أهل الخير والإيمان([162]).

أما النقطة الثانية: في دفاع القرآن الكريم عن الصحابة، فقد كانت بالتخفيف عنهم، وكانت أهم وسائل التخفيف بإظهار أن هذا الأذى الذي يلقونه لم يكن فريدًا من نوعه، وإنما حدث قبل ذلك مثله وأشد منه كانت القصص التي تتحدث عن حياة الرسل في القرآن الكريم من لدن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى -عليهم السلام- تثبيتًا للمسلمين ولروح التضحية والصبر فيهم من أجل الدين وبينت لهم القدوة الحسنة التي كانت في العصور القديمة من أنجح الوسائل في ميادين الإعلام والتربية والتعليم, والعلاقات العامة، فالقصص القرآني يحوي الكثير من العبر والحكم والأمثال.
كان أيضًا من أساليب القرآن في تخفيفه عن الصحابة والدفاع عنهم أسلوبه في مدحهم ومدح أعمالهم في القرآن الكريم, يقرؤها الناس إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، كما حدث مع الصديق لما أعتق سبع رقاب من الصحابة لينقذهم من الأذى وال*****، في نفس الوقت الذي يندد فيه بأمية بن خلف الذي كان يعذب بلال بن رباح، فالقرآن بدستوره الأخلاقي قد قدم قواعد الثواب والعقاب وشجع المؤمنين وحذر المخالفين، وحمل هذا التنديد مغزى عميقًا، فقد أنار الطريق للصحابة، وكان غمة وكربًا على نفوس الكفار المترددين، إذ جاء قول الله تعالى: ( فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى`لاَ يَصْلاَهَا إِلاَّ الأشْقَى`الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى`وَسَيُجَنَّبُهَا الأتْقَى`الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى`وَمَا لأحَدٍ عِنْدَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى`إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعْلَى`وَلَسَوْفَ يَرْضَى )[الليل:14-21].
وكذلك خلَّد القرآن ثبات وفد نصارى نجران على الإسلام, رغم استهزاء الكفار ومحاولاتهم لصدهم عن الإسلام، لذا نزلت فيهم بعض الآيات كما يذكر بعض المؤرخين([163]) قال تعالى: ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ` وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ` أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ )[القصص:52-54].
وكانت الآيات بعد ذلك تبشر الصحابة بالثواب العظيم وبالنعيم المقيم في الجنة، جزاء بما صبروا وما تحملوا من الأذى، وتشجيعًا لهم على الاستمرار في طريق الدعوة غير مبالين بما يسمعونه وما يلاقونه، فالنصر والغلبة لهم في النهاية كما بين لهم النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديثه، وكما بين لهم القرآن، كما بين القرآن الكريم في نفس الوقت مصير أعدائهم, كفار مكة قال: ( إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ` يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ )[غافر:51،52].
وبين فضل تمسكهم بالقرآن وإيمانهم به, قال تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ` لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ )[فاطر:29،30].
وبين سبحانه فضل التمسك بعبادته رغم الأذى وال*****، وبين جزاء الصبر على ذلك قال تعالى: ( أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ` قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ )[الزمر: 9،10].
وهكذا كان القرآن الكريم يخفف عن الصحابة ويدافع عنهم، ويحصنهم ضد الحرب النفسية، وبذلك لم تؤثر تلك الحملات ووسائل ال***** على قلوب الصحابة؛ بفضل المنهج القرآني، والأساليب النبوية الحكيمة، لقد تحطمت كل أساليب المشركين في محاربة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه أمام العقيدة الصحيحة, والمنهج السليم الذي تشرَّبه الرعيل الأول.

محمد رافع 52 21-09-2014 10:35 AM

سابعًا: أسلوب المفاوضات:
اجتمع المشركون يومًا، فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر، والكهانة والشعر، فليأت هذا الرجل الذي فرق جماعتنا، وشتت أمرنا، وعاب ديننا، فليكلمه، ولينظر ماذا يردُّ عليه؟ فقالوا: ما نعلم أحدًا غير عتبة بن ربيعة، فقالوا: أنت يا أبا الوليد، فأتاه عتبة فقال: يا محمد أنت خير أم عبد المطلب؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم،قال: فإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عبت، وإن كنت تزعم أنك خير منهم، فتكلم حتى نسمع قولك، إنا والله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومك منك، فرقت جماعتنا، وشتت أمرنا، وعبت ديننا، وفضحتنا في العرب حتى لقد طار فيهم: أن في قريش ساحرًا، وأن في قريش كاهنًا، والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى، أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف حتى نتفانى.
أيها الرجل: إن كان إنما بك الحاجة, جمعنا لك من أموالنا، حتى تكون أغنى قريش رجلاً، وإن كان إنما بك - الباه - فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشرًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم«فرغت؟» قال: نعم، فقال رسول الله: ( حم` تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ` كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) إلى أن بلغ ( فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ) فقال عتبة: حسبك، ما عندك غير هذا؟ قال: «لا» فرجع إلى قريش فقالوا: ما وراءك؟ قال: ما تركت شيئًا أرى أنكم تكلمونه إلا كلمته، قالوا: فهل أجابك؟ فقال: نعم ([164]). وفي رواية ابن إسحاق: فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني قد سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة. يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوا، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به، قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيي فاصنعوا ما بدا لكم([165]).
دروس وعبر وفوائد:
أ- لم يدخل الرسول صلى الله عليه وسلم في معركة جانبية حول أفضليته على أبيه وجده أو أفضليتهما عليه، ولو فعل ذلك لقضي الأمر دون أن يسمع عتبة شيئًا.
ب- لم يخض صلى الله عليه وسلم معركة جانبية حول العروض المغرية، وغضبه الشخصي لهذا الاتهام، إنما ترك ذلك كله لهدف أبعد، وترك عقبة يعرض كل ما عنده، وبلغ من أدبه صلى الله عليه وسلم أن قال: «أفرغت يا أبا الوليد؟» فقال: نعم([166]).
ج- كان جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم حاسمًا، إن اختياره لهذه الآيات لدليل على حكمته، وقد تناولت الآيات الكريمة قضايا رئيسية منها: إن هذا القرآن تنزيل من الله، بيان موقف الكافرين وإعراضهم، بيان مهمة الرسول, وأنه بشر، بيان أن الخالق واحد هو الله, وأنه خالق السماوات والأرض، بيان تكذيب الأمم السابقة وما أصابها، وإنذار قريش صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود([167]).
د- خطورة المال، والجاه، والنساء على الدعاة، فكم سقط من الدعاة على الطريق تحت بريق المال، وكم عرضت الآلاف من الأموال على الدعاة ليكفوا عن دعوتهم، والذين ثبتوا أمام إغراء المال هم المقتدون بالنبي صلى الله عليه وسلم، وخطورة الجاه واضحة؛ لأن الشيطان في هذا المجال يزين ويغوي بطرق أكبر وأمكر وأفجر. والداعية الرباني هو الذي يتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم في حركته وأقواله وأفعاله, ولا ينسى الهدف الذي عاش له ويموت من أجله: ( قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ` لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ )[الأنعام:162،163]، وأما النساء فقد قال صلى الله عليه وسلم: «ما تركت فتنة على أمتي أضر على الرجال من النساء»([168]) سواء كانت زوجة تثبط الهمة عن الدعوة والجهاد، أو تسليط بعض الفاجرات عليه ليسقطنه في شباكهن، أو في تهيئة أجواء البغي والإثم والمجون ليرتادها خطوة بعد خطوة، أيًّا كانت, فإنها فتنة عظيمة في الدين, فها هي قريش تعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءها، يختار عشرًا منهن، أجملهن وأحسنهن يكن زوجات له, إن كان عاجزًا عن الزواج من أكثر من واحدة، إن خطر المرأة حين لا تستقيم على منهج الله, أشد من خطر السيف المصلت على الرقاب([169]), فعلى الدعاة أن يقتدوا بسيد الخلق, ويتذكروا دائما قول يوسف عليه السلام: ( قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ` فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) [يوسف:33-34].
هـ- تأثر عتبة من موقف النبي صلى الله عليه وسلم: وكان هذا التأثير واضحًا لدرجة أن أصحابه أقسموا على ذلك التأثير قبل أن يخبرهم، فبعد أن كان العدو ينوي القضاء على الدعوة، إذا به يدعو لعكس ذلك, فيطلب من قريش أن تخلي بين محمد صلى الله عليه وسلم وما يريد([170]).
و- استمع الصحابة لما حدث بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين عتبة، وكيف رفض حبيبهم صلى الله عليه وسلم كل عروضه المغرية، فكان ذلك درسًا تربويًّا خالط أحشاءهم، تعلموا منه الثبات على المبدأ، والتمسك بالعقيدة، ووضع المغريات تحت أقدام الدعاة.
ز- تعلم الصحابة من الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الحلم ورحابة الصدر, فقد استمع صلى الله عليه وسلم إلى ترهات عتبة بن ربيعة ونيله منه وقوله عنه: (إن في قريش ساحرًًا)، و(إن في قريش كاهنًا)، (ما رأينا سخلة أشأم على قومك منك)، و(إن كان بك رَئِيٌّ من الجن) فقد أعرض عنه صلى الله عليه وسلم وأغض عن هذا السباب بحيث لا يصرفه ذلك دعوته وتبليغه إياها لسيد بني عبد شمس, فقد كانت كل كلمة تصدر من سيد الخلق صلى الله عليه وسلم مبدأ يحتذى، وكل تصرف دينًا يتبع، وكل إغضاء خلقًا يتأسى به([171]).
وذكرت بعض كتب السيرة بأن قيادات مكة دخلوا في مفاوضات بعد ذلك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرضوا عليه إغراءات تلين أمامها القلوب البشرية ممن أراد الدنيا, وطمع في مغانمها إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخذ موقفا حاسمًا في وجه الباطل دون مراوغة أو مداهنة, أو دخول في دهاء سياسي, أو محاولة وجود رابطة استعطاف أو استلطاف مع زعماء قريش([172])؛ لأن قضية العقيدة تقوم على الوضوح والصراحة والبيان بعيدة عن المداهنة والتنازل؛ ولذلك رد رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بي ما تقولون, ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولا، وأنزل علي كتابا وأمرني أن أكون لكم بشيرًا ونذيرًا فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم من الدنيا والآخرة، وإن تردوا علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم» ([173]).
بهذا الموقف الإيماني الثابت رجع كيدهم في نحورهم، وثبتت قضية من أخطر قضايا العقيدة الإسلامية وهي خلوص العقيدة من أي شائبة غريبة عنها سواء في جوهرها أو في الوسيلة الموصلة إليها([174]).
لكم دينكم ولي دين
ولما رأى المشركون صلابة المسلمين واستعلاءهم بدينهم, ورفعة نفوسهم فوق كل باطل، ولما بدأت خطوط اليأس في نفوسهم من أن المسلمين يستحيل رجوعهم عن دينهم سلكوا مهزلة أخرى من مهازلهم الدالة على طيش أحلامهم, ورعونتهم الحمقاء، فأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم الأسود بن عبد المطلب, والوليد بن المغيرة، وأمية بن خلف، والعاص بن وائل، فقالوا: يا محمد، هلم فلنعبد ما تعبد, وتعبد ما نعبد، فنشترك نحن وأنت في الأمر، فإن كان الذي تعبد خيرًا مما نعبد، كنا قد أخذنا بحظنا منه، وإن كان ما نعبد خيرًا مما تعبد كنت قد أخذت بحظك منه» ([175]). فأنزل الله فيهم: ( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ`لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ `وَلاَ


أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ`وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ`وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ`
لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ
دِينِ )[الكافرون].

ومثل هذه السورة آيات أخرى تشابهها في إعلان البراء من الكفر وأهله, مثل
قوله تعالى: ( وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ )[يونس:41].

وقوله تعالى ( قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ قُل لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ` قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ )[الأنعام:56،57].
ولقد بينت سورة الكافرون بأن طريق الحق واحد لا عوج فيه، ولا فجاج له، إنه العبادة الخالصة لله وحده رب العالمين، فنزلت هذه السورة على الرسول صلى الله عليه وسلم للمفاصلة الحاسمة بين عبادة وعبادة، ومنهج ومنهج، وتصور وتصور، وطريق وطريق، نعم نزلت نفيًا بعد نفي, وجزمًا بعد جزم، وتوكيدًا بعد توكيد، بأنه لا لقاء بين الحق والباطل، ولا اجتماع بين النور والظلام، فالاختلاف جوهري كامل يستحيل معه اللقاء على شيء في منتصف الطريق، والأمر لا يحتاج إلى مداهنة أو مراوغة، نعم فالأمر هنا ليس مصلحة ذاتية، ولا رغبة عابرة، ولا سمًّا في عسل، وليس الدين لله والوطن للجميع كما تزعم الجاهلية المعاصرة، ويدعي المنافقون والمستغربون الذين يتبعون الضالين والمغضوب عليهم، ولا كما يعتقد الملحدون أعداء الله سبحانه في كل مكان، كان الرد حاسمًا على زعماء قريش المشركين، ولا مساومة، ولا مشابهة، ولا حلول وسط، ولا ترضيات شخصية، فإن الجاهلية جاهلية والإسلام إسلام، في كل زمان ومكان، والفارق بينهم بعيد كالفرق بين التبر والتراب، والسبيل الوحيد هو الخروج عن الجاهلية بجملتها إلى الإسلام بجملته عبادة وحكما، وإلا فهي البراءة التامة والمفاصلة الكاملة والحسم الصريح بين الحق والباطل في كل زمان ( لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ )([176]).
وجاء وفد آخر بعد فشل الوفد السابق، يتكون من عبد الله بن أبي أمية، والوليد بن المغيرة، ومكرز بن حفص، وعمرو بن عبد الله بن أبي قيس، والعاص بن عامر([177]) جاء ليقدم عرضًا آخر للتنازل عن بعض ما في القرآن، فطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزع من القرآن ما يغيظهم من ذم آلهتهم، فأنزل الله لهم جوابًا حاسمًا، قال تعالى: ( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ )[يونس:15].
وهذه الوفود والمفاوضات تبين مدى الفشل الذي أصاب زعماء قريش في عدم حصولها على التنازل الكلي عن الإسلام، الأمر الذي جعلها تلجأ إلى طلب الحصول على شيء من التنازل، ويلاحظ أن التنازل الذي طلبوه في المرة الأولى، أكبر مما طلبوه في المرة الثانية، وهذا يدل على تدرجهم في التنازل من الأكبر إلى الأصغر، علهم يجدون آذانًا صاغية لدى قائد الدعوة، كما أنهم كانوا يغيرون الأشخاص المتفاوضين، فالذين تفاوضوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم في المرة الأولى غير الذين تفاوضوا معه في المرة الثانية، ما خلا الوليد بن المغيرة وذلك حتى لا تتكرر الوجوه، وفي ذات الوقت تنويع الكفاءات, والعقول المفاوضة، فربما أثر ذلك في نظرهم بعض الشيء، وفي هذا درس للدعاة إلى يوم القيامة؛ بأن لا تنازل عن الإسلام ولو كان هذا التنازل شيئًا يسيرًا، فالإسلام دعوة ربانية ولا مجال فيها للمساومة إطلاقًا، مهما كانت الأسباب والدوافع، والمبررات (وعلى الدعاة اليوم الحذر من مثل هذه العروض، والإغراءات المادية، التي قد لا تعرض بطريق مباشر، فقد تأخذ شكلاً غير مباشر، في شكل وظائف عليا، أو عقود عمل مجزية، أو صفقات تجارية مربحة، وهذا ما تخطط له المؤسسات العالمية المشبوهة لصرف الدعاة عن دعوتهم وبخاصة القيادين منهم، وهناك تعاون تام في تبادل المعلومات بين هذه المؤسسات التي تعمل من مواقع متعددة لتدمير العالم الإسلامي) ([178]) ولقد جاء في التقرير الذي قدمه (ريتشارد ب. ميشيل) أحد كبار العاملين في مجال الشرق الأوسط، لرصد الصحوة الإسلامية، وتقديم النصح بكيفية ضربها, جاء في هذا التقرير: وضع تصور لخطة جديدة يمكن من خلالها تصفية الحركات الإسلامية، فكان من بين فقرات هذا التقرير فقرة خاصة بإغراء قيادات الدعوة، فاقترح لتحقيق ذلك الإغراء ما يلي:
أ- تعيين من يمكن إغراؤهم بالوظائف العليا، حيث يتم شغلهم بالمشروعات الإسلامية فارغة المضمون، وغيرها من الأعمال التي تستنفد جهدهم، وذلك مع الإغداق عليهم أدبيًّا وماديًا، وتقديم تسهيلات كبيرة لذويهم، وبذلك يتم استهلاكهم محليًّا، وفصلهم عن قواعدهم الجماهيرية.
ب- العمل على جذب ذوي الميول التجارية والاقتصادية, إلى المساهمة في المشروعات ذات الأهداف المشبوهة، التي تقام في المنطقة العربية لمصالح أعدائها.
ج- العمل على إيجاد فرص عمل, وعقود مجزية في البلاد العربية الغنية، الأمر الذي يؤدي إلى بُعدهم عن النشاط الإسلامي([179]).
فالمتدبر في النقاط الثلاث السابقة، يلاحظ أنها إغراءات مادية غير مباشرة، وبنظرة فاحصة للعالم الإسلامي اليوم، نلاحظ أن هذه النقاط تنفذ بكل هدوء, فقد أشغلت المناصب العليا بعض الدعاة، واستهلكت بعض الدول العربية الغنية جمًا غفيرًا من الدعاة، وألهت التجارة بعضهم([180]).
ثامنًا: أسلوب المجادلة ومحاولة التعجيز:
كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أقام الحجج والبراهين والأدلة على صحة دعوته, وكان صلى الله عليه وسلم يتقن اختيار الأوقات، وانتهاز الفرص والمناسبات، ويقوى على الرد على الشبهات مهما كان نوعها، وقد استخدم في مجادلته مع الكفار أساليب كثيرة, استنبطها من كتاب الله تعالى في إقامة الحجة العقلية, واستخدام الأقيسة المنطقية, واستحضار التفكير والتأمل، ومن الأساليب التي استخدمها صلى الله عليه وسلم مع كفار مكة:
1- أسلوب المقارنة:
وذلك بعرض أمرين: أحدهما هو الخير المطلوب الترغيب فيه، والآخر هو الشر المطلوب الترهيب منه، وذلك باستثارة العقل, للتفكر في كلا الأمرين, وعاقبتهما الوصول -بعد المقارنة- إلى تفضيل الخير واتِّباعه:
قال تعالى: ( أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )[الأنعام:122].
قال ابن كثير في تفسيره: «هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن الذي كان ميتًا أي: في الضلالة هالكًا حائرًا، فأحياه الله, أي: أحيا قلبه بالإيمان وهداه له ووفقه لاتباع رسله»([181]).
2- أسلوب التقرير:
وهو أسلوب يؤول بالمرء بعد المحاكمة العقلية, إلى الإقرار بالمطلوب, الذي هو مضمون الدعوة، قال تعالى: ( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ` أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُونَ` أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ` أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ` أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ` أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ` أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ` أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ` أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ` وَإِن يَرَوْا كِسْفًا مِّنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَّرْكُومٌ` فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاَقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ )[الطور:35-45].
قال ابن كثير في تفسيره: «هذا المقام في إثبات الربوبية وتوحيد الألوهية، فقال تعالى ( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ) أي أُوجدوا من غير موجد؟ أم هم أوجدوا أنفسهم؟ أي لا هذا ولا هذا, بل الله هو الذي خلقهم وأنشأهم بعد أن لم يكونوا شيئًا مذكورا» ([182]).
وهذه الآية في غاية القوة من حيث الحجة العقلية؛ لأن «وجودهم هكذا من غير شيء أمر ينكره منطق الفطرة ابتداء, ولا يحتاج إلى جدال كثير أو قليل، أما أن يكونوا هم الخالقين لأنفسهم فأمر لم يدَّعوه، ولا يدَّعيه مخلوق، وإذا كان هذان الفرضان لا يقومان بحكم منطق الفطرة, فإنه لا يبقى سوى الحقيقة التي يقولها القرآن. وهي أنهم من خلق الله جميعا من خلق الله الواحد الذي لا يشاركه أحد»([183]) والتعبير بالفطرة مضمون الأمر المقرر بداهة في العقل.
3- أسلوب الإمرار والإبطال:
وهو أسلوب قوي في إفحام المعاندين أصحاب الغرور والصلف, بإمرار أقوالهم, وعدم الاعتراض على بعض حججهم الباطلة, منعًا للجدل والنزاع خلوصًا إلى الحجة القاطعة تدمغهم وتبطل بها حجتهم تلك, فتبطل الأولى بالتبع، وفي قصة موسى عليه السلام مع فرعون، نموذج مطول لهذا الأسلوب, حيث أعرض موسى عن كل اعتراض وشبهة أوردها فرعون، ومضى إلى إبطال دعوى الألوهية لفرعون من خلال إقامة الحجة العقلية الظاهرة على ربوبية الله وألوهية الله([184]), وذلك في الآيات من سورة الشعراء قال تعالى: ( قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ` قَالَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنْتُم مُّوقِنِينَ` قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ` قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ` قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ` قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ` قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ )[الشعراء:23-29].
وهكذا كانت الأساليب القرآنية الكريمة, هي الركيزة في مجادلة رسول الله صلى الله عليه وسلم للمشركين، ولما احتار المشركون في أمر الرسول صلى الله عليه وسلم, ولم يكونوا على استعداد في تصديقه أنه رسول من عند الله, ليس لأنهم يكذبونه, وإنما عنادًا وكفرًا، كما قال تعالى: ( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ )[الأنعام:33].
لذلك هداهم تفكيرهم المعوج أن يطلبوا من الرسول عليه السلام مطالب, ليس الغرض منها التأكد من صدق النبي صلى الله عليه وسلم, ولكن غرضهم منها التعنت والتعجيز, وهذا ما طلبوه من الرسول عليه الصلاة والسلام:
أ- أن يفجر لهم من الأرض ينبوعا: أي يجري لهم الماء عيونًا جارية.
ب- أو تكون له جنة من نخيل وأعناب يفجر الأنهار خلالها تفجيرًا، أي تكون له حديقة فيها النخل والعنب, والأنهار تتفجر بداخلها.
ج- أو يسقط السماء كسفًا: أي يسقط السماء قطعًا كما سيكون يوم القيامة.
د- أو يأتي بالله والملائكة قبيلاً.
هـ- أو يكون له بيت من زخرف: أي ذهب.
و- أو يرقى في السماء: أي يتخذ سلمًا يرتقي عليه ويصعد إلى السماء.
ز- إنزال كتاب من السماء يقرؤونه، يقول مجاهد: أي مكتوب فيه إلى كل واحد صحيفة,هذا كتاب من الله لفلان ابن فلان تصبح موضوعة عند رأسه([185]).
ح- لبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو لهم فيسير لهم الجبال، ويقطع الأرض، ويبعث من مضى من آبائهم من الموتى([186]).
إن عملية طلب الخوارق والمعجزات هي خطة متبعة على مدى تاريخ البشرية الطويل، ورغم حرص النبي صلى الله عليه وسلم على إيمان قومه، وتفانيه في ذلك، لكن التربية الربانية التي تلقاها من ربه، والأدب النبوي الذي تأدب عليه، جعله يرفض طلب المعجزة([187]) وإنما كانت إجابته صلى الله عليه وسلم:
«ما بهذا بعثت إليكم، إنما جئتكم من الله بما بعثني به، وقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم، فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي، أصبر لأمر الله تعالى حتى يحكم الله بيني وبينكم»[188]).
وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله حزينًا أسفًا لما فاته مما طمع فيه من قومه حين دعوه، ولما رأى من مباعدتهم إياه,([189]) وقد ذكر الله سبحانه وتعالى هذه التعنتات والرد عليها في قوله سبحانه ( وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا` أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنْهَارَ خِلاَلَهَا تَفْجِيرًا` أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلاَئِكَةِ قَبِيلاً` أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرُؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً` وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَرًا رَّسُولاً` قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَّسُولاً` قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا )[الإسراء:90-96].
ونزل قوله تعالى: ( وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَل للهِ الأمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَن لَّوْ يَشَاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ )([190])

[الرعد:31].

إن الحكمة في أنهم لم يجابوا لما طالبوا، لأنهم لم يسألوا مسترشدين وجادين، وإنما سألوا متعنتين ومستهزئين، وقد علم الحق سبحانه أنهم لو عاينوا وشاهدوا ما طلبوا لما آمنوا، وللجُّوا في طغيانهم يعمهون، ولظلوا في غيهم وضلالهم يترددون، قال سبحانه: ( وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآَيَاتُ عِنْدَ اللهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ` وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ` وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ )[الأنعام:109-111].
ولهذا اقتضت الحكمة الإلهية والرحمة الربانية ألا يجابوا على ما سألوا؛ لأن سنته سبحانه أنه إذا طلب قوم آيات فأجيبوا، ثم لم يؤمنوا, عذَّبهم عذاب الاستئصال كما فعل بعاد وثمود وقوم فرعون.
وليس أدل على أن القوم كانوا متعنتين وساخرين، ومعوقين لا جادين, من أن عندهم القرآن وهو آية من الآيات، وبينة البينات، ولذلك لما سألوا ما اقترحوا من هذه الآيات وغيرهم رد عليهم سبحانه([191]) بقوله: ( وَقَالُوا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآَيَاتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ` أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ` قُلْ كَفَى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ )[العنكبوت:50-52].
وقد ذكر عبد الله بن عباس t رواية مفادها: أن قريشا قالت للنبي صلى الله عليه وسلم ادعُ لنا ربك أن يجعل لنا الصفا ذهبًا ونؤمن بك, قال: وتفعلون؟ قالوا: نعم، قال فدعاه: فأتاه جبريل فقال: إن ربك –عز وجل– يقرأ عليك السلام، ويقول إن شئت أصبح لهم الصفا ذهبًا، فمن كفر بعد ذلك منهم عذبته عذابًا لا أعذبه أحدًا من العالمين، وإن شئت فتحت لهم أبواب التوبة، والرحمة، فقال: بل باب التوبة والرحمة، فأنزل الله تعالى: ( وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآَيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآَيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا )[الإسراء:59]([192]).
لقد كان هدف زعماء قريش من تلك المطالب, هو شن حرب إعلامية ضد الدعوة والداعية, والتآمر على الحق, كي تبتعد القبائل العربية عنه صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم يطالبون بأمور يدركون أنها ليست طبيعة هذه الدعوة؛ ولهذا أصروا عليها، بل لقد صرحوا بأن لو تحقق شيء من ذلك فلن يؤمنوا أيضا بهذه الدعوة، وهذا كله محاولة منهم لإظهار عجز الرسول صلى الله عليه وسلم واتخاذ ذلك ذريعة لمنع الناس عن اتباعه([193]).

محمد رافع 52 21-09-2014 10:40 AM

تاسعًا: دور اليهود في العهد المكي واستعانة مشركي مكة بهم:
تحدث القرآن الكريم عن بني إسرائيل طويلاً في سور كثيرة, بلغت خمسين سورة في المرحلة المكية، وفي المرحلة المدنية, كان دور اليهود كبيرًا في محاولة إطفاء نور الله, والقضاء على دعوة الإسلام, وعلى حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تحظ ملة من الملل؛ ولا قوم من الأقوام بالحديث عنهم بمثل هذا الشمول, وهذه التفصيلات ما حظي به اليهود، وحديث القرآن عنهم يتسم بمنهج دقيق يتناسب مع المراحل الدعوية التي مرت بها دعوة الإسلام، فقد جاءت الآيات الكريمة تشير إلى أن غفلة المشركين عن الحق الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدم اكتراثهم به وبدعوته, له نماذج بشرية تقدمتهم، مثل عاد وثمود وفرعون وبني إسرائيل وقوم تبع، وأصحاب الرس([194])
عندما وجدت قريش نفسها عاجزة أمام دعوة الحق، وكان المعبر عن هذا العجز, النضر بن الحارث الذي صرح قائلا: «يا معشر قريش إنه والله قد نزل بكم أمر ما أوتيتم له بحيلة بعد.. فانظروا في شأنكم, فإنه والله لقد نزل بكم أمر عظيم» فقرروا بعد ذلك إرسال النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط, إلى أحبار اليهود بالمدينة, لمعرفة حقيقة هذه الدعوة, لا لكي يتبعوها، ولكن لإدراكهم أن اليهود قد يمدونهم بأشياء تظهر عجز الرسول صلى الله عليه وسلم لمعرفة زعماء مكة بحقد اليهود المنصب على الأنبياء جميعًا وأصحاب الحق أينما كانوا، كانت بعثة المصطفى صلى الله عليه وسلم صدمة قوية لليهود؛ وذلك لأنهم عاشوا في جزيرة العرب على حلم توارثوه طوال السنين الماضية, وهو أنه سيُبعث نبي مخلص في ذلك الزمان والمكان، فرجوا أن يكون منهم، آملين أن يخلصهم من الفرقة والشتات الذي كانوا فيه([195]).
كان التقارب بين معسكر الكفر والشرك مع اليهود, ينسجم مع أهدافهم المشتركة للقضاء على دعوة الإسلام، ولذلك زودوا الوفد المكي ببعض الأسئلة محاولة لتعجيز النبي صلى الله عليه وسلم.
عن ابن عباس t قال: بعثت قريش النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة، فقالوا لهم: سلوهم عن محمد, وصفوا لهم صفته, وأخبروهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم علم ما ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجا حتى قدما المدنية، فسألا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفا لهم أمره وبعض قوله, وقالا: إنكم أهل التوراة، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا، قال: فقالت لهم أحبار يهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإن لم يفعل فالرجل متقول، فروا فيه رأيكم: سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم؟ فإنه قد كان لهم حديث عجيب، وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه؟ وسلوه عن الروح, ما هو؟ فإن أخبركم بذلك فإنه نبي فاتبعوه، وإن هو لم يخبركم فهو رجل متقول فاصنعوا في أمره ما بدا لكم.
فأقبل النضر وعقبة حتى قدما مكة على قريش فقالا: يا معشر قريش، قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور، فأخبروهم بها، فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد، أخبرنا، فسألوه عما أمروهم به، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخبركم غدًا بما سألتم عنه، ولم يستثن([196]) فانصرفوا عنه، فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة لا يحدث الله إليه في ذلك وحيًا، ولا يأتيه جبريل عليه السلام، حتى أرجف أهل مكة وقالوا: وعدنا محمدًا غدًا واليوم خمس عشرة، قد أصبحنا فيها لا يخبرنا بشيء مما سألناه عنه، وحتى أحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم مُكْثُ الوحي عنه، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة، ثم جاءه جبريل عليه السلام من الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم، وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية والرجل الطواف، وقول الله عز وجل: ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ).
كانت سورة الكهف قد احتوت على الإجابة لأسئلتهم, وإشارة إلى أن كهفًا من عناية الله سوف يأوي هؤلاء المستضعفين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم, كما آوى الكهف الجبلي الفتية المؤمنين الفارين بدينهم من الفتنة.
وأن نفوسًا ستبش في وجوه هذه العصبة, من أنصار دين الله في يثرب, بالقرب من الذين عاضدوا قريشًا في شكهم، وحاولوا معهم طمس نور الحق بتلقينهم المنهج التعجيزي في التثبت في أمر النبوة, وهو منهج غير سليم، فمتى كانت الأسئلة التعجيزية وسيلة التحقق من صدق الرسالة وصاحبها، فهذا نبي الله موسى عليه السلام وهو من أعظم أنبياء بني إسرائيل لم يعلم تأويل الأحداث الثلاثة التي جرت أمامه، وأنكر على الخضر تصرفاته, على الرغم من تعهده أن لا يسأله عن شيء حتى يحدث له منه ذكرًا، على الرغم من كل ذلك لم تؤثر الأحداث وما دار حولها في نبوة موسى عليه السلام شيئا، ولم يشكك بنو إسرائيل في نبوته, فلم يجعلوا مثل هذه الأسئلة أسلوبًا للتحقق من صدق الرسالة([197]).
جعل الله هذه المناسبة وسيلة للإشارة إلى قرب الفرج للعصبة المؤمنة ليجدوا مأوى كما وجد الفتية المأوى، وليبش في وجوههم أهل المدينة كما بش أهل المدينة في وجه هؤلاء الفتية, ثم ذهبوا إليهم ليكرموهم وليخلدوا ذكراهم([198]).
عاشرًا: الحصار الاقتصادي والاجتماعي في آخر العام السابع من البعثة:
ازداد إيذاء المشركين من قريش, أمام صبر الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين على الأذى وإصرارهم على الدعوة إلى الله، وإزاء فشو الإسلام في القبائل، وبلوغ الأذى قمته في الحصار المادي والمعنوي, الذي ضربته قريش ظلمًا وعدوانًا على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه, ومن عطف عليهم من قرابتهم([199]).
قال الزهري: «ثم إن المشركين اشتدوا على المسلمين كأشد ما كانوا, حتى بلغ المسلمين الجهد، واشتد عليهم البلاء، واجتمعت قريش في مكرها, أن ي***وا رسول الله صلى الله عليه وسلم علانية، فلما رأى أبو طالب عمل القوم جمع بني عبد المطلب, وأمرهم أن يدخلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شعبهم, ويمنعوه ممن أراد ***ه، فاجتمعوا على ذلك مسلمهم وكافرهم، فمنهم من فعله حمية، ومنهم من فعله إيمانًا ويقينًا، فلما عرفت قريش أن القوم قد منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأجمعوا أمرهم ألا يجالسوهم ولا يبايعوهم ولا يدخلوا بيوتهم حتى يسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم لل***، وكتبوا في مكرهم صحيفة وعهودًا ومواثيق، لا يتقبلوا من بني هاشم أبدًا صلحًا، ولا يأخذهم بهم رأفة حتى يسلموه لل***([200]).
وفي رواية: ... على ألا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم، ولا يبيعوهم شيئًا ولا يبتاعوا منهم، ولا يدعوا سببًا من أسباب الرزق يصل إليهم، ولا يقبلوا منهم صلحًا، ولا تأخذهم بهم رأفة، ولا يخالطوهم، ولا يجالسوهم، ولا يكلموهم، ولا يدخلوا بيوتهم، حتى يسلموا إليهم رسول الله لل***، ثم تعاهدوا وتواثقوا على ذلك، ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيدا على أنفسهم([201]).
فلبث بنو هاشم في شعبهم ثلاث سنين، واشتد عليهم البلاء والجهد، وقطعوا عنهم الأسواق، فلا يتركوا طعاما يقدم من مكة ولا بيعًا إلا بادروهم إليه فاشتروه، يريدون بذلك أن يدركوا سفك دم رسول الله صلى الله عليه وسلم([202]).
وكان أبو طالب إذا أخذ الناس مضاجعهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى فراشه, حتى يراه من أراد به مكرًا أو غائلة، فإذا نام الناس أخذ أحد بنيه أو إخواته أو بني عمه, فاضطجع على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأمر رسول الله أن يأتي بعض فرشهم فيرقد عليها([203]).
واشتد الحصار على الصحابة, وبني هاشم, وبني المطلب, حتى اضطروا إلى أكل ورق الشجر، وحتى أصيبوا بظلف العيش وشدته، إلى حد أن أحدهم يخرج ليبول فيسمع بقعقعة شيء تحته، فإذا هي قطعة من جلد بعير فيأخذها فيغسلها، ثم يحرقها ثم يسحقها، ثم يستفها، ويشرب عليها الماء فيتقوى بها ثلاثة أيام([204])، وحتى لتسمع قريش صوت الصبية يتضاغون من وراء الشِّعب من الجوع([205]).
فلما كان رأس ثلاث سنين، قيض الله سبحانه وتعالى لنقض الصحيفة أناسًا من أشراف قريش، وكان الذي تولى الانقلاب الداخلي لنقض الصحيفة هشام بن عمرو الهاشمي، فقصد زهير بن أبي أمية المخزومي، وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب, فقال له: يا زهير، أقد رضيت أن تأكل الطعام، وتلبس الثياب وتنكح النساء، وأخوالك حيث قد علمت؟ لا يبتاعون، ولا يبتاع منهم، ولا ينكحون ولا ينكح إليهم، أما إني أحلف بالله لو كانوا أخوال أبي الحكم بن هشام، ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم, ما أجابك إليه أبدًا, قال: ويحك يا هشام فماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد، والله لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها، فقال له: قد وجدت رجلاً، قال: من هو؟ قال: أنا، فقال له زهير: أبغنا ثالثا.
فذهب إلى المطعم بن عدي، فقال له: أقد رضيت أن يهلك بطنان من بني عبد مناف، وأنت شاهد على ذلك، موافق لقريش فيهم؟ أما والله لو أمكنتموهم من هذه لتجدنهم إليها منكم سراعًا قال: ويحك فماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد قال: قد وجدت لك ثانيًا: قال من؟ قال: أنا، قال: أبغنا ثالثًا: قال: قد فعلت، قال: من؟ قال زهير بن أبي أمية، فقال أبغنا رابعًا، فذهب إلى أبي البختري بن هشام، فقال له نحو ما قال للمطعم بن عدي، فقال له: ويحك وهل نجد أحد يعين على ذلك؟ قال: نعم، زهير بن أبي أمية، والمطعم بن عدي، وأنا، فقال: أبغنا خامسًا، فذهب إلى زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد، فكلمه وذكر له قرابته وحقهم، فقال له: وهل على هذا الأمر الذي تدعوني إليه من أحد؟ قال نعم، ثم سمى له القوم، فاتَّعدوا خطم الحجون ليلاً بأعلى مكة، فاجتمعوا هناك، وأجمعوا أمرهم، وتعاقدوا على القيام في الصحيفة حتى ينقضوها، وقال زهير: أنا أبدؤكم فأكون أول من يتكلم، فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم، وغدا زهير بن أبي أمية عليه حلة، فطاف بالبيت سبعًا، ثم أقبل على الناس فقال: أنأكل الطعام، ونلبس الثياب، وبنو هاشم هلكى لا يبتاعون، ولا يبتاع منهم، والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة، فقال أبو جهل، وكان في ناحية المسجد: كذبت والله لا تشق، فقال زمعة ابن الأسود: أنت والله أكذب ما رضينا كتابتها حين كُتبت، فقال أبو البختري: صدق زمعة لا نرضى ما كُتبت فيها، ولا نقر به، فقال المطعم بن عدي: صدقتما، وكذب من قال غير ذلك، نبرأ من الله منها ومما كتب فيها، وقال هشام بن عمرو نحوًا من ذلك؟ فقال أبو جهل: هذا أمر قضي بليل، تُشووِر فيه في غير هذا المكان، وأبو طالب جالس في ناحية المسجد لا يتكلم.
وقام المعطم بن عدي إلى الصحيفة ليشقها، فوجد الأرضة قد أكلتها إلا (باسمك اللهم) ([206])، وروى ابن إسحاق أن الله عز وجل أرسل على الصحيفة الأرضة فلم تدع فيها اسمًا لله عز وجل إلا أكلته، وبقي فيها الظلم والقطعية والبهتان وأخبر رسول
الله
صلى الله عليه وسلم بذلك عمه فذهب أبو طالب إلى قومه وأخبرهم بذلك، وقال لهم: فإن كان كاذبًا فلكم علي أن أدفعه إليكم ت***ونه، وإن كان صادقًا فهل ذلك ناهيكم عن تظاهركم علينا؟ فأخذ عليهم المواثيق وأخذوا عليه، فلما نشروها فإذا هي كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال المطعم بن عدي وهشام بن عمرو: نحن براء من هذه الصحيفة القاطعة العادية الظالمة، ولن نمالئ أحدًا في فساد أنفسنا وأشرافنا، وتتابع على ذلك ناس من أشراف قريش فخرجوا من الشِّعب([207]).

دروس وعبر وفوائد:
1- إن مشركي بني هاشم وبني المطلب تضامنوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وحموه كأثر من أعراف الجاهلية، ومن هنا ومن غيره نأخذ أنه يسع المسلم أن يستفيد من قوانين الكفر فيما يخدم الدعوة, على أن يكون ذلك مبنيًّا على فتوى صحيحة من أهلها([208]).
2- إن حقوق الإنسان في عصرنا ضمان للمسلم، والحرية الدينية في كثير من البلدان يستفاد منها، وقوانين كثيرة من أقطار العالم تعطي للمسلمين فرصًا وعلى المسلمين أن يستفيدوا من ذلك وغيره من خلال موزانات دقيقة([209]).
3- من المهم أن تعلم بأن حماية أقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم له، لم تكن حماية للرسالة التي بعث بها، وإنما كانت لشخصه من الغريب، وإذا أمكن أن تستغل هذه الحماية من قبل المسلمين كوسيلة من وسائل الجهاد والتغلب على الكافرين والرد لمكائدهم وعدوانهم فأنعم بذلك من جهد مشكور وسبيل ينتبهون إليها([210]).
4- انتصر أبو طالب في غزو المجتمع القرشي بقصائده الضخمة, التي هزت كيانه هزًّا وتحرك لنقض الصحيفة من ذكرنا من قبل، أولئك الخمسة الذين يمتون بصلة قرابة أو رحم لبني هاشم, وبني المطلب واستطاعوا أن يرفعوا هذا الظلامة, وهذا الحيف عن المسلمين وأنصارهم وحلفائهم وخططوا له ونجحوا فيه وفي هذا الموقف إشارة إلى أن كثيرًا من النفوس, والتي تبدو في ظاهر الأمر من أعمدة الحكم الجاهلي، قد تملك في أعماقها رفضًا لهذا الظلم والبغي، وتستغل الفرصة المناسبة لإزاحته، وعلى أبناء المسلمين أن يهتموا بهذه الشرائح، وينفذوا إلى أعماقها، وتوضح لهم حقيقة القرآن الكريم, والسنة النبوية الشريفة، وتبين لها طبيعة العداء بين الإسلام واليهود والصليبيين والعلمانية، فقد يستفاد منهم في خدمة الإسلام([211]).
5- وظاهرة أبي لهب تستحق الدراسة والعناية؛ لأنها تتكرر في التاريخ الإسلامي، فقد يجد الدعاة من أقرب حلفائهم من يقلب لهم ظهر المجن، ويبالغ في إيذاء الدعاة، وحربهم أكثر بكثير يلقونه من خصومهم الألداء الأشداء([212]).
6- كانت تعليمات الرسول صلى الله عليه وسلم لأفراد المسلمين ألاَّ يواجهوا العدو، وأن يضبطوا أعصابهم، فلا يشعلوا فتيل المعركة, أو يكونوا وقودها، وإن أعظم تربية في هذه المرحلة هي صبر أبطال الأرض على هذا الأذى, دون مقاومة. حمزة وعمر، وأبو بكر وعثمان، وغيرهم رضي الله عنهم، سمعوا وأطاعوا، فلقوا كل هذا الأذى وهذا الحقد، وهذا الظلم، فكفوا أيديهم، وصبروا ليس على حادثة واحدة فقط، أو يومًا واحدًا فقط بل ثلاث سنين عجاف, تحترق أعصابهم ولا يسمح لهم برمية سهم أو شجة رأس([213]).
7- أثبتت الأحداث عظمة الصف المؤمن, في التزامه بأوامر قائده، وبعده عن التصرفات الطائشة، فلم يكن شيء أسهل من اغتيال أبي جهل، وإشعال معركة غير مدروسة لا يعلم إلا الله مداها، وغير متكافئة.
8- كانت الدعوة الإسلامية تحقق انتصارات رائعة في الحبشة، وفي نجران، وفي أزد شنوءة، وفي دَوْس، وفي غفار، وكانت تتم في خط واضح, سيكون سندًا للإسلام والمسلمين ومراكز قوى يمكن أن تتحرك في اللحظة الحاسمة، وامتدادات للدعوة، تتجاوز حدود مكة الصلدة المستعصية.
9- كانت هذه السنوات الثلاثة للجيل الرائد, زادًا عظيمًا في البناء والتربية, حيث ساهم بعضه في تحمل آلام الجوع والخوف، والصبر على الابتلاء، وضبط الأعصاب، والضغط على النفوس والقلوب، ولجم العواطف عن الانفجار.
10- كانت بعض الشخصيات في الصف المشرك, تبني في داخلها بالتربية النبوية، وتتأثر بعظمة شخصية النبي صلى الله عليه وسلم، وتتفاعل في أعماقها مع المبادئ التي يقدمها الدين الجديد، لكن سيطرة الملأ وسطوة الكبراء, كانت تحول دون إبراز هذا التفاعل وهذا الحب وهذه التربية، وختام قصة الصحيفة تقدم لنا أجلى بيان عن ذلك([214]).
11- قيام الحجج الدامغة والبراهين الساطعة, والمعجزات الخارقة لا يؤثر في أصحاب الهوى وعبدة المصالح والمنافع؛ لأنهم يلغون عقولهم عن التدبر، ويصمون آذانهم عن سماع الحق، ويغمضون أعينهم عن النظر والتأمل والاهتداء إلى الحق بعد قيام الأدلة عليه، فلقد أخبرهم أبو طالب بما اخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم بما حدث للصحيفة من أكل الأرضة لها وبقاء اسم الله فقط (باسمك اللهم) ورأوا ذلك بأم أعينهم فما آمن منهم أحد، إنه الهوى الذي يُغشي عن الحق، ويصم الآذان عن سماعه([215]).
12- كانت حادثة المقاطعة الاقتصادية والاجتماعية سببًا في خدمة الدعوة والدعاية لها بين قبائل العرب، فقد ذاع الخبر في كل القبائل العربية من خلال موسم الحج, ولفت أنظار جميع الجزيرة العربية إلى هذه الدعوة التي يتحمل صاحبها وأصحابه الجوع والعطش والعزلة لكل هذا الوقت، أثار ذلك في نفوسهم أن هذه الدعوة حق، ولولا ذلك لما تحمل صاحب الرسالة وأصحابه كل هذا الأذى والعذاب.
13- أثار هذا الحصار سخط العرب على كفار مكة لقسوتهم على بني هاشم وبني المطلب، كما أثار عطفهم على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فما أن انفك الحصار حتى أقبل الناس على الإسلام، وحتى ذاع أمر هذه الدعوة وتردد صداها في كل بلاد العرب، وهكذا ارتد سلاح الحصار الاقتصادي على أصحابه، وكان عاملاً قويًّا من عوامل انتشار الدعوة الإسلامية عكس ما أراد زعماء الشرك تمامًا([216]).
14- كان لوقوف بني هاشم وبني المطلب مع رسول الله وتحملهم معه الحصار الاقتصادي والاجتماعي أثر في الفقه الإسلامي، حيث إن سهم ذوي القربى من الخمس يعطى لبني هاشم وبني المطلب, ويوضح ابن كثير هذا الحكم لدى تفسيره قوله تعالى: ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )[الأنفال:41].
فيقول: «وأما سهم ذوي القربى, فإنه يصرف إلى بني هاشم, وبني المطلب؛ لأن بني المطلب وازروا بني هاشم في الجاهلية, وفي أول الإسلام، ودخلوا معهم في الشعب غضبًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحماية لهم، مسلمهم طاعة لله ورسوله وكافرهم حمية للعشيرة وأنفة وطاعة لأبي طالب، وأما بنو عبد شمس, وبنو نوفل, وإن كانوا بني عمهم, فلم يوافقوهم على ذلك, بل حاربوهم ونابذوهم ومالؤوا بطون قريش على حرب الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا كان ذم أبي طالب لهم في قصيدته اللامية أشد من غيرهم لشدة قربهم.. وفي بعض الروايات هذا الحديث: «إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام» وهذا قول جمهور العلماء إنهم بنو هاشم وبنو المطلب»([217]).
15- لما أذن الله بنصر دينه، وإعزاز رسوله، وفتح مكة، ثم حجة الوداع، كان
النبي
صلى الله عليه وسلم يؤثر أن ينزل في خَيْف بني كنانة ليتذكر ما كانوا فيه من الضيق والاضطهاد، فيشكر الله على ما أنعم عليه من الفتح العظيم، ودخولهم مكة، التي أخرجوا منها، وليؤكد قضية انتصار الحق واستعلائه، وتمكين الله لأهله الصابرين,([218]) فعن أسامة بن زيد
t قال: قلت يا رسول الله أين تنزل غدًا؟ في حجته، قال: «وهل ترك لنا عقيل منزلا؟» ثم قال: «نحن نازلون غدا بخيف بني كنانة، المحصب، حيث قاسمت قريش على الكفر» وذلك أن بني كنانة حالفت قريشًا على بني هاشم, أن لا يبايعوهم, ولا يؤوهم، قال الزهري: والخيف الوادي([219]).

16- على كل شعب في أي وقت، يسعى لتطبيق شرع الله عليه، أن يضع في حسبانه احتمالات الحصار والمقاطعة من أهل الباطل، فالكفر ملة واحدة. فعلى قادة الأمة الإسلامية تهيئة أنفسهم وأتباعهم لمثل هذه الظروف، وعليهم وضع الحلول المناسبة لها إذا حصلت، وأن تفكر بمقاومة الحصار بالبدائل المناسبة, كي تتمكن الأمة من الصمود في وجه أي نوع من أنواع الحصار([220]).
* * *


([1]) صحيح السيرة النبوية، إبراهيم العلي، ص78. (2) فلك عقله: أي ديته إذا ***.
(3) البداية والنهاية (3/48).


([4]) انظر: فقه السيرة النبوية، ص184.
(1) السيرة النبوية لابن هشام (1/269) (2) سمراء: كناية عن الرمح.

(3) أبيض عضب: كناية عن السيف.


([8]) السيرة النبوية لابن هشام (1/273)
([9]) ونسلمه حتى نصرع حوله: أي كذبتم أن نسلمه قبل أن نصرع حوله.
([10]) الحلائل: الزوجات. (4) الروايا: الإبل التي تحمل الماء للساقية.

([12]) الدغاول: الدواهي. (6) قيل: الرئيس الكبير في اليمن.


([14]) انظر: فقه السيرة النبوية ص212. (8) بوائل: ناج.


([16]) انظر: فقه السيرة النبوية، ص212.
([17]) الزمزمة: كلام خفي لا يسمع.(2) العذق: النخلة.

([19]) الجناة: ما يجني من الثمر.
([20]) السير والمغازي لابن إسحاق، ص150، 151، تهذيب السيرة (1/64، 65).
([21]) انظر: الحرب النفسية ضد الإسلام، د. عبد الوهاب كحيل، ص103.
([22]) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي، (1/123).
([23]) انظر التاريخ الإسلامي للحميدي, (1/127: 137).
([24]) قاموس البحر: معناه وسطه، أو لجته أو قعره الأقصى.
([25]) مسلم، كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة رقم 868.
([26]) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (1/132، 133) وانظر: الوحي وتبليغ الرسالة، د.يحيى اليحيى. ص111: 113
([27]) انظر: صحيح مسلم،كتاب صلاة المسافرين. رقم 832.
([28]) انظر: التاريخ الإسلامي، (1/109) للحميدي. (2) انظر: الوحي وتبليغ الرسالة، ص106: 109.


([30]) انظر: الأساس في السنة (1/126) سعيد حوى.
([31]) صحيح مسلم (1/109). (3) صحيح البخاري فتح البخاري (6/107).

([33]) السيرة النبوية، ابن كثير (2/76) انظر: السيرة النبوية الصحيحة للدكتور العمري (1/146).
([34]) حصينة: يعني عاقلاً متحصنًا بدين آبائه وأجداده، ومعتقداتهم، انظر: النهاية لابن الأثير (1/234).
([35]) الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر (1/337) وعنه نقل الشيخ محمد يوسف في: حياة الصحابة(1/75، 76).
([36]) انظر: فقه الدعوة الفردية، د. السيد محمد نوح ص104.
([37]) صحيح البخاري (فتح الباري) (7/173).
([38]) ما شفيتني مما أردت: ما بلغتني غرضي وأزلت عني همي.
([39]) صحيح السيرة النبوية، إبراهيم العلي, ص83.
([40]) صحيح مسلم (4/1923) وشنفوا له: أي أبغضوه، وانظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/145).
([41]) انظر: الوحي وتبليغ الرسالة، د. يحيى اليحيى ص91: 93.
([42]) انظر: في السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية، د. إبراهيم علي, ص58،59.
([43]) انظر: دروس في الكتمان، محمود خطاب، ص9. (3) انظر: الوحي وتبليغ الرسالة ص95.

([45]) انظر: فتح الباري (7/134). (5) انظر: الوحي وتبليغ الرسالة، ص94، 95.

([47]) مسلم، كتاب الإمارة، باب كراهة الإمارة (3/1457) رقم 1825.
([48]) انظر: الوحي وتبليغ الرسالة، ص100.
([49]) انظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/45).
([50]) التاريخ الإسلامي للحميدي (1/144).
([51]) يعفر وجهه: أي يسجد ويلصق وجهه بالعفر وهو التراب.
([52]) فجئهم: بغتهم. (3) عقبيه: رجع يمشي إلى الوراء.


([54]) مسلم، كتاب صفات المنافقين، باب قوله ( إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى ) رقم 2797.
([55]) زبره: نهره. (6) الترمذي رقم 3349، حسن صحيح غريب.

([57]) القليب: البئر المفتوحة.
([58]) البخاري (فتح الباري 1/594) مسلم (3/1418-1420).
([59]) صحيح مسلم (3/1420).
([60]) انظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/149).
([61]) انظر: صحيح السيرة النبوية، إبراهيم العلي من طرق أخرى، ص96.
([62]) صحيح البخاري (فتح الباري 6/554، 555).
(1) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/293).

([64]) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/153).
([65]) سنن الترمذي (4/645) صححه الألباني صحيح الجامع (5001).
([66]) والد الرسول صلى الله عليه وسلم من الرضاعة. (5) الروض الأنف (2/33) وما بعدها.


([68]) المصدر السابق نفسه (2/48) (7) زاد اليقين لأبي شنب ص137.


([70]) انظر: التمكين للأمة الإسلامية ص243.
([71]) انظر: محنة المسلمين في العهد المكي، د. سليمان السويكت، ص197.
([72]) ابن ماجة باب الصبر على البلاء رقم الحديث 4023.
([73]) التمكين للأمة الإسلامية، ص243.
([74]) السيرة النبوية لابن كثير (1/439: 441) البداية والنهاية (3/30).
([75]) انظر: محنة المسلمين في العهد المكي، ص79.
([76]،2) انظر: السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية،ص50.

([78]) المصدر السابق، ص51.
([79]) نفس المصدر، ص50: 52، وقد استفدت من هذا الكتاب في هذه الدروس الأمنية.
([80]) انظر: محنة المسلمين في العهد المكي،ص79. (3) نفس المصدر، ص75.


([82]) مسند أحمد (1/404) بإسناد حسن.
(1) انظر: التربية القيادية (1/136).
([84]) السيرة النبوية لابن هشام (1/394).(3) انظر: التربية القيادية (1/140).

([86]) انظر: محنة المسلمين في العهد المكي ص92.
(5) صحيح مسلم (2/1910) رقم الحديث 2458.
(6) الطبقات الكبرى لابن سعد (3/232) ورجاله ثقات. (7) السيرة النبوية لابن هشام (1/393).

(1) حل: تحللي من يمينك. (2) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (1/393).



(3) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/346). (4) السيرة النبوية لابن هشام (1/393).
(5) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/345). (6) انظر: التربية القيادية (1/342).




([96]) سيرة ابن هشام (1/319)، تفسير الآلوسي (30/152).
([97]) انظر: أنساب الأشراف للبلاذري (1/100، 157).(3) السيرة النبوية لابن هشام (2/68).

([99]) بهجة المحافل للعامري (1/92). (5) صحيح السيرة النبوية، إبراهيم العلي، ص97، 98.

([101]) انظر: محنة المسلمين في العهد المكي، ص99. (7) التربية القيادية (1/217).


([103]) صحيح السيرة النبوية ص 98. (2) التربية القيادية (1/217، 218).


([105]) انظر: محنة المسلمين في العهد المكي، ص100.
([106]) انظر: فقه السيرة للغزالي، ص103. (5) المصدر السابق، ص103.

([108]) تفسير ابن كثير (3/446). (2) صحيح مسلم (2/1877، 1878).

([110]) انظر: محنة المسلمين في العهد المكي، ص106.
([111]) انظر: الولاء والبراء، محمد القحطاني، ص174، 175.
([112]) الطبقات الكبرى (3/116).
([113]) القعب: القدح الغليظ، والحيس: تمر وأقط وسمن تخلط وتعجن.
([114]) الروض الأنف (2/195).(8) سير أعلام النبلاء للذهبي (3/10-12).

([116]) انظر: محنة المسلمين في العهد المكي ص107. (2) السير والمغازي لابن إسحاق ص193.

([118]) الطبقات الكبرى (3/116).(4) انظر: محنة المسلمين في العهد المكي ص108.

([120]) انظر: مصعب بن عمير الداعية المجاهد، محمد بريغش ص105.
([121]) المصدر السابق نفسه، ص105: 107. (7) انظر: مصعب بن عمير الداعية المجاهد، ص126.

([123]) قينًا: حدادًا. (9) سير أعلام النبلاء (2/479).

([125]) انظر: محنة المسلمين في العهد المكي، ص95.
(1) انظر: محنة المسلمين في العهد المكي، ص96.
([127]) البخاري، مناقب الأنصار، باب ما لقي النبي وأصحابه (4/238).
([128]) انظر: الغرباء الأولون، ص145، 146. (2) مسند أحمد (5/111).

([130]) الروض الأنف (2/98).
([131]) البداية والنهاية (3/32)، سير أعلام النبلاء (1/465).
([132]) انظر: عبد الله بن مسعود، عبد الستار الشيخ، ص43.
([133]) الإصابة، (6/214). (4) انظر: عبد الله بن مسعود، ص45.

([135]) انظر: ابن هشام (1/314، 315) أسد الغابة (3/385، 386).
([136]) انظر: محنة المسلمين في العهد المكي، ص88. (3) انظر: سير أعلام النبلاء (1/260).

(4) السيرة النبوية للذهبي، ص112.
([139]) السيرة النبوية لابن هشام (2/120). (2) انظر: طبقات الشعراء لابن سلام، ص48، 49.


([141]) السير والمغازي لابن إسحاق، ص178: 180. (4) صحيح البخاري (4/265).


([143]) انظر: محنة المسلمين في العهد المكي ص116، 117.
([144]) انظر: السيرة النبوية الصحيحة، (1/158). (3) الظلال: (2/714).


([146]) ابن الدغنة: رجل جاهلي أجار أبي بكر عندما أخرجه قومه وأراد الهجرة إلى الحبشة، انظر: الإصابة (2/344).
([147]) الولاء والبراء, محمد القحطاني، لخص نقاطًا من الظلال ص169: 171، وفي ظلال القرآن (2/714، 715) وفي معالم في الطريق (ص69: 71).
([148]) انظر: التفسير المنير للزحيلي (7/325). (3) المصدر السابق نفسه، (7/326).

([150]) انظر: الولاء والبراء، ص171.
([151]) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/160).
([152]) انظر: الحرب النفسية ضد الإسلام، د. عبد الوهاب كحيل، ص128.
([153]) أخرجه الترمذي وصححه، كتاب الزهد (4/515) رقم 2390.
([154]) البخاري، كتاب الأدب، رقم 6076، (7/119).
([155]) انظر: الحرب النفسية ضد الإسلام، ص125: 140.
([156]) انظر: الحرب النفسية ضد الإسلام، ص269. (3) نفس المصدر، ص270، 271.


([158]) انظر: الحرب النفسية ضد الإسلام، ص270، 271. (2) نفس المصدر، ص271.
؛
([160]) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/167) مع تصرف في العدد بدل مائة بلايين.
([161]) تفسير ابن عطية (15/316)، القاسمي (17/54).
([162]) انظر: المستفاد من قصص القرآن، عبد الكريم زيدان (2/89).
([163]) انظر: السيرة النبوية لابن كثير (2/4).
([164]) البداية والنهاية لابن كثير (3/68، 69). (2) السيرة النبوية لابن هشام (1/294).

([166]) انظر: التحالف السياسي في الإسلام، منير الغضبان ص33.
([167]) انظر: معين السيرة للشامي، ص75. (5) صحيح الجامع الصغير (5/138).

(1) انظر: فقه السيرة النبوية للغضبان، ص169. (2) انظر: السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر، ص87.

([171]) انظر: التربية القيادية (1/304). (4) انظر: الوفود في العهد المكي، لعلي الأسطل، ص37.

([173]) السيرة النبوية لابن هشام (1/296,295) التربية القيادية (1/305).
([174]) تاريخ صدر الإسلام، عبد الرحمن الشجاع، ص39.
([175]) ابن هشام (1/362).
([176]) انظر: في ظلال القرآن (6/3991).
([177]) أسباب النزول للواحدي، ص200، ونور اليقين للخضري، ص61.
([178]) في السيرة النبوية، قراءة لجوانب الحذر والحماية، ص89.
([179]) مجلة المجتمع الكويتية، عدد رقم 428، 17 صفر 1399هـ، نقلا عن السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية.
([180]) انظر: في السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية، ص91.
([181]) تفسير ابن كثير (2/172).
(1) تفسير ابن كثير (4/244).
([183]) في ظلال القرآن (6/3399)
([184]) انظر:مقومات الداعية الناجح، د. علي بادحدح، ص59: 68، الأساليب السابقة من هذا الكتاب.
([185]) انظر: المعوقون للدعوة الإسلامية، د. سميرة محمد، ص171، 172.
([186]) انظر: التربية القيادية (1/311). (3) نفس المصدر (1/311).


([188]) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (1/459).(5) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/317).


([190]) يعني لو أن هناك قرآنا بهذه المثابة لكان هذا القرآن الكريم، فهو ليس له مثيل لا من قبل ولا من بعد، جواب (لو) محذوف دل عليه المقام.
([191]) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/320، 321).
([192]) صحيح السيرة النبوية، ص90.
([193]) انظر: الوفود في العهد المكي، ص40: 51.
([194]) معالم قرآنية في الصراع مع اليهود، ص30، 31، مصطفى مسلم.
([195]) انظر: اليهود في السنة المطهرة، د. عبد الله الشقاري (1/188).
([196]) أي: لم يقل: (إن شاء الله).
([197]) انظر: مباحث في التفسير الموضوعي، مصطفى مسلم، ص189.
([198]) انظر: تأملات في سورة الكهف للشيخ أبي الحسن الندوي، ص46، وانظر: معالم قرآنية في الصراع مع اليهود، ص61.
([199]) انظر: ظاهرة الإرجاء، د. سفر الحوالي (1/50).
([200]) تفاصيل قصة الشعب وما تخللها من أحداث، دلائل النبوة للبيهقي (2/80: 85) السيرة النبوية لابن كثير (2/43: 71) الروض الأنف (2/101: 129).
([201]) السيرة النبوية لابن هشام (1/350)، زاد المعاد (2/46), الكامل في التاريخ (2/87).
([202]) انظر: ظاهرة الإرجاء (1/51).
(1) انظر: فقه السيرة النبوية للغضبان، ص180.

([204]) انظر: الغرباء الأولون ص 148، نقلا عن حلية الأولياء ترجمة رقم 7.
([205]) المصدر السابق نفسه، ص148.
([206]) انظر: السيرة النبوية لابن كثير (2/43: 50، 67: 69)
([207]) السير والمغازي لابن إسحاق ص156: 162.
([208]) انظر: الأساس في السنة وفقهها - السيرة النبوية، سعيد حوى، (1/264).
([209]) المصدر السابق نفسه، ص264.
(1) انظر: فقه السيرة النبوية، للبوطي، ص88.
([211]) انظر: فقه السيرة النبوية للغضبان، ص185. (3) المرجع السابق، ص186.

([213]) انظر: التربية القيادية (1/371).
(1) التربية القيادية (1/384، 385). (2) السيرة النبوية لأبي فارس، ص167.


([216]) انظر: الحرب النفسية ضد الإسلام، د. عبد الوهاب كحيل، ص101.
([217]) تفسير ابن كثير، (2/312).
([218]) انظر: الغرباء الأولون، ص149.
([219]) البخاري، كتاب الجهاد 180، باب إذا أسلم قوم في دار الحرب (4/33).
([220]) انظر: في السيرة النبوية قراءة في جوانب الحذر والحماية، ص98.

محمد رافع 52 23-09-2014 09:37 PM

الفصل الرابع


هجرة الحبشة ومحنة الطائف ومنحة الإسراء


المبحث الأول


تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع سنة الأخذ بالأسباب

من السنن الربانية التي تعامل معها النبي صلى الله عليه وسلم سنة الأخذ بالأسباب، والأسباب جمع سبب، وهو كل شيء توصل به إلى غيره، وسنة الأخذ بالأسباب مقررة في كون الله تعالى، بصورة واضحة، فلقد خلق الله هذا الكون بقدرته، وأودعه من القوانين والسنن, ما يضمن استقراره واستمراره، وجعل المسببات مرتبطة بالأسباب بعد إرادته تعالى، فأرسى الأرض بالجبال، وأنبت الزرع بالماء... وغير ذلك.
ولو شاء الله رب العالمين, لجعل كل هذه الأشياء وغيرها -بقدرته المطلقة- غير محتاجة إلى سبب، ولكن هكذا اقتضت مشيئة الله تعالى وحكمته، الذي يريد أن يوجه خلقه إلى ضرورة مراعاة هذه السنة ليستقيم سير الحياة على النحو الذي يريده سبحانه، وإذا كانت سنة الأخذ بالأسباب مبرزة في كون الله تعالى بصورة واضحة، فإنها كذلك مقررة في كتاب الله تعالى، ولقد وجه الله عباده المؤمنين إلى وجوب مراعاة هذه السنة في كل شؤونهم الدنيوية, والأخروية سواء، قال تعالى ( وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ )[التوبة:105].
وقال تعالى: ( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ )[الملك:15].
ولقد أخبرنا القرآن الكريم أن الله تعالى طلب من السيدة مريم أن تباشر الأسباب وهي في أشد حالات ضعفها قال تعالى: ( وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا )[مريم:25].
وهكذا يؤكد الله تعالى على ضرورة مباشرة الأسباب في كل الأمور والأحوال.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان أوعى الناس بهذه السنة الربانية، فكان -وهو يؤسس لبناء الدولة الإسلامية- يأخذ بكل ما في وسعه من أسباب، ولا يترك شيئًا يسيرًا جزافًا وقد لمسنا ذلك فيما مضى وسنلمس ذلك فيما بقي بإذن الله تعالى.
وكان عليه الصلاة والسلام يوجه أصحابه دائمًا إلى مراعاة هذه السنة الربانية في أمورهم الدنيوية والأخروية على السواء([1]).
التوكل على الله والأخذ بالأسباب:
التوكل على الله تعالى لا يمنع من الأخذ بالأسباب، فالمؤمن يتخذ الأسباب من باب الإيمان بالله وطاعته فيما يأمر به من اتخاذها، ولكنه لا يجعل الأسباب هي التي تنشئ النتائج فيتوكل عليها.
إن الذي ينشئ النتائج كما ينشئ الأسباب هو قدر الله, ولا علاقة بين السبب والنتيجة في شعور المؤمن، اتخاذ السبب عبادة بالطاعة، وتحقق النتيجة قدر من الله مستقل عن السبب لا يقدر عليه إلا الله؛ وبذلك يتحرر شعور المؤمن من التعبد للأسباب والتعلق بها، وفي الوقت ذاته هو يستوفيها بقدر طاقته, لينال ثواب طاعة الله في استيفائها([2]).
ولقد قرر النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة ضرورة الأخذ بالأسباب, مع التوكل على الله تعالى، كما نبه عليه السلام على عدم تعارضهما.
يروي أنس بن مالك t أن رجلا وقف بناقته على باب المسجد وهم بالدخول، فقال يا رسول الله، أرسل راحلتي وأتوكل؟- وكأنه كان يفهم أن الأخذ بالأسباب ينافي التوكل على الله تعالى، فوجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن مباشرة الأسباب أمر مطلوب ولا ينافي بحال من الأحوال التوكل على الله تعالى ما صدقت النية في الأخذ بالأسباب- فقال له صلى الله عليه وسلم: «بل قيدها وتوكل»([3]).
وهذا الحديث من الأحاديث التي تبين أنه لا تعارض بين التوكل والأخذ بالأسباب، بشرط عدم الاعتقاد في الأسباب, والاعتماد عليها ونسيان التوكل على الله، وروى عمر ابن الخطاب t عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصًا وتروح بطانًا» ([4]).
وفي هذا الحديث الشريف حث على التوكل مع الإشارة إلى أهمية الأخذ بالأسباب, حيث أثبت الغدو والرواح للطير مع ضمان الله تعالى الرزق لها.
ولا بد للأمة الإسلامية أن تدرك أن الأخذ بالأسباب للوصول إلى التمكين أمر لا محيص عنه، وذلك بتقرير الله تعالى حسب سنته التي لا تتخلف, ومن رحمة الله تعالى أنه لم يطلب من المسلمين فوق ما يستطيعونه من الأسباب، ولم يطلب منهم أن يعدوا العدة التي تكافئ تجهيز الخصم ولكنه سبحانه قال: ( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ )[الأنفال:60].
فكأنه تعالى يقول لهم: افعلوا أقصى ما تستطيعون, احشدوا أقصى إمكاناتكم, ولو كانت دون إمكانات الخصوم، فالاستطاعة هي الحد الأقصى المطلوب، وما يزيد على ذلك يتكفل الله تعالى به, بإمكاناته التي لا حدود لها؛ وذلك لأن فعل أقصى المستطاع هو برهان الإخلاص، وهو الشرط المطلوب لينزل عون الله ونصره([5]).
إن النداء اليوم موجه لجماهير الأمة الإسلامية بأن يتجاوزوا مرحلة الوهن والغثاء, إلى مرحلة القوة والبناء, وأن يودّعوا الأحلام والأمنيات وينهضوا للأخذ بكل الأسباب, التي تعينهم على إقامة دولة الإسلام، وصناعة حضارة الإنسان الموصول برب العالمين.

* * *

محمد رافع 52 23-09-2014 09:43 PM

المبحث الثاني


الهجرة إلى الحبشة

أولاً: الهجرة الأولى إلى أرض الحبشة:
1- أسباب الهجرة إلى الحبشة:
اشتد البلاء على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل الكفار يحبسونهم ويعذبونهم, بالضرب والجوع والعطش, ورمضاء مكة والنار؛ ليفتنوهم عن دينهم، فمنهم من يفتتن من شدة البلاء وقلبه مطمئن بالإيمان، ومنهم من تصلب في دينه وعصمه الله منهم، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء، وما هو فيه من العافية لمكانه من الله، ومن عمه أبي طالب، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء، قال لهم: «لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكًا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق حتى يجعل لكم فرجا مما أنتم فيه»، فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة، مخافة الفتنة، وفرارا إلى الله بدينهم، فكانت أول هجرة كانت في الإسلام.([6])
وقد ذكر الباحثون أسبابا عديدة في سبب هجرة المسلمين إلى الحبشة منها ما
ذكرت، ومنها:

*ظهور الإيمان:
حيث كثر الداخلون في الإسلام، وظهر الإيمان, وتحدث الناس به، قال الزهري في حديثه عن عروة في هجرة الحبشة: فلما كثر المسلمون، وظهر الإيمان فُتحدث به, ثار المشركون من كفار قريش بمن آمن من قبائلهم يعذبونهم ويسجنونهم وأرادوا فتنتهم عن دينهم فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للذين آمنوا به: «تفرقوا في الأرض» قالوا: فأين نذهب يا رسول الله، قال: «هاهنا» وأشار إلى أرض الحبشة([7]).
*ومنها الفرار بالدين:
كان الفرار بالدين خشية الافتتان فيه سببًا مهمًّا من أسباب هجرتهم للحبشة قال ابن إسحاق: «فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة وفرارا إلى الله بدينهم» ([8]).
*ومنها: نشر الدعوة خارج مكة:
قال الأستاذ سيد قطب: «ومن ثم كان يبحث الرسول صلى الله عليه وسلم عن قاعدة أخرى غير مكة، قاعدة تحمي هذه العقيدة وتكفل لها الحرية، ويتاح فيها أن تتخلص من هذا التجميد الذي انتهت إليه في مكة، حيث تظفر بحرية الدعوة وحماية المعتنقين لها من الاضطهاد والفتنة، وهذا في تقديري كان هو السبب الأول والأهم للهجرة، ولقد سبق الاتجاه إلى الحبشة، حيث هاجر إليها كثير من المؤمنين الأوائل، القول بأنهم هاجروا إليها لمجرد النجاة بأنفسهم لا يستند إلى قرائن قوية، فلو كان الأمر كذلك لهاجر إذن أقل الناس وجاهة وقوة ومنعة من المسلمين، غير أن الأمر كان على الضد من هذا، فالموالي المستضعفون الذين كان ينصب عليهم معظم الاضطهاد وال***** والفتنة لم يهاجروا، إنما هاجر رجال ذوو عصبيات، لهم من عصبيتهم في بيئة قبلية ما يعصمهم من الأذى, ويحميهم من الفتنة، وكان عدد القرشيين يؤلف غالبية المهاجرين...»([9]).
ووافق الأستاذ الغضبان الأستاذ سيد في ما ذهب إليه: «وهذه اللفتة العظيمة من (سيد) رحمه الله لها في السيرة ما يعضدها ويساندها، وأهم ما يؤكدها في رأيي هو الوضع العام الذي انتهى إليه أمر مهاجرة الحبشة، فلم نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث في طلب مهاجرة الحبشة حتى مضت هجرة يثرب, وبدر وأحد والخندق والحديبية، لقد بقيت يثرب معرضة لاجتياح كاسح من قريش خمس سنوات، وكان آخرها هذا الهجوم والاجتياح في الخندق، وحين اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن المدينة قد أصبحت قاعدة أمينة للمسلمين, وانتهى خطر اجتياحها من المشركين, عندئذ بعث في طلب المهاجرين من الحبشة، ولم يعد ثمة ضرورة لهذه القاعدة الاحتياطية, التي كان من الممكن أن يلجأ إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم لو سقطت يثرب في يد العدو([10]).
ويميل الأستاذ دروزة إلى أن فتح مجال للدعوة في الحبشة كان سببًا من أسباب هجرة الحبشة حيث يقول: «بل إنه ليخطر بالبال أن يكون من أسباب اختيار الحبشة النصرانية أمل وجود مجال للدعوة فيها، وأن يكون هدف انتداب جعفر متصلاً بهذا الأمل»([11]) وذهب إلى هذا القول الدكتور سليمان بن حمد العودة: ومما يدعم الرأي القائل بكون الدعوة للدين الجديد في أرض الحبشة سببًا وهدفًا من أسباب الهجرة, إسلام النجاشي، وإسلامُ آخرين من أهل الحبشة، وأمر آخر، فإذا كان ذهاب المهاجرين للحبشة بمشورة النبي صلى الله عليه وسلم وتوجيهه فبقاؤهم في الحبشة إلى فتح خيبر بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وتوجيهه، وفي صحيح البخاري: فقال جعفر: للأشعريين – حين وافقوه بالحبشة: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثنا هنا، وأمرنا بالإقامة فأقيموا معنا»([12]).
وهذا يعني أنهم ذهبوا لمهمة معينة -ولا أشرف من مهمة الدعوة لدين الله- وأن هذه المهمة قد انتهت حين طلب المهاجرون([13]).
* ومنها البحث عن مكان آمن للمسلمين:
كانت الخطة الأمنية للرسول صلى الله عليه وسلم تستهدف الحفاظ على الصفوة المؤمنة؛ ولذلك رأى الرسول صلى الله عليه وسلم أن الحبشة تعتبر مكانًا آمنًا للمسلمين ريثما يشتد عود الإسلام وتهدأ العاصفة، وقد وجد المهاجرون في أرض الحبشة ما أمنهم وطمأنهم، وفي ذلك تقول أم سلمة رضي الله عنها: (لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشي، أَمِنَّا على ديننا وعبدنا الله تعالى لا نؤذى...)([14]).
2- لماذا اختار النبي صلى الله عليه وسلمالحبشة؟
هناك عدة أسباب تساعد الباحث للإجابة عن لماذا اختار النبي صلى الله عليه وسلم الحبشة؟ منها:
أ- النجاشي العادل:
أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى عدل النجاشي بقوله لأصحابه: «لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكًا لا يظلم عنده أحد»([15]).
ب- النجاشي الصالح:
فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ثناؤه على ملك الحبشة بقوله: «وكان بالحبشة ملك صالح يقال له النجاشي، لا يظلم أحد بأرضه»، وكان يُنْثَي (يشاع) عليه مع ذلك صلاحه([16]) ويظهر هذا الصلاح في حمايته للمسلمين، وتأثره بالقرآن الكريم عندما سمعه من جعفر t، وكان معتقده في عيسى عليه السلام صحيحًا.
ج- الحبشة متجر قريش:
إن التجارة كانت عماد الاقتصاد القرشي، والحبشة تعتبر من مراكز التجارة في
الجزيرة، فربما عرفها بعض المسلمين عندما ذهبوا إليها في التجارة، أو ذكرها لهم من
ذهب إليهم قبلهم, وقد ذكر الطبري في معرض ذكره لأسباب الهجرة للحبشة: «وكانت
أرض الحبشة متجرًا لقريش، يتجرون فيها، يجدون فيها رفاها من الرزق وأمنًا،
ومتجرًا حسنًا»([17]).

د- الحبشة البلد الآمن:
فلم يكن في حينها في خارج الجزيرة بلد أكثر أمنًا من بلاد الحبشة، ومن المعلوم بُعد الحبشة عن سطوة قريش من جانب وهي لا تدين لقريش بالاتباع كغيرها من القبائل([18])، وفي حديث ابن إسحاق عن أسباب اتخاذ الحبشة مكانًا للهجرة أنها: أرض صدق، وأن بها ملكًا لا يظلم عنده أحد([19]) فهي أرض صدق، وملكها عادل، وتلك من أهم سمات البلد الآمن([20]).
هـ- محبة الرسول صلى الله عليه وسلم للحبشة ومعرفته بها:
ففي حديث الزهري أن الحبشة كانت أحب الأرض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهاجر إليها([21]) ولعل تلك المحبة لها أسباب منها:
* حكم النجاشي العاجل.
* التزام الأحباش بالنصرانية، وهي أقرب إلى الإسلام من الوثنية.
* معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم بأخبار الحبشة من خلال حاضنته أم أيمن رضي الله عنها، وأم أيمن هذه ثبت في صحيح مسلم وغيره أنها كانت حبشية([22])، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان خبيرًا بطبائع وأحوال الدول التي في زمانه.
3- وقت خروج المهاجرين، وسرية الخروج والوصول إلى الحبشة:
غادر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في رجب من السنة الخامسة للبعثة، وكانوا عشرة رجال، وأربع نسوة، وقيل: خمس نسوة، وحاولت قريش أن تدركهم لتردهم إلى مكة, وخرجوا في أثرهم حتى وصلوا البحر، ولكن المسلمين كانوا قد أبحروا متوجهين إلى الحبشة([23]).
وعند التأمل في فقه المرويات يتبين لنا سرية المهاجرين, ففي رواية الواقدي: «فخرجوا متسللين سرًا» ([24]) وعنه الطبري([25]) وممن ذكر السرية في الهجرة، ابن سيد الناس([26])، وابن القيم([27]) والزرقاني([28])، ولما وصل المسلمون إلى أرض الحبشة أكرم النجاشي مثواهم، وأحسن لقاءهم ووجدوا عنده من الطمأنينة بالأمن ما لم يجدوه في وطنهم وأهليهم.
إن المتأمل في أسماء الصحابة الذين هاجروا ([29])لا يجد فيهم أحدًا من الموالي الذين نالهم من أذى قريش و*****ها أشد من غيرهم، كبلال، وخباب، وعمار رضي الله عنهم، بل نجد غالبيتهم من ذوي النسب والمكانة في قريش، ويمثلون عددًا من القبائل، صحيح أن الأذى شمل ذوي النسب والمكانة كما طال غيرهم، ولكنه كان على الموالي أشد في بيئة تقيم وزنًا للقبيلة وترعى النسب، وبالتالي فلو كان الفرار من الأذى وحده, هو السبب في الهجرة، لكان هؤلاء الموالي المعذبون أحق بالهجرة من غيرهم، ويؤيد هذا أن ابن إسحاق وغيره ذكر عدوان المشركين على المستضعفين ولم يذكر هجرتهم للحبشة([30]).
ويصل الباحث إلى حقيقة مهمة ألا وهي أن ثمة أسبابًا أخرى, تدفع للهجرة غير الأذى اختار لها النبي صلى الله عليه وسلم نوعية من أصحابه، تمثل عددًا من القبائل، وقد يكون لذلك أثر في حمايتهم, لو وصلت قريش إلى إقناع أهل الحبشة بإرجاعهم من جانب، وتهز هجرتهم قبائل قريش كلها أو معظمهم من جانب آخر، فمكة ضاقت بأبنائها، ولم يجدوا بدًّا من الخروج عنها بحثًا عن الأمن في بلد آخر، ومن جانب ثالث, يرحل هؤلاء المهاجرون بدين الله لينشروه إلى الآفاق، وقد تكون محلاً أصوب وأبرك للدعوة إلى الله فتتفتح عقول وقلوب حين يستغلق سواها([31]).
عاش المسلمون ثلاثة أشهر من بدء الهجرة، وحدث تغير كبير على حياة المسلمين في مكة، وهناك ظروف نشأت لم تكن موجودة من قبل، بعثت في المسلمين الأمل في إمكان نشر الدعوة في مكة، حيث أسلم في تلك الفترة حمزة بن عبد المطلب, عم رسول الله صلى الله عليه وسلم عصبية لابن أخيه, ثم شرح الله صدره للإسلام، فثبت عليه, وكان حمزة أعز فتيان قريش وأشدهم شكيمة، فلما دخل في الإسلام عرفت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عز وامتنع وأن عمه سيمنعه ويحميه، فكفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه([32]).
وبعد إسلام حمزة t أسلم عمر بن الخطاب t، وكان عمر ذا شكيمة لا يرام، فلما أسلم امتنع به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبحمزة حتى عازَّوا قريشًا([33]).
كان إسلام الرجلين العظيمين بعد خروج المسلمين إلى الحبشة، فكان إسلامُهما عزةً للمسلمين وقهرًا للمشركين وتشجيعًا لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على المجاهرة بعقيدتهم.
قال ابن مسعود: إن إسلام عمر كان فتحًا، وإن هجرته كانت نصرًا، وإن إمارته كانت رحمة، ولقد كنا ما نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر، فلما أسلم قاتل قريشًا حتى صلى عند الكعبة وصلينا معه([34]).
وعن ابن عمر قال: «لما أسلم عمر قال: أيُّ قريش أنقل للحديث؟ قيل له: جميل بن معمر الجُمحي، قال: فغدا عليه، قال عبد الله: وغدوت معه أتبع أثره, وأنظر ماذا يفعل حتى جاءه فقال له: أعلمت يا جميل أني أسلمت ودخلت في دين محمد؟ قال: فوالله ما راجعه حتى قام يجر رداءه وتبعه عمر، واتبعت أبي حتى إذا قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش وهم في أنديتهم حول الكعبة – ألا إن ابن الخطاب قد صبأ([35]) قال: يقول عمر من خلفه: كذب، ولكني أسلمت, وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، وثاروا إليه فما برح يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رؤوسهم وَطَلِح فقعد, وقاموا على رأسه وهو يقول: افعلوا ما بدا لكم فأحلف بالله أن لو كنا ثلاثمائة لقد تركناها أو تركتموها لنا([36]) «لقد أصبح المسلمون إذًا في وضع غير الذي كانوا فيه قبل الهجرة إلى الحبشة، فقد امتنعوا بحمزة وعمر رضي الله عنهما، واستطاعوا أن يصلوا عند الكعبة بعد أن كانوا لا يقدرون على ذلك، وخرجوا من بيت الأرقم بن أبي الأرقم مجاهرين حتى دخلوا المسجد، وكفت قريش عن إيذائهم بالصورة الوحشية التي كانت تعذبهم بها قبل ذلك، فالوضع قد تغير بالنسبة للمسلمين، والظروف التي كانوا يعيشون فيها قبل الهجرة قد تحولت إلى أحسن، فهل ترى هذا يخفى على أحد؟ وهل تظن أن هذه التغييرات التي جرت على حياة المسلمين في مكة لم تصل إلى أرض الحبشة، ولو عن طريق البحارة الذين كانوا يمرون بجدة؟
لا بد أن كل ذلك قد وصلهم، ولا شك أن هؤلاء الغرباء قد فرحوا بذلك كثيرًا، ولا يستغرب أحد بعد ذلك أن يكون الحنين إلى الوطن، وهو فطرة فطر الله عليها جميع المخلوقات، قد عاودهم ورغبت نفوسهم في العودة إلى حيث الوطن العزيز مكة أم القرى، وإلى حيث يوجد الأهل والعشيرة فعادوا إلى مكة في ظل الظروف الجديدة والمشجعة، وتحت إلحاح النفس وحنينها إلى حرم الله وبيته العتيق»([37]).
لقد رجع المهاجرون إلى مكة بسبب ما علموا من إسلام حمزة وعمر, واعتقادهم أن إسلام هذين الصحابيين الجليلين سيعتز به المسلمون وتقوى شوكتهم.
ولكن قريشًا واجهت إسلام حمزة وعمر رضي الله عنهما بتدبيرات جديدة يتجلى فيها المكر والدهاء من ناحية، والقسوة وال*** من ناحية أخرى، فزادت في أسلحة الإرهاب التي تستعملها ضد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم سلاحًا قاطعًا وهو سلاح المقاطعة الاقتصادية، وقد تحدثت عنه, وكان من جراء ذلك الموقف العنيف أن رجع المسلمون إلى الحبشة مرة ثانية، وانضم إليهم عدد كبير ممن لم يهاجروا قبل ذلك([38]).

محمد رافع 52 23-09-2014 09:48 PM

ثانيًا: هجرة المسلمين الثانية إلى الحبشة:
قال ابن سعد: قالوا: لما قدم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مكة من الهجرة الأولى, اشتد عليهم قومهم، وسطت بهم عشائرهم ولقوا منهم أذى شديدًا، فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى أرض الحبشة مرة ثانية، فكانت خرجتهم الثانية أعظمها مشقة، ولقوا من قريش تعنيفًا شديدًا ونالوهم بالأذى، واشتد عليهم ما بلغهم عن النجاشي من حسن جواره لهم، فقال عثمان بن عفان: يا رسول الله فهجرتنا الأولى وهذه الآخرة ولست معنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنتم مهاجرون إلى الله تعالى وإليَّ، لكم هاتان الهجرتان جميعًا» قال عثمان: فحسبنا يا رسول الله([39]).
وهاجر معهم كثيرون غيرهم أكثر منهم وعدتهم -كما قال ابن إسحاق وغيره ثلاثة وثمانون رجلاً إن كان عمار بن ياسر فيهم واثنان وثمانون رجلاً إن لم يكن فيهم، قال السهيلي وهو الأصح عند أهل السير كالواقدي، وابن عقبة وغيرهما([40]) وثماني عشرة امرأة: إحدى عشرة قرشيات، وسبع غير قرشيات، وذلك عدا أبنائهم الذين خرجوا معهم صغارًا، ثم الذين ولدوا لهم فيها([41]).
1- سعي قريش لدى النجاشي في رد المهاجرين:
فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمنوا، واطمأنوا بأرض الحبشة، وأنهم قد أصابوا بها دارًا واستقرارًا، وحسن جوار من النجاشي، وعبدوا الله لا يؤذيهم أحد، ائتمروا فيما بينهم أن يبعثوا وفدا للنجاشي لإحضار من عنده من المسلمين إلى مكة بعد أن يوقعوا بينهم وبين ملك الحبشة, إلا أن هذا الوفد خدم الإسلام والمسلمين من حيث لا يدري، فقد أسفرت مكيدته عند النجاشي عن حوار هادف دار بين أحد المهاجرين وهو جعفر بن أبي طالب، وبين ملك الحبشة, أسفر هذا الحوار عن إسلام النجاشي، وتأمين المهاجرين المسلمين عنده([42]).
فعن أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خيرَ جار (النجاشي) أمنا على ديننا وعبدنا الله تعالى, لا نؤذى, ولا نسمع شيئًا نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشًا ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين جلدين([43]) وأن يهدوا للنجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة، وكان من أعجب ما يأتيه منها إليه الأدم([44]) فجمعوا له أدمًا كثيرًا، ولم يتركوا من بطارقته([45]) بطريقًا إلا أهدوا له هدية، ثم بعثوا بذلك عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي، وعمرو بن العاص بن وائل السهمي، وأمروهما أمرهم، وقالوا لهما: ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلموا النجاشي فيهم، ثم قدموا للنجاشي هداياه، ثم سلوه أن يُسلِمَهم إليكم قبل أن يكلمهم قالت: فخرجا فقدما على النجاشي، ونحن عنده بخير دار وخير جار، فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشي، ثم قالا لكل بطريق منهم: إنه صبأ إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينكم، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشرف قومهم، لنردهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا، ولا يكلمهم فإن قومهم أعلى([46]) بهم عينًا، وأعلم بما عابوا عليهم، فقالوا لهما: نعم ثم إنهما قرَّبا هداياهم إلى النجاشي فقبلها منهما، ثم كلماه فقالا: أيها الملك، إنه صبا إلى بلدك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم, ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنت, وقد بَعَثَنَا إليك فيهم أشرافُ قومهم من آبائهم وأعمامهم, لتردهم إليهم, فهم أعلى بهم عينًا، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه.
قالت: ولم يكن شيء أبغضَ إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع النجاشي كلامهم، فقالت بطارقته حوله: صدقوا أيها الملك قومَهم أعلى بهم عينًا وأعلم بما عابوا عليهم فأسلمهم إليهما فليرداهم إلى بلادهم وقومهم.
قالت: فغضب النجاشي ثم قال: لا هَيْمُ([47]) الله إذن لا أسلمهم إليهما ولا أُكادُ([48]) قومًا جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي، حتى أدعوهم فأسألهم ما يقول هذان في أمرهم؟ فإن كانوا كما يقولون أسلمتهم إليهما, ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما، وأحسنت جوارهم، ما جاوروني([49]).
2- حوار بين جعفر والنجاشي:
ثم أرسل النجاشي إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم، فلما جاءهم رسوله اجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعض ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول والله ما علمنا وما أمرنا به نبيّنا صلى الله عليه وسلم كائنًا في ذلك ما هو كائن، فلما جاءه وقد دعا النجاشي أساقفته([50]) فنشروا مصاحفهم([51]) حوله، سألهم فقال: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا ديني ولا دين أحد من هذه الأمم؟
قالت: فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب t فقال له: أيها الملك، كنا قومًا أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، يأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً نعرف نسبه وصدقه، وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده, لا نشرك به شيئًا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام.
قالت: فعدد عليه أمور الإسلام.. فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به. فعبدنا الله وحده, فلم نشرك به شيئًا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا، وشقَّوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا, خرجنا إلى بلدك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك([52]).
قالت: فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله شيء؟ قالت: فقال له جعفر: نعم، فقال له النجاشي، فاقرأه عليَّ؟
فقرأ عليه صدرًا من ( كهيعص ) قالت: فبكى والله النجاشي، حتى أخضل([53]) لحيته وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم.
ثم قال النجاشي: إن هذا والله والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا فوالله لا أُسلِمُهم إليكم أبدًا ولا أكاد([54]).
3- محاولة أخرى للدس بين المهاجرين والنجاشي:
قالت أم سلمة: فلما خرجا (عمرو بن العاص, وعبد الله بن أبي ربيعة) من عنده قال عمرو بن العاص: والله لأنبئنه غدًا عيبهم عنده، ثم أستأصل به خضراءهم([55]) قالت: فقال له عبد الله بن أبي ربيعة، وكان أتقى الرجلين فينا، لا تفعل، فإن لهم أرحامًا وإن كانوا قد خالفونا.
قال: والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى ابن مريم عبد، قالت: ثم غدا عليه الغد فقال له: أيها الملك إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولاً عظيمًا فأرسل إليهم فاسألهم عما يقولون فيه، قالت: فأرسل إليهم يسألهم عنه، قالت: ولم ينزل بنا مثلها، فاجتمع القوم فقال بعضهم لبعض: ماذا تقولون في عيسى إذا سألكم عنه؟ قالوا: نقول والله فيه، ما قال الله، وما جاء به نبينا كائنًا في ذلك ما هو كائن، فلما دخلوا عليه، قال لهم: ما تقولون في عيسى ابن مريم؟
فقال له جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاء به نبينا: هو عبد الله ورسوله وروحه, وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء، البتول([56]).
قالت: فضرب النجاشي يده إلى الأرض فأخذ منها عودًا، ثم قال: ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود فتناخرت([57]) بطارقته حوله حين قال ما قال، فقال: وإن نخرتم والله، اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي (والسيوم الآمنون) من سبكم غرم، ثم من سبكم غرم، فما أحب أن لي دَبرًا ذهبًا، وإني آذيت رجلا منكم، والدبر بلسان الحبشة الجبل، ردوا عليهما هداياهما فلا حاجة لنا بها، فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد عليَّ ملكي، فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناسَ في فأطيعهم فيه، قالت: فخرجا من عنده مقبوحين مردودًا عليهما، ما جاءا به وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار([58]).
4- إسلام النجاشي:
وقد أسلم النجاشي وصدق بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان قد أخفى إيمانه عن قومه، لما علمه فيهم من الثبات على الباطل, وحرصهم على الضلال، وجمودهم على العقائد المنحرفة وإن صادمت العقل والنقل([59])، فعن أبي هريرة t: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى فصف بهم, وكبر عليه أربع تكبيرات» ([60]) وعن جابر t قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم حين مات النجاشي: «مات اليوم رجل صالح، فقوموا فصلوا على أخيكم أصحمة» ([61]).
رضي الله عنه وأرضاه، وكانت وفاته رحمه الله, سنة تسع عند الأكثر وقبل سنة ثمان قبل فتح مكة([62]).

محمد رافع 52 23-09-2014 09:51 PM

دروس وعبر وفوائد:
1- إن ثبات المؤمنين على عقيدتهم, بعد أن يُنْزِل بهم الأشرار والضالون أنواع العذاب والاضطهاد، دليل على صدق إيمانهم, وإخلاصهم في معتقداتهم، وسمو نفوسهم وأرواحهم، بحيث يرون ما هم عليه من راحة الضمير, واطمئنان النفس والعقل، وما يأملونه من رضا الله جل شأنه, أعظم بكثير مما ينال أجسادهم من ***** وحرمان واضطهاد؛ لأن السيطرة في المؤمنين الصادقين والدعاة المخلصين، تكون دائمًا وأبدًا لأرواحهم لا لأجسادهم، وهم يسرعون إلى تلبية مطالب أرواحهم من حيث لا يبالون بما تتطلبه أجسامهم من راحة وشبع ولذة؛ وبهذا تنتصر الدعوات وبهذا تتحرر الجماهير من الظلمات والجهالات([63]).
2- مما يتبادر إلى الذهن من هذه الهجرة العظيمة, هو شفقة هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم على أصحابه ورحمته بهم، وحرصه الشديد للبحث عما فيه أمنهم وراحتهم، ولذلك أشار عليهم بالذهاب إلى الملك العادل الذي لا يُظلم أحد عنده، فكان الأمر كما قال صلوات الله وسلامه عليه، فأمنوا في دينهم ونزلوا عنده في خير منزل([64]) فالرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي وجَّه الأنظار إلى الحبشة وهو الذي اختار المكان الآمن لجماعته ودعوته، كي يحميها من الإبادة، وهذه تربية نبوية لقيادات المسلمين في كل عصر, أن تخطط بحكمة وبعد نظر لحماية الدعوة والدعاة، وتبحث عن الأرض الآمنة التي تكون عاصمة احتياطية للدعوة، ومركزًا من مراكز انطلاقها فيما لو تعرض المركز الرئيسي للخطر، أو وقع احتمال اجتياحه فجنود الدعوة
هم الثروة الحقيقية، وهم الذين تنصب الجهود كلها لحفظهم وحمايتهم، دون أن يتم
أي تفريط بأرواحهم وأمنهم، ومسلم واحد يعادل ما على الأرض من بشر خارجين عن دين الله وتوحيده([65]).

3- كانت الأهداف من هجرة الحبشة متعددة، ولذلك حرص النبي صلى الله عليه وسلم على اختيار نوعيات معينة لتحقيق هذه الأهداف، كشرح قضية الإسلام وموقف قريش منه، وإقناع الرأي العام بعدالة قضية المسلمين، على نحو ما تفعله الدول الحديثة من تحرك سياسي يشرح قضاياها وكسب الرأي العام إلى جوارها([66]) وفتح أرض جديدة للدعوة، فلذلك هاجر سادات الصحابة في بداية الأمر ثم لحق بهم أكثر الصحب وأوكل الأمر إلى جعفر t([67]).
4- إن وجود ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم جعفر، وصهره عثمان، وابنته رقية رضي الله عنهم جميعًا, في مقدمة المهاجرين له دلالة عميقة تشير إلى أن الأخطار لا بد أن يتجشمها المقربون إلى القائد, وأهله ورحمه، أما أن يكون خواص القائد في منأى عن الخطر، ويدفع إليه الأبعدون غير ذوي المكانة فهو منهج بعيد عن نهج النبي صلى الله عليه وسلم([68]).
5- مشروعية الخروج عن الوطن -وإن كان الوطن مكة على فضلها- إذا كان الخروج فرارًا بالدين وإن لم يكن إلى إسلام، فإن أهل الحبشة كانوا نصارى يعبدون المسيح ولا يقولون: هو عبد الله، وقد تبين ذلك في هذا الحديث -يعني حديث أم سلمة- المتقدم، وسموا بهذه مهاجرين، وهم أصحاب الهجرتين الذين أثنى عليهم بالسبق فقال: ( وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ ) وجاء في التفسير: إنهم هم الذين شهدوا بيعة الرضوان([69]) فانظر كيف أثنى الله عليهم بهذه الهجرة، وهم قد خرجوا من بيت الله الحرام إلى دار الكفر، لما كان فعلهم ذلك احتياطًا على دينهم, ورجاء أن يُخلى بينهم وبين عبادة ربهم, يذكرونه آمنين مطمئنين، وهذا حكم مستمر متى غلب المنكر في بلد, وأوذي على الحق مؤمن ورأى الباطل قاهرًا للحق ورجا أن يكون في بلد آخر، أي بلد كان، خلى بينه وبين دينه ويظهر فيه عبادة ربه فإن الخروج على هذا الوجه حق على المؤمن، هذه الهجرة التي لا تنقطع إلى يوم القيامة ( وَللهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ )[البقر:115] ([70]).
6- يجوز للمسلمين أن يدخلوا في حماية غير المسلمين، إذا دعت الحاجة إلى ذلك، سواء كان المجير من أهل الكتاب كالنجاشي، إذ كان نصرانيًّا عندئذ، ولكنه أسلم بعد ذلك، أو كان مشركًا كأولئك الذين عاد المسلمون إلى مكة في حمايتهم عندما رجعوا من الحبشة، وكأبي طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمطعم بن عدي الذي دخل الرسول صلى الله عليه وسلم مكة في حمايته عندما رجع من الطائف([71]).
وهذا مشروط -بحكم البداهة- بألا تستلزم مثل هذه الحماية إضرارًا بالدعوة الإسلامية، أو تغييرًا لبعض أحكام الدين، أو سكوتًا على اقتراف بعض المحرمات، وإلا لم يجز على المسلم الدخول فيها، ودليل ذلك ما كان من فقهه صلى الله عليه وسلم حينما طلب منه أبو طالب أن يبقي على نفسه ولا يحمله ما لا يطيق فلا يتحدث عن آلهة المشركين بسوء، فقد وطن نفسه إذ ذاك على الخروج من حماية عمه وأَبَى أن يسكت عن شيء مما يجب عليه بيانه وإيضاحه([72]).
7- إن اختيار الرسول صلى الله عليه وسلم الهجرة إلى الحبشة يشير إلى نقطة إستراتيجية هامة، تمثلت في معرفة الرسول بما حوله من الدول والممالك، فكان يعلم طيبها من خبيثها، وعادلها من ظالمها، الأمر الذي ساعد على اختيار دار آمنة لهجرة أصحابه، وهذا ما ينبغي أن يكون عليه حال قائد الدعوة الذي لا بد أن يكون ملمًّا بما يجري حوله، مطلعًا على أحوال وأوضاع الأمم والحكومات([73]).
8- يظهر الحس الأمني عند الرعيل الأول, في هجرتهم الأولى, وكيفية الخروج, فيتمثل في كونه تم تسللاً وخفية حتى لا تفطن له قريش فتحبطه كما أنه تم على نطاق ضيق لم يزد على ستة عشر فردًا، فهذا العدد لا يلفت النظر في حالة تسللهم فردًا أو فردين، وفي ذات الوقت يساعد على السير بسرعة، وهذا ما يتطلبه الموقف فالركب يتوقع المطاردة والملاحقة في أي لحظة، ولعل السرية المضروبة على هذه الهجرة، فوتت على قريش العلم بها في حينها، فلم تعلم بها إلا مؤخرًا، فقامت في إثرهم لتلحق بهم، لكنها أخفقت في ذلك، فعندما وصلت البحر لم تجد أحدًا، وهذا مما يؤكد على أن الحذر هو مما يجب أن يلتزمه المؤمن في تحركاته الدعوية، فلا تكون التحركات كلها مكشوفة ومعلومة للعدو بحيث يترتب عليها الإضرار به وبالدعوة([74]).
9- لم ترض قريش بخروج المسلمين إلى الحبشة وشعرت بالخطر الذي يهدد مصالحها في المستقبل، فربما تكبر الجالية هناك وتصبح قوة خطرة، ولذلك جد المشركون وشرعوا في الأخذ بالأسباب لإعادة المهاجرين، وبدأت قريش تلاحق المهاجرين؛ لكي تنزع هذا الموقع الجديد منهم في تخطيط محكم ذكي، فالهدايا إلى النجاشي والهدايا إلى بطارقته ووضعت الخطة داخل مكة، وكيف توزع الهدايا، وما نوعية الكلام الذي يرافق الهدايا، وصفات السفراء، فعمرو من أصدقاء النجاشي ومعروف بالدهاء! وما أحوجنا إلى ألا نستصغر عدونا، وألا ننام عن مخططاته، وأن نعطيه حجمه الحقيقي، وندرس تحركاته، لنستعد لمواجهة
مخططاته الماكرة([75]).

10- نفذت خطة قريش بحذافيرها كاملة، ولكنها فشلت؛ لأن شخصية النجاشي, التي تم جوارها, رفضت أن تسلم المسلمين قبل السماع منهم، وبذلك أتاحت الفرصة للمسلمين إلى أن يعرضوا قضيتهم العادلة ودينهم القويم.
11- اجتمع الصحابة حين جاءهم رسول النجاشي وطلب منهم الحضور، وتدارسوا الموقف، وهكذا كان أمر المسلمين شورى بينهم، وكل أمر يتم عن طريق الشورى هو أدعى إلى نجاحه؛ لأنه يضم خلاصة عقول كثيرة، وتبدو مظاهر السمو التربوي في كون الصحابة لم يختلفوا بل أجمعوا على رأي واحد، ألا وهو أن يعرض الإسلام كما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم كائنًا في ذلك ما هو كائن، وعزموا على عرض الإسلام بعزة، وإن كان في ذلك هلاكهم([76]).
12- كان وعي القيادة النبوية على مستوى الأحداث؛ ولذلك وضع جعفر بن أبي طالب على إمارة المسلمين في الهجرة، وتم اختياره من قبل المسلمين المهاجرين ليتحدث باسمهم بين يدي الملك، وليتمكن من مواجهة داهية العرب عمرو بن العاص، وقد امتازت شخصية جعفر بعدة أمور جعلتها تتقدم لسد هذه الثغرة العظيمة منها:
* جعفر بن أبي طالب من ألصق الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم فقد عاش معه في بيت واحد، فهو أخبر الناس بقائد الدعوة, وسيد الأمة من بين كل المهاجرين إلى الحبشة.
* وهذا الموقف بين يدي النجاشي يحتاج إلى بلاغة وفصاحة، وبنو هاشم قمة قريش نسبًا وفضلاً، وجعفر في الذؤابة من بني هاشم، والله تعالى قد اختار هاشمًا من كنانة، واختار نبيه من بني هاشم، فهم أفصح الناس لسانًا وأوسطهم نسبًا.
* وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا يجعل النجاشي أكثر اطمئنانًا وثقة بما يعرض عن ابن عمه([77]).
* خلق جعفر المقتبس من مشكاة النبوة، وجمال خلقه المنحدر من أصلاب بني هاشم، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجعفر: «أشبهت خَلْقي وخُلُقي» ([78]) فالسفير بين يدي النجاشي كان قدوة لسفراء المسلمين على مر الزمان, وكر العصور، فقد اتصف بسمات السفراء المسلمين، كالإسلام والانتماء إليه، والفصاحة، العلم، حسن الخلق، الصبر، الشجاعة، الحكمة، سعة الحيلة، المظهر الجذاب([79]).
13- كان عمرو بن العاص t وهو يمثل في تلك المرحلة عداوة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على مستوى كبير من الذكاء والدهاء والمكر، وكان قبل دخول جعفر وحديثه قد شحن كل ما لديه من حجة، وألقى بها بين يدي النجاشي من خلال النقاط الآتية:
* تحدث عن بلبلة جو مكة وفساد ذات بينها من خلال دعوة محمد صلى الله عليه وسلم, وهو سفير مكة وممثلها بين يدي النجاشي، فكلامه مصدق لا يعتريه الشك، وهو عند النجاشي موضع ثقة.
* تحدث عن خطورة أتباع محمد صلى الله عليه وسلم وربما سيزلزلون الأرض تحت قدمي النجاشي، كما أفسدوا جوّ مكة، ولولا حب قريش للنجاشي وصداقتها معه, ما تعنوا هذا العناء لنصحه «وأنت لنا عيبة صدق، تأتي إلى عشيرتنا بالمعروف، ويأمن تاجرنا عندك» فلا أقل من رد المعروف بمثله، ولا أقل من وفاء حسن الجوار والعلاقة بين مكة والحبشة من تحذيره من هذه الفتنة المخيفة.
* وأخطر ما في أمرهم, هو خروجهم على عقيدة النجاشي وكفرهم بها «فهم لا يشهدون أن عيسى ابن مريم إله، فليسوا على دين قومهم وليسوا على دينك» فهم مبتدعة دعاة فتنة.
* ودليل استصغارهم لشأن الملك، واستخفافهم به أن كل الناس يسجدون للملك لكنهم لا يفعلون ذلك، فكيف يتم إيواؤهم عندك وهو عودة إلى إثارة الرعب في نفسه, من عدم احترام الدعاة له حين يستخفون بملكه، ولا يسجدون له، فكان على جعفر أن يفند كل الاتهامات الباطلة التي ألصقها سفير قريش بالمهاجرين([80]).
14- كان رد جعفر على أسئلة النجاشي في غاية الذكاء, وقمة المهارة السياسية، والإعلامية والدعوية، والعقدية، فقام بالتالي:
* عدَّد عيوب الجاهلية، وعرضها بصورة تنفر السامع، وقصَدَ بذلك تشويه صورة قريش في عين الملك، وركز على الصفات الذميمة التي لا تنتزع إلا بنبوة.
* عرض شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا المجتمع الآسن المليء بالرذائل، وكيف كان بعيدًا عن النقائص كلها، ومعروفًا بنسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فهو المؤهل للرسالة.
* أبرز جعفر محاسن الإسلام وأخلاقه التي تتفق مع أخلاقيات دعوات الأنبياء، كنبذ عبادة الأوثان، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، وإقام الصلاة, وإيتاء الزكاة، وكون النجاشي وبطارقته موغلين في النصرانية فهم يدركون أن هذه رسالات الأنبياء, التي بعثوا بها من لدن موسى, وعيسى عليهما الصلاة والسلام.
* فضح ما فعلته قريش بهم؛ لأنهم رفضوا عبادة الأوثان، وآمنوا بما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم وتخلقوا بخلقه.
* أحسن الثناء على النجاشي بما هو أهله، بأنه لا يُظلم عنده أحد، وأنه يقيم العدل في قومه.
* وأوضح أنهم اختاروه كهفًا من دون الناس، فرارًا من ظلم هؤلاء الذين يريدون *****هم؛ وبهذه الخطوات البينة الواضحة دحر بها بلاغة عمرو وفصاحته، واستأثر بلب النجاشي وعقله، وكذلك استأثر بلب وعقل البطارقة, والقسيسين الحاضرين.
* وعندما طلب الملك النجاشي شيئًا مما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم جاء صدر سورة مريم في غاية الإحكام والروعة والتأثير، حتى بكى النجاشي، وأساقفته، وبللوا لحاهم ومصاحفهم من الدموع، واختيار جعفر لسورة مريم، يظهر بوضوح حكمة وذكاء مندوب المهاجرين، فسورة مريم تتحدث عن مريم وعيسى عليهما السلام([81]).
* إن عبقرية جعفر t في حسن اختيار الموضوع، والزمن المناسب، والقلب المتفتح، والشحنة العاطفية، أدت إلى أن يربح الملك إلى جانبه([82]).
* كان رده في قضية عيسى عليه السلام دليلاً على الحكمة والذكاء النادر، فرد بأنهم لا يألهون عيسى ابن مريم، ولكنهم كذلك لا يخوضون في عرض مريم عليها السلام، كما يخوض الكاذبون, بل عيسى ابن مريم كلمته وروحه ألقاها إلى مريم البتول العذراء الطاهرة، وليس عند النجاشي زيادة عما قال جعفر، ولا مقدار هذا العود([83]).
* هم لا يسجدون للنجاشي، فهم معاذ الله أن يعدلوه بالله، ولا ينبغي السجود إلا لله، لكنهم لا يستخفون بالملك، بل يوقرونه ويسلمون عليه كما يسلمون على نبيهم، ويحيونه بما يحيي أهل الجنة أنفسهم به في الجنة([84]).
* انتهى الأمر بأن أعلن النجاشي صدق القوم، وأيقن بأن هؤلاء صديقون, وعزم على أن يكون في خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يأتيه الناموس كناموس موسى، وأن يتقرب إلى الله بحماية أصحابه، وأكد لعمرو أنه لا يضيره تجارة قريش، ولا مال قريش، ولا جاهها، ولو قطعت علاقتها معه([85]).
15- وبذلك انهزمت قريش في هذه الجبهة سياسيًّا ومعنويًّا، وإعلاميًّا أمام مقاومة المسلمين الموفقة وخطواتهم، وأساليبهم الرصينة.
16- كان موقف جعفر وإخوانه مثالاً تطبيقيًا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من التمس رضا الله بسخط الناس, كفاه الله مؤنة الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس» ([86]) فهؤلاء الصحابة -رضي الله عنهم- قد التمسوا رضا الله عز وجل، مع أن الظاهر في الأمر أنه يترتب عليه في هذه القضية سخط أولئك النصارى وهم الذين لهم الهيمنة عليهم، فكانت النتيجة أن الله عز وجل سخر لهم ملك الحبشة حتى نطق بالحق الموافق لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم, مع مخالفته الصريحة لمعتقدهم المنحرف, الذي قام عليه ملكهم وما يغلب على الظن من ثورة النصارى المتعصبين عليه([87]).
17- كان عند بعض النصارى إيمان صحيح بدينهم، ولكنهم يكتمون ذلك, لكون الغلبة والسيادة في الأرض لأصحاب الدين المحرف، ومن الذين كانوا على الاعتقاد الصحيح ملك الحبشة، وكان يخفي إيمانه هذا مداراة لقومه إبقاء على نفسه وملكه، فلما وقع في هذا الابتلاء أظهر إيمانه، إرضاءً لربه وإراحة لضميره وانتصارًا لحزب الله المؤمنين مهما ترتب على ذلك من نتائج, فكان بهذا الموقف من عظماء التاريخ([88]).
18- ومن دروس هجرة الحبشة أن الجهل ببعض أحكام الإسلام لمصلحة راجحة لا يضر، قال ابن تيمية -رحمه الله- وهو يقرر العذر بالجهل: «ولما زيد في صلاة الحضر حين هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان مَنْ بعيدًا عنه مثل من كان بمكة، وبأرض الحبشة يصلون ركعتين، ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بإعادة الصلاة»([89]).
وقال الذهبي: «فلا يأثم أحد إلا بعد العلم وبعد قيام الحجة، وقد كان سادة الصحابة بالحبشة ينزل الواجب والتحريم على النبي صلى الله عليه وسلم فلا يبلغهم إلا بعد أشهر فهم في تلك الأمور معذورون بالجهل حتى يبلغهم النص...»([90]).
19- ومن دروس هجرة الحبشة، تفاضل الجهاد حسب الحاجة، فإذا كانت الهجرة للمدينة جهادًا ميز الله أصحابها وخصهم بالذكر والفضيلة، فقد نال هذا الفضل أصحاب هجرة الحبشة وإن تأخر لحوقهم بالنبي صلى الله عليه وسلم حتى فتح خيبر، وذلك للحاجة لبقائهم في الحبشة، وهذا ما أكده النبي لأصحاب السفينتين([91]) عن أبي موسى الأشعري t قال: ودخلت أسماء بنت عميس, وهي ممن قدم معنا, على حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم زائرة، وقد كانت هاجرت إلى النجاشي فيمن هاجر, فدخل عمر على حفصة، وأسماء عندها، فقال عمر حين رأى أسماء: من هذه؟ قالت: أسماء بنت عميس، قال عمر: الحبشية هذه، البحرية هذه؟ قالت أسماء: نعم، قال: سبقناكم بالهجرة فنحن أحق برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم، فغضبت، وقالت: كلا والله كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يطعم جائعكم, ويعظ جاهلكم, وكنا في دار -أو في أرض- البُعداء البُغضاء بالحبشة، وذلك في الله وفي رسوله صلى الله عليه وسلم، وأيم الله لا أطعم طعامًأ ولا أشرب شرابًا, حتى أذكر ما قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن كنا نُؤذى ونُخاف وسأذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم وأسأله، والله لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد عليه، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم قالت: يا نبي الله، إن عمر قال كذا وكذا، قال: «فما قلتِ له؟» قالت: قلت له كذا وكذا، قال: «ليس بأحق بي منكم، وله ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان» قالت: فلقد رأيت أبا موسى وأصحاب السفينة يأتون أرسالا يسألوني عن هذا الحديث ما من الدنيا شيء هم به أفرحُ ولا أعظمُ في أنفسهم مما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم([92]).
20- كانت بداية إسلام عمرو بن العاص t بأرض الحبشة، وهذا بلا شك أثر من آثار الهجرة للحبشة، وبرهان على ما حققه المهاجرون من مكاسب للدعوة من خلال مكوثهم بأرض الحبشة، وإن كانت كثير من المرويات تتجه إلى أن بداية إسلام عمرو بن العاص كانت على يد النجاشي وهو المشهور كما يقول ابن حجر([93]) وهي لطيفة لا مثل لها, إذ أسلم صحابي على يد تابعي، كما يقول الزرقاني([94]) وهناك ما يفيد إسلام عمرو على يد جعفر رضي الله عنهم.
21- يرتبط زواج الرسول صلى الله عليه وسلم بأم حبيبة بهجرة الحبشة ارتباطًا وثيقًا، ويحمل هذا الزواج منه صلى الله عليه وسلم, لأحد المهاجرات الثابتات, معنى كبيرًا، وكان عقد الزواج على أم حبيبة -رضي الله عنها- وهي في أرض الحبشة، وجاء تأكيده في كتب السنة، فقد روى أبو داود في سننه بسند صحيح عن أم حبيبة -رضي الله عنها- أنها كانت تحت عبيد الله بن جحش، فمات بأرض الحبشة، فزوجها النجاشيُّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأمهرها عنه أربعة آلاف، وبعث بها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مع شرحبيل بن حسنة([95]).
ويستنتج الباحث من دلالات هذا الحديث المهم متابعةَ الرسول صلى الله عليه وسلم لأحوال المهاجرين، ومشاركتهم في مصابهم، وتطييب أنفس الصابرين، وتقديرَ ثبات الثابتين وبالتتبع لأحوال المهاجرات لا نجد (أم حبيبة) رضي الله عنها هي الوحيدة التي يعني الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بأمرها، ويواسيها في مصابها، بل سبق ذلك صنيعه مع (سودة) رضي الله عنها([96]) فلما رجعت مع زوجها إلى مكة من الحبشة توفي زوجها السكران بن عمرو، فلما حلت أرسل إليها صلى الله عليه وسلم وخطبها، فقالت: أمري إليك يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مري رجلاً من قومك يزوجك» فأمرت حاطب بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود فزوجها، فكانت أول امرأة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد خديجة([97]).
وهذان الحدثان مؤشران, من مؤشرات حكمة تعدده صلى الله عليه وسلم في الزواج بشكل عام ولهما دلالتهما وحكمتهما بالاهتمام بالنساء المجاهدات بشكل خاص, هذا فضلاً عن ما يمكن أن يقال, إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يهدف أيضا من وراء الزواج بأم حبيبة تخفيف عداوة (بني أمية) بشكل عام، وتخفيف عداوة زعيمهم أبي سفيان (والدها) بشكل أخص للإسلام ونبيه والمسلمين([98]).
فالتأليف للإسلام وارد في السيرة والرسول صلى الله عليه وسلم كان حريصًا على قومه بكل وسيلة لا تتنافى مع قيم الإسلام([99]).
22- يرى بعض الباحثين أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يحب أن يهاجر إلى الحبشة لأسباب كثيرة:
* منها أنه ثبت -كما سيجيء- رؤية النبي صلى الله عليه وسلم دار الهجرة أرضًا ذات نخل بين حرتين، وأنه ظنها هجر([100]).
* ومنها طبيعة الوضع الجغرافي للحبشة الذي يعوق انتشار الدعوة وبسط سلطانها على العالم.
* ومنها أن اختيار الجزيرة العربية، ومكة بالذات ثم المدينة لنزول الوحي وانطلاق الدين لم يكن اتفاقيًّا بل كان لمميزات كثيرة([101]).
* ومنها أن هذه البيئة الحبشية لم تكن لتسمح لهذا الدين اللاجئ أن ينمو إلى جوار المسيحية، ولم تكن الرومان -وهي المهيمنة على المسيحية في العالم- لتسمح للحبشة بذلك([102]).
23- كان للهجرة إلى الحبشة أثر في الحط من مكانة القرشيين عند سائر العرب، وإدانة موقفهم من الدعوة وحملتها، إذ كانت البيئة العربية تفتخر بإيواء الغريب وإكرام الجار وتتنافس في ذلك، وتحاذر السبة والعار في خلافه، فهاهم الأحباش يسبقون قريشًا ويؤوون مَنْ طردتهم وأساءت إليهم من أشراف الناس، ومن ضعفائهم، ومن غربائهم([103])

* * *






([1]) انظر: التمكين للأمة الإسلامية، ص248، 249.
([2]) في ظلال القرآن (3/1476).
([3]) رواه الترمذي (4/576) كتاب صفة القيامة باب ما جاء في التوكل.
([4]) رواه أحمد في مسنده (1/52) ورقمه (370)، وقال الشيخ أحمد شاكر إسناده صحيح.
([5]) انظر: الإسلام في خندق، مصطفى محمود، ص64.
([6]) الهجرة في القرآن الكريم، أحزمي سامعون، ص290.
([7]) المغازي النبوية، للزهري، تحقيق: سهيل زكار، ص96.
([8]) السيرة النبوية لابن هشام، (1/398).
([9]) في ظلال القرآن (1/29). (2) المنهاج الحركي للسيرة (1/67، 68).


([11]) سيرة الرسول (1/265) عن الشامي، ص111.
([12]) الصحيح مع الفتح (6/237).
([13]) انظر: الهجرة الأولى في الإسلام، د. سليمان العودة، ص34.
([14]) السيرة النبوية لابن هشام تحقيق همام أبو صعيليك (1/413).
([15]) نفس المصدر (1/397). (5) انظر: تاريخ الأمم والملوك للطبري (2/328).


([17]) مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم لعروة بن الزبير، ص104.
([18]) انظر: هجرة الرسول وأصحابه في القرآن والسنة، أحمد الجمل، ص97.
([19]) السيرة النبوية لابن هشام، (1/397).
([20]) الهجرة الأولى في الإسلام، ص46.
([21]) مغازي الزهري، ص96.
([22]) صحيح مسلم (3/1392)، تهذيب الأسماء واللغات للنووي (3/357).
([23]) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، أحزمي سامعون، ص290، 291.
([24]) الطبقات (1/204). (2) تاريخ الطبري (2/329).


([26]) عيون الأثر(1/116). (4) زاد المعاد (3/23).

([28]) شرح المواهب (1/271)
([29]) ارجع إليهم في: البداية والنهاية (3/96، 97)، سيرة ابن هشام، (1/344: 352).
([30]) الأنساب, البلاذري (1/156: 198) ابن هشام (1/392: 396).
([31]) انظر: الهجرة الأولى في الإسلام، ص37.
([32]) مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم محمد بن عبد الوهاب، ص90.
([33]) السيرة النبوية (1/294)، وعازوا قريشا: أي غلبوهم.
([34]) السيرة النبوية لابن هشام (1/365)
([35]) صبأ: خرج من دين إلى دين آخر: القاموس المحيط، باب الهمزة (1/20).
([36]) سبل الهدى والرشاد للصالحي (2/498، 499).
([37]) تأملات في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، لمحمد سيد الوكيل، ص59، الهجرة في القرآن الكريم، ص302.
([38]) انظر: القول المبين في سيرة سيد المرسلين، د. محمد النجار، ص111، الهجرة في القرآن الكريم، ص302.
([39]) طبقات ابن سعد (1/207) (ط. بيروت) الهجرة في القرآن الكريم، ص303.
([40]) انظر: الروض الأنف للسهيلي (3/228).(5) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، ص303.


([42]) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، ص304. (2) الجلد، القوة، الشدة.

([44]) الأدم: جمع أديم وهو الجلد المدبوغ. (4) جمع بطريق: وهو الحاذق بالحرب وأمورها بلغة الروم.

([46]) أعلى بهم عينا: قال السهيلي: أي أبصر بهم، أي عينهم وأبصارهم فوق عين غيرهم في أمرهم، الروض الأنف (1/92).
([47]) والمعنى: لا والله.
([48]) لا أكاد: قال في اللسان: يقولون إذا حمل أحدهم ما يكره، لا والله ولا كيد.
([49]) أخرجه أحمد (5/290) إسناده صحيح.
([50]) أساقفته: جمع الأسقف، وهو العالم والرئيس من علماء النصارى.
([51]) أي أناجيلهم وكانوا يسمونها مصاحف.
(6) مسند الإمام أحمد (1/202، 203).
([53]) ابتلت بالدموع: يقال خضل وأخضل إذا ندي، النهاية (3/43).
([54]) مسند الإمام أحمد (1/202، 203).
([55]) استأصل به خضراءهم: أي أقضي به على دهمائهم وسوادهم، الهجرة في القرآن الكريم، ص307.
([56]) العذراء: الجارية التي لم يمسها رجل وهي البكر. يقال امرأة بتول: منقطعة عن الرجال لا شهوة لها فيهم.
([57]) فتناخرت: أي تكلمت وكأنه كلام مع غضب ونفور.
([58]) مسند الإمام أحمد (1/203) ورجاله رجال الصحيح.
([59]) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، ص309.
([60]) البخاري، كتاب الجنائز، باب التكبير على الجنازة (5/64) رقم 1333.
([61]) البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب موت النجاشي، حديث رقم 3877.
([62]) أسد الغابة (1/99) الإصابة (1/109).
([63]) السيرة النبوية للدكتور مصطفى السباعي، ص57.
([64]) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، ص312.
([65]) انظر: التربية القيادية للغضبان (1/333). (3) أضواء على الهجرة، توفيق محمد سبع، ص427.

([67]) انظر: التربية القيادية، (1/333).(5) نفس المصدر (1/333).

([69]) تفسير الطبري (11/6) تفسير ابن كثير (2/331).
([70]) الروض الأنف للسهيلي (2/92) الهجرة في القرآن الكريم، ص312.
([71]) الهجرة في القرآن الكريم، ص316.
([72]) فقه السيرة للبوطي ص 126، الهجرة في القرآن الكريم، ص317.
([73]) انظر: في السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية، ص101.
([74]) نفس المصدر، ص101.
([75]) انظر: التربية القيادية (1/317).
([76]) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (2/92).
([77]) انظر: التربية القيادية، (1/335). (2) نفس المصدر (1/336).


([79]) انظر: سفراء النبي صلى الله عليه وسلم, لمحمود شيت خطاب (2/252: 317).
([80]) انظر: التربية القيادية (1/319، 340).
([81]) انظر: السيرة النبوية قراءةلجوانب الحذر والحماية، ص106.
([82]) انظر: التربية القيادية، (1/337).
([83]) نفس المصدر (1/342).
(3) المصدر السابق، (1/342).(4) المصدر السابق (1/342).

([86]) سنن الترمذي، كتاب الزهد تحفة الأحوذي (7/97) صحيح الجامع الصغير، رقم 5973.
([87]) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (2/105).
([88]) التاريخ الإسلامي للحميدي (2/106). (2) الفتاوى (22/43).


([90]) الكبائر، ص12. (4) انظر: الهجرة الأولى في الإسلام، ص205.

([92]) البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، (5/8).
([93]) انظر: الهجرة الأولى في الإسلام، ص167.
(2) انظر: شرح المواهب (1/271).

([95]) صحيح سنن أبي داود للألباني (2/396)
(4) انظر: الهجرة الأولى في الإسلام، ص188.
([97]) الطبقات (8/3).
([98]) السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، د. مهدي رزق الله، ص706، 707.
([99]) انظر: الهجرة الأولى، ص188.
([100]) هجر: هي الاحساء.
([101]) انظر: الغرباء الأولون، ص169، 170.
([102]) انظر: أضواء على الهجرة ص 156: 161، الهجرة في القرآن الكريم، ص320.
([103]) انظر: الغرباء الأولون، ص170، 171.

محمد رافع 52 24-09-2014 11:47 PM

المبحث الثالث


عام الحزن ومحنة الطائف

أولاً: عام الحزن:
1- وفاة أبي طالب:
كانت وفاة أبي طالب بعد مغادرة بني هاشم شعبه، وذلك في آخر السنة العاشرة من المبعث([1]) وقد كان أبو طالب (يحوط النبي ويغضب له) ([2]) و(ينصره) ([3])، وكانت قريش تحترمه، وعندما حضرته الوفاة جاء زعماء الشرك وحرضوه على الاستمساك بدينه وعدم الدخول في الإسلام قائلين: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ وعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام قائلاً: «قل لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة» فقال أبو طالب: لولا تعيرني بها قريش, يقولون: إنما حمله عليها الجزع، لأقررت بها عينك، فأنزل الله: ( إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ )[القصص:56] كانت أفكار الجاهلية راسخة في عقل أبي طالب، ولم يتمكن من تغييرها، فهو شيخ كبير يصعب عليه تغيير فكره وما ألفه عن آبائه، وكان أقرانه حاضرين وقت احتضاره, فأثروا عليه خوفًا من شيوع خبر إسلامه وتأثير ذلك على قومه([4]).
2- وفاة خديجة رضي الله عنها:
أما السيدة خديجة أم المؤمنين -رضي الله عنها- فقد توفيت قبل الهجرة إلى المدينة بثلاث سنين([5]) في نفس عام وفاة أبي طالب([6]).
وبموت أبي طالب الذي أعقبه موت خديجة رضي الله عنها، تضاعف الأسى والحزن على رسول الله صلى الله عليه وسلم بفقد هذين الحبيبين, اللذين كانا دعامتين من دعائم سير الدعوة في أزماتها، كان أبو طالب السند الخارجي الذي يدفع عنه القوم، وكانت خديجة السند الداخلي الذي يخفف عنه الأزمات والمحن، فتجرأ كفار قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم ونالوا منه ما لم يكونوا يطمعون به في حياة أبي طالب([7]) وابتدأت مرحلة عصيبة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم واجه فيها كثيرًا من المشكلات والمصاعب, والمحن والفتن, حينما أصبح في الساحة وحيدًا لا ناصر له إلا الله سبحانه وتعالى، ومع هذا, فقد مضى في تبليغ رسالة ربه إلى الناس كافة على ما يلقى من الخلاف والأذى الشديد, الذي أفاضت كتب الحديث وكتب السير بأسانيدها الصحيحة الثابتة في الحديث عنه، وتحمل صلى الله عليه وسلم من ذلك ما تنوء الجبال بحمله، ولما تكالبت الفتن والمحن على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بلده الذي نبت فيه وبين قومه الذين يعرفون عنه كل صغيرة وكبيرة, عزم صلى الله عليه وسلم على أن ينتقل إلى بلد غير بلده, وقوم غير قومه, يعرض عليهم دعوته، ويلتمس منهم نصرتهم, رجاء أن يقبلوا منه ما جاءهم به من الله عز وجل، فخرج إلى الطائف، وهي من أقرب البلاد إلى مكة([8]).
ثانيًا: رحلة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الطائف:
كان النبي صلى الله عليه وسلم يقتدي بالأنبياء والمرسلين الذين سبقوه في الدعوة إلى الله، فهذا نوح لبث في قومه داعيًا: ( أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا )[العنكبوت:14] فكانت هذه الأعوام الطويلة عملاً دائبًا، وتنويعًا متكررًا ( إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ` قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ` أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ` يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذَا جَاءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ` قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَارًا` فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَارًا` وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا` ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا` ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا )[نوح:1-9]
ومع امتداد الزمن الطويل، ما توقف عن الدعوة, ولا ضعُفت همته في تبليغها، ولا ضعُفت بصيرته وحيلته في تنويع أوقاتها وأساليبها، قال الآلوسي في تفسيره ( رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي ) أي إلى الإيمان والطاعة ( لَيْلاً وَنَهَارًا ) أي دائمًا من غير فتور ولا توانٍ، ثم وصف إعراضهم الشديد، وإصرارهم العنيد، ثم علق على قوله تعالى: ( ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا ) فقال: أي دعوتهم مرة بعد مرة، وكرة غِبَّ كرة، على وجوه مختلفة وأساليب متفاوتة، وهو تعميم لوجوه الدعوة, بعد تعميم الأوقات، وقوله ( ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ) يشعر بمسبوقية الجهر بالسر، وهو الأليق بمن همه الإجابة؛ لأنه أقرب إليها لما فيه من اللطف بالمدعو([9]).
فكان النبي صلى الله عليه وسلم ينوع ويبتكر في أساليب الدعوة, ودعا سرًا وجهرًا، وسلمًا وحربًا، وجمعًا، وفردًا، وسفرًا وحضرًا، كما أنه عليه الصلاة والسلام قص القصص، وضرب الأمثال، واستخدم وسائل الإيضاح بالخط على الأرض وغيره, كما رغب وبشر، ورهب وأنذر، ودعا في كل آنٍ، وعلى كل حال وبكل أسلوب مؤثر فعَّال([10]) فها هو عليه الصلاة والسلام ينتقل إلى الطائف، ثم يتردد على القبائل، ثم يهاجر ويستمر في دعوة الخلق إلى الله تعالى.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسعى لإيجاد مركز جديد للدعوة، وطلب النصرة من ثقيف لكنها لم تستجب له، وأغرت به صبيانها فرشقوه بالحجارة، وفي طريق عودته من الطائف التقى بعدَّاس الذي كان نصرانيًّا فأسلم، وأرخ الواقدي الرحلة في شوال سنة عشر من المبعث بعد موت أبي طالب وخديجة، وذكر أن مدة إقامته بالطائف كانت عشرة أيام([11]).
1- لماذا اختار الرسول صلى الله عليه وسلمالطائف؟
كانت الطائف تمثل العمق الإستراتيجي لملأ قريش، بل كانت لقريش أطماع في الطائف، ولقد حاولت في الماضي أن تضم الطائف إليها، ووثبت على وادي وج وذلك لما فيه من الشجر والزرع، حتى خافتهم ثقيف وحالفتهم, وأدخلت معهم بني دوس([12])، وقد كان كثير من أغنياء مكة يملكون الأملاك في الطائف, ويقضون فيها فصل الصيف، وكانت قبيلة بني هاشم وعبد شمس على اتصال مستمر مع الطائف، كما كانت تربط مخزوم مصالح مالية مشتركة بثقيف([13]) فإذا اتجه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الطائف فذلك توجه مدروس، وإذا استطاع أن يجد له فيها موضع قدم, وعصبة تناصره، فإن ذلك سيفزع قريشًا، ويهدد أمنها ومصالحها الاقتصادية تهديدًا مباشرًا، بل قد يؤدي لتطويقها وعزلها عن الخارج، وهذا التحرك الدعوي السياسي الاستراتيجي, الذي يقوم به الرسول صلى الله عليه وسلم يدل على حرصه في الأخذ بالأسباب لإيجاد دولة مسلمة أو قوة جديدة, تطرح نفسها داخل حلبة الصراع؛ لأن الدولة أو إيجاد القوة التي لها وجودها, من الوسائل المهمة في تبليغ دعوة الله إلى الناس.
عندما وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف اتجه مباشرة إلى مركز السلطة وموضع القرار السياسي في الطائف([14]).
2- أين كان موضع السلطة في الطائف؟
كان بنو مالك والأحلاف -بحكم أسبقيتهم الزمنية للاستيطان- هما المسيطرين عليها وتنتهي إليهما قيادتها, فكانت لهما الرئاسة الدينية المتمثلة في رعاية المسجد, بالإضافة إلى الزعامة السياسية العامة والعلاقة الخارجية, والنفوذ الاقتصادي، إلا أنهما مع ذلك لم يكونا في وضع يمكنهما من الدفاع عن منطقة الطائف، التي كانت من أخصب بلاد العرب وأكثرها جذبًا للأنظار والأطماع، فكانا يخافان قبيلة هوازن، ويخافان قريش ويخافان بني عامر، وكلها قبائل قوية وقادرة على الانقضاض والاستلاب؛ ولذلك فقد اعتمد زعماء الطائف على سياسة المهادنة وحفظ الاستقرار السياسي عن طريق المعاهدات والموازنات وهي عين الطريق التي كانت تسير عليها قريش، فصار بنو مالك يوثقون علاقاتهم مع هوازن ليأمنوا شرها، وصار الأحلاف يرتبطون بقريش لتأمين جانبها([15]).
هذا ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم غافلاً عن هذه الشبكة من العلاقات والمعاهدات, وهو يتجه إلى الطائف، بل كان يعرف أن الطائف لم تكن توجد بها سلطة مركزية واحدة، وإنما يقتسم السلطة فيها بطنان من بطون العرب بموجب اتفاقية داخلية، وأن أيا منهما كان يدور في فلك قبيلة خارجية أقوى، فإذا استطاع أن يستميل إليه أيا منهما, فسوف يكون لذلك أثر كبير في ميزان القوى السياسية، هذا على وجه العموم، أما إذا استطاع على وجه الخصوص أن يستميل إليه الأحلاف، وهو المعسكر المتحالف مع قريش، فإن خطته تكون قد بلغت تمامها وهو أمر غير مستحيل، فهو يعلم أن موادة هذا المعسكر لقريش لا تقوم على القناعة المذهبية أو الولاء الديني بقدر ما تقوم على أساس التخوف من قريش، وعلى هذا التقدير للوضع السياسي اتجه الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة حينما دخل الطائف، إلى بني عمرو بن عمير الذين يترأسون الأحلاف، ويرتبطون بقريش، ولم يذهب إلى بني مالك الذين يتحالفون مع هوازن([16]) قال ابن هشام في السيرة: «لما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف عمد إلى نفر من ثقيف هم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم، وهم إخوة ثلاثة عبد ياليل بن عمرو، ومسعود بن عمرو، وحبيب بن عمرو وعند أحدهم امرأة من قريش من بني جُمح([17]) غير أن بني عمرو كانوا شديدي الحذر وكثيري التخوف، فلم يستجيبوا لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم بل بالغوا في السفه وسوء الأدب معه فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندهم, وقد يئس من خير ثقيف وقال لهم: «إذا فعلتم ما فعلتم فاكتموا عني» ([18]) وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ قومه عنه فيؤزرهم ذلك عليه، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يود أن تتم اتصالاته تلك في جو من السرية، وألا تنكشف تحركاته لقريش([19]) فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يهتم كثيرا بجوانب الحيطة والحذر فقد:
أ- كان خروجه من مكة على الأقدام, حتى لا تظن قريش أنه ينوي الخروج من مكة؛ لأنه لو خرج راكبًا فذلك مما يثير الشبهة والشكوك، وأنه ينوي الخروج والسفر إلى جهة ما، مما قد يعرضه للمنع من الخروج من مكة دون اعتراض من أحد.
ب- واختيار الرسول صلى الله عليه وسلم زيدًا كي يرافقه في رحلته فيه جوانب أمنية، فزيد هو ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتبني، فإذا رآه معه أحد، لا يثير ذلك أي نوع من الشك لقوة الصلة بينهما، كما أنه صلى الله عليه وسلم عرف زيدًا عن قرب, فعلم فيه الإخلاص والأمانة والصدق, فهو إذن مأمون الجانب فلا يفشي سرَّا، ويعتمد عليه في الصحبة، وهذا ما ظهر عندما كان يقي النبي صلى الله عليه وسلم الحجارة بنفسه، حتى أصيب بشجاج في رأسه.
ج- وعندما كان رد زعماء الطائف ردًا قبيحًا مشوبًا بالاستهزاء والسخرية، تحمله الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يغضب أو يثُُر، بل طلب منهم أن يكتموا عنه، فهذا تصرف غاية في الحيطة، فإذا علمت قريش بهذا الاتصال فإنها لا تسخر منه فحسب، بل ربما شددت عليه في العذاب والاضطهاد، وحاولت رصد تحركاته داخل وخارج مكة([20]).
3- تضرع و دعاء:
كان بنو عمرو لئامًا فلم يكتموا خبر الرسول صلى الله عليه وسلم بل أغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويرمون عراقيبه بالحجارة، حتى دمت عقباه وتلطخت نعلاه، وسال دمه الزكي على أرض الطائف، وما زالوا به وبزيد بن حارثة حتى ألجأوهما إلى حائط- بستان- لعتبة وشيبة ابني ربيعة, وهما فيه، فكره مكانهما لعداوتهما لله ورسوله، ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه، فعمد إلى ظل شجرة من عنب، فجلس فيه هو وصاحبه زيد، ريثما يستريحا من عنائهما، وما أصابهما، وابنا ربيعة ينظران إليه، ويريان ما لقي من سفهاء أهل الطائف، ولم يحركا ساكنًا، وفي هذه الغمرة من الأسى والحزن, والآلام النفسية والجسمانية توجه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ربه بهذا الدعاء الذي يفيض إيمانًا ويقينًا، ورضى بما ناله في الله، واسترضاء لله: «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ولكن عافيتك أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرفت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة, من أن تُنزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك لك العتبى([21]) حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بالله»([22]).
4- الرحمة والشفقة النبوية:
كانت رحمته وشفقته العظيمة هي التي تغلب في المواقف العصيبة التي تبلغ فيها المعاناة أشد مراحلها، وتضغط ب*** على النفس لتشتد وتقسو، وعلى الصدر ليضيق ويتبرم، ومع ذلك تبقى نفسه الكبيرة ورحمته العظيمة هي الغالبة([23]).
فعن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال: «لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كُلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي, فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب ([24]) فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال، فسلم علي ثم قال: يا محمد فقال: ذلك فيما شئت, إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين».
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشركُ به شيئًا» ([25]).
كانت إصابته صلى الله عليه وسلم يوم أحد أبلغ من الناحية الجسمية، أما من الناحية النفسية, فإن إصابته يوم الطائف أبلغ وأشد؛ لأن فيها إرهاقًا كبيرًا لنفسه ومعاناة فكرية شديدة جعلته يستغرق في التفكير من الطائف إلى قرن الثعالب([26]).
وإنا لنلمح في هذا الدعاء عمق توحيد النبي صلى الله عليه وسلم ومبلغ تجرده لله جل وعلا، فرضوان الله تعالى إذن هو الهدف الأعلى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المطلب الأعظم الذي تسخر له كل المطالب، وإذا كان البلاء من الله تعالى, من أجل أن يحل رضاه وينجلي سخطه فحيهلا بالبلاء، وهو ساعتئذ نعمة ورخاء.
ثم يختم رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاءه بالكلمة العظيمة التي يقولها, وعلم أصحابه أن يقولوها عند حلول المكاره «ولا حول ولا قوة إلا بك» فلا تحول للمؤمن من حال الشدة إلى حال الرخاء، ولا من الخوف إلى الأمن إلا بالله تعالى، ولا قوة على مواجهة الشدائد وتحمل المكاره إلا بالله جل وعلا([27]).
إن الدعاء من أعظم العبادات، وهو سلاح فعال في مجال الحماية للإنسان, وتحقيق أمنه، فمهما بلغ العقل البشري من الذكاء والدهاء, فهو عرضة للزلل والإخفاق، وقد تمر على المسلم مواقف يعجز فيها عن التفكير والتدبير تمامًا، فليس له مخرج منها سوى أن يجأر إلى الله بالدعاء، ليجد فرجا ومخرجًا، فعندما لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الطائف الأذى والطرد والسخرية والاستهزاء وأصبح هائما على وجهه، لجأ إلى الله بالدعاء فما أن انتهى من الدعاء حتى جاءت الإجابة من رب العالمين مع جبريل وملك الجبال([28]).
5- من مناهج التغيير:
كان مقترح ملك الجبال أن يطبق عليهم الأخشبين, وهو يدخل تحت أسلوب الاستئصال، وقد نفذ في قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط قال تعالى: ( فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ )[العنكبوت:40].
وكان هناك اقتراح آخر وهو أن يستمر في هجرته, والابتعاد عن مكة والطائف الكافرتين، فالأولى أخرجته والثانية خذلته, وعرض ذلك الأمر زيد بن حارثة على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابن القيم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن لم يجد ناصرًا في الطائف، انصرف إلى مكة ومعه مولاه زيد بن حارثة محزونًا، وهو يدعو بدعاء الطائف المشهور، فأرسل ربه تبارك وتعالى ملك الجبال يستأمره أن يطبق الأخشبين على أهل مكة، وهما جبلاها اللذان كانت بينهما، فقال: «لا، بل أستأني بهم, لعل الله يخرج من أصلابهم من يعبده ولا يشرك به شيئا».. وأقام بنخلة أيامًا، فقال له زيد بن حارثة: (كيف تدخل عليهم وقد أخرجوك، يعني قريشًا، وخرجت تستنصر فلم تنصر، يعني الطائف) فقال: «يا زيد، إن الله جاعل لما ترى فرجًا ومخرجًا، وإن الله ناصر دينه ومظهر نبيه» ([29]).
إن النبي صلى الله عليه وسلم رفض منهج الاستئصال، وامتنع عن فكرة الاعتزال, أو الهجرة المستمرة، ونظر إلى المستقبل بنور الإيمان، وقرر الدخول إلى مكة الكافرة ليواصل جهاده الميمون، ويستثمر كل ما يستطيعه من أجل دعوة التوحيد, لم يَحْتَرْ النبي صلى الله عليه وسلم بين المنهجين السابقين, بل تقدم نحو المنهج البديل, الذي عزم عليه وهو منهج يقوم على فكرة دخول مكة الكافرة وليس الانسحاب منها، ويقوم على ضرورة الوجود على ذات الأرض التي يقف عليها الكافرون، واعتصار مؤسساتها واستثمار علاقاتها، وتحوير غاياتها ليتغذى بكل ذلك مجتمع المؤمنين الذي سيولد من أحشائها، أي أنه كان صلى الله عليه وسلم يريد أن يتخذ من أصلاب الكافرين مصانع بشرية تخرج أجيالاً من المسلمين المقاتلين في سبيل الله، فالنظر النبوي هنا مصوب نحو المستقبل بصورة جلية، ولم يكن ذلك يعني الانسحاب من الحاضر([30]) كان النبي صلى الله عليه وسلم قد عزم على دخول مكة مرة ثانية، غير أن ظاهر الأحوال تدل على أن دخول مكة لم يكن أمرًا هينًا ولا آمنًا، وهنالك احتمال كبير للغدر به ولاغتياله من قبل قريش، التي لا يمكن أن تصبر أكثر, وهو قد أعلن الخروج عليها وذهب يستنصر بالقبائل الأخرى, ويوقع بينها وبين حلفائها، ثم إنه حتى لو لم تكن هناك خطورة على شخصه، فإن دخوله إلى مكة بصورة (عادية) وقد طردته الطائف، سيجعل أهل مكة يصورون الأمر كهزيمة كبيرة أصابت المسلمين ويجترئون عليهم ويزدادون سفهًا، ولذلك فقد اتجه نظر الرسول صلى الله عليه وسلم هذه المرة إلى تفجير مكة من الداخل بدلاً من تطويقها من الخارج، أي أراد أن يتغلغل في داخل بطون قريش ذاتها، ويُوجِد له حلفاء من بينهم وَيُكَوِّن له وجودًا في قلبها([31]).
وذكر ابن هشام في السيرة في معرض الحديث عن إجارة المطعم بن عدي: إنه صلى الله عليه وسلم لما انصرف من الطائف ولم يجيبوه إلى ما دعاهم إليه, من تصديقه ونصرته، صار إلى حِراء ثم بعث إلى الأخنس بن شريق ليجيره فقال: أنا حليف والحليف لا يجير، فبعث إلى سهيل بن عمرو، فقال له: إن بني عامر لا تجير على بني كعب، فبعث إلى المطعم بن عدي -سيد قبيلة بني نوفل بن عبد مناف- بعث إليه رجلاً من خزاعة، «أدخل في جوارك؟» فقال: نعم: ودعا بنيه وقومه فقال: البسوا السلاح وكونوا عند أركان البيت فإني قد أجرت محمدًا، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه زيد بن حارثة حتى انتهى إلى المسجد الحرام، فقام المطعم بن عدي على راحلته, فنادى: يا معشر قريش إني قد أجرت محمدًا فلا يهجه أحد منكم, فانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الركن فاستلمه وصلى ركعتين وانصرف إلى بيته, والمطعم بن عدي وولده محدقون بالسلاح حتى دخل بيته([32]).
لقد تغير الوضع كثيرًا بسبب منهجية الرسول صلى الله عليه وسلم الجديدة، فبدلاً من أن يدخل مكة منهزمًا مختفيًا دخلها ويحرسه بالسلاح سيد من سادات قريش, على مسمع منهم ومرأى، هذا ونلاحظ أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد اختار رجلاً من خزاعة فبعثه رسولاً، وفي هذين الاختيارين حنكة سياسية مدهشة، ووعي تاريخي ودبلوماسي عميق، لأن نوفلاً، وهو الأب الأكبر لقبيلة نوفل التي يتزعمها المطعم بن عدي آنئذ، كان خصيمًا لعبد المطلب جد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية، فقد وثب على أفنية وساحات كانت لعبد المطلب، واغتصبها، فاضطرب عبد المطلب لذلك واستنهض قومه فلم ينهض كبير أحد منهم، فكتب إلى أخواله من بني النجار من الخزرج قصيدة يستنصرهم، قالوا: فقدم عليه منهم جمع كثيف فأناخوا بفناء الكعبة وتنكبوا القسي وعلقوا التراس، فلما رآهم نوفل، قال: لشرٍّ ما قدم هؤلاء؟ فكلموه فخافهم ورد أركاح عبد المطلب إليه، فلما نصر بنو الخزرج عبد المطلب قالت خزاعة, وهم قد قووا وعزوا: والله ما رأينا بهذا الوادي أحدًا أحسن وجهًا ولا أتم خلقًا ولا أعظم حلمًا من هذا الإنسان، يعنون عبد المطلب، وقد نصره أخواله من الخزرج، ولقد ولدناه كما ولدوه, وإن جده عبد مناف لابن حبي بنت حليل بن حبشية سيد خزاعة، ولو بذلنا له نصرنا وحالفنا، انتفعنا به وبقومه وانتفع بنا، فأتاه وجوههم، فقالوا: يا أبا الحارث إنا قد ولدناك كما ولدك قوم من بني النجار، ونحن بعد متجاورون في الدار، وقد أماتت الأيام ما يكون في قلوب بعضنا على قريش من الأحقاد، فهلم فنحالفك فأعجب ذلك عبد المطلب وقبله وسارع إليه، ولم يحضر أحد من بني نوفل ولا عبد شمس([33]).
هذا النص يشير إلى جذور الصراع التاريخي القديم بين خزاعة وقريش، حينما جمع قصي بن كلاب قريشًا من متفرقات المواقع، وقاتل بهم خزاعة التي كانت لديها رئاسة البيت وسيادة العرب، فأخرج خزاعة من البيت, وقسم مكة أرباعًا على قريش، فما زالت خزاعة مبغضة لقريش كارهين لها، ولما اضطرب الأمر بين قريش وعبد المطلب, تحالفت خزاعة مع عبد المطلب, نكاية بقريش, وإضعافًا لها، وليس صحيحًا أن الأيام قد أماتت ما كان في قلوب بعضهم على قريش من الأحقاد, كما ذكر وفدهم, بل الصحيح أن الأحقاد لم تزل حية والصراع لم يزل مستمرًا، ومما يدل على ذلك أن بني نوفل وبني عبد شمس لم يدخلا ولم يحضرا هذا الحلف، إذ أنه حلف مضاد لهما.
فإذا بعث الرسول صلى الله عليه وسلم رجلاً من خزاعة إلى سيد قبيلة بني نوفل فإن هذا الفعل إشارة ظاهرة إلى تلك الوقائع التاريخية, التي ذكرناها, كما فيها تذكير بالحلف القديم بين عبد المطلب وخزاعة، ضد بني نوفل وعبد شمس ليفهم من ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقف معزولاً في مكة، وأنه قد يفعل ما فعله جده عبد المطلب، فيتحالف مع خزاعة، أو يستنصر بالخزرج؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن في الواقع (يستعطف) المطعم بن عدي سيد بني نوفل ليدخل في جواره، بقدر ما كان يهدده ويثير مخاوفه، وحماية المطعم بن عدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن مجرد (أريحية) ونبل بقدر ما كانت رعاية لمصلحته وحماية لوضعه، وصمت قريش وهي ترى محمدًا صلى الله عليه وسلم يدخل في جوار بني نوفل ويحرسونه بالسلاح, لم يكن خوفًا من سلاح نوفل، وإنما خوفا من سلاح خزاعة وقسي الخزرج([34]).
كما لا ننسى أن المطعم ممن قام بنقض الصحيفة الظالمة, مع من ذكرنا فيما مضى.
وقد حفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم صنيع مطعم بن عدي، وعرف مدى الخطورة التي عرض نفسه وولده وقومه لها من أجله، فقال عن أسارى بدر السبعين يوم أسرهم: «لو كان المطعم بن عدي حيًّا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له»([35]).
فمع العداء العقدي فرسول الله صلى الله عليه وسلم يفرق بين من يعادي هذه العقيدة ويحاربها، ومن يناصرها ويسالمها، إنهم وإن كانوا كفارًا فليس من سمة النبوة أن تتنكر للجميل([36]).
وهكذا صلى الله عليه وسلم, كان يوظف الأعراف والتقاليد التي في مجتمعه لمصلحة الإسلام، فكان ينظر للبناء الاجتماعي القائم، باعتباره حقيقة موضوعية، تاريخية، وينظر للإنسان الكافر ليس باعتباره رقمًا حسابيًا فرديًا منقطعًا، وإنما ينظر إليه كفرد في شبكة اجتماعية متداخلة العلاقات ومتنوعة الدوافع، وإن الإنسان يملك الفرصة والإمكان لأن يتحول هو نفسه وطوع إرادته إلى قوة اجتماعية مؤثرة، وله وزن في اتخاذ القرار ونقضه، وفقًا للقيم التي يختارها، والمطعم بن عدي لم يكن فردًا وإنما كان مؤسسة، وهي مؤسسة لم تولد بميلاده، وإنما يرجع وجودها إلى تاريخ قديم، تصارعت فيها قيم التوحيد والإشراك، فإن صارت مؤسسة خالصة للكافرين الآن، فلا يعني ذلك استحالة الانتفاع بها وتسخيرها للعودة للإيمان والتوحيد([37]).
6- قصة عداس النصراني, وإسلام الجن:
لقد حققت رحلة النبي صلى الله عليه وسلم انتصارات دعوية رفيعة المستوى، فقد تأثر بالدعوة الغلام النصراني عداس، الذي أسلم([38]) كما وصلت الدعوة إلى الجن السبعة, الذين أسلموا ثم انطلقوا إلى قومهم منذرين.
أ- قصة عداس:
لما تعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم للأذى من أهل الطائف، وخرج من عندهم, وألجؤوه إلى حائط لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وهما فيه، فلما رآه عتبة وشيبة رقَّا له، ودعوا غلامًا لهما نصرانيًّا يقال له: عدَّاس، فقالا له: خذ قطفا من هذا العنب, فضعه في هذا الطبق، ثم اذهب به إلى ذلك الرجل، فقل له يأكل منه، ففعل عدَّاس، ثم أقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال له: كل.
فلما وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه يده, قال: «باسم الله» ثم أكل، فنظر عدَّاس في وجهه، ثم قال: والله إن هذا الكلام, ما يقوله أهل هذه البلاد، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ومن أهل أي البلاد أنت يا عداس؟ وما دينك؟» قال: نصراني وأنا رجل من أهل نينوى.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرية الرجل الصالح يونس بن متى» فقال له عدَّاس: وما يدريك ما يونس بن متى؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذاك أخي، كان نبيا وأنا نبي»، فأكب عداس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل رأسه ويديه وقدميه، قال: يقول ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه، أما غلامك فقد أفسده عليك، فلما جاءهما عداس قالا له: ويلك يا عداس! ما لك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه؟ قال: يا سيدي ما في الأرض شيء خير من هذا، لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي، قالا له: ويحك يا عدَّاس، لا يصرفنك عن دينك، فإن دينك خير من دينه([39]).
* إن تسمية النبي صلى الله عليه وسلم قبل الأكل تطبيق لسنة من سنة الإسلام الظاهرة، وقد كان من بركة ذلك انجذاب الرجل النصراني إلى الإسلام، فما أن ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم اسم الله تعالى قبل الأكل حتى اهتز كيان ذلك المولى النصراني، وجاشت مشاعره فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بعجبه من ذلك حيث لا يعرف أهل تلك البلاد ذكر اسم الله تعالى.
* إن التسمية قبل الأكل كسائر السنن الظاهرة من أسباب تميز المسلمين على من حولهم من الوثنين، وهذا التميز يلفت أنظار الكفار ويدفعهم إلى السؤال عن سبب ذلك, ثم يقودهم ذلك إلى فهم الدين الإسلامي والانجذاب إليه([40]).
* كان يقين عداس بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم قويًّا، يدل على ذلك موقفه من سيديه عتبة وشيبة ابني ربيعة لما أرادا الخروج إلى بدر, وأمراه بالخروج معهما, حيث قال لهما: قتال ذلك الرجل الذي رأيت في حائطكما تريدان؟ فوالله لا تقوم له الجبال، فقال ويحك يا عداس قد سحرك بلسانه([41]).
* في قول عداس والله ما على الأرض خير من هذا, مواساة عظيمة، فلئن آذاه قومه، فهذا وافد من العراق, من نينوى, يكبُّ على يديه ورجليه ويقبلهما، ويشهد له بالرسالة، وإن هذا لقدر رباني, يسوق من نينوى من يؤمن بالله ورسوله، حيث كان الصد من أقرب الناس إليه([42]).

محمد رافع 52 24-09-2014 11:50 PM

ب- إسلام الجن:
لما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم من الطائف راجعًا إلى مكة حين يئس من خبر ثقيف، حتى إذا كان بنخلة, قام من جوف الليل يصلي، فمر به النفر من الجن الذين ذكرهم الله تعالى، وكانوا سبعة نفر من جن أهل نصيبين، فاستمعوا لتلاوة الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما فرغ من صلاته، ولَّوا إلى قومهم منذرين، قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا, فقص الله تعالى خبرهم على النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: ( وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنْذِرِينَ` قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ )[الأحقاف:29-30].
هبط هؤلاء الجن على النبي صلى الله عليه وسلم, وهو يقرأ ببطن نخلة، فلما سمعوه قالوا: ( أَنْصِتُوا ). هذه الدعوة التي رفضها المشركون بالطائف, تنتقل إلى عالم آخر هو عالم الجن، فتلقوا دعوة النبي صلى الله عليه وسلم, ومضوا بها إلى قومهم، كما مضى بها أبو ذر الغفاري إلى قومه، والطفيل بن عمرو إلى قومه، وضماد الأزدي إلى قومه، فأصبح في عالم الجن دعاة يبلغون دعوة الله تعالى: ( يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ )[الأحقاف:31].
وأصبح اسم محمد صلى الله عليه وسلم تهفو إليه قلوب الجن، وليس قلوب المؤمنين من الإنس فقط، وأصبح من الجن حواريون, حملوا راية التوحيد, ووطنوا أنفسهم دعاة إلى الله. ونزل في حقهم قرآن يتلى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها, قال تعالى: ( قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا` يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا` وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَدًا` وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللهِ شَطَطًا` وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِبًا` وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادوهُمْ رَهَقًا` وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللهُ أَحَدًا` وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا` وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا` وَأَنَّا لاَ نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا` وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا` وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعْجِزَ اللهَ فِي الأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَبًا` وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْسًا وَلاَ رَهَقًا )[الجن: 1-13].
كان هذا الفتح الرباني في مجال الدعوة, ورسول الله صلى الله عليه وسلم ببطن نخلة عاجز عن دخول مكة، فهل يستطيع عتاة مكة وثقيف أن يأسروا هؤلاء المؤمنين من الجن، وينزلوا بهم ألوان ال*****؟ ([43]) وعندما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة في جوار المطعم بن عدي كان يتلو على صحابته سورة الجن فتتجاوب أفئدتهم خشوعًا وتأثرًا من روعة الفتح العظيم في عالم الدعوة، وارتفاع راياتها، فليسوا هم وحدهم في المعركة، هناك إخوانهم من الجن يخوضون معركة التوحيد مع الشرك.
وبعد عدة أشهر من لقاء الوفد الأول من الجن برسول الله صلى الله عليه وسلم جاء الوفد الثاني متشوقًا لرؤية الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم والاستماع إلى كلام رب العالمين.([44]) فعن علقمة قال سألت ابن مسعود فقلت: هل شهد أحد منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال: لا، ولكننا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشِّعاب، فقلنا: استُطِير أو اغتيل، قال: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء فقلنا: يا رسول الله، فقدناك فطلبناك فلم نجدك، فبتنا شر ليلة بات بها قوم، فقال: «أتاني داعي الجن فذهبت معه، فقرأت عليهم القرآن» قال: فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد فقال: «لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحمًا، وكل بعرة علف لدوابكم» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم»([45]).
كان هذا الفتح العظيم والنصر المبين في عالم الجن إرهاصًا وتمهيدًا لفتوحات وانتصارات عظيمة في عالم الإنس، فقد كان اللقاء مع وفد الأنصار بعد عدة أشهر([46]).

* * *





([1]) فتح الباري (7/194). (2) صحيح البخاري (فتح الباري 7/193)


([3]) صحيح مسلم (1/195). (4) انظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/184).

([5]) نفس المصدر (1/185). (6) المصدر السابق، (1/185).

([7]) انظر: محنة المسلمين في العهد المكي، ص34.
([8]) انظر: محنة المسلمين في العهد المكي، ص36: 45.
([9]) انظر: تفسير الآلوسي (10/89).
([10]) انظر: مقومات الدعوة والداعية، بادحدح، ص123.
([11]) طبقات ابن سعد (1/221) نقلا عن السيرة النبوية الصحيحة (1/185).
([12]) انظر: شرح العسقلاني لصحيح البخاري، كتاب الكفالة (4/373).
([13]) انظر: أصول الفكر السياسي، ص173. (4) المصدر السابق نفسه، ص174.

([15])انظر: أصول الفكر السياسي، ص174. (2) المصدر السابق ص175.

([17]،4) سيرة ابن هشام، (2/78) (5) انظر: أصول الفكر السياسي ص 175.


([20]) السيرة النبوية جوانب الحذر والحماية، ص109، 110.
([21]) العتبى: الاسترضاء.
([22]) ذهب الدكتور العمري إلى تضعيف الحديث في كتابه السيرة النبوية الصحيحة (1/186) وذهب إبراهيم العلي إلى صحته وبين أن للحديث شاهدًا يقويه ولذلك اعتبره صحيحًا وذكره في كتابه صحيح السيرة النبوية، ص136، وذهب الدكتور عبد الرحمن عبد الحميد البر مدرس الحديث وعلومه في جامعة الأزهر أن الحديث بطريقيه قوي مقبول, وخرج طرقه في كتابه الهجرة النبوية المباركة، ص38.
([23]) انظر: مقومات الداعية الناجح، ص76.
([24]) هو قرن المنازل ميقات أهل نجد ويسمى الآن السيل الكبير.
([25]) صحيح البخاري رقم 3231. (4) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي، (3/26، 27).

([27]) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (3/20).
([28]) انظر: السيرة النبوية جوانب الحيطة والحذر، ص112، 113.
([29]) انظر: زاد المعاد (2/46).
(1) انظر: أصول الفكر السياسي في القرآن المكي ص176.
([31]) نفس المصدر، ص177، 178.
([32]) سيرة ابن هشام (1/381) ثم زاد المعاد (2/47). (4) محمد رسول الله، لصادق عرجون، (2/324).

([33]) انظر: أنساب الأشراف للبلاذري (1/71) تحقيق محمد حميد الله، دار المعارف بمصر، بدون تاريخ.
([34]) انظر: أصول الفكر السياسي في القرآن المكي، ص180.
(1) البخاري، كتاب 64 باب شهود الملائكة (3/110).
([36]) انظر: التحالف السياسي، ص44.
([37]) انظر: أصول الفكر السياسي، ص181. (4) انظر: الرسول المبلغ للخالدي، ص39، 40.


([39]) صحيح السيرة النبوية، 136، 137. (2) انظر: التاريخ الإسلامي، (3/22).
(3) انظر: سبل الهدى والرشاد (2/578).(4) انظر: التربية القيادية (1/437).


([43]) انظر: التربية القيادية (1/443). (2) نفس المصدر (1/445).

([45]) مسلم، كتاب الصلاة، (1/332) رقم 150.
([46]) انظر: التربية القيادية، (1/445).

محمد رافع 52 25-09-2014 12:00 AM

المبحث الرابع


الإسراء والمعراج... ذروة التكريم

نرى أن لهذه المعجزة الجليلة أهدافًا تتمثل في أمور من أهمها:
* إن الله عز وجل أراد أن يتيح لرسوله فرصة الاطلاع على المظاهر الكبرى لقدرته, حتى يملأ قلبه ثقة فيه واستنادًا إليه, حتى يزداد قوة في مهاجمة سلطان الكفر القائم في الأرض، كما حدث لموسى عليه السلام، فقد شاء الله أن يريه عجائب قدرته، فلما ملأ قلبه بمشاهد هذه الآيات الكبرى قال له بعد ذلك: ( لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى )[طه:23].
في رحلة الإسراء والمعراج أطلع الله نبيه على هذه الآيات الكبرى، توطئة للهجرة ولأعظم مواجهة على مدى التاريخ للكفر والضلال والفسوق، والآيات التي رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرة: الذهاب إلى بيت المقدس، العروج إلى السماء، رؤية الغيب الذي دعا إليه الأنبياء والمرسلين، الملائكة، السماوات، الجنة والنار، نماذج من النعيم والعذاب.
كان حديث القرآن الكريم عن الإسراء في سورة الإسراء, وعن المعراج في سورة النجم، وذكر حكمة الإسراء في سورة الإسراء بقوله: ( لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا )[الإسراء:1] وفي سورة النجم بقوله: ( لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى )[النجم:18] وفي الإسراء والمعراج علوم وأسرار ودقائق ودروس وعبر([1])
يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي: «لم يكن الإسراء مجرد حادث فردي بسيط رأى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم الآيات الكبرى، وتجلى له ملكوت السماوات والأرض مشاهدة وعيانًا، بل زيادة إلى ذلك, اشتملت هذه الرحلة النبوية الغيبية على معانٍ دقيقة كثيرة، وشارات حكيمة بعيدة المدى: فقد ضمت قصة الإسراء، وأعلنت السورتان الكريمتان اللتان نزلتا في شأنه تسميان (الإسراء) , (النجم) أن محمدا صلى الله عليه وسلم هو نبي القبلتين، وإمام المشرقين والمغربين، ووارث الأنبياء قبله، وإمام الأجيال بعده، فقد التقت في شخصه وفي إسرائه مكة بالقدس، والبيت الحرام بالمسجد الأقصى، وصلى بالأنبياء خلفه، فكان هذا إيذانًا بعموم رسالته وخلود إمامته وإنسانية تعاليمه، وصلاحيتها لاختلاف المكان والزمان، وأفادت هذه السورة الكريمة تعيين شخصية النبي صلى الله عليه وسلم ووصف إمامته وقيادته وتحديد مكانة الأمة التي بعث فيها وآمنت به، وبيان رسالته ودورها الذي ستمثله في العالم، ومن بين الشعوب والأمم([2]).
أولاً: قصة الإسراء والمعراج كما جاءت في بعض الأحاديث:
* عن أنس بن مالك t قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أُتيت بالبراق -وهو دابة أبيضٌ طويلٌ فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه- قال: فركبته حتى أتيت بيت المقدس قال: فربطته بالحلقة([3]) التي يربط بها الأنبياء قال: ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين، ثم خرجت فجاءني جبريل عليه السلام بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن، فقال: جبريل اخترت الفطرة» ([4]) فذكر الحديث([5]).
* وفي حديث مالك بن صعصعة: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم حدثهم عن ليلة أسري يه، قال: «بينما أنا في الحطيم»([6]) وربما قال: «في الحجر مضطجعًا إذ أتاني آت([7]) فقدَّ» قال: وسمعته يقول: «فشق ما بين هذه» فقلت للجارود وهو إلى جانبي: ما يعني به؟ قال: من ثغرة نحره([8]) إلى شعرته([9]) وسمعته يقول: من قصه([10]) إلى شعرته، «فاستخرج قلبي ثم أتيت بطست من ذهب مملوءة إيمانًا، فغسل قلبي ثم حَشي ثم أعيد، ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض» فقال له الجارود: هو البراق يا أبا حمزة؟ قال أنس: نعم, يضع خطوه عند أقصى طرفه([11])، فحملت عليه فانطلق بي جبريل حتى أتيت السماء الدنيا فاستفتح ([12])قيل: من هذا؟
قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟
قال: نعم. قيل: مرحبًا به([13]) فنعم المجيء جاء, ففتح، فلما خَلَصت فإذا فيها آدم فقال: هذا أبوك آدم فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد السلام، ثم قال: مرحبًا بالابن الصالح، والنبي الصالح، ثم صعد بي حتى أتى السماء الثانية فاستفتح: قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قال: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به فنعم المجيء جاء، فَفَتح فلما خلصت إذا يحيى وعيسى وهما ابنا الخالة، قال: هذا يحيى وعيسى، فسلم عليهما فسلمت، فردَّا ثم قالا: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح.
ثم صعد بي إلى السماء الثالثة، فاستفتح قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به فنعم المجيء جاء, ففتح فلما خلصت إذا يوسف, قال: هذا يوسف فسلم عليه فسلمت عليه، فرد ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح.
ثم صعد بي حتى السماء الرابعة، فاستفتح قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به فنعم المجيء جاء, ففتح فلما خلصت فإذا إدريس, قال: هذا إدريس, فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح.
ثم صعد بي حتى أتى السماء الخامسة، فاستفتح قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به فنعم المجيء جاء, ففتح فلما خلصت, فإذا هارون قال: هذا هارون، فسلم عليه، فسلمت عليه فرد ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح.
ثم صعد بي حتى السماء السادسة، فاستفتح قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به فنعم المجيء جاء, فلما خلصت فإذا موسى قال: هذا موسى فسلم عليه، فسلمت عليه فرد ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح، والنبي الصالح، فلما تجاوزت بكى، قيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلامًا([14]) بُعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي.
ثم صعد بي إلى السماء السابعة، فاستفتح جبريل قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به ونعم المجيء جاء, فلما خلصت فإذا إبراهيم قال: هذا أبوك فسلم عليه، قال فسلمت عليه فرد السلام ثم قال: مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح ثم رفعت لي([15]) سدرة فإذا نبقها مثل([16]) قلال هجر([17]) وإذا ورقها مثل آذان الفيلة، قال: هذه سدرة المنتهى، وإذا أربعة أنهار, نهران باطنان ونهران ظاهران، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: أما البطنان فنهران في الجنة وأما الظاهران فالنيل والفرات ثم رفع لي البيت المعمور.
ثم أتيت بإناء من خمر, وإناء من لبن, وإناء من عسل، فأخذت اللبن، فقال: هي الفطرة([18]) التي أنت عليها وأمتُك.
ثم فرضت علي الصلاة خمسين صلاة كل يوم، فرجعت فمررت على موسى فقال: بما أمرت؟ قال: أمرت بخمسين صلاة كل يوم، قال: إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم، وإني والله قد جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة([19]) فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فرجعت، فوضع عني عشرًا، فرجعت إلى موسى فقال: مثله، فرجعت فوضع عني عشرًا، فرجعت إلى موسى فقال: مثله فرجعت فوضع عني عشرًا، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فأمرت بعشر صلوات كل يوم، فرجعت فقال مثله، فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم، فرجعت إلى موسى فقال: بما أمرت؟ قلت: أمرت بخمس صلوات كل يوم قال: إن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم، وإني قد جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك قال: سألت ربي حتى استحييت، ولكن أرضى وأُسَلِّم، قال: فلما جاوزتُ نادى منادٍ: أمضيتُ فريضتي وخففت عن عبادي»([20]).
* كانت حادثة الإسراء والمعراج قبل هجرته عليه السلام بسنة هكذا قال القاضي عياض في الشفا([21]).
* فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من رحلته الميمونة أخبر قومه بذلك فقال لهم في مجلس حضره المطعم بن عدي، وعمرو بن هشام والوليد بن المغيرة، فقال: «إني صليت الليلة العشاء في هذا المسجد، وصليت به الغداة، وأتيت فيما دون ذلك بيت المقدس، فنشر لي رهط من الأنبياء منهم إبراهيم وموسى وعيسى وصليت بهم وكلمتهم» فقال عمرو بن هشام كالمستهزئ به: صفهم لي، فقال: «أما عيسى، ففوق الربعة، ودون الطول، عريض الصدر، ظاهر الدم، جعد، أشعر تعلوه صهبة([22])، كأنه عروة بن مسعود الثقفي، وأما موسى فضخم آدم طوال، كأنه من رجال شنوءة, متراكب الأسنان، مقلص الشفة، خارج اللثة، عابس، وأما إبراهيم فوالله إنه لأشبه الناس بي، خَلقا وخُلقا»([23]).
فقالوا: يا محمد فصف لنا بيت المقدس، قال: «دخلت ليلاً، وخرجت ليلاً» فأتاه جبريل بصورته في جناحه، فجعل يقول: «باب منه كذا، في موضع كذا، وباب منه كذا، في موضع كذا».
ثم سألوه عن عيرهم فقال لهم: «أتيت على عير بني فلان بالروحاء، قد أضلوا ناقة لهم، فانطلقوا في طلبها، فانتهيت إلى رحالهم ليس بها منهم أحد، وإذا قدح ماء فشربت منه فاسألوهم عن ذلك» قالوا: هذه والإله آية- «ثم انتهيت إلى عير بني فلان، فنفرت مني الإبل وبرك منها جمل أحمر عليه جوالق([24])، مخطط ببياض, لا أدري أكسر البعير، أم لا فاسألوهم عن ذلك» قالوا: هذه والإله آية- «ثم انتهيت إلى عير بني فلان في التنعيم، يقدمها جمل أورق([25]) وهاهي تطلع عليكم من الثنية» ([26]).
فقال الوليد بن المغيرة: ساحر فانطلقوا فنظروا, فوجدوا الأمر كما قال، فرموه بالسحر، وقالوا: صدق الوليد بن المغيرة فيما قال([27]).
* كانت هذه الحادثة فتنة لبعض الناس فارتد ناس ممن كانوا آمنوا به وصدقوه، وسعوا بذلك إلى أبي بكر الصديق t فقالوا: هل لك إلى صاحبك, يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس.
قال: أَوَقال ذلك؟ قالوا: نعم، قال: لئن كان قال ذلك لقد صدق، قالوا: أو تصدقه، أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح؟
قال: نعم إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة، فلذلك سمي أبو بكر الصديق([28]).
ثانيًا: فوائد ودروس وعبر:
1- بعد كل محنة منحة، وقد تعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم لمحن عظيمة، فهذه قريش قد سدت الطريق في وجه الدعوة في مكة، وفي ثقيف وفي قبائل العرب، وأحكمت الحصار ضد الدعوة ورجالاتها من كل جانب، وأصبح النبي صلى الله عليه وسلم في خطر بعد وفاة عمه أبي طالب أكبر حُماته، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ماضٍ في طريقه، صابر لأمر ربه, لا تأخذه في الله لومة لائم ولا حرب محارب، ولا كيد مستهزئ فقد آن الأوان للمنحة العظيمة، فجاءت حادثة الإسراء والمعراج على قدر من رب العالمين، فيعرج به من دون الخلائق جميعًا، ويكرمه على صبره وجهاده، ويلتقي به مباشرة دون رسول ولا حجاب، ويطلعه على عوالم الغيب دون الخلق
كافة، ويجمعه مع إخوانه من الرسل في صعيدٍ واحد, فيكون الإمام والقدوة لهم وهو
خاتمهم وآخرهم([29]).

2- إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مُقدمًا على مرحلة جديدة، مرحلة الهجرة، والانطلاق لبناء الدولة، يريد الله تعالى لِلَّبِنَات الأولى في البناء أن تكون سليمة قوية متراصة متماسكة، فجعل الله هذا الاختبار والتمحيص، ليخلص الصف من الضعاف المترددين، والذين في قلوبهم مرض، ويثبت المؤمنين الأقوياء الخلص الذين لمسوا عيانا صدق نبيهم بعد أن لمسوه تصديقًا، وشهدوا مدى كرامته على ربه، فأي حظ يحوطهم وأي سعد يغمرهم وهم حول هذا النبي المصطفى وقد آمنوا به, وقدموا حياتهم فداء له ولدينهم، كم يترسخ الإيمان في قلوبهم أمام هذا الحدث الذي تم بعد وعثاء الطائف، وبعد دخول مكة بجوارٍ وبعد أذى الصبيان والسفهاء([30]).
3- إن شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم العالية تتجسد في مواجهته للمشركين بأمر تنكره عقولهم ولا تدركه في أول الأمر تصوراتهم, ولم يمنعه من الجهر به الخوف من مواجهتهم, وتلقي نكيرهم واستهزائهم فضرب بذلك صلى الله عليه وسلم لأمته أروع الأمثلة في الجهر بالحق أمام أهل الباطل, وإن تحزبوا ضد الحق وجندوا لحربه كل ما في وسعهم، وكان من حكمة النبي صلى الله عليه وسلم في إقامة الحجة على المشركين بأن حدثهم عن إسرائه إلى بيت المقدس، وأظهر الله له علامات تلزم الكفار بالتصديق وهذه العلامات هي:
* وصف النبي صلى الله عليه وسلم بيت المقدس، وقد أقروا بصدق الوصف ومطابقته للواقع الذي يعرفونه.
* إخباره عن العير التي بالروحاء، والبعير التي أضلوه، وما قام به من شرب الماء الذي في القدح.
* إخباره عن العير الثانية التي نفرت فيها الإبل ووصفه الدقيق لأحد جمالهم.
* إخباره عن العير الثالثة التي بالأبواء ووصفه الجمل الذي يقدمها، وإخباره
بأنها تطلع ذلك الوقت من ثنية التنعيم، وقد تأكد المشركون فوجدوا أن ما أخبرهم به الرسول صلى الله عليه وسلم كان صحيحًا فهذه الأدلة الظاهرة كانت مفحمة لهم ولا يستطيعون معها أن يتهموه بالكذب، كانت هذه الرحلة العظيمة, تربية ربانية رفيعة المستوى, وأصبح صلى الله عليه وسلم يرى الأرض كلها بما فيها من مخلوقات نقطة صغيرة في ذلك الكون الفسيح، ثم ما مقام كفار مكة في هذه النقطة؟ إنهم لا يمثلون إلا جزءًا يسيرًا جدًا من هذا الكون، فما الذي سيفعلونه تجاه من اصطفاه الله تعالى من خلقه, وخصه بتلك الرحلة العلية الميمونة وجمعه بالملائكة والأنبياء عليهم السلام، وأراه السماوات السبع وسدرة المنتهى والبيت المعمور وكلمه جلا وعلا([31])؟

4- يظهر إيمان الصديق رضي الله عنه القوي في هذا الحدث الجلل، فعندما أخبره الكفار قال بلسان الواثق، لئن كان قال ذلك لقد صدق، ثم قال: إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة، وبهذا استحق لقب الصديق، وهذا منتهى الفقه واليقين، حيث وازن بين هذا الخبر ونزول الوحي من السماء، فبين لهم أنه إذا كان غريبا على الإنسان العادي فإنه في غاية الإمكان بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم([32]).
5- إن شرب رسول الله صلى الله عليه وسلم اللبن حين خير بينه وبين الخمر، وبشارة جبريل عليه الصلاة والسلام: هديت للفطرة، تؤكد أن هذا الإسلام دين الفطرة البشرية التي ينسجم معها، فالذي خلق الفطرة البشرية خلق لها هذا الدين الذي يلبي نوازعها واحتياجاتها، ويحقق طموحاتها ويكبح جماحها ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ )[الروم:30].
6- إن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالأنبياء دليل على أنهم سلموا له بالقيادة والريادة، وأن شريعة الإسلام نسخت الشرائع السابقة، وأنه وسع أتباع هؤلاء الأنبياء ما وسع أنبياءَهم أن يسلموا بالقيادة لهذا الرسول ولرسالته التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.
إن على الذين يعقدون مؤتمرات التقارب بين الأديان أن يدركوا هذه الحقيقة، ويدعوا إليها، وهي ضرورة الانخلاع عن الديانات المنحرفة, والإيمان بهذا الرسول صلى الله عليه وسلم ورسالته، وعليهم أن يدركوا حقيقة هذه الدعوات المشبوهة, التي تخدم وضعًا من الأوضاع أو نظامًا من الأنظمة الجاهلية.
7- إن الربط بين المسجد الأقصى, والمسجد الحرام وراءه حكم ودلالات وفوائد منها:
* أهمية المسجد الأقصى بالنسبة للمسلمين، إذ أصبح مسرى رسولهم صلى الله عليه وسلم، ومعراجه إلى السماوات العلا، وكان لا يزال قبلتهم الأولى طيلة الفترة المكية، وهذا توجيه وإرشاد للمسلمين بأن يحبوا المسجد الأقصى وفلسطين؛ لأنها مباركة ومقدسة.
* الربط يشعر المسلمين بمسؤوليتهم نحو المسجد الأقصى بمسئولية تحرير المسجد الأقصى من أوضار الشرك وعقيدة التثليث، كما هي أيضًا مسئوليتهم تحرير المسجد الحرام من أوضار الشرك وعبادة الأصنام.
* الربط يشعر بأن التهديد للمسجد الأقصى, هو تهديد للمسجد الحرام وأهله، وأن النيل من المسجد الأقصى توطئة للنيل من المسجد الحرام، فالمسجد الأقصى بوابة الطريق إلى المسجد الحرام، وزوال المسجد الأقصى من أيدي المسلمين, ووقوعه في أيدي اليهود يعني أن المسجد الحرام, والحجاز قد تهدد الأمن فيهما واتجهت أنظار الأعداء إليهما لاحتلالهما.
والتاريخ قديمًا وحديثًا يؤكد هذا، فإن تاريخ الحروب الصليبية يخبرنا أن (أرناط) الصليبي صاحب مملكة الكرك أرسل بعثة للحجاز للاعتداء على قبر الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى جثمانه في المسجد النبوي، وحاول البرتغاليون (النصارى الكاثوليك) في بداية العصور الحديثة الوصول إلى الحرمين الشريفين لتنفيذ ما عجز عنه أسلافهم الصليبيون، ولكن المقاومة الشديدة التي أبداها المماليك وكذا العثمانيون حالت دون إتمام مشروعهم الجهنمي وبعد حرب 1967م التي احتل اليهود فيها بيت المقدس صرخ زعماؤهم بأن الهدف بعد ذلك احتلال الحجاز وفي مقدمة ذلك مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخيبر.
لقد وقف دافيد بن غوريون زعيم اليهود بعد دخول الجيش اليهودي القدس يستعرض جنودًا وشبانًا من اليهود بالقرب من المسجد الأقصى ويلقي فيهم خطابًا ناريًا يختتمه بقوله: (لقد استولينا على القدس ونحن في طريقنا إلى يثرب)([33]).
ووقفت غولدا مائير, رئيسة وزراء اليهود, بعد احتلال بيت المقدس, وعلى خليج إيلات العقبة، تقول: «إنني أشم رائحة أجدادي في المدينة والحجاز، وهي بلادنا التي سوف نسترجعها»([34]).
وبعد ذلك نشر اليهود خريطة لدولتهم المنتظرة التي شملت المنطقة من الفرات إلى النيل، بما في ذلك الجزيرة العربية والأردن وسوريا والعراق ومصر واليمن والكويت والخليج العربي كله، ووزعوا خريطة دولتهم هذه بعيد انتصارهم في حرب (1967م)
في أوروبا ([35]).

8- أهمية الصلاة وعظيم منزلتها: وقد ثبت في السنة النبوية أن الصلاة فرضت على الأمة الإسلامية في ليلة عروجه صلى الله عليه وسلم إلى السماوات وفي هذا كما قال ابن كثير: «اعتناء عظيم بشرف الصلاة وعظمتها» ([36]) فعلى الدعاة أن يؤكدوا على أهمية الصلاة والمحافظة عليها، وأن يذكروا فيما يذكرون, من أهميتها ومنزلتها كونها فرضت في ليلة المعراج، وأنها من آخر ما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته([37]).
9- تحدث الرسول صلى الله عليه وسلم عن مخاطر الأمراض الاجتماعية وبين عقوبتها كما شاهد ذلك في ليلة الإسراء والمعراج ومن هذه الأمراض وعقوبتها:
* عقوبة جريمة الغيبة والمغتابين، فقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أناسا يأكلون الجيف فأخبره جبريل: «هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس»([38]).
* عقوبة أكلة أموال اليتامى، فقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالاً لهم مشافر -شفاه كبيرة- كشفاه البعير, في أيديهم قطع من نار كالأفهار (أى الحجارة) يقذفونها في أفواههم فتخرج من أدبارهم فأخبره جبريل: «هؤلاء أكلة أموال اليتامى ظلما»([39]).
* أكلة الربا، فقد أتى النبي صلى الله عليه وسلم على قوم بطونهم كالبيوت فيها الحيات ترى من خارج بطونهم، فأخبره جبريل: «هؤلاء أكلة الربا» ([40]).
* وذكرت الروايات عقوبة الزناة, ومانعي الزكاة, وخطباء الفتنة, والتهاون في الأمانة([41]).
* ثواب المجاهدين، ففي ليلة الإسراء والمعراج مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قوم يزرعون في يوم ويحصدون في يوم، كلما حصدوا عادوا كما كان, فأخبر جبريل: «هؤلاء المجاهدون في سبيل الله تضاعف لهم الحسنات بسبعمائة ضعف وما أنفقوا من شيء فهو يُخلَف»([42]).
10- إدراك الصحابة لأهمية المسجد الأقصى: أدرك الصحابة رضي الله عنهم مسئوليتهم نحو المسجد الأقصى, وهو يقع أسيرًا تحت حكم الرومان، فحرروه في عهد عمر بن الخطاب t وظل ينعم بالأمن والأمان حتى عاث الصليبيون فسادًا فيه بعد خمسة قرون, من هجرة المصطفى، ومكثوا ما يعادل قرنًا يعيثون فسادًا فحرره المسلمون بقيادة صلاح الدين الأيوبي، وها هو ذا يقع تحت الاحتلال اليهودي فما الطريق إلى تخليصه([43])؟.
الطريق إلى تخليصه الجهاد في سبيل الله, على المنهج الذي سار عليه الصحابة الكرام رضي الله عنهم.

* * *


([1]) انظر: الأساس في السنة، سعيد حوى (1/291، 292).

([2]) انظر: الأساس في السنة (1/292).

(1) الحلقة المراد باب مسجد بيت المقدس.(2) الفطرة: الإسلام والاستقامة.



([5]) مسلم، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول رقم 162.

([6]) الحطيم: هو ما بين الركن والمقام. (5) آت: هو جبريل عليه السلام.



([8]) ثغره النحر: الموضع المنخفض في أدنى الرقبة من الأمام.

([9]) شعرته: شعر عانته وما ما ينبت حول العانة. (8) القص: رأس عظام الصدر.



([11]) يضع خطوه عند أقصى طرفه: يضع رجله عند منتهى بصره.

([12]) استفتح: طلب فتح باب السماء الدنيا. (11) مرحبًا به: أصاب رحبًا وسعة.




([14]) أبكي لأن غلاما. ليس هذا على سبيل النقص بل على سبيل التنويه بقدرة الله وعظم كرمه.

([15]) رفعت لي: قربت لي. (3) النبق: هو ثمر السدر.



([17]) قلال هجر: يضرب بها المثل لكبرها، وهجر قرية في البحرين والقلة: الجرة الكبيرة.

([18]) الفطرة: دين الإسلام.

([19]) عالجتهم أشد المعالجة: مارست بني إسرائيل أشد الممارسة.

([20]) البخاري في مناقب الأنصار، باب في المعراج، رقم 3887.

([21]) انظر: الشفا بتعريفحقوق المصطفى (1/108). (4) صهبة: بياض بحمرة.




([23]) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (3/37).

([24]) الجوالق: هو العدل الذي يوضع فيه المتاع. (2) أورق: أي لونه أبيض وفيه سواد.



([26]) الثنية: أي الطريق الجبلي.

([27]) المطالب العالية للحافظ ابن حجر (4/201: 204) وعيون الأثر (1/140: 142) وابن هشام بلاغا عن أم هانئ رضي الله عنها (2/11).

([28]) المستدرك (3/62) قال الحاكم: هذا الحديث صحيح الإسناد، وأقره الذهبي.

([29]) انظر: التربية القيادية، (1/447).

(2) انظر: التربية القيادية، (1/451).

([31]) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (3/41، 42).

([32])انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (3/43).

([33]) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس، ص314.

([34]) جريدة الدستور الأردنية العدد (4613) بقلم أميل الغوري، نقلا عن السيرة النبوية لأبي فارس، ص314.

([35]) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس ص215. (4) تفسير ابن كثير (3/23).



([37]) انظر: المستفاد من قصص القرآن للدعوة والدعاة (2/93).

([38]) الفتح الرباني للساعاتي (20/255) إسناده صحيح.

([39]) فتح الباري بشرح صحيح البخاري (8/200).

(3) تفسير ابن كثير (4/274).

([41]) تفسير الطبري (15/7)، والفتح الرباني (20/257).

([42]) انظر: الخصائص الكبرى (1/171) والسيرة النبوية لأبي فارس، ص220.

([43]) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس، ص220.

محمد رافع 52 26-09-2014 03:43 PM

الفصل الخامس


الطواف على القبائل وهجرة الصحابة إلى المدينة


المبحث الأول


الطواف على القبائل طلبًا للنصرة

بعد رجوعه صلى الله عليه وسلم من الطائف، بدأ يعرض نفسه على القبائل في المواسم, يشرح لهم الإسلام، ويطلب منهم الإيواء والنصرة، حتى يبلغ كلام الله عز وجل وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحرك في المواسم التجارية, ومواسم الحج التي تجتمع فيها القبائل, وفق خطة سياسية دعوية واضحة المعالم, ومحددة الأهداف، وكان يصاحبه أبو بكر الصديق, الرجل الذي تخصص في معرفة أنساب العرب وتاريخها، وكانا يقصدان «غرر الناس ووجوه القبائل، وكان أبو بكر t يسأل وجوه القبائل ويقول لهم: كيف العدد فيكم؟ وكيف المنعة فيكم؟ وكيف الحرب فيكم؟ وذلك قبل أن يتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعرض دعوته»([1]).
يقول المقريزي: «ثم عرض صلى الله عليه وسلم نفسه على القبائل أيام الموسم، ودعاهم إلى الإسلام، وهم بنو عامر، وغسان، وبنو فزارة، وبنو مرة، وبنو حنيفة، وبنو سليم، وبنو عبس، وبنو نصر، وثعلبة بن عكابة، وكندة، وكلب، وبنو الحارث بن كعب، وبنو عذرة وقيس بن الخطيم، وأبو اليسر أنس بن أبي رافع» وقد استقصى الواقدي أخبار هذه القبائل قبيلة قبيلة ويقال إنه صلى الله عليه وسلم بدأ بكندة فدعاها إلى الإسلام, ثم أتى كلبًا ثم بني حنيفة ثم بني عامر، وجعل يقول: من رجل يحملني إلى قومه فيمنعني, حتى أبلغ رسالة ربي فإن قريشًا قد منعوني أن أبلغ رسالة ربي؟ هذا وأبو لهب وراءه يقول للناس: لا تسمعوا منه فإنه كذاب([2]).
ولم يقتصر الأذى على ذلك بل واجه الرسول صلى الله عليه وسلم ما هو أشد وأقسى، فقد روى البخاري في تاريخه والطبراني في الكبير عن مدرك بن منيب أيضًا عن أبيه عن جده رضي الله تعالى عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية وهو يقول: «يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا» فمنهم من تفل في وجهه، ومنهم من حثا عليه التراب، ومنهم من سبه، حتى انتصف النهار، فأقبلت جارية بِعُسٍّ من ماء فغسل وجهه ويديه، وقال: «يا بنية لا تخشي على أبيك غلبة ولا ذلة» فقلت: من هذه؟ قالوا: زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي
جارية وضيئة([3]).

وقد كان أبو جهل, وأبو لهب, لعنهما الله يتناوبان على أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما يدعو في الأسواق والمواسم، وكان يجد منهما عنتًا كبيرًا، إضافة إلى ما يلحقه من المدعوين أنفسهم([4]).
أولاً: من أساليب النبي صلى الله عليه وسلم في الرد على مكائد أبي جهل والمشركين أثناء الطواف على القبائل:
1- مقابلة القبائل في الليل:
فكان صلى الله عليه وسلم من حكمته العالية يخرج لمقابلة القبائل في ظلام الليل، حتى لا يحول بينه وبينهم أحد من المشركين([5]) وقد نجح هذا العمل في إبطال مفعول الدعاية المضادة، التي كانت تتبعها قريش، كلما اتصل الرسول صلى الله عليه وسلم بقبيلة من القبائل، والدليل على نجاح هذا الأسلوب المضاد اتصال الرسول صلى الله عليه وسلم بالأوس والخزرج ليلا، ومن ثم كانت العقبة الأولى والثانية ليلا([6]).
2- ذهاب الرسول صلى الله عليه وسلمإلى القبائل في منازلهم:
فقد أتى كلبًا وبني حنيفة، وبني عامر في منازلهم([7]) وبذلك يحاول أن يبتعد عن مطاردة قريش، فستطيع أن يتفاوض مع القبائل بالطريقة المناسبة دونما تشويش أو تشويه من قريش.
3- اصطحاب الأعوان:
كان أبو بكر وعلي رضي الله عنهما يرافقان الرسول صلى الله عليه وسلم في بعض مفاوضاته مع بعض القبائل، وربما كانت هذه الرفقة لأجل ألا يظن المدعوون أنه وحيد، ولا أعوان له من أشراف قومه وأقاربه، هذا إلى جانب معرفة أبي بكر t بأنساب العرب([8]) الأمر الذي يساعد الرسول صلى الله عليه وسلم في التعرف على معادن القبائل، فيقع الاختيار على أفضلها، لتحمل تبعات الدعوة.
4- التأكد من حماية القبيلة:
ومن الجوانب الأمنية المهمة، سؤاله صلى الله عليه وسلم عن المنعة والقوة لدى القبائل, قبل أن يوجه إليهم الدعوة، ويطلب منهم الحماية فقوة ومنعة القبيلة التي تحمي الدعوة شيء ضروري ومهم لا بد منه، لأن هذه القبيلة ستواجه كل قوى الشر والباطل، فلا بد أن تكون أهلاً لهذا الدور من حيث الاستعداد المعنوي والمادي، الذي يرهب الأعداء، ويحمي حمى الدعوة، ويتحمل تبعات نشرها، مزيلاً لكل العقبات التي تقف في طريقها([9]).

محمد رافع 52 26-09-2014 03:44 PM

ثانيًا: المفاوضات مع بني عامر:
اختار الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجري مفاوضات مع بني عامر قامت تلك المفاوضات على دراسة وتخطيط، فالرسول وصاحبه أبو بكر كانا يعلمان أن بني عامر قبيلة مقاتلة كبيرة العدد وعزيزة الجانب، بل هي من القبائل الخمس التي لم يمسها سباء ولم تتبع لملك ولم تؤد إتاوة([10]) مثلها مثل قريش وخزاعة([11]) كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعلم أن هنالك تضادًا قديمًا بين بني عامر وثقيف، فإذا كانت ثقيف امتنعت عليه من الداخل فلماذا لا يحاول أيضا تطويقها من الخارج، والاستفادة في من بني عامر بن صعصعة، فإذا استطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يبرم حلفًا مع بني عامر فإن موقف ثقيف سيكون على حافة الخطر([12]) يذكر أصحاب السيرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما أتى بني عامر بن صعصعة، فدعا إلى الله, وعرض عليهم نفسه، قال له رجل منهم يقال له بَيْحَرة بن فِراس: «والله لو أني أخذت هذا الفتى لأكلت به العرب، ثم قال له: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: «الأمر لله يضعه حيث يشاء» قال: فقال له: أَفَنُهدفُ نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمير لغيرنا؟ لا حاجة لنا بأمرك فأبوا عليه ([13]).
ثالثًا: المفاوضات مع بني شيبان:
ففي رواية علي بن أبي طالب t قال: لما أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعرض نفسه على قبائل العرب خرج وأنا معه.. إلى أن قال: ثم دفعنا إلى مجلس آخر, عليه السكينة والوقار فتقدم أبو بكر فسلم فقال: من القوم؟ قالوا: شيبان بن ثعلبة فالتفت أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: بأبي وأمي, هؤلاء غُرَر الناس, وفيهم مفروق قد غلبهم لسانًا وجمالاً، وكانت له غديرتان تسقطان على تريبتيه، وكان أدنى القوم مجلسًا من أبي بكر، فقال أبو بكر: كيف العدد فيكم؟ فقال مفروق: إنا لا نزيد على الألف ولن تغلب ألف من قلة، فقال أبو بكر: وكيف المنعة فيكم؟ فقال مفروق: إنا لأشد ما نكون غضبًا حين نلقى. وأشد ما نكون لقاء حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد, والسلاح على اللقاح, والنصر من عند الله يديلنا مرة, ويديل علينا أخرى, لعلك أخو قريش؟ فقال أبو بكر: إن كان بلغكم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فها هو ذا، فقال مفروق: إلام تدعونا يا أخا قريش؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأني عبد الله ورسوله، وإلى أن تؤووني وتنصروني، فإن قريشًا قد تظاهرت على الله، وكذبت رسوله، واستغنت بالباطل عنالحق، والله هو الغني الحميد» فقال مفروق، وإلام تدعو أيضًا يا أخا قريش؟ فوالله ما سمعت كلامًا أحسن من هذا, فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُم مِّنْ إِمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ )[الأنعام:151].
فقال مفروق: دعوت والله إلى مكارم الأخلاق, ومحاسن الأعمال، ولقد أفك قوم كذبوك, وظاهروا عليك، ثم رد الأمر إلى هانئ بن قبيصة فقال: وهذا هانئ شيخنا, وصاحب ديننا, فقال هانئ: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش, وإني أرى تركنا ديننا, واتباعنا دينك لمجلس جلست إلينا, لا أول له ولا آخر لذل في الرأي, وقلة نظر في العاقبة أن الزلة مع العجلة، وإنا نكره أن نعقد على من وراءنا عقدًا، ولكن نرجع وترجع, وننظر, ثم كأنه أحب أن يشركه المثنى بن حارثة، فقال: وهذا المثنى شيخنا وصاحب حربنا فقال المثنى –وأسلم بعد ذلك–: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش, والجواب فيه جواب هانئ بن قبيصة, في تركنا ديننا ومتابعتنا دينك وإنا إنما نزلنا بين صَرَيَين أحدهما اليمامة والآخر السَّمامة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما هذان الصريان» قال: أنهار كسرى, ومياه العرب، فأما ما كان من أنهار كسرى, فذنب صاحبه غير مغفور, وعذره غير مقبول، وإنا إنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى, أن لا نحدث حدثًا ولا نؤوي محدثًا, وإني أرى هذا الأمر الذي تدعونا إليه يا أخا قريش مما تكره الملوك, فإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب, فعلنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أسأتم في الرد إذ أفصحتم بالصدق، وإن دين الله عز وجل لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه، أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلاً حتى يورثكم الله تعالى أرضهم وديارهم ويفرشكم نساءهم، أتسبحون الله وتقدسونه؟» فقال النعمان بن شريك: اللهم فلك ذاك([14]).
رابعًا: فوائد ودروس وعبر:
كانت النصرة التي طلبها النبي صلى الله عليه وسلم ذات صفة مخصوصة، وذلك على النحو التالي:
1- كان طلب الرسول صلى الله عليه وسلم للنصرة من خارج مكة إنما بدأ ينشط بشكل ملحوظ بعد أن اشتد الأذى عليه, عقب وفاة عمه أبي طالب, الذي كان يحميه من قريش؛ وذلك لأن من يحمل الدعوة لن يستطيع أن يتحرك التحرك الفعّال والنشاط في حمل الدعوة، وتوفير الاستجابة لها، في جو من ال***، والضعف والإرهاب.
2- كان عرض الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه على القبائل يطلب منهم النصرة، إنما هو بأمر من الله عز وجل له في ذلك، وليس مجرد اجتهاد من قبل نفسه, اقتضته الظروف التي وصلت إليها الدعوة.
3- حصر رسول الله صلى الله عليه وسلم طلب النصرة بزعماء القبائل، وذوي الشرف والمكانة ممن لهم أتباع يسمعون لهم، ويطيعون؛ لأن هؤلاء هم القادرون على توفير الحماية للدعوة وصاحبها.
5- رفض النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطي القوى المستعدة لتقديم نصرتها أي ضمانات بأن يكون لأشخاصهم شيء من الحكم والسلطان, على سبيل الثمن، أو المكافأة لما يقدمون من نصرة, وتأييد للدعوة الإسلامية؛ وذلك لأن الدعوة الإسلامية إنما هي دعوة إلى الله، فالشرط الأساسي فيمن يؤمن بها, ويستعد لنصرتها أن يكون الإخلاص لله، ونشدان رضاه، هما الغاية التي يسعى إليها من النصرة والتضحية، وليس طمعًا في نفوذ أو رغبة في سلطان، وذلك لأن الغاية التي يضعها الإنسان للشيء، هي التي تكيف نشاط الإنسان في السعي إليه، فلا بد إذن من أن تتجرد الغاية المستهدفة من وراء نصرة الدعوة، عن أي مصلحة مادية لضمان دوام التأييد لها، وضمان المحافظة عليها من أي انحراف، وضمان أقصى ما يمكن من بذل الدعم لها، وتقديم التضحيات في سبيلها([15]) فيجب على كل من يريد أن يلتزم بالجماعة التي تدعو إلى الله، ألا يشترط عليها منصبًا أو عرضًا من أعراض الدنيا؛ لأن هذه الدعوة لله، والأمر لله يضعه حيث يشاء، والداخل في أمر الدعوة إنما يريد ابتداء وجه الله، والعمل من أجل رفع رايته، أما إذا كان المنصب هو همه الشاغل، فهذه علامة خطيرة تنبئ عن دخن في نية صاحبه([16]) لذا قال يحيى بن معاذ الرازي: «لا يفلح من شممت منه رائحة الرياسة»([17]).
5- ومن صفة النصرة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلبها لدعوته من زعماء القبائل, أن يكون أهل النصرة غير مرتبطين بمعاهدات دولية, تتناقض مع الدعوة, ولا يستطيعون التحرر منها، وذلك لأن احتضانهم للدعوة والحالة هذه, يعرضها لخطر القضاء عليها من قبل الدول التي بينهم وبينها تلك المعاهدات، والتي تجد في الدعوة الإسلامية خطرًا عليها وتهديدًا لمصالحها([18]).
إن الحماية المشروطة أو الجزئية لا تحقق الهدف المقصود فلن يخوض بنو شيبان حربًا ضد كسرى لو أراد القبض على رسول الله صلى الله عليه وسلم وتسليمه، ولن يخوضوا حربًا ضد كسرى، لو أراد مهاجمة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعه، وبذلك فشلت المباحثات([19]).
6- «إن دين الله لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه» كان هذا الرد من النبي صلى الله عليه وسلم على المثنى بن حارثة حين عرض على النبي صلى الله عليه وسلم حمايته على مياه العرب دون مياه الفرس، فمن يسبر أغوار السياسة البعيدة, يرَ بُعد النظر الإسلامي النبوي الذي لا يسامى([20]).
7- كان موقف بني شيبان يتسم بالإريحية والخلق والرجولة، وينم عن تعظيم هذا النبي، وعن وضوح في العرض، وتحديد مدى قدرة الحماية التي يملكونها، وقد بينوا أن أمر الدعوة مما تكرهه الملوك، وقدر الله لشيبان بعد عشر سنين أو يزيد, أن تحمل هي ابتداء عبء مواجهة الملوك بعد أن أشرق قلبها بنور الإسلام، وكان المثنى بن حارثة الشيباني صاحب حربهم وبطلهم المغوار, الذي قاد الفتوح في أرض العراق، في خلافة الصديق t([21])، فكان وقومه من أجرأ المسلمين بعد إسلامهم على قتال الفرس، بينما كانوا في جاهليتهم يرهبون الفرس ولا يفكرون في قتالهم، بل إنهم ردوا دعوة النبي صلى الله عليه وسلم بعد قناعتهم بها لاحتمال أن تلجئهم إلى قتال الفرس، الأمر الذي لم يكونوا يفكرون به أبدا، وبهذا نعلم عظمة هذا الدين الذي رفع الله به المسلمين في الدنيا، حيث جعلهم سادة الأرض مع ما ينتظرون في أخراهم من النعيم الدائم في جنات النعيم([22]).

* * *






([1]) انظر: الأنساب للسمعاني، (1/36). (2) المقريزي في إمتاع الأسماع (1/30، 31).
(3) انظر: المحنة في العهد المكي، ص 53.

([4]) انظر: المحنة في العهد المكي، ص53.
([5]) تاريخ إسلام النجيب آبادي (1/129) نقلا عن الرحيق المختوم.
([6]) السيرة النبوية لابن هشام (2/44، 52) السيرة النبوية جوانب الحذر والحماية، ص116.
([7]) البداية والنهاية لابن كثير، (3/140).
([8]) السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية، ص116.
([9]) نفس المصدر، ص116، 117.
([10]) انظر: أصول الفكر السياسي، ص182، سباء: لم تُسبَ نساؤها في الحروب.
([11]،4) نفس المصدر، ص182.

([13]) انظر: سيرة ابن هشام، (2/38).
([14]) انظر: البداية والنهاية (3/143: 145) وفيها زيادات ليست عند الصالحي في سُبُل الرشاد (2/596: 597)
([15]) انظر: الجهاد والقتال في السياسة الشرعية، لمحمد خير (1/411)
([16]) انظر: وقفات تربوية من السيرة النبوية، عبد الحميد البلالي، ص72.
([17]) انظر: صفة الصفوة (4/94).
(4) انظر:الجهاد والقتال في السياسة الشرعية (1/412).


([19]) انظر: التحالف السياسي في الإسلام، منير الغضبان، ص53.
([20]) نفس المصدر، ص64.
(3) انظر: التربية القيادية (2/20).
([22]) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (3/69).

محمد رافع 52 26-09-2014 03:48 PM

المبحث الثاني


مواكب الخير وطلائع النور

قال جابر بن عبد الله الأنصاري:
مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين يتَّبع الناس في منازلهم بعكاظ ومجنة في المواسم بمنى يقول: «من يؤويني؟ من ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة؟» حتى إن الرجل ليخرج من اليمن أو مضر، فيأتيه قومه فيقولون: احذر غلام قريش لا يفتننك، ويمشي بين رجالهم وهم يشيرون إليه بالأصابع، حتى بعثنا الله إليه من يثرب فآويناه، وصدقناه، فيخرج الرجل منا فيؤمن به ويقرئه القرآن، فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه، حتى لا يبقى دار من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الإسلام([1]).
أولاً: الاتصالات الأولى بالأنصار في مواسم الحج والعمرة:
1- إسلام سويد بن الصامت:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يسمع بقادم يقدم مكة من العرب، له اسم وشرف إلا تصدى له ودعاه إلى الله وعرض عليه ما جاء به من الهدى والحق، فقدم سويد بن الصامت- أخو بني عمرو بن عوف- مكة حاجًا أو معتمرًا، وكان سويد يسميه قومه فيهم الكامل، لجلده، وشعره، وشرفه، ونسبه، فتصدى له رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع به، فدعاه إلى الله والإسلام، فقال له سويد: فلعل الذي معك مثل الذي معي؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما الذي معك؟» قال: مجلة([2]) لقمان، فقال له رسول الله: «اعرضها علي» فعرضها عليه فقال: «إن هذا الكلام حسن، والذي معي أفضل من هذا، قرآن أنزله الله عليّ، هو هدى ونور» فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، ودعاه إلى الإسلام، فلم يبعد منه، وقال: إن هذا القول حسن، ثم انصرف عنه فقدم المدينة على قومه فلم يلبث أن ***ه الخزرج، وقد كان رجال من قومه يقولون: إنا لنراه قُتل وهو مسلم، وكان ***ه يوم بَعاث([3]) وعلى أية حال لا توجد دلائل على قيام سويد بن الصامت بالدعوة إلى الإسلام وسط قومه([4]).
2- إسلام إياس بن معاذ:
لما قدم أبو الحيسر بن رافع مكة ومعه فتيان من بني عبد الأشهل, فيهم إياس بن معاذ، يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج، سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاهم فجلس إليهم، فقال: «هل لكم في خير مما جئتم له؟» قالوا: وما ذاك؟ قال: «أنا رسول الله إلى العباد أدعوهم إلى أن يعبدوا الله، ولا يشركوا به شيئا وأنزل عليَّ الكتاب»، ثم ذكر لهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن فقال إياس بن معاذ وكان غلامًا حدثًا: هذا والله خير مما جئتم له فيأخذ أبو الحيسر كفًّا من تراب، فضرب به وجهه، وقال: دعنا منك، فلعمري لقد جئنا لغير هذا, فصمت إياس، وقام رسول الله عنهم، وانصرفوا إلى المدينة، وكانت وقعة بُعاث بين الأوس والخزرج، ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك، وقد روي من حضره من قومه أنه ما زال يهلل الله ويكبره ويحمده ويسبحه حتى مات، فما كانوا يشكون أنه مات مسلمًا، لقد كان استشعر الإسلام في ذلك المجلس حين سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمع([5]).
ثانيًا: بدء إسلام الأنصار:
كانت البداية المثمرة مع وفد من الخزرج في موسم الحج, عند عقبة منى، قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أنتم؟». قالوا: نفر من الخزرج. قال: «أمن موالي يهود؟» قالوا: نعم. قال: «أفلا تجلسون أكلمكم؟» قالوا: بلى، فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله عز وجل وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن([6]).
فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر، ودعاهم إلى الله، قال بعضهم لبعض: يا قوم: تعلموا والله إنه للنبي الذي توعدكم به يهود، فلا يسبقنكم إليه، فأجابوه فيما دعاهم إليه، بأن صدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام، وقالوا: إنا قد تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله بك، فسنقدم عليهم، فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك، ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين إلى بلادهم، وقد آمنوا وصدقوا([7])، وكانوا ستة نفر: وهم أبو أمامة أسعد بن زرارة، وعوف بن الحارث من بني النجار، ورافع بن مالك، وقطبة بن عامر، وعقبة بن عامر، وجابر بن عبد الله بن رئاب([8]). فلما قدموا المدينة إلى قومهم ذكروا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم, ودعوهم إلى الإسلام، حتى فشا بينهم فلم تبقَ دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم([9]).
فهذا أول موكب من مواكب الخير، لم يكتف بالإيمان، وإنما أخذ العهد على نفسه أن يدعو إليه قومه، وقد وفى كل منهم لدينه ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإنهم حين رجعوا نشطوا في الدعوة إلى الله، وعرضوا كلمة الهدى على أهلهم وذويهم, فلم تبقَ دار من دور المدينة إلا وفيها ذكر لمحمد صلى الله عليه وسلم، وهكذا عندما يأذن الله تأتي ساعة الحسم الفاصلة فقد كان لقاء هؤلاء مع الرسول على غير موعد، لكنه لقاء هيأه الله ليكون نبع الخير المتجدد الموصول، ونقطة التحول الحاسم في التاريخ... وساعة الخلاص المحقق من عبادة الأحجار، بل إنها على التحقيق, ساعة الحسم في مصير العالم كله ونقل الحياة من الظلمات إلى النور.
أكان معقولاً في لحظة يسيرة أن يتحول هؤلاء من وثنيين متعصبين إلى أنصار للدعوة متفتحين، وجنود للحق مخلصين، ودعاة إلى الله متجردين يذهبون إلى أقوامهم وبين جوانحهم نور، وعلى وجوههم نور، وإنهم لعلى نور؟ تلك مشيئة القدر العالي هيأت للدعوة مجالها الخصب، وحماها الأمين، والسنوات العجاف التي قضاها الرسول صلى الله عليه وسلم نضالاً مستمرًا، وكفاحًا دائمًا، وتطوافًا على القبائل، والتماسًا للحليف، قد ولت إلى غير رجعة، سيكون بعد اليوم للإسلام قوته الرادعة، وجيشه الباسل وسيلتقي الحق بالباطل ليصفي معه حساب الأيام الخوالي، والعاقبة للمتقين، وستتوالى على مكة منذ اليوم مواكب الخير وطلائع النور التي هيأها الله للخير لتتصل بالهداية وتسبح في النور، وتغترف من الخير، وترجع إلى يثرب بما وعت من خير، وبما حلمت من نور([10]).
ومن الجدير بالتنبيه أن هذه المقابلة التي حدثت عند العقبة, وتلاقى فيها فريق من الخزرج بالنبي صلى الله عليه وسلم وأسلموا على يديه لم تكن فيها بيعة([11])؛ لأنها كانت من نفر صغير لا يرون لأنفسهم الحق في أن يلتزموا بمعاهدة دون الرجوع إلى قبائلهم في المدينة, ولكنهم أخلصوا في تبليغ رسالة الإسلام([12]).

محمد رافع 52 26-09-2014 03:50 PM

ثالثًا: بيعة العقبة الأولى:
بعد عام من المقابلة الأولى التي تمت بين الرسول صلى الله عليه وسلم وأهل يثرب عند العقبة وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلاً فلقوه صلى الله عليه وسلم بالعقبة, وبايعوه بيعة العقبة الأولى، (عشرة من الخزرج واثنان من الأوس) مما يشير إلى نشاط وفد الخزرج الذين أسلموا في العام الماضي، تركز على وسطهم القبلي بالدرجة الأولى, لكنهم تمكنوا في نفس الوقت من اجتذاب رجال الأوس، وكان ذلك بداية ائتلاف القبيلتين تحت راية الإسلام([13]).
وقد تحدث عبادة بن الصامت الخزرجي عن البيعة في العقبة الأولى، فقال: «كنت فيمن حضر العقبة الأولى، وكنا اثني عشر رجلاً، فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء وذلك قبل أن تُفترض علينا الحرب: على ألا نشرك بالله، ولا نسرق، ولا نزني، ولا ن*** أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا, ولا نعصيه في معروف، فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم من ذلك شيئًا فأمركم إلى الله عز وجل, إن شاء غفر وإن شاء عذب» ([14]).
وبنود هذه البيعة هي التي بايع الرسول صلى الله عليه وسلم عليها النساء فيما بعد ولذلك عرفت باسم بيعة النساء([15])، وقد بعث الرسول صلى الله عليه وسلم مع المبايعين مصعب بن عمير, يعلمهم الدين ويقرئهم القرآن فكان يسمى بالمدينة (المقرئ)، وكان يؤمهم في الصلاة، وقد اختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم عن علم بشخصيته من جهة، وعلم بالوضع القائم في المدينة من جهة أخرى، حيث كان t بجانب حفظه لما نزل من القرآن، يملك من اللباقة والهدوء، وحسن الخلق والحكمة، قدرًا كبيرًا، فضلاً عن قوة إيمانه, وشدة حماسه للدين، ولذلك تمكن خلال أشهر أن ينشر الإسلام في سائر بيوتات المدينة، وأن يكسب للإسلام أنصارًا من كبار زعمائها, كسعد بن معاذ وأسيد بن الحضير، وقد أسلم بإسلامهما خلق كثير من قومهم([16]).
لقد نجحت سفارة مصعب بن عمير t في شرح تعاليم الدين الجديد، وتعليم القرآن الكريم وتفسيره, وتقوية الروابط الأخوية بين أفراد القبائل المؤمنة من ناحية، وبين النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه بمكة المكرمة لإيجاد القاعدة الأمينة لانطلاق الدعوة.
وقد نزل مصعب بن عمير t في يثرب على أسعد بن زرارة t([17]) ونشط المسلمون في الدعوة إلى الله يقود تلك الحركة الدعوية الرائدة مصعب t، وقد انتهج منهج القرآن الكريم في دعوته وهذا الذي تعلمه من أمامه صلى الله عليه وسلم، وقد شرح لنا بعض الآيات القرآنية المكية بصورة عملية حية قال تعالى: ( ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ )[النحل:125].
رابعًا: قصة إسلام أسيد بن حضير وسعد بن معاذ رضي الله عنهما:
كان سعد بن معاذ وأسيد بن حضير سيدَي قومهما من بني عبد الأشهل، وكانا مشركين على دين قومهما، فلما سمعا بمصعب بن عمير, ونشاطه في الدعوة إلى الإسلام قال سعد لأسيد: لا أبا لك، انطلق إلى هذين الرجلين, اللذين أتيا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما، وانههما أن يأتيا دارينا، فإنه لولا أسعد بن زرارة مني حيث قد علمت كفيتك ذلك، هو ابن خالتي ولا أجد عليه مقدمًا، فأخذ أُسيد حربته ثم أقبل عليهما، فلما رآه أسعد بن زرارة قال: هذا سيد قومه، وقد جاءك فاصدق الله فيه، قال مصعب: إن يجلس أكلمه، فوقف عليهما متشتمًا فقال: ما جاء بكما تسفهان ضعفاءنا؟ اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة، فقال له مصعب بلسان المؤمن الهادئ الواثق من سماحة دعوته: أو تجلس فتسمع فإن رضيت أمرًا قبلته، وإن كرهته نكف عنك ما تكره؟
قال أسيد: أنصفت، ثم ركز حربته وجلس إليهما، فكلمه مصعب بالإسلام، وقرأ عليه القرآن، فقالا فيما يذكر عنهما: والله لعرفنا في وجهه الإسلام -قبل أن يتكلم- في إشراقه وتسهله، ثم قال: ما أحسن هذا الكلام وأجمله! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قالا له: تغتسل فتطهر وتطهر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق, ثم تصلي, فقام فاغتسل وطهر ثوبيه وتشهد شهادة الحق، ثم قام فركع ركعتين، ثم قال لهما: إن ورائي رجلاً إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه وسأرسله إليكم الآن: سعد بن معاذ.
ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعد وقومه وهم جلوس في ناديهم، فلما نظر إليه سعد مقبلاً قال: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بن حضير بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم. فلما وقف على النادي قال له سعد: ما فعلت؟ قال: كلمت الرجلين فوالله ما رأيت بهما بأسًا، وقد نهيتهما فقالا: نفعل ما أحببت، وقد حدثت أن بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة, لي***وه, وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ليحقروك([18]).
فقام سعد مغضبًا مبادرًا مخوفًا للذي ذكر له من أمر بني حارثة، وأخذ الحربة في يده ثم قال: والله ما أراك أغنيت شيئًا، ثم خرج إليهما سعد فوجدهما مطمئنين, فعرف أن أسيد إنما أراد أن يسمع منهما، فوقف متشتمًا، ثم قال لأسعد بن زرارة: والله يا أبا أمامة لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني، أتغشانا في دارنا بما نكره، وكان أسعد قد قال لمصعب: لقد جاء والله سيد من ورائه من قومه، إن يتبعك لا يتخلف منهم اثنان، فقال له مصعب: أَوَتقعد فتسمع؟ فإن رضيت أمرًا ورغبت فيه قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره، فقال سعد: أنصفت، ثم ركز الحربة وجلس فعرض عليه الإسلام، وقرأ القرآن، وذكر موسى بن عقبة أنه قرأ عليه أول سورة الزخرف، قالا: فعرفنا –والله- في وجهه الإسلام -قبل أن يتكلم- في إشراقه وتسهله.
ثم قال لهما: كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم، ودخلتم في هذا الدين؟ قالا: تغتسل، فتطهر وتطهر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي ركعتين، فقام فاغتسل وطهر ثوبيه، ثم تشهد شهادة الحق، ثم ركع ركعتين، ثم أخذ حربته فأقبل عائدًا إلى نادي قومه ومعه أسيد بن حضير، فلما رآه قومه مقبلاً قالوا: نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم, فلما وقف عليهم قال: يا بني عبد الأشهل كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأيًا وأيمننا نقيبة، قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله، قال: فوالله ما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلمًا أو مسلمة.
ورجع أسعد ومصعب إلى منزل أسعد بن زرارة فأقام عنده يدعو الناس إلى الإسلام, حتى لم تبْقَ دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال مسلمون ونساء مسلمات، إلا ما كان من الأصيرم، وهو عمرو بن ثابت بن وقش, فإنه تأخر إسلامه إلى يوم أحد فأسلم، واستشهد بأحد، ولم يصلِّ لله بسجدة قط، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنة.
وقد روى ابن إسحاق بإسناد حسن عن أبي هريرة أنه كان يقول: «حدثوني عن رجل دخل الجنة لم يصل صلاة قط، فإذا لم يعرفه الناس قال هو أصيرم بني عبد الأشهل»([19]).

محمد رافع 52 26-09-2014 03:51 PM

خامسًا: فوائد ودروس وعبر:
1- اتجه التخطيط النبوي للتركيز على يثرب بالذات، وكان للنفر الستة الذين أسلموا دور كبير في بث الدعوة إلى الإسلام خلال ذلك العام.
2- كانت هناك عدة عوامل ساعدت على انتشار الإسلام في المدينة منها:
- ما طبع الله عليه قبائل الخزرج والأوس من الرقة واللين, وعدم المغالاة في الكبرياء وجحود الحق، وذلك يرجع إلى الخصائص الدموية والسلالية التي أشار إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وفد وفد من اليمن بقوله: «أتاكم أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوبا»([20]) وهما ترجعان في أصليهما إلى اليمن، نزح أجدادهم منها في الزمن القديم([21]) فيقول القرآن الكريم مادحًا لهم: ( وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )[الحشر:9].
- ومنها التشاحن والتطاحن الموجودان في قبيلتي المدينة، الأوس والخزرج، وقد قامت بينهما الحروب الطاحنة كيوم بُعاث وغيره، وقد أفنت هذه الحرب كبار زعمائهم ممن كان نظراؤهم في مكة والطائف وغيرها, حجر عثرة في سبيل الدعوة، ولم يبقَ إلا القيادات الشابة الجديدة المستعدة لقبول الحق، إضافة إلى عدم وجود قيادة بارزة معروفة يتواضع الجميع على التسليم لها، وكانوا بحاجة إلى من يأتلفون عليه، ويلتئم شملهم تحت ظله، قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: «كان يوم بُعاث يومًا قدمه الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم، فقدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد افترق ملؤهم و***ت سرواتهم وجُرِّحوا, فقدمه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في دخولهم الإسلام»([22]).
- ومنها مجاورتهم لليهود مما جعلهم على علم -ولو يسير- بأمر الرسالات السماوية، وخبر المرسلين السابقين، وهم في مجتمعهم يعايشون هذه القضية في حياتهم اليومية وليسوا مثل قريش التي لا يساكنها أهل كتاب وإنما غاية أمرها أن تسمع أخبارًا متفرقة عن الرسالات, والوحي الإلهي, دون أن تلح عليها هذه المسألة أو تشغل تفكيرها باستمرار، وكان اليهود يهددون الأوس والخزرج بنبي قد أظل زمانه, ويزعمون أنهم
سيتعبونه، وي***ونهم به *** عاد وإرم، مع أن الأوس والخزرج كانوا أكثر من اليهود([23])، وقد حكى الله عنهم ذلك في كتابه العزيز قال تعالى: ( وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ )[البقرة:89].

وكان الأوس والخزرج قد علوا اليهود دهرًا في الجاهلية، وهم أهل شرك, وهؤلاء أهل الكتاب، فكانوا يقولون: إن نبيا قد أظل زمانه، يقاتلكم *** عاد وإرم([24]).
فلما أراد الله إتمام أمره بنصر دينه، قيض ستة نفر من أهل المدينة للنبي صلى الله عليه وسلم فالتقى بهم عند العقبة -عقبة مِنى- فعرض عليهم الإسلام فاستبشروا وأسلموا، وعرفوا أنه النبي الذي توعدهم به اليهود، ورجعوا إلى المدينة، فأفشوا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في بيوتها([25]) وكان هذا هو (بدء إسلام الأنصار) كما يسميه أهل السير([26]).
3- حضر بيعة العقبة الأولى اثنان من الأوس، وهذا تطور مهم لمصلحة الإسلام، فبعد الحرب العنيفة في بُعاث استطاع النفر الستة من الخزرج أن يتجاوزوا قصة الصراعات الداخلية ويحضروا معهم سبعة جددًا، فيهم اثنان من الأوس، وهذا يعني أنهم وفوا بالتزاماتهم التي قطعوها على أنفسهم في محاولة رأب الصدع، وتوجيه التيار لدخول الإسلام في المدينة, أوسها وخزرجها, وتجاوز الصراعات القبلية القائمة.
4- بذل الرسول صلى الله عليه وسلم كل ما يملك من جهد لتعبئة الطاقات الإسلامية في المدينة، ولم يكن هناك أدنى تقصير للجهد البشري الممكن في بناء القاعدة الصلبة التي تقوم على أكتافها الدولة الجديدة، واحتمل هذا الجهد سنتين كاملتين من الدعوة والتنظيم([27]).
5- نجحت التعبئة الإيمانية في نفوس من أسلم من الأنصار، وشعرت الأنصار بأنه قد آن الأوان لقيام الدولة الجديدة، وكما يقول جابر t وهو يمثل هذه الصورة الرفيعة الرائعة: «حتى متى نترك رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف ويطرد في جبال مكة ويخاف»([28]).
6- وصل مصعب t إلى مكة قبيل الموسم من العام الثالث عشر للبعثة، ونقل الصورة الكاملة التي انتهت إليها أوضاع المسلمين هناك، والقدرات والإمكانات المتاحة، وكيف تغلغل الإسلام في جميع قطاعات الأوس والخزرج، وأن القوم جاهزون لبيعة جديدة قادرة على حماية رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنعته([29]).
7- كان اللقاء الذي غير مجرى التاريخ في موسم الحج في السنة الثالثة عشر من البعثة، حيث حضر لأداء مناسك الحج بضع وسبعون نفسًا من المسلمين من أهل يثرب، فلما قدموا مكة جرت بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم اتصالات سرية, أدت إلى اتفاق الفريقين على أن يجتمعوا في أوسط أيام التشريق في الشعب الذي عند العقبة, حيث الجمرة الأولى من منى، وأن يتم هذا الاجتماع في سرية تامة في ظلام الليل([30]).

* * *






([1]) مسند أحمد (3/322/323، 339، 340) بإسناد حسن.
([2]) المجلة: الصحيفة، وتطلق على الحكمة أي حكمة لقمان.
([3]) سيرة ابن هشام (2/40) إسناد حسن. (4) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/195).


([5]) انظر: سيرة ابن هشام (2/41) بإسناد حسن. (2) نفس المصدر (2/41، 42).

([7]) البداية والنهاية (3/148، 149). (4) انظر: شرح الواهب للزرقاني (1/361).

([9]) انظر: البداية والنهاية (3/147).
([10]) انظر: أضواء على الهجرة لتوفيق محمد سبع، ص273، 274.
([11]) انظر: هجرة الرسول وصحابته للجمل، ص143.
([12]) هجرة الرسول وصحابته للجمل، ص143. (4) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/197).

([14]) صحيح مسلم [41- (1709)]. (2) انظر: الغرباء الأولون، ص185.

([16]) نفس المصدر، ص186، 187.
([17]) انظر: السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة، (1/441).
([18]) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/442)
([19]) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/444) صحيح السيرة النبوية، ص291.
([20]) البخاري، كتاب المغازي، باب قدوم الأشعريين، رقم 4388.
([21]) انظر: السيرة النبوية، لأبي الحسن الندوي، ص154.
([22]) البخاري، كتاب المناقب، باب مناقب الأنصار (4/367)، رقم 3777.
([23]) انظر: الغرباء الأولون، ص183.
([24]) الدر المنثور للسيوطي، (1/216)
([25]) انظر: ابن هشام (1/44).
([26]) نفس المصدر (1/39: 44)
([27]،2) انظر: التحالف السياسي، ص71.

([29]) نفس المصدر، ص72.
([30]) المصدر السابق، ص73.

محمد رافع 52 26-09-2014 03:54 PM

المبحث الثالث


بيعة العقبة الثانية

قال جابر بن عبد الله t: [.. فقلنا، حتى متى نترك رسول الله صلى الله عليه وسلم يطرد في جبال مكة ويخاف، فرحل إليه منا سبعون رجلاً حتى قدموا عليه في الموسم، فواعدناه شعب العقبة فاجتمعنا عليه من رجل ورجلين, حتى توافينا فقلنا: يا رسول الله علام نبايعك؟
قال: «تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في الله, لا تخافون في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة».
قال: فقمنا إليه فبايعناه، وأخذ بيده أسعد بن زرارة، وهو من أصغرهم، فقال: رويدًا يا أهل يثرب، فإنا لم نضرب أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة، و***ُ خياركم، وأن تعضكم السيوف، فإما أنتم قوم تصبرون على ذلك وأجركم على الله، وإما أنتم تخافون من أنفسكم جبينة, فبينوا ذلك, فهو أعذر لكم عند الله قالوا: أمط عنا يا أسعد، فوالله لا ندع هذه البيعة أبدًا، ولا نسليها أبدًا, قال: فقمنا إليه فبايعناه، فأخذ علينا وشرط، ويعطينا على ذلك الجنة]([1]).
وهكذا بايع الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم على الطاعة والنصرة والحرب؛ لذلك سماها عبادة بن الصامت بيعة الحرب([2])، أما رواية الصحابي كعب بن مالك الأنصاري، وهو أحد المبايعين في العقبة الثانية، ففيها تفاصيل مهمة قال: «خرجنا في حجاج قومنا من المشركين وقد صلينا وفقهنا.. ثم خرجنا إلى الحج، وواعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة من أوسط أيام التشريق... وكنا نكتم من معنا من المشركين أمرنا، فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا، حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله، نتسلل تسلل القطا مستخفين، حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة، ونحن ثلاثة وسبعون رجلاً ومعنا امرأتان من نسائنا، نُسيبة بنت كعب، وأسماء بنت عمرو، فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءنا ومعه العباس بن عبد المطلب، وهو يومئذ على دين قومه, إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه, ويتوثق له، فلما جلس كان أول متكلم العباس بن عبد المطلب: فبين أن الرسول في منعة من قومه بني هاشم، ولكنه يريد الهجرة إلى المدينة؛ ولذلك فإن العباس يريد التأكد من حماية الأنصار له وإلا فليدعوه فطلب الأنصار أن يتكلم رسول الله، فيأخذ لنفسه ولربه ما يحب من الشروط.
قال: «أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم» فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: نعم، والذي بعثك بالحق لنمنعك مما نمنع منه أزرنا، فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أهل الحرب، وأهل الحلقة، ورثناها كابرًا عن كابر، فقاطعه أبو الهيثم بن التيهان متسائلا: يا رسول الله، إن بيننا وبين القوم حبالاً، وإنا قاطعوها (يعني اليهود) فهل عسيتم إن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدَعنا؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم, وأنتم مني، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم».
ثم قال: «أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيبًا ليكونوا على قومهم بما فيهم».
فأخرجوا منهم اثني عشر نقيبًا تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس.
وقد طلب الرسول صلى الله عليه وسلم منهم الانصراف إلى رحالهم، وقد سمعوا الشيطان يصرخ منذرًا قريشًا، فقال العباس بن عبادة بن نضلة: والله الذي بعثك بالحق، إن شئت لنميلنَّ على أهل منى غدًا بأسيافنا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم» فرجعوا إلى رحالهم، وفي الصباح جاءهم جمع من كبار قريش، يسألونهم عما بلغهم من بيعتهم للنبي صلى الله عليه وسلم ودعوتهم له للهجرة، فحلف المشركون من الخزرج والأوس بأنهم لم يفعلوا والمسلمون ينظرون إلى بعضهم([3]) قال: ثم قال القوم وفيهم الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي، وعليه نعلان جديدان قال: فقلت له كلمة, كأني أريد أن أشرك القوم فيما قالوا بها: يا أبا جابر أما تستطيع أن تتخذ وأنت سيد من ساداتنا مثل نعلي هذا الفتى من قريش؟ قال: فسمعهما الحارث فخلعهما من رجليه ثم رمى بها إلي، وقال: والله لتنتعِلنَّهما، قال: يقول أبو جابر: مه أحفظت والله الفتى, فاردد إليه نعليه، قال: قلت: لا، والله لا أردهما فأل والله صالح، لئن صدق الفأل لأسلُبنَّه ([4]).



محمد رافع 52 26-09-2014 03:56 PM


دروس وعبر وفوائد:
1- كانت هذه البيعة العظمى بملابساتها، وبواعثها، وآثارها، وواقعها التاريخي (فتح الفتوح)؛ لأنها كانت الحلقة الأولى في سلسلة الفتوحات الإسلامية التي تتابعت حلقاتها في صور متدرجة مشدودة بهذه البيعة، منذ اكتمل عقدها بما أخذ فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم من عهود ومواثيق على أقوى طليعة من طلائع أنصار الله الذين كانوا أعرف الناس بقدر مواثيقهم وعهودهم، وكانوا أسمح الناس بالوفاء بما عاهدوا الله ورسوله عليه, من التضحية, مهما بلغت متطلباتها من الأرواح والدماء والأموال, فهذه البيعة في بواعثها هي بيعة الإيمان بالحق ونصرته، وهي في ملابساتها قوة تناضل قوى هائلة, تقف متألبة عليها، ولم يغب عن أنصار الله قدرها ووزنها في ميادين الحروب والقتال، وهي في آثارها تشمير ناهض بكل ما يملك أصحابها من وسائل الجهاد القتالي في سبيل إعلاء كلمة الله على كل عالٍ مستكبر في الأرض حتى يكون الدين كله لله، وهي في واقعها التاريخي صدق وعدل, ونصر واستشهاد, وتبليغ لرسالة الإسلام([5]).
2- إن حقيقة الإيمان وأثره في تربية النفوس تظهر آثارها في استعداد هذه القيادات الكبرى لأن تبذل أرواحها ودماءها في سبيل الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يكون لها الجزاء في هذه الأرض كسبًا ولا منصبًا ولا قيادة ولا زعامة، وهم الذين أفنوا عشرات السنين من أعمارهم يتصارعون على الزعامة والقيادة, إنه أثر الإيمان بالله وبحقيقة هذا الدين عندما يتغلغل في النفوس([6]).
3- يظهر التخطيط العظيم في بيعة العقبة، حيث تمت في ظروف غاية في الصعوبة، وكانت تمثل تحديًّا خطيرًا وجريئًا لقوى الشرك في ذلك الوقت؛ ولذلك كان التخطيط النبوي لنجاحها في غاية الإحكام والدقة على النحو التالي([7]):
أ- سرية الحركة والانتقال لجماعة المبايعين، حتى لا ينكشف الأمر, فقد كان وفد المبايعة المسلم, سبعين رجلا وامرأتين، من بين وفد يثربي قوامه نحو خمسمائة، مما يجعل حركة هؤلاء السبعين صعبة، وانتقالهم أمرًا غير ميسور، وقد تحدد موعد اللقاء في ثاني أيام التشريق بعد ثلث الليل، حيث النوم قد ضرب أعين القوم، وحيث قد هدأت الرِّجْل، كما تم تحديد المكان في الشعب الأيمن، بعيدا عن عين من قد يستيقظ من النوم لحاجة([8]).
ب- الخروج المنظم لجماعة المبايعين إلى موعد ومكان الاجتماع، فخرجوا يتسللون مستخفين، رجلاً رجلاً، أو رجلين رجلين.
ج- ضرب السرِّية التامة على موعد ومكان الاجتماع، بحيث لم يعلم به سوى العباس بن عبد المطلب الذي جاء مع النبي صلى الله عليه وسلم ليتوثق له([9]) وعلي بن أبي طالب الذي كان عينًا للمسلمين على فم الشِّعب، وأبو بكر الذي كان على فم الطريق وهو الآخر عينٌ للمسلمين([10])، أما من عداهم من المسلمين, وغيرهم فلم يكن يعلم عن الأمر شيئًا، وقد أمر جماعة المبايعين أن لا يرفعوا الصوت، وأن لا يطيلوا في الكلام، حذرًا من وجود عين يسمع صوتهم، أو يجس حركتهم([11]).
د- متابعة الإخفاء والسرية حين كشف الشيطان أمر البيعة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجعوا إلى رحالهم ولا يحدثوا شيئًا، رافضًا الاستعجال في المواجهة المسلحة التي لم تتهيأ لها الظروف بعد، وعندما جاءت قريش تستبرئ الخبر، موه المسلمون عليهم بالسكوت، أو المشاركة بالكلام الذي يشغل عن الموضوع([12]).
هـ- اختيار الليلة الأخيرة من ليالي الحج، وهي ليلة الثالثة عشر من ذي الحجة، حيث سينفر الحجاج إلى بلادهم ظهر اليوم التالي وهو اليوم الثالث عشر، ومن ثم تضيق الفرصة أمام قريش في اعتراضهم أو تعويقهم إذا انكشف أمر البيعة، وهو أمر متوقع وهذا ما حدث([13]).
4- كانت البنود الخمسة للبيعة من الوضوح والقوة بحيث لا تقبل التمييع والتراخي, إنه السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في اليسر والعسر, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقيام في الله لا تأخذهم فيه لومة لائم, ونصر لرسول الله وحمايته إذا قدم المدينة([14]).
5- سرعان ما استجاب قائد الأنصار دون تردد البراء بن معرور, قائلا: والذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا, فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحرب, وأهل الحلقة، ورثناها كابرًا عن كابر، فهذا زعيم الوفد يعرض إمكانيات قومه على رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقومه أبناء الحرب والسلاح([15])، ومما تجدر الإشارة إليه في أمر البراء أنه عندما جاء مع قومه من يثرب قال لهم: إني قد رأيت رأيًا فوالله ما أرى أتوافقوني عليه أم لا؟
فقالوا: وما ذاك؟ قال: قد رأيت أن لا أدع هذه البنية –يعني الكعبة– مني بظهر، وأن أصلي إليها، فقالوا له: والله ما بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إلا إلى الشام ببيت المقدس، وما نريد أن نخالفه، فكانوا إذا حضرت الصلاة صلوا إلى بيت المقدس، وصلى هو إلى الكعبة، واستمروا كذلك حتى قدموا مكة، وتعرفوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس مع عمه العباس بالمسجد الحرام، فسأل النبيُّ صلى الله عليه وسلم العباسَ: «هل تعرف هذين الرجلين يا أبا الفضل» قال: نعم، هذا البراء بن معرور سيد قومه، وهذا كعب بن مالك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الشاعر؟» قال: نعم, فقص عليه البراء ما صنع في سفره من صلاته إلى الكعبة، قال: فماذا ترى يا رسول الله؟ قال: «قد كنت على قبلة لو صبرت عليها»([16]) قال كعب: فرجع البراء إلى قبلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلى معنا إلى الشام، فلما حضرته الوفاة أمر أهله أن يوجهوه قبل الكعبة، ومات في صفر قبل قدومه صلى الله عليه وسلم بشهر، وأوصى بثلث ماله للنبي صلى الله عليه وسلم، فقبله ورده على ولده، وهو أول من أوصى بثلث ماله([17]) ويستوقفنا في هذا الخبر:
أ- الانضباط والالتزام من المسلمين بسلوك رسولهم وأوامره، وإن أي اقتراح مهما كان مصدره يتعارض مع ذلك, يعتبر مرفوضًا، وهذه من أولويات الفقه في دين الله، تأخذ حيزها من حياتهم وهم بعد ما زالوا في بداية الطريق.
ب- إن السيادة لم تعد لأحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن توقير أي إنسان واحترامه, إنما هو انعكاس لسلوكه والتزامه بأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم، وهكذا بدأت تنزاح تقاليد جاهلية لتحل محلها قيم إيمانية, فهي المقاييس الحقة التي بها يمكن الحكم على الناس تصنيفًا وترتيبًا([18]).
6- كان أبو الهيثم بن التيِّهان صريحًا عندما قال للرسول صلى الله عليه وسلم: إن بيننا وبين الرجال حبالاً وإنا قاطعوها، يعني اليهود، فهل عسيتم إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله, أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم»، وهذا الاعتراض يدلنا على الحرية العالية, التي رفع الله تعالى المسلمين إليها بالإسلام، حيث عبر عمَّا في نفسه بكامل حريته([19]) وكان جواب سيد الخلق صلى الله عليه وسلم عظيمًا، فقد جعل نفسه جزءًا من الأنصار والأنصار جزءًا منه([20]).
7- يؤخذ من اختيار النقباء دروس مهمة منها:
أ- أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعين النقباءَ إنما ترك طريق اختيارهم إلى الذين بايعوا، فإنهم سيكونون عليهم مسئولين وكفلاء، والأولى أن يختار الإنسان من يكفله ويقوم بأمره، وهذا أمر شوري وأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يمارسوا الشورى عمليًّا من خلال اختيار نقبائهم.
ب- التمثيل النسبي في الاختيار، من المعلوم أن الذين حضروا البيعة من الخزرج أكثر من الذين حضروا البيعة من الأوس، ثلاثة أضعاف من الأوس بل يزيدون، ولذلك كان النقباء ثلاثة من الأوس وتسعة من الخزرج([21]).
ج- جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم النقباء مشرفين على سير الدعوة في يثرب، حيث استقام عود الإسلام هناك، وكثر معتنقوه، وأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يشعرهم أنهم لم يعودوا غرباء لكي يبعث إليهم أحدًا من غيرهم، وأنهم غدوا أهل الإسلام وحماته وأنصاره([22]).
8- تأكد زعماء مكة من حقيقة الصفقة التي تمت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والأنصار، فخرجوا في طلب القوم فأدركوا سعد بن عبادة بأذاخر، والمنذر بن عمرو وكلاهما كان نقيبًّا، فأما المنذر فأعجز القوم، وأما سعد فأخذوه، فربطوا يديه إلى عنقه بنسع رحله، ثم أقبلوا به حتى أدخلوه مكة يضربونه ويجذبونه بجمته, وكان ذا شعر كثير([23]) واستطاع أن يتخلص من قريش بواسطة الحارث بن حرب بن أمية وجبير بن مطعم؛ لأنه كان يجير تجارتهم ببلده، فقد أنقذته أعراف الجاهلية، ولم تنقذه سيوف المسلمين، ولم يجد في نفسه غضاضة من ذلك، فهو يعرف أن المسلمين مطاردون في مكة، وعاجزون عن حماية أنفسهم. ([24])
9- في قول العباس بن عبادة بن نضلة: والله الذي بعثك بالحق إن شئت لنميلن على أهل منى غدًا بأسيافنا، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم» درس تربوي بليغ, وهو أن الدفاع عن الإسلام، والتعامل مع أعداء هذا الدين ليس متروكًا لاجتهاد أتباعه، وإنما هو خضوع لأوامر الله تعالى وتشريعاته الحكيمة فإذا شرع الجهاد فإن أمر الإقدام أو الإحجام متروك لنظر المجتهدين بعد التشاور ودراسة الأمر من جميع جوانبه([25])، وكلما كانت عبقرية التخطيط السياسي أقوى أدت إلى نجاح المهمات أكثر، وإخفاء المخططات عن العدو وتنفيذها هو الكفيل بإذن الله بنجاحها «ولكن ارجعوا إلى رحالكم»([26]).
10- كانت البيعة بالنسبة للرجال ببسط رسول الله صلى الله عليه وسلم يده وقالوا: له ابسط يدك، فبسط يده فبايعوه، وأما بيعة المرأتين اللتين شهدتا الوقعة فكانت قولاً، ما صافح رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة أجنبية قط، فلم يتخلف أحد في بيعته صلى الله عليه وسلم حتى المرأتان بايعتا بيعة الحرب، وصدقتا عهدهما، فأما نسيبة بنت كعب (أم عمارة) فقد سقطت في أحد، وقد أصابها اثنا عشر جرحًا، وقد خرجت يوم أحد مع زوجها زيد بن عاصم بن كعب ومعها سقاء تسقي به المسلمين، فلما انهزم المسلمون انحازت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت تباشر القتال، وتذب عنه بالسيف وقد أصيبت بجراح عميقة وشهدت بيعة الرضوان([27]) وقطع مسيلمة الكذاب ابنها إربا إربا فما وهنت وما استكانت([28])، وشهدت معركة اليمامة في حروب الردة مع خالد بن الوليد فقاتلت حتى قطعت يدها وجرحت اثني عشر جرحًا([29])، وأما الثانية فهي أسماء ابنة عمرو من بني سليمة قيل: هي والدة معاذ بن جبل، وقيل: ابنة عمة معاذ بن جبل رضي الله عنهم جميعًا([30]).
11- عندما نراجع تراجم أصحاب العقبة الثانية، من الأنصار في كتب السير والتراجم نجد أن هؤلاء الثلاثة والسبعين قد استشهد قرابة ثلثهم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعده، ونلاحظ أنه قد حضر المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قرابة النصف، فثلاثة وثلاثون منهم كانوا بجوار الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع غزواته، وأما الذين حضروا غزوة بدر فكانوا قرابة السبعين.
لقد صدق هؤلاء الأنصار عهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنهم من قضى نحبه ولقي ربه شهيدًا، ومنهم من بقي حتى ساهم في قيادة الدولة المسلمة وشارك في أحداثها الجسام بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وبمثل هذه النماذج قامت دولة الإسلام، النماذج التي تعطي ولا تأخذ، والتي تقدم كل شيء، ولا تطلب شيئًا إلا الجنة، ويتصاغر التاريخ في جميع عصوره ودهوره أن يحوي في صفحاته، أمثال هؤلاء الرجال([31]).

***






([1]) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/199)
([2]) مسند الإمام أحمد (5/316) بإسناد صحيح لغيره.
([3]) انظر: ابن هشام (2/61) بإسناد حسن وانظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/201).
([4]) انظر: مجمع الزوائد (6/42: 46) وقال الألباني في تحقيق فقه السيرة للغزالي، وهذا سند صحيح وصححه ابن حبان كما في الفتح (7/475).
([5]) انظر: محمد رسول الله، محمد الصادق عرجون (2/400)
([6]) انظر: التربية القيادية (2/103). (3،4)انظر: الهجرة النبوية المباركة، د. عبد الرحمن البر، ص61.


([9]) الهجرة النبوية المباركة، ص62. (2) انظر: التربية القيادية (2/109).


([11]) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص62. (4) المصدر نفسه، ص65.


([13]) نفس المصدر، ص67. (6،7) انظر: التحالف السياسي، ص82.


([16]) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة، (1/444). (2) نفس المصدر، (1/445).

([18]) انظر: معين السيرة النبوية للشامي، ص135. (4) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (3/97).

([20]) انظر: التربية القيادية (2/67). (6) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس، ص209.

([22]) انظر: دراسات في السيرة النبوية، د. عماد الدين خليل، ص132.
([23]) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (3/107). (3) انظر: التربية القيادية، (2/116).

([25]) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (3/104). (5) انظر: التحالف السياسي في الإسلام، ص96.

([27]) انظر: المرأة في العهد النبوي، دكتورة عصمة الدين، ص108.
([28]) انظر: التحالف السياسي، ص87.
([29]) ابن هشام (2/80) أسد الغابة (5/395) البداية والنهاية (3/158: 166) الإصابة (8/8) رقم 48، 49 نقلا عن المرأة في العهد النبوي، ص108.
([30]) انظر: المرأة في العهد النبوي، ص108.
(4) انظر: التربية القيادية (2/140).

محمد رافع 52 27-09-2014 09:05 PM

المبحث الرابع


الهجــــرة إلى المدينــــــة

أولاً: التمهيد والإعداد لها:
إن الهجرة إلى المدينة سبقها تمهيد وإعداد وتخطيط من النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك بتقدير الله تعالى وتدبيره، وكان هذا الإعداد في اتجاهين، إعداد في شخصية المهاجرين، وإعداد في المكان المهاجر إليه.
1- إعداد المهاجرين:
لم تكن الهجرة نزهة أو رحلة يروح فيها الإنسان عن نفسه، ولكنها مغادرة الأرض والأهل، ووشائج القربى، وصلات الصداقة والمودة، وأسباب الرزق، والتخلي عن كل ذلك من أجل العقيدة، ولهذا احتاجت إلى جهد كبير حتى وصل المهاجرون إلى قناعة كاملة بهذه الهجرة ومن تلك الوسائل:
- التربية الإيمانية العميقة التي تحدثنا عنها في الصفحات الماضية.
- الاضطهاد الذي أصاب المؤمنين حتى وصلوا إلى قناعة كاملة بعدم إمكانية المعايشة مع الكفر.
- تناول القرآن المكي التنويه بالهجرة، ولفت النظر إلى أن أرض الله واسعة، قال تعالى: ( قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ )[الزمر:10].
ثم تلا ذلك نزول سورة الكهف، وتحدثت عن الفتية الذين آمنوا بربهم وعن هجرتهم من بلدهم إلى الكهف، وهكذا استقرت صورة من صور الإيمان في نفوس الصحابة وهي ترك أهلها ووطنها من أجل عقيدتها.
ثم تلا ذلك آيات صريحة تتحدث عن الهجرة في سورة النحل، قال تعالى: ( وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ` الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ )[النحل:41،42].
وفي أواخر السورة يؤكد المعنى مرة أخرى بقوله تعالى: ( ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِن بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ )[النحل:110].
وكانت الهجرة إلى الحبشة تدريباً عملياًّ على ترك الأهل والوطن([1]).
2- الإعداد في يثرب:
نلاحظ: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يسارع بالانتقال إلى الأنصار من الأيام الأولى، وإنما أخر ذلك لأكثر من عامين، حتى تأكد من وجود القاعدة الواسعة نسبيًّا، كما كان في الوقت نفسه يتم إعدادها في أجواء القرآن الكريم، وخاصة بعد انتقال مصعب إلى المدينة.
وقد تأكد أن الاستعداد لدى الأنصار قد بلغ كماله، وذلك بطلبهم هجرة الرسول الكريم إليهم، كما كانت المناقشات التي جرت في بيعة العقبة الثانية، تؤكد الحرص الشديد من الأنصار على تأكيد البيعة، والاستيثاق للنبي صلى الله عليه وسلم بأقوى المواثيق على أنفسهم، وكان في رغبتهم أن يميلوا على أهل منى، ممن آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسيافهم لو أذن الرسول الكريم بذلك، ولكنه قال لهم: «لم أؤمر بذلك».
وهكذا تم الإعداد لأهل يثرب ليكونوا قادرين على استقبال المهاجرين وما يترتب على ذلك من تبعات([2]).
ثانياً: طلائع المهاجرين:
لما بايعت طلائع الخير ومواكب النور من أهل يثرب النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام، والدفاع عنه، ثارت ثائرة المشركين، فازدادوا إيذاء للمسلمين، فأذن النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين بالهجرة إلى المدينة، وكان المقصود من الهجرة إلى المدينة إقامة الدولة الإسلامية التي تحمل الدعوة، وتجاهد في سبيلها، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله([3]) وكان التوجه إلى المدينة من الله تعالى، عن عائشة رضي الله عنها قالت: «لما صدر السبعون من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم طابت نفسه، وقد جعل الله له منعة، وقوماً أهل حرب وعدة، ونجدة، وجعل البلاء يشتد على المسلمين من المشركين لما يعلمون من الخروج، فيضيقوا على أصحابه وتعبثوا([4]) بهم ونالوا منهم ما لم يكونوا ينالون من الشتم والأذى، فشكا ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واستأذنوه في الهجرة، فقال: «قد أريت دار هجرتكم، أريت سبخة ذات نخل بين لابتين، وهما الحرتان، ولو كانت السراة أرض نخل وسباخ لقلت هي هي»، ثم مكث أياماً ثم خرج إلى أصحابه مسروراً فقال: «قد أخبرت بدار هجرتكم، وهي يثرب، فمن أراد الخروج فيخرج إليها».
فجعل القوم يتجهون ويتوافقون ويتواسون ويخرجون ويخفون ذلك، فكان أول من قدم المدينة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو سلمة بن عبد الأسد، ثم قدم بعده عامر بن ربيعة معه امرأته ليلى بنت أبي حَثْمة، فهي أول ظعينة قدمت المدينة، ثم قدم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسالاً، فنزلوا على الأنصار، في دورهم فآووهم ونصروهم وآسوهم، وكان سالم مولى أبي حذيفة يؤم المهاجرين بقباء، قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم فلما خرج المسلمون في هجرتهم إلى المدينة، كَلِبَت([5]) قريش عليهم، وحربوا واغتاظوا على من خرج من فتيانهم، وكان نفر من الأنصار بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في البيعة الآخرة، ثم رجعوا إلى المدينة، فلما قدم أول من هاجر إلى قباء خرجوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، حتى قدموا مع أصحابه في الهجرة، فهم مهاجرون أنصاريون، وهم ذكوان بن عبد قيس، وعقبة بن وهب بن كلدة والعباس بن عبادة بن نضلة، وزياد بن لبيد، وخرج المسلمون جميعاً إلى المدينة فلم يبقَ بمكة فيهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وعلي، أو مفتون أو مريض أو ضعيف عن الخروج([6]).
ثالثاً: من أساليب قريش في محاربة المهاجرين ومن مشاهد العظمة في الهجرة:
عملت قيادة قريش ما في وسعها للحيلولة دون خروج من بقي من المسلمين إلى المدينة، واتبعت في ذلك عدة أساليب منها:
1- أٍسلوب التفريق بين الرجل وزوجه وولده:
ونترك أم المؤمنين أم سلمة هند بنت أبي أمية تحدثنا عن روائع الإيمان وقوة اليقين في هجرتها وهجرة زوجها أبي سلمة قالت رضي الله عنها: «لما أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة رحل لي بعيره، ثم حملني عليه، وحمل معي ابني سلمة بن أبي سلمة في حجري، ثم خرج بي يقود بي بعيره، فلما رأته رجال بني المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم قاموا إليه فقالوا: هذه نفسك غلبْتَنَا عليها، أرأيت صاحبتنا هذه علام نتركك تسير بها إلى البلاد؟ قالت: فنزعوا خطام البعير من يده فأخذوني منه. قالت: وغضب عند ذلك بنو عبد الأسد، رهط أبي سلمة. قالوا: لا، والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا. قالت: فتجاذبوا ابني سلمة بينهم حتى خلعوا يده، وانطلق به بنو عبد الأسد، وحبسني بنو المغيرة عندهم، وانطلق زوجي أبو سلمة إلى المدينة. قالت: ففرق بيني وبين زوجي، وبين ابني. قالت: فكنت أخرج كل غداة فأجلس بالأبطح، فما أزال أبكي حتى أمسي، سنة أو قريباً منها، حتى مرّ بي رجل من بني عمي، أحد بني المغيرة، فرأى ما بي، فرحمني، فقال لبني المغيرة: ألا تخرجون هذه المسكينة فرقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها؟ قالت: فقالوا لي: الحقي بزوجك إن شئت. قالت: ورد بنو عبد الأسد إلي عند ذلك ابني. قالت: فارتحلتُ بعيري، ثم أخذت ابني فوضعته في حجري ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة، وما معي أحد من خلق الله. قالت: فقلت: أتبلغ بمن لقيت، حتى أقدم على زوجي، حتى إذا كنت بالتنعيم لقيت عثمان بن طلحة بن أبي طلحة أخا بني عبد الدار. فقال لي: إلى أين يا بنت أبي أمية؟ قالت: فقلت: أريد زوجي بالمدينة. قال: أو ما معك أحد؟ قالت: فقلت: لا والله إلا الله وبني هذا. قال: والله ما لك من مترك.
فأخذ بخطام البعير، فانطلق معي يهوي بي، فوالله ما صحبت رجلاً من العرب قط أرى أنه كان أكرم منه، كان إذا بلغ المنزل أناخ بي، ثم استأخر عني، حتى إذا نزلت عنه أستأخر ببعيري فحط عنه، ثم قيده في الشجرة، ثم تنحى إلى الشجرة فاضطجع تحتها، فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فقدمه فرحله، ثم استأخر عني فقال: اركبي، فإذا ركبت فاستويت على بعيري أتى فأخذ بخطامه، فقاد بي حتى ينزل بي، فلم يزل يصنع ذلك بي حتى أقدمني المدينة، فلما نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بقباء قال: زوجك في هذه القرية، وكان أبو سلمة بها نازلاً، فادخليها على بركة الله، ثم انصرف راجعاً إلى مكة.
قال فكانت تقول: والله ما أعلم أهل بيت في الإسلام أصابهم ما أصاب آل أبي سلمة، وما رأيت صاحباً قط أكرم من عثمان بن طلحة»([7]).
فهذا مثل على الطرق القاسية التي سلكتها قريش لتحول بين أبي سلمة والهجرة، فرجل يفرق بينه وبين زوجه عنوة، وبينه وبين فلذة كبده، على مرأى منه، كل ذلك من أجل أن يثنوه عن الهجرة، ولكن متى ما تمكن الإيمان من القلب، استحال أن يُقدِّم صاحبه على الإسلام والإيمان شيئاً، حتى لو كان ذلك الشيء فلذة كبده، أو شريكة حياته لذا انطلق أبو سلمة t إلى المدينة لا يلوي على أحد، وفشل معه هذا الأسلوب وللدعاة إلى الله فيه أسوة([8]).
وهكذا أَثَر الإيمان حين يخالط بشاشة القلوب، فهذه أسرة فُرِّق شملُها، وامرأة تبكي شدة مصابها، وطفل خُلعت يده وحُرم من أبويه، وزوج وأب يسجل أروع صور التضحية والتجرد، ليكون أول مهاجر يصل أرض الهجرة، محتسبين في سبيل الله ما يلقون، مصممين على المضي في طريق الإيمان، والانحياز إلى كتيبة الهدى، فماذا عسى أن ينال الكفر وصناديده من أمثال هؤلاء؟
وأما صنيع عثمان بن طلحة t فقد كان يومئذ كافراً (وأسلم قبل الفتح) ومع ذلك تشهد له أم سلمة رضي الله عنها بكرم الصحبة، وذلك شاهد صدق على نفاسة هذا المعدن، وكمال مروءته، وحمايته للضعيف([9])، فقد أبت عليه مروءته وخلقه العربي الأصيل أن يدع امرأة شريفة تسير وحدها في هذه الصحراء الموحشة، وإن كانت على غير دينه، وهو يعلم أنها بهجرتها تراغمه وأمثاله من كفار قريش.
فأين من هذه الأخلاق، يا قوم المسلمين، أخلاق الحضارة في القرن العشرين، من سطو على الحريات، و****** للأعراض، بل وعلى قارعة الطريق، وما تطالعنا به الصحافة كل يوم من أحداث يندى لها جبين الإنسانية، ومن تفنن في وسائل ال****** وانتهاك الأعراض، والسطو على الأموال.
إن هذه القصة- ولها مثل ونظائر- لتشهد أن ما كان للعرب من رصيد من الفضائل كان أكثر من مثالبهم ورذائلهم، فمن ثم اختار الله منهم خاتم أنبيائه ورسله، وكانوا أهلاً لحمل الرسالة، وتبليغها للناس كافة([10]).
وتظهر عناية الله تعالى بأوليائه، وتسخيره لهم، فهو جل وعلا الذي سخر قلب عثمان ابن طلحة للعناية بأم سلمة، ولذلك بذل الجهد والوقت من أجلها([11]) كما تظهر سلامة فطرة عثمان بن طلحة، التي قادته أخيراً إلى الإسلام بعد صلح الحديبية، ولعل إضاءة قلبه بدأ منذ تلك الرحلة، في مصاحبته لأم سلمة رضي الله عنهم([12]).
2- أسلوب الاختطاف:
لم تكتف قيادة قريش بالمسلمين داخل مكة، لمنعهم من الهجرة، بل تعدت ذلك إلى محاولة إرجاع من دخل المدينة مهاجراً، فقامت بتنفيذ عملية اختطاف أحد المهاجرين، ولقد نجحت هذه المحاولة وتم اختطاف أحد المهاجرين من المدينة وأعيد إلى مكة([13])، وهذه الصورة التاريخية للاختطاف يحدثنا بها عمر بن الخطاب t حيث قال: «اتعدت لما أردنا الهجرة إلى المدينة أنا وعياش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاص بن وائل السهمي، التناضب([14]) من أضاة([15]) بني غفار، فوق سرف([16])، وقلنا: أينا لم يصبح عندها فقد حبس، فليمض صاحباه. قال: فأصبحت أنا وعياش بن أبي ربيعة عند التناضب، وحبس عنا هشام، وفتن فافتتن([17]).
فلما قدمنا المدينة نزل في بني عمرو بن عوف بقباء، وخرج أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام إلى عياش بن أبي ربيعة، وكان ابن عمهما وأخاها لأمهما، حتى قدما علينا المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فكلماه، وقالا: إن أمك قد نذرت أن لا يمس رأسها مشط حتى تراك، ولا تستظل من شمس حتى تراك فرق لها فقلت له: عياّش إنه والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك، فاحذرهم، فوالله لو قد آذى أمك القمل لامتشطت، ولو قد اشتد عليها حر مكة لاستظلت.
قال: أبر قسم أمي، ولي هناك مال فآخذه.
قال: فقلت: والله إنك لتعلم أني لمن أكثر قريش مالاً، فلك نصف مالي ولا تذهب معهما، قال: فأبى علي إلا أن يخرج معهما، فلما أبى إلا ذلك، قال: قلت له: أما إذ قد فعلت ما فعلت، فخذ ناقتي هذه فإنها ناقة نجيبة ذلول([18]) فالزم ظهرها، فإن رابك من القوم ريب فانج عليها، فخرج عليها معهما، حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال له أبو جهل: يا أخي، والله لقد استغلظت بعيري هذا، أفلا تعقبني([19]) على ناقتك هذه؟ قال: بلى، قال: فأناخ، وأناخ، ليتحول عليها، فلما استووا بالأرض عدوا عليه، فأوثقاه، ثم دخلا به مكة، وفتناه فافتتن([20]).
قال: فكنا نقول: ما الله بقابل ممن افتتن صرفاً ولا عدلاً ولا توبة، قوم عرفوا الله ثم رجعوا إلى الكفر لبلاء أصابهم قال: وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أنزل الله تعالى فيهم وفي قولنا وقولهم لأنفسهم: ( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ` وَأَنِيبُوا إلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنْصَرُونَ` وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ )[الزمر:53-55].
قال عمر بن الخطاب: فكتبتها بيدي في صحيفة، وبعثت بها إلى هشام بن العاص، قال: فقال هشام: فلما أتتني جعلت أقرؤها بذي طوى([21]) أُصَعَّد بها فيه وأصَوَّبُ ولا أفهمها، حتى قلت: اللهم فهمنيها، قال: فألقى الله تعالى في قلبي أنها إنما أنزلت فينا، وفيما كنا نقول في أنفسنا، ويقال فينا، قال: فرجعت إلى بعيري فجلست عليه، فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة([22]).
هذه الحادثة تظهر لنا كيف أعد عمر t خطة الهجرة له، ولصاحبيه عياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص بن وائل السهمي، وكان ثلاثتهم كل واحد من قبيلة، وكان مكان اللقاء الذي اتعدوا فيه بعيداً عن مكة وخارج الحرم على طريق المدينة، ولقد تحدد الزمان والمكان بالضبط بحيث إنه إذا تخلف أحدهم فليمض صاحباه ولا ينتظرانه؛ لأنه قد حبس، وكما توقعوا فقد حبس هشام بن العاص t بينما مضى عمر وعياش بهجرتهما، ونجحت الخطة كاملة ووصلا المدينة سالمين([23]).
إلا أن قريشاً صممت على متابعة المهاجرين؛ ولذلك أعدت خطة محكمة قام بتنفيذها أبو جهل، والحارث وهما أخَوا عياش من أمه، الأمر الذي جعل عياشاً يطمئن لهما، وبخاصة إذا كان الأمر يتعلق بأمه، فاختلق أبو جهل هذه الحيلة لعلمه بمدى شفقة ورحمة عياش بأمه، والذي ظهر جلياًّ عندما أظهر موافقته على العودة معهما، كما تظهر الحادثة الحس الأمني الرفيع الذي كان يتمتع به عمر t، حيث صدقت فراسته في أمر الاختطاف([24]).
كما يظهر المستوى العظيم من الأخوة التي بناها الإسلام في هذه النفوس، فعمر يضحي بنصف ماله حرصاً على سلامة أخيه، وخوفاً عليه من أن يفتنه المشركون بعد عودته، ولكن غلبت عياشاً عاطفته نحو أمه، وبره بها؛ ولذلك قرر أن يمضي لمكة فيبر قسم أمه ويأتي بماله هناك، وتأبى عليه عفته أن يأخذ نصف مال أخيه عمر t، وماله قائم في مكة لم يمس، غير أن أفق عمر t كان أبعد، فكأنه يرى رأي العين المصير المشؤوم الذي سينزل بعياش لو عاد إلى مكة، وحين عجز عن إقناعه أعطاه ناقته الذلول النجيبة، وحدث لعياش ما توقعه عمر من غدر المشركين به([25]).
وساد في الصف المسلم أن الله تعالى لا يقبل صرفاً ولا عدلاً من هؤلاء الذين فتنوا فافتتنوا وتعايشوا مع المجتمع الجاهلي، فنزل قول الله تعالى: ( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ ) وما إن نزلت هذه الآيات حتى سارع الفاروق t فبعث بهذه الآية إلى أَخَوَيْهِ الحميمين عياش وهشام ليجددوا محاولاتهما في مغادرة معسكر الكفر، أي سمو عظيم عند ابن الخطاب t لقد حاول، مع أخيه عياش، أعطاه نصف ماله، على ألا يغادر المدينة، وأعطاه ناقته ليفر عليها، ومع هذا كله، فلم يشمت بأخيه، ولم يَتَشَفَّ منه لأنه خالفه، ورفض نصيحته، وألقى برأيه خلف ظهره، إنما كان شعور الحب والوفاء لأخيه هو الذي يسيطر عليه، فما أن نزلت الآية حتى سارع ببعثها إلى أخويه، ولكل المستضعفين هناك ليقوموا بمحاولات جديدة للانضمام إلى المعسكر الإسلامي([26]).
3- أسلوب الحبس:
لجأت قريش إلى الحبس كأسلوب لمنع الهجرة فكل من تقبض عليه وهو يحاول الهجرة، كانت تقوم بحبسه داخل أحد البيوت، مع وضع يديه ورجليه في القيد، وتفرض عليه رقابة وحراسة مشددة، حتى لا يتمكن من الهرب، وأحيانًا يكون الحبس داخل حائط بدون سقف، كما فعل مع عياش وهشام بن العاص، رضي الله عنهما، حيث كانا محبوسين في بيت لا سقف له([27])، وذلك زيادة في ال*****، إذ يضاف إلى وحشة الحبس حرارة الشمس وسط بيئة جبلية شديدة الحرارة مثل مكة.
فقيادة قريش تريد بذلك تحقيق هدفين: أولهما منع المحبوسين من الهجرة، والآخر أن يكون هذا الحبس درساً وعظة لكل من يحاول الهجرة من أولئك الذين يفكرون فيها ممن بقي من المسلمين بمكة، ولكن لم يمنع هذا الأسلوب المسلمين من الخروج إلى المدينة المنورة، فقد كان بعض المسلمين محبوسين في مكة مثل عياش، وهشام رضي الله عنهما، ولكنهم تمكنوا من الخروج واستقروا بالمدينة([28]).
كان النبي صلى الله عليه وسلم بعد هجرته يقنت ويدعو للمستضعفين في مكة عامة، ولبعضهم بأسمائهم خاصة، فعن أبي هريرة t أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركعة الأخيرة يقول: «اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة، اللهم أنج سلمة بن هشام، اللهم أنج الوليد بن الوليد، اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها سنين كسني يوسف»([29]).
ولم يترك المسلمون أمر اختطاف عياش، فقد ندب الرسول صلى الله عليه وسلم أحد أصابه وفعلاً استعد للمهمة ورتب لها ما يحقق نجاحها، وجاء إلى مكة واستطاع بكل اقتدار وذكاء أن يصل إلى البيت الذي حُبسا فيه وأطلق سراحهما، ورجع بهما إلى المدينة المنورة([30]).
4- أسلوب التجريد من المال:
كان صهيب بن سنان النَّمَري من النَّمِر بن قاسط، أغارت عليهم الروم، فسبي وهو صغير، وأخذ لسان أولئك الذي سبوه، ثم تقلب في الرق، حتى ابتاعه عبد الله بن جدعان ثم أعتقه، ودخل الإسلام هو وعمار بن ياسر رضي الله عنهما في يوم واحد([31]).
وكانت هجرة صهيب t عملاً تتجلى فيه روعة الإيمان، وعظمة التجرد لله، حيث ضحى بكل ما يملك في سبيل الله ورسوله، واللحوق بكتيبة التوحيد والإيمان([32]) فعن أبي عثمان النهدي رحمه الله قال: «بلغني أن صهيباً حين أراد الهجرة إلى المدينة قال له أهل مكة: أتيتنا هاهنا صعلوكا([33]) حقيراً، فكثر مالك عندنا، وبلغت ما بلغت، ثم تنطلق بنفسك ومالك؟ والله لا يكون ذلك، فقال: أرأيتم إن تركت مالي تخلون أنتم سبيلي؟ قالوا: نعم، فجعل لهم ماله أجمع، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ربح صهيب، ربح صهيب» ([34]) وعن عكرمة رحمه الله قال:«لما خرج صهيب مهاجراً تبعه أهل مكة، فنثل([35]) كنانته، فأخرج منها أربعين سهمًا، فقال: لا تصلون إليّ حتى أضع في كل رجل منكم سهمًا، ثم أصير بعد إلى السيف فتعلمون أني رجل، وقد خلَّفت بمكة فينتين فهما لكم) ([36]) وقال عكرمة: ونزلت على النبي صلى الله عليه وسلم: ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ )[البقرة:207] فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أبا يحيى، ربح البيع» قال: وتلا عليه([37]) الآية.
لكأني([38]) بصهيب t يقدم الدليل القاطع على فساد عقل أولئك الماديين الذين يَزِنُون حركات التاريخ وأحداثه كلها بميزان المادة، فأين هي المادة التي سوف يكسبها صهيب في هجرته والتي ضحى من أجلها بكل ما يملك؟
هل تراه ينتظر أن يعطيه محمد صلى الله عليه وسلم منصباً يعوضه عما فقده؟ أم هل ترى محمدا صلى الله عليه وسلم يمنيه بالعيش الفاخر في جوار أهل يثرب؟
إن صهيًبا ما فعل ذلك وما انحاز إلى الفئة المؤمنة إلا ابتغاء مرضاة الله، بالغاً ما بلغ الثمن ليضرب لشباب الإسلام مثلاً في التضحية عزيزة المنال، عساهم يسيرون على الدرب، ويقتفون الأثر([39]).
إن هذه المواقف الرائعة لم تكن هي كل مواقف العظمة، والشموخ في الهجرة المباركة، بل امتلأ هذا الحدث العظيم بكثير من مشاهد العظمة، والتجرد والتضحية، التي تعطي الأمة دروساً بليغة في بناء المجد وتحصيل العزة([40]).

محمد رافع 52 27-09-2014 09:08 PM

رابعًا: البيوتات الحاضنة وأثرها في النفوس:
لقد كان من نتائج إيمان الأنصار ومبايعتهم وتعهدهم بالنصرة أن دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى الهجرة إلى المدينة، كما كان من نتائج ذلك أن ظهرت ظاهرة عظيمة من التكافل بين المسلمين، ففتحت بيوت الانصار أبوابها وقلوب أصحابها لوفود المهاجرين، واستعدت لاحتضانهم رجالاً ونساء، إذ أصبح المسكن الواحد يضم المهاجر والأنصاري، والمهاجرة والأنصارية، يتقاسمون المال والمكان والطعام والمسئولية الإسلامية، فمن هذه البيوتات الحاضنة:
1- دار مبشر بن عبد المنذر بن زنبر بقباء: ونزل بها مجموعة من المهاجرين نساء ورجالاً، وقد ضمت هذه الدور عمر بن الخطاب، ومن لحق به من أهله، وقومه وابنته حفصة وزوجها وعياش بن ربيعة.
2- دار خبيب بن إساف أخي بني الحارث بن الخزرج بالسنح([41]) نزل بها طلحة بن عبيد الله بن عثمان وأمه وصهيب بن سنان.
3- دار أسعد بن زرارة من بني النجار، قيل: نزل بها حمزة بن عبد المطلب.
4- دار سعد بن خيثمة أخي بني النجار، وكان يسمّى بيت العزاب ونزل بها الأعزاب من المهاجرين.
5- دار عبد الله بن سلمة أخي بَلْعجلان بقباء: نزل بها عبيدة بن الحارث وأمه سخيلة، ومِسْطَح بن أثاثة بن عبّاد بن المطلب، والطفيل بن الحارث، وطُليب بن عُمير، والحصين بن الحارث نزلوا جميعاً على عبد الله بن سلمة بقباء.
6- دار بني جَحْجبتى، والمحتضن هو منذر بن محمد بن عقبة، نزل عنده الزبير بن العوام، وزوجه أسماء بنت أبي بكر، وأبو سبرة بن أبي وهب وزوجته أم كلثوم بنت سهيل([42]).
7- دار بني عبد الأشهل، والمحتضن هو سعد بن معاذ بن النعمان من بني عبد الأشهل، نزل بها مصعب بن عمير، وزوجته حَمنة بنت جحش.
8- دار بني النجار، والمحتضن هو أوس بن ثابت بن المنذر، نزل بها عثمان بن عفان وزوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم([43]).
فهذه المقاسمة وهذا التكافل الاجتماعي، كان من أهم العناصر التي مهدت لإقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته المهاجرين معه، وبعده، إقامة طيبة، تنبض بالإيثار على النفس وبود الأخوة الصادقة المؤمنة([44]).
بهذه الروح العالية، والإيمان الوثيق، والصدق في المعاملة، تمت المؤاخاة، وتم الوفاق بين المهاجرين والأنصار، وقد يحدث تساؤل فيقال: لماذا لم نسمع ولم تسجل المصادر ولم تكتب المراجع أن خلافات وقعت في هذه البيوت؟
وأين النساء وما اشتهرن به من مشاكسات؟ إنه الدين الحق الذي جعل تقوى الله أساساً لتصرف كل نفس، والأخلاق السامية التي فرضت الأخوة بين المسلمين، ونصرة الدعوة، وإنها المبايعة وأثرها في النفوس، إنه الصدق، والعمل من أجل المجموعة خوفاً من العقاب ورهبة من اليوم الآخر، ورغبة في الثواب وطمعاً في الجنة، إنه دفء حضانة الإيمان، واستقامة النفس والسلوك وصدق الطوية. فكل من أسلم، وكل من بايع، وكل من أسلمت وبايعت، يعملون جميعهم بما يؤمرون به ويخلصون فيما يقولون، يخافون الله في السر والعلن، آمنت نفوسهم فاحتضنت الأنصارية المهاجرة ، فالكل يعمل من أجل مصلحة الكل، فهذا هو التكافل الاجتماعي في أجلى صورة، وأقدس واقعة، رغب الكل في الثواب حتى أن الواحد منهم يخاف ذهاب الأنصاري بالأجر كله([45]).
إن جانب البذل والعطاء ظاهرة نحن بحاجة إلى الإشارة إليها في كل وقت، إننا في عالمنا المعاصر، وفي الصف الإسلامي وفي رحلة لبضعة أيام تتكشف النفوس والعيوب والحزازات والظنون، وهذا مجتمع يبني ولما يصل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد، ومع ذلك تفتح البيوت للوافدين الجدد ليس على مستوى فرد فقط، بل على مستوى جماعي كذلك، ويقيم المهاجرون في بيوت الأنصار أشهراً عدة، والمعايشة اليومية مستمرة، والأنصار يبذلون المال والحب والخدمات لإخوانهم القادمين إليهم، نحن أمام مجتمع إسلامي بلغ الذروة في لحمته وانصهاره، ولم يكن المهاجرون إلا القدوة للأنصار بالبذل والعطاء، فلم يكونوا أصلاً فقراء، بل كانوا يملكون المال، ويملكون الدار، وتركوا ذلك كله ابتغاء مرضاة الله، وبذلوه كله لطاعته جل وعلا، فكانوا كما وصفهم القرآن الكريم: ( لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) [الحشر:8].
كان هذا المجتمع المدني الجديد يتربى على معاني الإيمان والتقوى، ولم يصل النبي صلى الله عليه وسلم بعد، ولكن تحت إشراف النقباء الاثني عشر الذين كانوا في كفالتهم لقومهم، ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم، وبإشراف قيادات المهاجرين الكبرى، التي وصلت المدينة والذين استقوا جميعاً من النبع النبوي الثر، واقتبسوا من هديه([46]).
ومن معالم هذا المجتمع الجديد ذوبان العصبية، فقد كان إمام المسلمين سالم مولى أبي حذيفة t؛ لأنه كان أكثرهم قرآنا، فهذا المجتمع الذي يوجد فيه علية أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار وسادة العرب من قريش والأوس والخزرج، يقوده ويؤمه حامل القرآن، فالكرامة العليا فيه لقارئ كتاب الله وحامله، وحامل القرآن في المجتمع الإسلامي هو نفسه حامل اللواء في الحرب، فليس بينهما ذلك الانفصام الذي نشهده اليوم من حملة القرآن من الحفاظ، وبين المجاهدين في سبيل الله، فقد كان حامل لواء المهاجرين في معركة اليمامة سالم مولى أبي حذيفة، فقيل له في ذلك، فكان شعاره: بئس حامل القرآن- يعني إن فررت- فقطعت يمينه، فأخذ اللواء بيساره فقطعت، فاعتنقه إلى أن صرع، واستُشهد في سبيل الله([47]).
ومن معالم المجتمع الإسلامي الجديد: حرية الدعوة إلى الله علانية، فقد أصبح واضحاً عند الجميع أن معظم قيادات يثرب دخلت في هذا الدين، ونشط الشباب والنساء، والرجال في الدعوة إلى الله، والتبشير بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم على قدم وساق.
ولابد من المقارنة بين المجتمع الذي قام بالحبشة من المسلمين وبين المجتمع الإسلامي في يثرب، لقد كانت الحبشة تحمل طابع اللجوء السياسي، والجالية الأجنبية أكثر مما كانت تحمل طابع المجتمع الإسلامي الكامل، صحيح أن المسلمين ملكوا حرية العبادة هناك، لكنهم معزولون عن المجتمع النصراني، لم يستطيعوا أن يؤثروا فيه التأثير المنشود، وإن كانت هجرة الحبشة خطوة متقدمة على جو مكة، حيث لا تتوفر حرية الدعوة وحرية العبادة، ولكنه دون المجتمع الإسلامي في المدينة بكثير؛ ولذلك شرع مهاجرو الحبشة بمجرد سماع خبر هجرة المدينة بالتوجه نحوها مباشرة، أو عن طريق مكة إلا من طلبت منه القيادة العليا البقاء هناك، لقد أصبحت المدينة مسلمة بعد أن عاشت قرونا وثنية مشركة.
لقد أصبح المجتمع المدني مسلماً وبدأ نموه وتكوينه الفعلي بعد عودة الاثني عشر صحابياً من البيعة الأولى، والتي كان على رأسها الصحابي الجليل أسعد بن زرارة، والتي حملت المسؤولية الدعوية فقط، دون الوجود السياسي، وبلغ أوج توسعه وبنائه بعد عودة السبعين الذين ملكوا الشارع السياسي والاجتماعي، وقرروا أن تكون بلدهم عاصمة المسلمين الأولى في الأرض وهم على استعداد أن يواجهوا كل عدو خارجي، يمكن أن ينال من هذه السيادة حتى قبل قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم في المدينة.
إن القاعدة الصلبة التي بذل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتاً وجهداً في تربيتها، بدأت تعطي ثمارها أكثر بعد أن التحمت بالمجتمع المدني الجديد، وانصهر كلاهما في معاني العقيدة وإخوة الدين.
لقد أعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الأفراد وصقلهم في بوتقة الجماعة، وكون بهم القاعدة الصلبة، ولم يقم المجتمع الإسلامي الذي تقوم عليه الدولة إلا بعد بيعة الحرب؛ وبذلك نقول بأن المجتمع الإسلامي قام بعد ما تهيأت القوة المناسبة لحمايته في الأرض([48]).
وهكذا انتقلت الجماعة المسلمة المنظمة القوية إلى المدينة، والتحمت مع إخوانها الأنصار، وتشكل المجتمع المسلم الذي أصبح ينتظر قائده الأعلى عليه الصلاة والسلام، ليعلن ولادة دولة الإسلام، التي صنعت فيما بعد حضارة لم يعرف التاريخ مثلها حتى يومنا هذا.

محمد رافع 52 27-09-2014 09:10 PM

خامساً: لماذا اختيرت المدينة كعاصمة للدولة الإسلامية؟
كان من حكمة الله تعالى في اختيار المدينة دارًا للهجرة ومركزًا للدعوة- هذا عدا ما أراده الله من إكرام أهلها وأسرار لا يعلمها إلا الله- إنها امتازت بتحصن طبيعي حربي، لا تزاحمها في ذلك مدينة قريبة في الجزيرة، فكانت حرة الوبرة مطبقة على المدينة من الناحية الغربية وحرة واقم، مطبقة على المدينة من الناحية الشرقية، وكانت المنطقة الشمالية من المدينة هي الناحية الوحيدة المكشوفة (وهي التي حصنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق سنة خمس في غزوة الأحزاب)، وكانت الجهة الأخرى من أطراف المدينة محاطة بأشجار النخيل الزروع الكثيفة لا يمر منها الجيش إلا في طرق ضيقة لا يتفق فيها النظام العسكري، وترتيب الصفوف.
وكانت خفارات عسكرية صغيرة كافية بإفساد النظام العسكري ومنعه من التقدم يقول ابن إسحاق: «كان أحد جانبي المدينة عورة، وسائر جوانبها مشككة بالبنيان والنخيل، لا يتمكن العدو منها»([49]).
ولعل النبي صلى الله عليه وسلم قد أشار إلى هذه الحكمة الإلهية في اختيار المدينة بقوله لأصحابه قبل الهجرة: «إني رأيت دار هجرتكم، ذات نخيل بين لابتين وهما الحرتان» ([50]). فهاجر من هاجر قِبَل المدينة.
وكان أهل المدينة من الأوس والخزرج أصحاب نخوة وإباء وفروسية وقوة وشكيمة، ألفوا الحرية، ولم يخضعوا لأحد، ولم يدفعوا إلى قبيلة أو حكومة إتاوة أو جباية، يقول ابن خلدون: ولم يزل هذان الحيان قد غلبوا على يثرب، وكان الاعتزاز والمنعة تعرف لهم في ذلك، ويدخل في ملتهم من جاورهم من قبائل مضر.
وكان بنو عدي بن النجار أخواله صلى الله عليه وسلم، فأم عبد المطلب بن هاشم إحدى نسائهم، فقد تزوج هاشم بسلمى بنت عمرو أحد بني عدي بن النجار، وولدت لهاشم عبد المطلب، وتركه هاشم عندها، حتى صار غلاماً دون المراهقة، ثم احتمله عمه المطلب، فجاء به إلى مكة، وكانت الأرحام يحسب لها حساب كبير في حياة العرب الاجتماعية، ومنهم أبو أيوب الأنصاري الذي نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في داره في المدينة.
وكان الأوس والخزرج من قحطان، والمهاجرون ومن سبق إلى الإسلام في مكة وما حولها من عدنان، ولما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وقام الأنصار بنصره، اجتمعت بذلك عدنان وقحطان تحت لواء الإسلام، وكانوا كجسدٍ واحدِ، وكانت بينهما مفاضلة ومسابقة في الجاهلية، وبذلك لم يجد الشيطان سبيلاً إلى قلوبهم لإثارة الفتنة والتعزي بعزاء الجاهلية، باسم الحمية القحطانية أو العدنانية، فكانت لكل ذلك مدينة يثرب أصلح مكان لهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه واتخاذهم لها داراً وقراراً، حتى يقوى الإسلام ويشق طريقه إلى الأمام، ويفتح الجزيرة ثم يفتح العالم المتمدن([51]).

محمد رافع 52 27-09-2014 09:13 PM

سادسًا: من فضائل المدينة:
لقد عظُم شرف المدينة المنورة المباركة بهجرة النبي صلى الله عليه وسلم إليها، حتى فضلت على سائر بقاع الأرض حاشا مكة المكرمة، وفضائلها كثيرة منها:
1- محبته صلى الله عليه وسلملها ودعاؤه لها:
دعا النبي صلى الله عليه وسلم ربه قائلا: «اللهم حبب إلينا المدينة كحبّنا مكة أو أشد»([52]) وعن أنس t قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قدم من سفر، فأبصر إلى درجات المدينة([53])، أَوْضَع ناقته([54]) وإن كان على دابة حركها» قال أبو عبد الله: زاد الحارث بن عمير عن حميد «حركها من حبها»([55]).
2- دعاء النبي صلى الله عليه وسلملها بضعفي ما في مكة من البركة:
فعن أنس t عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلت بمكة من البركة»([56])، وعن أبي هريرة t قال: «كان الناس إذا رأوا أول أثمر جاءوا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم بارك لنا في ثمرنا، وبارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في صاعنا، وبارك لنا في مُدنا، اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك وإني عبدك ونبيك، وإنه دعاك لمكة، وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه» قال: ثم يدعو أصغر وليد له فيعطيه ذلك الثمر([57]).
3- عصمتها من الدجال والطاعون ببركته صلى الله عليه وسلم:
إن الله تعالى قيض لها ملائكة يحرسونها، فلا يستطيع الدجال إليها سبيلاً، بل يلقى إليه بإخوانه من الكفار والمنافقين، كما أن من لوازم دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بالصحة ورفع الوباء ألا ينزل بها الطاعون، كما أخبر بذلك المعصوم([58])صلى الله عليه وسلم.
4- فضيلة الصبر على شدتها:
فقد وعد النبي صلى الله عليه وسلم من صبر على شدة المدينة وضيق عيشها بالشفاعة يوم القيامة([59]) فعن سعد بن أبي وقاص t قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون لا يدعها أحد رغبة عنها إلا أبدل الله فيها من هو خير منه، ولا يثبت أحد على لأوائها([60]) وجهدها إلا كنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة»([61]).
5- فضيلة الموت فيها:
فعن ابن عمر t قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت بها، فإني أشفع لمن يموت بها»([62])، وكان عمر بن الخطاب t يدعو بهذا الدعاء: (اللهم ارزقني شهادة في سبيلك، واجعل موتي في بلد رسولك صلى الله عليه وسلم)([63]).
وقد استجاب الله للفاروق t فاستشهد في محراب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يؤم المسلمين في صلاة الفجر.
6- هي كهف الإيمان وتنفي الخبث عنها:
فالإيمان يلجأ إليها مهما ضاقت به البلاد، والأخباث والأشرار لا مقام لهم فيها
ولا استقرار، ولا يخرج منها أحد رغبة عنها إلا أبدلها الله خيراً منه من المؤمنين الصادقين([64]) فعن أبي هريرة t قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الإيمان ليأرِز([65]) إلى المدينة كما تأرِز الحية إلى جحرها»([66])، وقال صلى الله عليه وسلم: «... والذي نفسي بيده لا يخرج منهم أحد رغبة عنها إلا أخلف الله فيها خيراً منه، ألا إن المدينة كالكير، تخرج الخبث لا تقوم الساعة حتى تنفي المدينة شرارها كما ينفي الكير خبث الحديد»([67]).

7- تنفي الذنوب والأوزار:
عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنها –أي المدينة– طيبة تنفي الذنوب([68]) كما تنفي النار خبث الفضة»([69]).
8- حفظ الله إياها ممن يريدها بسوء:
فقد تكفل الله بحفظها من كل قاصد إياها بسوء، وتوعد النبي صلى الله عليه وسلم من أحدث فيها حدثاً، أو آوى فيها محدثاً، أو أخاف أهلها، بلعنة الله وعذابه، وبالهلاك العاجل([70]) فعن أبي هريرة t قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يكيد أهل المدينة أحد إلا انماع([71]) كما ينماع الملح في الماء»([72])، وقال صلى الله عليه وسلم: «المدينة حرم الله، فمن أحدث فيها حدثاً([73]) أو آوى محدثاً([74]) فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يُقبل منه يوم القيامة عدلٌ، ولا صرفٌ»([75]).
9- تحريمها:
فقد حرمها النبي صلى الله عليه وسلم بوحي من الله فلا يراق فيها دم، ولا يحمل فيها سلاح، ولا يروع فيها أحد، ولا يقطع فيها شجر، ولا تحل لُقَطَتها إلا لمنشد، وغير ذلك ما يدخل في تحريمها قال صلى الله عليه وسلم: «إن إبراهيم حرم مكة ودعا لها، حرَّمتُ المدينة كما حرم إبراهيم مكة، ودعوت لها في مدها وصاعها مثل ما دعا إبراهيم عليه السلام لمكة»([76]).
وقال صلى الله عليه وسلم: «هذا جبل يحبنا ونحبه، اللهم إن إبراهيم حرم مكة، وإني أحرم ما بين لابتيها»([77])يعني المدينة، وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يختلي خلاها([78])ولا ينفر صيدها([79])ولا تلتقط لقطتها إلا لمن أشار بها ([80])ولا تقطع منها شجرة إلا أن يعلف رجل بعيرة ولا تحمل فيها السلاح لقتال» ([81]).
إن هذه الفضائل العظيمة جعلت الصحابة يتعلقون بها، ويحرصون على الهجرة إليها، والمقام فيها، وبذلك تجمعت طاقات الأمة فيها، ثم توجهت نحو القضاء على الشرك بأنواعه، والكفر بأشكاله، وفتحوا مشارق الأرض ومغاربها.

* * *





([1]) انظر: السيرة النبوية تربية أمة وبناء دولة، صالح الشامي، ص118.
([2]) نفس المصدر،ص 120، 121.
([3]) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص33، 34.
([4])عبث: عبثا، لعب فهو عابث لاعب لما لا يعنيه، انظر: لسان العرب (2/166)
([5]) كلبت قريش عليهم: أي غضبت عليهم. (2) انظر: طبقات ابن سعد (1/325).

([7]) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/202، 203).
([8]) انظر: في السيرة النبوية، د. إبراهيم علي محمد، ص130، 131، تقسيم الأساليب أخُذ من هذا الكتاب، ومشاهد العظمة من الهجرة النبوية المباركة.
([9]) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص124.
([10]) انظر: السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة، د. محمد أبو شهبة (1/461).
([11]) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (3/128). (4) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/204).

([13]) انظر: في السيرة النبوية ص132. (6) التناضب: جمع تنضيب وهو شجر.

([15]) الأضاة: على عشرة أميال من مكة. (8) سرف: واد متوسط الطول من أودية مكة


([17]) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص129.
(1) الذلول: أذلها العمل، فصارت سهلة الركوب والانقياد.
([19]) تعقبني: تجعلني أعقبك عليها لركوبها. (3) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/205).


([21]) ذو طوى، واد من أودية مكة. (5) المجمع للهيثمي (6/61) الهجرة النبوية المباركة، ص131.

([23]) انظر: التربية القيادية (2/159). (2) انظر: في السيرة النبوية، ص134.
(3، 4) انظر: التربية القيادية (2/160).


(1) انظر: في السيرة النبوية، ص132. (2) انظر: في السيرة النبوية ، ص132.
(3) البخاري، باب الاستسقاء، (2/33) رقم 1006.


([30]) انظر: في السيرة النبوية، ص135. (5) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص119.


([32]) الهجرة النبوية المباركة، ص120. (2) الصعلوك: الفقير.


([34]) انظر: السيرة النبوية لابن هشام، (1/477)
([35]) نثل: استخرج ما فيها من النبل والسهام. (5) مرسل أخرجه الحاكم (3/398)


([37]) أخرجه الحاكم (3/398) صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وسكت عليه الذهبي.
([38]،8) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص121.
(9) نفس المصدر، ص129.

([41]) المرأة في العهد النبوي، ص116. (2) انظر: المرأة في العهد النبوي، ص117.


([43]) انظر: السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة لأبي شهبة، (1/468، 469).
([44]) انظر: المرأة في العهد النبوي، ص118.
([45]) انظر: المرأة في العهد النبوي، ص132. (2) انظر: التربية القيادية، (2/171، 172).

([47]) انظر: التربية القيادية (1/174، 175).
([48]) انظر: التربية القيادية (1/146، 147). (2) انظر: السيرة النبوية للندوي، ص157.

([50]) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص52.
([51]) انظر: الأساس في السنة (1/333). (2) الهجرة النبوية المباركة، ص157.

([53]) وفي رواية: «جدارات»: جمع جدار وهو الحائط، ودرجات: أي الطرق المرتفعة.
(4) أوضع ناقته: حثها على السرعة.

([55]) البخاري، كتاب العمرة، باب من أسرع ناقته (3/630) رقم 1802).
([56]) البخاري، كتاب فضائل المدينة (4/97) رقم 1885.
([57]) مسلم، كتاب الحج، باب فضل المدينة (2/1000).
(1) انظر: الهجرة النبوية المباركة، 158.
(2) المصدر السابق، ص160. (3) اللأواء: الشدة وضيق العيش.

([61]) مسلم، كتاب الحج، باب فضل المدينة (2/992) رقم 1363.
([62]) أخرجه أحمد (2/74، 104) بإسناد صحيح وصححه ابن حبان رقم 3741.
([63]) البخاري، كتاب فضائل المدينة (4/100) رقم 1890.
([64]) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص161.
([65]) يأرز: ينضم ويجتمع، انظر: فتح الباري (4/93).
([66]) البخاري، كتاب فضائل المدينة (4/93) رقم 1876.
([67]) مسلم، كتاب الحج، باب المدينة تنفي شرارها (2/1005) رقم 1381.
([68]) في رواية (تنفي الخبث) وفي رواية (تنفي الرجال).
([69]) البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة أحد (7/356) رقم 4050.
([70]) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص162. (5) انماع: ذاب وسال.


([72]) البخاري، كتاب فضائل المدينة، باب إثم من كاد أهل المدينة، (4/94) رقم 1877.
([73]) الحدث: الإثم أو الأمر المنكر الذي ليس بمعروف في السنة.
([74]) المحدث: أي من أتي الحدث.
([75])مسلم، كتاب الحج، باب فضل المدينة (2/999) رقم 1371.
([76]) البخاري، كتاب البيوع، باب بركة صاع النبي ومده (4/346).
([77])البخاري، كتاب المغازي، باب أحد جبل يحبنا ونحبه (7/337) رقم 484.
([78])لا يختلي خلاها: لا يجز ولا يقطع الحشيش الرطب فيها.
([79])لا ينفر صيدها: لا يزجر ويمنع من الرعي.
([80])أشار بها، والمراد تعريف اللقطة.
([81]) أخرجه أحمد (1/119).

محمد رافع 52 28-09-2014 10:59 AM

الفصل السادس


هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق رضي الله عنه


المبحث الأول


فشل خطة المشركين والترتيب النبوي الرفيع للهجرة

أولاً: فشل خطة المشركين لاغتيال النبي صلى الله عليه وسلم:
بعد أن منيت قريش بالفشل في منع الصحابة -رضي الله عنهم- من الهجرة إلى المدينة، على الرغم من أساليبهم الشنيعة والقبيحة، فقد أدركت قريش خطورة الموقف، وخافوا على مصالحهم الاقتصادية، وكيانهم الاجتماعي القائم بين قبائل العرب؛ لذلك اجتمعت قيادة قريش في دار الندوة للتشاور في أمر القضاء على قائد الدعوة، وقد تحدث ابن عباس في تفسيره لقوله تعالى ( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ )[الأنفال:30] فقال: فتشاورت قريش بمكة فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثائق، يريدون النبي صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: بل ا***وه، وقال بعضهم: أن أخرجوه، فاطلع الله نبيه على ذلك فبات عليٌّ على فراش النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة([1])، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أصبحوا ثاروا إليه فلما رأوا عليًّا رد الله كيدهم، فقالوا أين صاحبك هذا؟ قال: لا أدري، فاقتفوا أثره فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم الأمر، فصعدوا الجبل فمروا بالغار فرأوا على بابه نسيج العنكبوت، فقالوا: لو دخل ههنا لم يكن ينسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاثاً([2]).
قال سيد قطب في تفسيره للآيات التي تتحدث عن مكر المشركين بالنبي صلى الله عليه وسلم: «إنه التذكير بما كان في مكة، قبل تغير الحال، وتبدل الموقف، وإنه ليوحي بالثقة واليقين في المستقبل، كما ينبه إلى تدبير قدر الله وحكمته، فيما يقضي به ويأمر: ولقد كان المسلمون الذين يخاطبون بهذا القرآن أول مرة، يعرفون الحالين معرفة الذي عاش ورأى وذاق، وكان يكفي أن يذكروا بهذا الماضي القريب، وما كان فيه من خوف وقلق، في مواجهة الحاضر الواقع وما فيه من أمن وطمأنينة، وما كان من تدبير المشركين ومكرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، في مواجهة ما صار إليه من غلبة عليهم، لا مجرد النجاة منهم.
لقد كانوا يمكرون ليوثقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحبسوه حتى يموت، أو لي***وه ويتخلصوا منه، أو ليخرجوه من مكة منفيًّا مطروداً، ولقد ائتمروا بهذا كله ثم اختاروا ***ه، على أن يتولى ذلك المنكر فتية من القبائل جميعاً، ليتفرق دمه في القبائل، ويعجز بنو هاشم عن قتال العرب كلها، فيرضوا بالدية وينتهي الأمر ( وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ).
إنها صورة ساخرة وهي في الوقت ذاته صورة مفزعة، فأين هؤلاء البشر الضعاف المهازيل من تلك القدرة القادرة، قدرة الله الجبار، القاهر فوق عباده، الغالب على أمره، وهو بكل شيء محيط([3]).
ثانيًا: الترتيب النبوي للهجرة:
عن عائشة أم المؤمنين قالت: كان لا يخطئ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بيت أبي بكر أحد طرفي النهار، إما بكرة، وإما عشية، حتى إذا كان اليوم الذي أذن فيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة، والخروج من مكة من بين ظهري قومه، أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة([4])، في ساعة كان لا يأتي فيها، قالت: فلما رآه أبو بكر، قال: ما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الساعة إلا لأمر حدث.
قالت: فلما دخل، تأخر له أبو بكر عن سريره، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس عند أبي بكر إلا أنا وأختي أسماء بنت أبي بكر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أخرج عني من عندك» فقال: يا رسول الله إنما هما ابنتاي، وما ذاك، فداك أبي وأمي! فقال: «إنه قد أذن لي في الخروج والهجرة» قالت: فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله؟ قال: «الصحبة» قالت: فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أحدًا يبكي من الفرح، حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ، ثم قال: يا نبي الله، إن هاتين راحلتان قد كنت أعددتهما لهذا، فاستأجرا عبد الله بن أريقط رجلاً من بني الديل بن بكر، وكانت أمه امرأة من بني سهم بن عمرو، وكان مشركًا يدلهما على الطريق، فدفعا إليه راحلتيهما فكانتا عنده يرعاها لميعادهما([5]).
قالت عائشة: فجهزناهما أحث الجهاز، وصنعنا لهم سفرة في جراب، فقطمت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب، فبذلك سميت ذات النطاقين، ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل ثور فكمنا([6]) فيه ثلاث ليالٍ يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام، شاب، ثقف([7]) لقن([8])، فيدلج([9]) من عندهما بسحر، فيصبح مع قريش بمكة كبائت، فلا يسمع أمرا يَكتادان([10]) به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك، حين يختلط الظلام ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولي أبي بكر منحة من غنم فيريحها عليها حين تذهب ساعة من العشاء فيبتان في رِسَل- وهو لبن منحتهما ورضيفهما([11])- حتى ينعق([12]) بها عامر بن فهيرة بغلس([13]) يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث، واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلا من بني الديل وهو من بني عبد بن عدي هاديا خريتا- والخريت الماهر- بالهداية قد غمس حلفاً([14]) في آل العاص ابن وائل السهمي، وهو على دين كفار قريش، فأمناه فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما صبح ثلاث، وانطلق معهما عامر به فهيرة، والدليل فأخذ بهم طريق السواحل»([15]).
ثالثـًا: خروج الرسول صلى الله عليه وسلم ووصوله إلى الغار:
لم يعلم بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد حين خرج إلا علي بن أبي طالب، وأبو بكر الصديق وآل أبي بكر.
أما علي فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يتخلف، حتى يؤدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الودائع، التي كانت عنده للناس، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس بمكة أحد عنده شيء يخشى عليه إلا وضعه عنده، لما يعلم من صدقه وأمانته([16]) وكان الميعاد بين الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر t فخرجا من خوخة([17]) لأبي بكر في ظهر بيته، وذلك للإمعان في الاستخفاء حتى لا تتبعهما قريش، وتمنعهما من تلك الرحلة المباركة، وقد اتعدا مع الليل على أن يلقاهما عبد الله بن أريقط في غار ثور بعد ثلاث ليال([18]).
رابعًا: رِقة النبي صلى الله عليه وسلم عند خروجه من مكة:
وقف الرسول صلى الله عليه وسلم عند خروجه بالحزورة في سوق مكة، وقال: «والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت»([19]).
ثم انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه من بطش المشركين، وصرفهم عنهما.
روى الإمام أحمد عن ابن عباس: (أن المشركين اقتفوا الأثر حتى إذا بلغوا الجبل جبل ثور اختلط عليهم، فصعدوا الجبل فمروا بالغار، فرأوا على بابه نسيج العنكبوت فقالوا: لو دخل هاهنا أحد لم يكن نسيج العنكبوت على بابه)([20]) وهذه من جنود الله عز وجل التي يخذل بها الباطل، وينصر به الحق؛ لأنه جنود الله جلت قدرته أعم من أن تكون مادية أو معنوية، وإذا كانت مادية فإن خطرها لا يتثمل في ضخامتها فقد تفتك جرثومة لا تراها العين بجيش ذي لجب، قال تعالى: ( وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ )[المدثر:31]. أي وما يعلم جنود ربك لفرط كثرتها إلا هو، فجنود الله غير متناهية؛ لأن مقدوراته غير متناهية([21]) كما أنه لا سبيل لأحد إلى حصر الممكنات والوقوف على حقائقها وصفاتها ولو إجمالا فضلا عن الاطلاع على تفاصيل أحوالها من كم وكيف ونسبة([22]).
خامساً: عناية الله سبحانه وتعالى ورعايته لرسوله صلى الله عليه وسلم:
بالرغم من كل الأسباب التي اتخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لم يرتكن إليها مطلقاً وإنما كان كامل الثقة في الله، عظيم الرجاء في نصره وتأييده، دائم الدعاء بالصيغة التي علمه الله إياها([23]) قال تعالى: ( وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنْكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا )[الإسراء:80].
وفي هذه الآية الكريمة دعاء يعلمه الله لنبيه ليدعوه به، ولتتعلم أمته كيف تدعو الله وكيف تتجه إليه؟ دعاء بصدق المدخل وصدق المخرج، كناية عن صدق الرحلة كلها، بدئها وختامها، أولها وآخرها وما بين الأول والآخر، وللصدق هنا قيمته، بمناسبة ما حاوله المشركون من فتنته عما أنزله الله عليه ليفتري على الله غيره. وللصدق كذلك ظلاله: ظلال الثبات والاطمئنان والنظافة والإخلاص ( وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنْكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا ) قوة وهيبة أستعلي بهما على سلطان الأرض وقوة المشركين، وكلمة ( مِن لَّدُنْكَ ) تصور القرب والاتصال بالله، والاستمداد من عونه مباشرة واللجوء إلى حماه.
وصاحب الدعوة لا يمكن أن يستمد السلطان إلا من الله، ولا يمكن أن يُهاب إلا بسلطان الله، ولا يمكن أن يستظل بحاكم أو ذي جاه فينصره ويمنعه، ما لم يكن اتجاهه قبل ذلك إلى الله، والدعوة قد تغزو قلوب ذوي السلطان، والجاه، فيصبحون لها جنداً وخدماً فيفلحون، ولكنها هي لا تفلح إن كانت من جند السلطان وخدمه، فهي من أمر الله، وهي أعلى من ذوي السلطان والجاه([24]).
وعندما أحاط المشركون بالغار، وأصبح منهم رأي العين طمأن الرسول صلى الله عليه وسلم الصديق بمعية الله لهما؛ فعن أبي بكر الصديق t قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم وأنا في الغار: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فقال: «ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما؟([25])».
وفي رواية: «اسكت يا أبا بكر، اثنان الله ثالثهما».
وسجل الحق عز وجل ذلك في قوله تعالى: ( إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ
الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللهُ
سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )[التوبة:40].

محمد رافع 52 28-09-2014 11:05 AM

سادساً: خيمة أم معبد في طريق الهجرة:
وبعد ثلاث ليالٍ من دخول النبي صلى الله عليه وسلم في الغار، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه من الغار، وقد هدأ الطلب ويئس المشركون من الوصول إلى رسول الله، وقد قلنا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر قد استأجرا رجلاً من بني الديل يسمى عبد الله بن أريقط وكان مشركًا، وقد أمناه فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما، وقد جاءهما فعلا في الموعد المحدد وسلك بهما طريقاً غير معهودة ليخفي أمرهما عمن يلحق بهم من كفار قريش([26])، وفي الطريق إلى المدينة مر النبي صلى الله عليه وسلم بأم معبد([27]) في قديد([28]) حيث مساكن خزاعة، وهي أخت خنيس بن خالد الخزاعي الذي روى قصتها، وهي قصة تناقلها الرواة وأصحاب السير، وقال عنها ابن كثير: «وقصتها مشهورة مروية من طرق يشد بعضها بعضا»([29])، فعن خالد بن خنيس الخزاعي t صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج من مكة، وخرج منها مهاجراً إلى المدينة، هو وأبو بكر t ومولى أبي بكر عامر بن فهيرة t ودليلهما الليثي عبد الله بن الأريقط، مروا على خيمتي أم معبد الخزاعية، وكانت برزة([30]) جلدة([31]) تحتبي([32]) بفناء القبة ثم تسقي وتطعم، فسألوهما لحماً وتمراً، ليشتروه منها، فلم يصيبوا عندها شيئاً من ذلك، وكان القوم مُرْمِلين([33]) مسنتين([34]) فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاة في كسر الخيمة([35]) فقال: «ما هذه الشاة يا أم معبد؟» قالت: خلفها الجهد عن الغنم، قال: «فهل بها من لبن؟» قالت: هي أجهد من ذلك، قال: «أتأذنين أن أحلبها؟» قالت: بلى بأبي أنت وأمي، نعم، إن رأيت بها حلباً فاحلبها.
فدعا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح بيده ضرعها، وسمى الله عز وجل، ودعا لها في شاتها، فتفاجت([36]) عليه، ودرت([37]) واجترت([38]) ودعا بإناء يُرْبِض([39]) الرهط، فحلب فيها ثجا([40]) حتى علاه البهاء([41]) ثم سقاها حتى رويت، وسقى أصحابه حتى رووا، وشرب آخرهم صلى الله عليه وسلم ثم أراضوا([42])، ثم حلب فيها ثانياً بعد بدء حتى ملأ الإناء، ثم غادره عندها، ثم بايعها، وارتحلوا عنها.
فقلما لبثت حتى جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزا عجافاً([43]) يتساوكن هُزلا([44]) ضحى، مخهن قليل، فلما رأى أبو معبد اللبن عجب، وقال: من أين لك هذا اللبن يا أم معبد، والشاة عازب حيال([45]) ولا حلوبة في البيت؟ قالت: لا والله، إلا أنه مر بنا رجل مبارك، من حاله كذا وكذا، قال: صفيه لي يا أم معبد قالت: رأيت رجلا ظاهر الوضاءة([46])، أبلج الوجه([47])،
حسن الخلق، لم تعبه نحلة([48]) ولا تزر به صعلة([49]) وسيم([50])، في عينيه دعج([51])، وفي أشفاره وطف([52])، وفي صوته صهل([53]) وفي عنقه سطع([54]) وفي لحيته كثاثة، أزج([55])، أقرن([56])، إن صمت فعليه الوقار، وإن تكلم سما([57]) وعلاه البهاء، أجمل الناس وأبهاه من بعيد، وأحلاه وأحسنه من قريب، حلو المنطق، فصل لا هذر ولا نزر([58])، كأن منطقه خرزات نظم يتحدرن، ربع([59]) لا يأس من طول([60]) ولا تقتحمه العين من قصر([61]) غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظراً، وأحسنهم قدراً، له رفقاء يحفون به، إن قال استمعوا لقوله وإن أمر تبادروا إلى أمره، محفود([62])، محشود([63])، لا عابس ولا مُفنَّد([64]).
قال أبو معبد: هو والله صاحب قريش الذي ذكر لنا من أمره ما ذكر بمكة، ولقد هممت أن أصحبه، ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلاً. ([65])
سابعاً: سراقة بن مالك يلاحق رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أعلنت قريش في نوادي مكة بأنه من يأتي بالنبي صلى الله عليه وسلم حيًّا أو ميتًا، فله مائة ناقة، وانتشر هذا الخبر عند قبائل الأعراب الذين في ضواحي مكة، وطمع سراقة بن مالك بن جعشم في نيل الكسب الذي أعدته قريش لمن يأتي برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجهد نفسه لينال ذلك، ولكن الله بقدرته التي لا يغلبها غالب، جعله يرجع مدافعًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما كان جاهداً عليه.
قال ابن شهاب: وأخبرني عبد الرحمن بن مالك المدلجي، وهو ابن أخي سراقة بن مالك بن جُعشم، أن أباه أخبره، أنه سمع سراقة بن جعشم يقول: جاءنا رُسُل كفار قريش يجعلون في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، دية كل منها لمن ***ه أو أسره، فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج، إذ أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس، فقال: يا سراقة إني رأيت آنفا أَسْوِدة([66]) بالساحل أُراها محمداً وأصحابه، قال سراقة: فعرفت أنهم هم: فقلت له: إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيت فلاناً وفلاناً انطلقوا بأعيننا، ثم لبثت في المجلس ساعة، ثم قمت فدخلت فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي، وهى من وراء أكمة([67]) فتحبسها علي، وأخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت فخططت بزجه([68]) الأرض وخفضت عالية حتى أتيت فرسي فركبتها فرفعتها تقرب بي حتى دنوت منهم فعثرت بي فرسي فخررت عنها، فقمت فأهويت يدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الأزلام([69]) فاستقسمت بها، أضرهم أم لا، فخرج الذي أكره، فركبت فرسي، وعصيت الأزلام؛ تُقَرّب بي، حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت، وأبو بكر يكثر الالتفات، ساخت([70]) يدا فرسي في الأرض، حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها، ثم زجرتها فنهضتْ فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها عثان([71]) ساطع في السماء مثل الدخان، فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره، فناديتهم بالأمان فوقفوا فركبت فرسي حتى جئتهم ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم، أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية، وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع فلم يرزآني([72]) ولم يسألاني، إلا أن قال: أخف عنا، فسألته أن يكتب لي في كتاب آمن، فأمر عامر بن فهيرة فكتب في رقعة من أديم([73]) ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم([74]).
وكان مما اشتهر عند الناس من أمر سراقة ما ذكره ابن عبد البر، وابن حجر وغيرهما، قال ابن عبد البر: روى سفيان بن عيينة عن أبي موسى عن الحسن، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لسراقة بن مالك: «كيف بك إذا لبست سواري كسرى؟» قال: فلما أُتى عمر بسواري كسرى ومنطقته وتاجه، دعا سراقة بن مالك فألبسه إياها، وكان سراقة رجلاً أزب([75]) كثير شعر الساعدين، وقال له: ارفع يديك فقال: الله أكبر، الحمد لله الذي سلبهما كسرى بن هرمز الذي كان يقول: أنا رب الناس، وألبسهما سراقة بن مالك بن جعشم أعرابياًّ من بني مدلج، ورفع بها عمر صوته([76])، ثم أركب سراقة، وطيف به المدينة، والناس حوله، وهو يرفع عقيرته مردداً قول الفاروق: الله أكبر، الحمد الله الذي سلبهما كسرى بن هرمز، وألبسهما سراقة بن جعشم أعرابياًّ من بني مدلج([77]).
ثامنًا: سبحان مقلب القلوب:
كان سراقة في بداية أمره يريد القبض على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسلمه لزعماء مكة لينال مائة ناقة، وإذا بالأمور تنقلب رأساً على عقب، ويصبح يرد الطلب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل لا يلقى أحداً من الطلب إلا رده قائلا: كفيتم هذا الوجه، فلما اطمأن إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم وصل إلى المدينة المنورة، جعل سراقة يقص ما كان من قصته وقصة فرسه، واشتهر هذا عنه، وتناقلته الألسنة حتى امتلأت به نوادي مكة، فخاف رؤساء قريش أن يكون ذلك سبباً لإسلام بعض أهل مكة، وكان سراقة أمير بني مدلج، ورئيسهم فكتب أبو جهل إليهم:
سراقة مستغوٍ لنصر محمد --- بني مدلج إني أخاف سفيهكم


فيصبح شتى بعد عز وسؤدد --- عليكم به ألا يفرق جمعكم فيصبح شتى بعد عز وسؤدد



فقال سراقة يرد على أبي جهل:
أبا حكم والله لو كنتَ شاهداً --- لأمر جوادي إذ تسوخ قوائمه


علمت ولم تَشْكُك بأن محمداً --- رسول وبرهان فمن ذا يقاومه


عليك فكُف القوم عنه فإنني --- أرى أمره يوماً ستبدو معالمه


بأمر تود الناس فيه بأسرهم --- بأن جميع الناس طُراً مسالمه([78])
تاسعاً: استقبال الأنصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
لما سمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، كانوا يغدون كل غداة إلى الحرة، فينتظرون حتى يردهم حر الظهيرة، فانقلبوا يوماً بعد ما أطالوا انتظارهم، فلما أووا إلى بيوتهم أوفَى رجل من يهود على أُطُم([79]) من آطامهم لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مبيضين([80]) يزول بهم السراب([81])، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معاشر العرب هذا جدكم([82]) الذي تنتظرون، فثار المسلمون إلى السلاح فتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهر الحرة فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف، وذلك يوم الاثنين([83])، من شهر ربيع الأول([84]) فقام أبو بكر للناس وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم صامتاً، فطفق من جاء من الأنصار، ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيي أبا بكر، حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك «فلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة([85])، وأُسس المسجد الذي أسس على التقوى وصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ركب راحلته»([86]).
وبعد أن أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم المدة التي مكثها بقباء، وأراد أن يدخل المدينة «بعث إلى الأنصار فجاءوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، فسلموا عليهما، وقالوا: اركبا آمنين مطاعين، فركب نبي الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وحفوا دونهما بالسلاح»([87]).
وعند وصوله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أخذ أهل المدينة يقولون: «جاء نبي الله، جاء نبي الله صلى الله عليه وسلم فأشرفوا ينظرون ويقولون: جاء نبي الله، جاء نبي الله» ([88]).
فكان يوم فرح وابتهاج لم تر المدينة يوماً مثله، ولبس الناس أحسن ملابسهم كأنهم في يوم عيد، ولقد كان حقًّا يوم عيد؛ لأنه اليوم الذي انتقل فيه الإسلام من ذلك الحيز الضيق في مكة إلى رحابة الانطلاق والانتشار بهذه البقعة المباركة المدينة، ومنها إلى سائر بقائع الأرض. لقد أحس أهل المدينة بالفضل الذي حباهم الله به، وبالشرف الذي اختصهم به أيضاً، فقد صارت بلدتهم موطناً لإيواء رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته المهاجرين، ثم لنصرة الإسلام كما أصبحت موطناً للنظام الإسلامي العام التفصيلي بكل مقوماته، ولذلك خرج أهل المدينة يهللون في فرح وابتهاج، ويقولون: يا رسول الله، يا محمد، يا رسول الله([89]).
روى الإمام مسلم بسنده قال: «عندما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، صعد الرجال والنساء فوق البيوت، وتفرق العلماء والخدم في الطرق ينادون: «يا محمدُ، يا رسول الله، يا محمد، يا رسول الله»([90]).
وبعد هذا الاستقبال الجماهيري العظيم الذي لم يرد مثله في تاريخ الإنسانية سار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل في دار أبي أيوب الأنصاري t فعن أنس t في حديث الهجرة الطويل وفيه: «فأقبل يسير حتى نزل جانب دار أبي أيوب فإنه ليحدث أهله([91]) إذ سمع به عبد الله بن سلام وهو في نخل لأهله يخترف([92]) لهم فعجل أن يضع الذي يخترف لهم فيها، فجاء وهي مع فسمع من نبي الله صلى الله عليه وسلم، ثم رجع إلى أهله فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: «أي بيوت أهلنا([93]) أقرب» فقال أبو أيوب: أنا يا نبي الله هذه داري وهذا بابي، قال: «فانطلق فهيئ لنا مقيلا([94])...»([95]) ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي أيوب حتى بنى مسجده ومساكنه.
وبهذا قد تمت هجرته صلى الله عليه وسلم وهجرة أصحابه رضي الله عنهم، ولم تنته الهجرة بأهدافها وغاياتها، بل بدأت بعد وصول رسول الله صلى الله عليه وسلم سالماً إلى المدينة، وبدأ معها رحلة المتاعب والمصاعب والتحديات، فتغلب عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم للوصول للمستقبل الباهر للأمة، والدولة الإسلامية، التي استطاعت أن تصنع حضارة إنسانية رائعة، على أسس من الإيمان والتقوى، والإحسان والعدل، بعد أن تغلبت على أقوى دولتين كانتا تحكمان في العالم، وهما: دولة الفرس ودولة الروم([96]).

محمد رافع 52 28-09-2014 11:18 AM

عاشراً: فوائد ودروس وعبر:
1- الصراع بين الحق والباطل: صراع قديم وممتد، وهو سنة إلهية نافذة قال عز وجل: ( الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ )[الحج:40].
ولكن هذا الصراع معلوم العاقبة: ( كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ
عَزِيزٌ )[المجادلة:21].
2- مكر خصوم الدعوة بالداعية: أمر مستمر متكرر، سواء عن طريق الحبس أو ال*** أو النفي والإخراج من الأرض، وعلى الداعية أن يلجأ إلى ربه وأن يثق به ويتوكل عليه ويعلم أن المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله([97])، كما قال عز وجل: ( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ )[الأنفال:30].
ومن مكر أهل الباطل وخصوم الدعوة استخدام سلاح المال لإغراء النفوس الضعيفة للقضاء على الدعوة والدعاة، ولذلك رصدوا مائة ناقة لمن يأتي بأحد المهاجرين حيًّا أو ميتاً، فتحرك الطامعون ومنهم سراقة، الذي عاد بعد هذه المغامرة الخاسرة ماديًّا بأوفر ربح وأطيب رزق، وهو رزق الإيمان، وأخذ يعمَّي الطريق عن الطامعين الآخرين الذين اجتهدوا في الطلب، وهكذا يرد الله عن أوليائه والدعاة([98]) قال تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ )[الأنفال:36].
3- إن من تأمل حادثة الهجرة ورأى دقة التخطيط فيها، ودقة الأخذ بالأسباب من ابتدائها إلى انتهائها، ومن مقدماتها إلى ما جرى بعدها، يدرك أن التخطيط
المسدد بالوحي في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قائمًا، وأن التخطيط جزء من السنّة النبوية وهو جزء من التكليف الإلهي في كل ما طولب به المسلم وأن الذين يميلون إلى العفوية، بحجة أن التخطيط وإحكام الأمور ليسا من السنّة أمثال هؤلاء مخطئون ويجنون على أنفسهم وعلى المسلمين([99]).
فعندما حان وقت الهجرة للنبي صلى الله عليه وسلم وشرع النبي صلى الله عليه وسلم في التنفيذ نلاحظ الآتي:
* وجود التنظيم الدقيق للهجرة حتى نجحت، رغم ما كان يكتنفها من صعاب وعقبات، وذلك أن كل أمر من أمور الهجرة كان مدروساً دراسة وافية، فمثلا:
أ- جاء صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر في وقت شديد الحر- الوقت الذي لا يخرج فيه أحد- بل من عادته لم يكن يأتي فيه، لماذا؟ حتى لا يراه أحد.
ب- إخفاء شخصيته صلى الله عليه وسلم أثناء مجيئه للصديق، وجاء إلى بيت الصديق متلثماً، لأن التلثم يقلل من إمكانية التعرف على معالم الوجه المتلثم([100]).
ج- أمر صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يُخرِج مَنْ عنده، ولما تكلم لم يبين إلا الأمر بالهجرة دون تحديد الاتجاه.
د - وكان الخروج ليلاً ومن باب خلفي في بيت أبي بكر([101]).
هـ- بلغ الاحتياط مداه، باتخاذ طرق غير مألوفة للقوم، والاستعانة بذلك بخبير يعرف مسالك البادية ومسارب الصحراء، ولو كان ذلك الخبير مشركاً ما دام على خلق ورزانة، وفيه دليل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان لا يحجم عن الاستعانة بالخبرات مهما يكن مصدرها([102]).
* انتقاء شخصيات عاقلة لتقوم بالمعاونة في شؤون الهجرة، ويلاحظ أن هذه الشخصيات كلها تترابط برباط القرابة، أو برباط العمل الواحد، مما يجعل من هؤلاء الأفراد وحدة متعاونة على تحقيق الهدف الكبير.
* وضع كل فرد من أفراد هذه الأسرة في عمله المناسب، الذي يجيد القيام به على أحسن وجه ليكون أقدر على أدائه والنهوض بتبعاته.
* فكرة نوم علي بن أبي طالب مكان الرسول، فكرة ناجحة، قد ضللت القوم وخدعتهم، وصرفتهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم حتى خرج في جنح الليل تحرسه عناية الله وهم نائمون، ولقد ظلت أبصارهم معلقة بعد اليقظة بمضجع الرسول صلى الله عليه وسلم فما كانوا يشكون في أنه ما يزال نائماً، مسجى في بردته في حين النائم هو علي بن أبي طالب t.
ونرى احتياجات الرحلة قد دبرت تدبيرا محكما:
أ- علي :t ينام في فراش الرسول صلى الله عليه وسلم ليخدع القوم، ويُسلَّم الودائع ويلحق بالرسول.
ب- وعبد الله بن أبي بكر: صاحب المخابرات الصادق، وكاشف تحركات العدو.
جـ- وأسماء ذات النطاقين: حاملة التموين من مكة إلى الغار، وسط جنون المشركين بحثاً عن محمد صلى الله عليه وسلم لي***وه.
د- وعامر بن فهيرة: الراعي البسيط الذي قدم اللحم واللبن إلى صاحبي الغار، وبدد آثار أقدام المسيرة التاريخية بأغنامه، كيلا يتفرسها القوم، لقد كان هذا الراعي يقوم بدور الإمداد والتموين.
هـ- وعبد الله بن أريقط: دليل الهجرة الأمين، وخبير الصحراء البصير، ينتظر في يقظة إشارة البدء من الرسول، ليأخذ الركب طريقه من الغار إلى يثرب.
فهذا تدبير للأمور على نحو رائع دقيق، واحتياط للظروف بأسلوب حكيم، ووضع لكل شخص من أشخاص الهجرة في مكانه المناسب، وسد لجميع الثغرات، وتغطية بديعة لكل مطالب الرحلة، واقتصار على العدد اللازم من الأشخاص من غير زيادة ولا إسراف.
لقد أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم بالأسباب المعقولة أخذًا قويًّا حسب استطاعته وقدرته.. ومن ثم باتت عناية الله متوقعة([103]).
4- الأخذ بالأسباب أمر ضروري:
إن اتخاذ الأسباب أمر ضروري وواجب، ولكن لا يعني ذلك دائماً حصول النتيجة، ذلك لأن هذا أمر يتعلق بأمر الله، ومشيئته ومن هنا كان التوكل أمراً ضرورياًّ وهو من باب استكمال اتخاذ الأسباب.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعد كل الأسباب، واتخذ كل الوسائل ولكنه في الوقت نفسه مع الله، يدعوه ويستنصره أن يكلل سعيه بالنجاح، وهنا يستجاب الدعاء، وينصرف القوم بعد أن وقفوا على باب الغار، وتسيخ فرس سراقة في الأرض ويكلل العمل بالنجاح([104]).
5- الإيمان بالمعجزات الحسية:
وفي هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وقعت معجزات حسية، وهي دلائل ملموسة على حفظ الله ورعايته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك -على ما روي- نسيج العنكبوت على فم الغار، ومنها ما جرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع أم معبد، وما جرى له مع سراقة ووعده إياه بأن يلبس سواري كسرى، فعلى الدعاة ألا يتنصلوا من هذه الخوارق، بل يذكروها ما دامت ثابتة بالسنة النبوية على أن ينبهوا الناس على أن هذه الخوارق هي من جملة دلائل نبوته ورسالته عليه السلام([105]).
6- جواز الاستعانة بالكافر المأمون:
ويجوز للدعاة أن يستعينوا بمن لا يؤمن بدعوتهم، ما داموا يثقون بهم ويأتمنونهم على ما يستعينون به معهم، فقد رأينا أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر استأجرا مشركاً ليدلهم على طريق الهجرة ودفعا إليه راحلتيهما وواعده عند غار ثور، وهذه أمور خطيرة أطلعاه عليها، ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وثقا به وأمناه، مما يدل على أن الكافر أو العاصي أو غير المنتسب إلى الدعاة، قد يوجد عند هؤلاء ما يستدعي وثوق الدعاة بهم، كأن تربطهم رابطة القرابة، أو المعرفة القديمة أو الجوار، أو عمل معروف، كان قد قدمه الداعية لهم، أو لأن هؤلاء عندهم نوع جيد من الأخلاق الأساسية، مثل الأمانة وحب عمل الخير إلى غير ذلك من الأسباب، والمسألة تقديرية يترك تقديرها إلى فطنة الداعي ومعرفته بالشخص([106]).
7- دور المرأة في الهجرة:
وقد لمعت في سماء الهجرة أسماء كثيرة كان لها فضل كبير ونصيب وافر من الجهاد: منها عائشة بنت أبي بكر الصديق التي حفظت لنا القصة ووعتها وبلغتها للأمة، وأم سلمة المهاجرة الصبور، وأسماء ذات النطاقين([107]) التي ساهمت في تموين الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار بالماء والغذاء، وكيف تحملت الأذى في سبيل الله؟ فقد حدثتنا عن ذلك فقالت: «لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر t أتانا نفر من قريش، فيهم أبو جهل بن هشام، فوقفوا على باب أبي بكر، فخرجت إليهم فقالوا: أين أبوك يا بنت أبي بكر؟ قالت: قلت: لا أدري والله أين أبي؟ قالت: فرفع أبو جهل يده، وكان فاحشاً خبيثاً فلطم خدي لطمة طرح منها قرطي قالت: ثم انصرفوا...» ([108]).
فهذا درس من أسماء رضي الله عنها تعلمه لنساء المسلمين جيلاً بعد جيل كيف تخفي أسرار المسلمين عن الأعداء، وكيف تقف صامدة شامخة أمام قوى البغي والظلم! وأما درسها الثاني البليغ، فعندما دخل عليها جدها أبو قحافة، وقد ذهب بصره، فقال: «والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه»، قالت: «كلا يا أبت، ضع يدك على هذا المال، قالت: «فوضع يده عليه»، فقال: «لا بأس، إذا كان ترك الكم هذا فقد أحسن، وفي هذا بلاغ لكم»، «قالت:ولا والله ما ترك لنا شيئاً ولكني أردت أن أسكن الشيخ بذلك»([109]).
وبهذه الفطنة والحكمة سترت أسماء أباها، وسكنت قلب جدها الضرير، من غير أن تكذب، فإن أباها قد ترك لهم حقًّا هذه الأحجار التي كومتها لتطمئن لها نفس الشيخ، إلا أنه قد ترك لهم معها إيماناً بالله لا تزلزله الجبال، ولا تحركه العواصف الهوج، ولا يتأثر بقلة أو كثرة في المال، وورثهم يقيناً وثقة به لا حد لها، وغرس فيهم همة تتعلق بمعالي الأمور، ولا تلتفت إلى سفافها فضرب بهم للبيت المسلم مثالاً عز أن يتكرر، وقل أن يوجد نظيره.
لقد ضربت أسماء رضي الله عنها بهذه المواقف لنساء وبنات المسلمين مثلا، هُن في أمس الحاجة إلى الاقتداء به، والنسج على منواله.
وظلت أسماء مع أخواتها في مكة لا تشكو ضيقاً، ولا تظهر حاجة، حتى بعث
النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة وأبا رافع مولاه، وأعطاهما بعيرين وخمسمائة درهم إلى مكة، فقدما عليه بفاطمة وأم كلثوم ابنتيه، وسوده بنت زمعة زوجه، وأسامة بن زيد، وأمه بركة، المكناة بأم أيمن، وخرج معهما عبد الله بن أبي بكر بعيال أبي بكر فيهم عائشة وأسماء، فقدموا المدينة فأنزلهم في بيت حارثة بن النعمان([110]).
8- أمانات المشركين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم:
في إيداع المشركين ودائعهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم مع محاربتهم له، وتصميمهم على ***ه، دليل باهر على تناقضهم العجيب، الذي كانوا واقعين فيه، ففي الوقت الذي كانوا يكذبونه ويزعمون أنه ساحر، أو مجنون أو كذاب، لم يكونوا يجدون فيمن حولهم من هو خير منه أمانة وصدقاً فكانوا لا يضعون حوائجهم ولا أموالهم التي يخافون عليها إلا عنده، وهذا يدل على أن كفرانهم لم يكن بسبب الشك لديهم في صدقه، وإنما بسبب تكبرهم واستعلائهم على الحق، الذي جاء به، وخوفاً على زعامتهم وطغيانهم([111])، وصدق الله العظيم: ( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ )[الأنعام:33].
وفي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي t بتأدية هذه الأمانات لأصحابها في مكة رغم هذه الظروف الشديدة التي كان من المفروض أن يكتنفها الاضطراب، بحيث لا يتجه التفكير إلا إلى إنجاح خطة هجرته فقط، رغم ذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان لينسى أو ينشغل عن رد الأمانات إلى أهلها، حتى ولو كان في أصعب الظروف التي تنسي الإنسان نفسه فضلا عن غيره([112]).
9- الراحلة بالثمن:
لم يقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يركب الراحلة حتى أخذها بثمنها من أبي بكر t، واستقر الثمن ديناً بذمته، وهذا درس واضح بأن حملة الدعوة ما ينبغي أن يكونوا عالة على أحد في وقت من الأوقات، فهم مصدر العطاء في كل شيء. إن يدهم إن لم تكن العليا، فلن تكون السفلى، وهكذا يصر عليه السلام أن يأخذها بالثمن، وسلوكه ذلك هو الترجمة الحقة لقوله تعالى: ( وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ )[الشعراء:109].
إن الذين يحملون العقيدة والإيمان، ويبشرون بهما ما ينبغي أن تمتد أيديهم إلى أحد إلا الله؛ لأن هذا يتناقض مع ما يدعون إليه، وقد توعد الناس أن يعوا لغة الحال لأنها أبلغ من لغة المقال، وما تأخر المسلمون، وأصابهم ما أصابهم من الهوان إلا يوم أصبحت وسائل الدعوة والعاملين بها خاضعة للغة المادة، ينتظر الواحد منهم مرتبه، ويومها تحول العمل إلى عمل مادي فقد الروح والحيوية، وأصبح الأئمة موظفين.
إن الصوت الذي ينبعث من حنجرة وراءها الخوف من الله والأمل في رضاه، غير الصوت الذي ينبعث ليتلقى دراهم معدودة، فإذا توقفت توقف الصوت، وقديما قالوا: ليست النائحة كالثكلى، ولهذا قل التأثير، وبعد الناس عن جادة الصواب([113]).
10- الداعية يعف عن أموال الناس:
لما عفا النبي صلى الله عليه وسلم عن سراقة عرض عليه سراقة المساعدة فقال: وهذه كنانتيفخذ منها سهماً فإنك ستمر بإبلي وغنمي في موضع كذا وكذا فخذ منها حاجتك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا حاجة لي فيها»([114]).
فحين يزهد الدعاة فيما عند الناس يحبهم الناس، وحين يطمعون في أموال الناس ينفر الناس عنهم، وهذا درس بليغ للدعاة إلى الله تعالى([115]).
11- الجندية الرفيعة والبكاء من الفرح:
تظهر أثر التربية النبوية في جندية أبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، فأبو بكر t عندما أراد أن يهاجر إلى المدينة وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحباً» فقد بدأ في الإعداد والتخطيط للهجرة «فابتاع راحلتين واحتبسهما في داره يعلفهما إعداداً لذلك، وفي رواية البخاري، «وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر- وهو الخبط- أربعة أشهر»، لقد كان يدرك بثاقب بصره t، وهو الذي تربى ليكون قائدا، أن لحظة الهجرة صعبة قد تأتي فجأة؛ ولذلك هيأ وسيلة الهجرة، ورتب تموينها، وسخر أسرته لخدمة النبي صلى الله عليه وسلم، وعندما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره أن الله قد أذن له في الخروج والهجرة، بكى من شدة الفرح، وتقول عائشة رضي الله عنها في هذا الشأن: «فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحدا يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ»، إنها قمة الفرح البشري أن يتحول الفرح إلى بكاء.
فالصديق t يعلم أن معنى هذه الصحبة، أنه سيكون وحده برفقة رسول رب العالمين بضعة عشرة يوماً على الأقل وهو الذي سيقدم حياته لسيده وقائده وحبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم، فأي فوز في هذا الوجود يفوق هذا الفوز: أن يتفرد الصديق وحده من دون أهل الأرض، ومن دون الصحب جميعاً برفقة سيد الخلق وصحبته كل هذه المدة([116]) وتظهر معاني الحب في الله في خوف أبي بكر وهو في الغار من أن يراهما المشركون، ليكون الصديق مثلاً لما ينبغي أن يكون عليه جندي الدعوة الصادق، مع قائده الأمين، حين يحدق به الخطر من خوف وإشفاق على حياته، فما كان أبو بكر ساعتئذ بالذي يخشى على نفسه الموت، ولو كان كذلك لما رافق رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الهجرة الخطيرة، وهو يعلم أن أقل جزائه ال*** إن أمسكه المشركون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه كان يخشى على حياة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وعلى مستقبل الإسلام إن وقع الرسول صلى الله عليه وسلم في قبضة المشركين([117])، ويظهر الحس الأمني الرفيع للصديق في هجرته مع النبي صلى الله عليه وسلم في مواقف كثيرة منها، حين أجاب السائل: من هذا الرجل الذي بين يديك؟ فقال: هذا هادٍ يهديني السبيل، فظن السائل بأن الصديق يقصد الطريق، وإنما كان يقصد سبيل الخير، وهذا يدل على حسن استخدام أبي بكر للمعاريض، فرارا من الحرج أو الكذب([118])،؛ لأن الهجرة كانت سراًّ وقد أقره الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك([119])، وفي موقف علي بن أبي طالب مثال للجندي الصادق المخلص لدعوة الإسلام، حيث فدى قائده بحياته، ففي سلامة القائد سلامة للدعوة، وفي هلاكه خذلانها ووهنها، فما فعله علي t ليلة الهجرة من بياته على فراش الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ كان من المحتمل أن تهوي سيوف فتيان قريش على رأس علي t، ولكن علياًّ t لم يبال بذلك، فحسبه أن يسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم نبي الأمة وقائد الدعوة([120]).
12- فن قيادة الأرواح، وفن التعامل مع النفوس:
يظهر الحب العميق الذي سيطر على قلب أبي بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة، كما يظهر حب سائر الصحابة أجمعين في سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم. وهذا الحب الرباني كان نابعاً من القلب، وبإخلاص، لم يكن حب نفاق، أو نابعاً من مصلحة دنيوية، أو رغبة في منفعة أو رهبة لمكروه قد يقع، ومن أسباب هذا الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم صفاته القيادية الرشيدة، فهو يسهر ليناموا، ويتعب ليستريحوا، ويجوع ليشبعوا، كان يفرح لفرحهم ويحزن لحزنهم، فمن سلك سنن الرسول صلى الله عليه وسلم مع صحابته في حياته الخاصة والعامة، وشارك الناس في أفراحهم وأتراحهم وكان عمله لوجه الله أصابه شيء من هذا الحب إن كان من الزعماء أو القادة أو المسؤولين في أمة الإسلام([121]).
إن القيادة الصحيحة هي التي تستطيع أن تقود الأرواح قبل كل شيء وتستطيع أن تتعامل مع النفوس قبل غيرها، وعلى قدر إحسان القيادة يكون إحسان الجنود، وعلى قدر البذل من القيادة يكون الحب من الجنود، فقد كان صلى الله عليه وسلم رحيماً وشفوقاً بجنوده وأتباعه، فهو لم يهاجر إلا بعد أن هاجر معظم أصحابه، ولم يبقَ إلا المستضعفون والمفتونون ومن كانت له مهمات خاصة بالهجرة([122]).
13- وفي الطريق أسلم بريدة الأسلمي t في ركب من قومه:
إن المسلم الذي تغلغلت الدعوة في شغاف قلبه لا يفتر لحظة واحدة عن دعوة الناس إلى دين الله تعالى، مهما كانت الظروف قاسية والأحوال مضطربة، والأمن مفقود بل ينتهز كل فرصة مناسبة لتبليغ دعوة الله تعالى، هذا نبي الله تعالى يوسف -عليه السلام- حينما زج به في السجن ظلماً، واجتمع بالسجناء في السجن، فلم يندب حظه، ولم تشغله هذه الحياة المظلمة عن دعوة التوحيد وتبليغها للناس ومحاربة الشرك وعبادة غير الله والخضوع لأي مخلوق قال تعالى: ( قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ` وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ` يَا صَاحِبَيْ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ` مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ )[يوسف:37-40].
وسورة يوسف عليه السلام مكية، وقد أمر الله تعالى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بالأنبياء والمرسلين في دعوته إلى الله؛ ولذلك نجده صلى الله عليه وسلم في هجرته من مكة إلى المدينة، وقد كان مطارداً من المشركين قد أهدروا دمه وأغروا المجرمين منهم بالأموال الوفيرة، ليأتوا برأسه حياً أو ميتاً، ومع هذا فلم ينس مهمته ورسالته، فقد لقي صلى الله عليه وسلم في طريقه رجلاً يقال له بريدة بن الحصيب الأسلمي t في ركب من قومه فدعاهم إلى الإسلام فآمنوا وأسلموا([123]).
وذكر ابن حجر العسقلاني رحمه الله: «أن النبي صلى الله عليه وسلم في طريق هجرته إلى المدينة لقي بريدة بن الحصيب بن عبد الله بن الحارث الأسلمي، فدعاه إلى الإسلام، وقد غزا مع الرسول صلى الله عليه وسلم ست عشرة([124]) غزوة، وأصبح بريدة بعد ذلك من الدعاة إلى الإسلام، وفتح الله لقومه -أَسْلَم- على يديه أبواب الهداية، واندفعوا إلى الإسلام وفازوا بالوسام النبوي الذي نتعلم منه منهجاً فريداً في فقه النفوس قال صلى الله عليه وسلم: «أسلم سالمها الله، وغفار غفر الله لها، أما وإني لم أقلها، ولكن قالها الله عز وجل»([125]).
14- وفي طريق الهجرة أسلم لصّان على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
كان في طريقه صلى الله عليه وسلم بالقرب من المدينة لِصَّان من أسلم يقال لهما المهانان، فقصدهما صلى الله عليه وسلم وعرض عليهما الإسلام فأسلما، ثم سألهما عن أسمائهما فقالا نحن المهانان، فقال: «بل أنتما المكرمان» وأمرهما أن يقدما عليه المدينة([126]) وفي هذا الخبر يظهر اهتمامه صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى الله حيث اغتنم فرصة في طريقه ودعا اللصين إلى الإسلام فأسلما، وفي إسلام هذين اللصين مع ما ألفاه من حياة البطش والسلب والنهب، دليل على سرعة إقبال النفوس على اتباع الحق، إذا وجد من يمثله بصدق وإخلاص، وتجردت نفس السامع من الهوى المنحرف، وفي اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم بتغيير اسمي هذين اللصين من المهانين، إلى المكرمين دليل على اهتمامه صلى الله عليه وسلم بسمعة المسلمين، ومراعاته مشاعرهم إكراماً لهم ورفعاً لمعنوياتهم.
وإن في رفع معنوية الإنسان تقوية لشخصيته ودفعا له إلى الأمام ليبذل كل طاقته في سبيل الخير والفلاح([127]).
15- الزبير وطلحة رضي الله عنهما ولقاؤهما برسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق الهجرة:
ومما وقع في الطريق إلى المدينة أنه صلى الله عليه وسلم لقي الزبير بن العوام، في ركب من المسلمين كانوا تجاراً قافلين من الشام، فكسى الزبير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثياباً بيضاء، رواه البخاري([128])، وكذا روى أصحاب السير أن طلحة بن عبيد الله لقيهما أيضا وهو عائد من الشام وكساهما بعض الثياب([129]).
16- أهمية العقيدة والدين في إزالة العداوة والضغائن:
إن العقيدة الصحيحة السليمة والدين الإسلامي العظيم لهما أهمية كبرى في إزالة العداوات والضغائن، وفي التأليف بين القلوب والأرواح، وهو دور لا يمكن لغير العقيدة الصحيحة أن تقوم به، وها قد رأينا كيف جمعت العقيدة الإسلامية بين الأوس والخزرج، وأزالت آثار معارك استمرت عقوداً من الزمن، وأغلقت ملف ثارات كثيرة في مدة قصيرة، بمجرد التمسك بها والمبايعة عليها، وقد رأينا ما فعلته العقيدة في نفوس الأنصار، فاستقبلوا المهاجرين بصدور مفتوحة، وتآخوا معهم في مثالية نادرة، لا تزال مثار الدهشة ومضرب المثل، ولا توجد في الدنيا فكرة أو شعار آخر، فعل مثلما فعلت عقيدة الإسلام الصافية في النفوس.
ومن هنا ندرك السر في سعي الأعداء الدائب إلى إضعاف هذه العقيدة، وتقليل تأثيرها في نفوس المسلمين، واندفاعهم المستمر نحو تزكية النعرات العصبية والوطنية والقومية وغيرها، وتقديمها كبديل للعقيدة الصحيحة([130]).
17- فرحة المهاجرين والأنصار بوصول النبي صلى الله عليه وسلم:
كانت فرحة المؤمنين من سكان يثرب من أنصار ومهاجرين بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصوله إليهم سالمـًا، فرحة أخرجت النساء من بيوتهن والولائد، وحملت الرجال على ترك أعمالهم، وكان موقف يهود المدينة موقف المشارك لسكانها في الفرحة ظاهراً، والمتألم من منافسة الزعامة الجديدة باطناً، أما فرحة المؤمنين بلقاء رسولهم فلا عجب فيها، وهو الذي أنقذهم من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد، وأما موقف اليهود فلا غرابة فيه، وهم الذين عرفوا بالملق والنفاق للمجتمع الذي فقدوا السيطرة عليه، وبالغيظ والحقد الأسود ممن يسلبهم زعامتهم على الشعوب، ويحول بينهم وبين سلب أموالها باسم القروض، وسفك دمائها باسم النصح والمشورة، وما زال اليهود يحقدون على كل من يخلص الشعوب من سيطرتهم، وينتهون من الحقد إلى الدس والمؤامرات ثم إلى الاغتيال إن استطاعوا، ذلك دينهم، وتلك جبلتهم([131]).
ويستفاد من استقبال المهاجرين والأنصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم مشروعية استقبال الأمراء والعلماء عند مقدمهم بالحفاوة والإكرام، فقد حدث ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان هذا الإكرام وهذه الحفاوة نابعين من حب للرسول، بخلاف ما نراه من استقبال الزعماء والحكام في عالمنا المعاصر، ويستفاد كذلك التنافس في الخير وإكرام ذوي العلم والشرف، فقد كانت كل قبيلة تحرص أن تستضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعرض أن يكون رجاله حُراسًا له، ويؤخذ من هذا إكرام العلماء والصالحين، واحترامهم وخدمتهم([132]).
17- وضوح سنة التدرج:
حيث نلاحظ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما تقابل مع طلائع الأنصار الأولى لم يفعل سوى ترغيبهم في الإسلام وتلاوة القرآن عليهم، فلما جاءوا في العام التالي بايعهم بيعة النساء على العبادات والأخلاق والفضائل، فلما جاءوا في العام التالي كانت بيعة العقبة الثانية على الجهاد والنصر والإيواء([133]).
وجدير بالملاحظة أن بيعة الحرب لم تتم إلا بعد عامين كاملين، أي بعد تأهيل وإعداد استمر عامين كاملين، وهكذا تم الأمر على تدرج، ينسجم مع المنهج التربوي الذي نهجت عليه الدعوة من أول يوم([134]).
إنه المنهج الذي هدى الله نبيه إلى التزامه، ففي البيعة الأولى بايعه هؤلاء الأنصار الجدد على الإسلام عقيدة ومنهاجًا وتربية، وفي البيعة الثانية بايعه الأنصار على حماية الدعوة واحتضان المجتمع الإسلامي الذي نضجت ثماره واشتدت قواعده قوة وصلابة.
إن هاتين البيعتين أمران متكاملان ضمن المنهج التربوي للدعوة الإسلامية، وإن الأمر الأول هو المضمون، والأمر الثاني، وهو بيعة الحرب، هو السياج الذي يحمي ذلك المضمون، نعم كانت بيعة الحرب بعد عامين من إعلان القوم الإسلام وليس فور إعلانهم.
بعد عامين إذ تم إعدادهم، حتى غدوا موضع ثقة، وأهلاً لهذه البيعة، ويلاحظ أن بيعة الحرب لم يسبق أن تمت قبل اليوم مع أي مسلم، إنما حصلت عندما وجدت الدعوة في هؤلاء الأنصار وفي الأرض التي يقيمون فيها، المعقل الملائم الذي ينطلق منه المحاربون، لأن مكة لوضعها عندئذ لم تكن تصلح للحرب([135]).
وقد اقتضت رحمة الله بعباده «أن لا يحملهم واجب القتال، إلى أن توجد لهم دار إسلام، تكون لهم بمثابة معقل يأوون إليه، ويلوذون به، وقد كانت المدينة المنورة أول دار إسلام»([136]).
لقد كانت البيعة الأولى قائمة على الإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والبيعة الثانية على الهجرة والجهاد، وبهذه العناصر الثلاثة: الإيمان بالله، والهجرة، والجهاد، يتحقق وجود الإسلام في واقع جماعي ممكن، والهجرة لم تكن لتتم لولا وجود الفئة المستعدة للإيواء ولهذا قال تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آَوَوا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ )[الأنفال:72]. وقال تعالى: ( وَالَّذِينَ آمَنُوا مِن بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ )[الأنفال:75].
وقد كانت بيعة الحرب هي التمهيد الأخير، لهجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة، وبذلك وجد الإسلام موطنه الذي ينطلق منه دعاة الحق بالحكمة والموعظة، وتنطلق منه جحافل الحق المجاهدة أول مرة، وقامت الدولة الإسلامية المحكمة لشرع الله([137]).
19- الهجرة تضحية عظيمة في سبيل الله:
كانت هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن البلد الأمين، تضحية عظيمة عبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت»([138]).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قدمها وهي أوبأ أرض الله من الحمى، وكان واديها يجري نجلا- يعني ماء آجنا- فأصاب أصحابه منها بلاء وسقم، وصرف الله ذلك عن نبيه، قالت: فكان أبو بكر، وعامر بن فهيرة وبلال في بيت واحد فأصابتهم الحمى، فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيادتهم فأذن، فدخلت إليهم أعودهم، وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب، وبهم ما لا يعلمه إلا الله من شدة الوعك([139]) فدنوت من أبي بكر فقلت: يا أبت كيف تجدك؟ فقال:
كل امرئ مصبَّح في أهله --- والموت أدنى من شِراك نعله



قالت: فقلت: والله ما يدري أبي ما يقول، ثم دنوت من عامر بن فهيرة فقلت: كيف تجدك يا عامر؟ فقال:
إن الجبان حتفُه من فوقه --- لقد وجدت الموت قبل ذوقه

كالثور يحمي جلده بِرَوقه([140]) --- كل امرئ مجاهد بطَوقه([141])




قالت: فقلت: والله ما يدري عامر ما يقول، قلت: وكان بلال إذا أقلع عنه الحمى اضطجع بفناء البيت، ثم يرفع عقيرته([142]) ويقول:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة --- بواد وحولي إذخر([143]) وجليل


وهل أَرِدَنْ يومًا مياه مجنة --- وهل يَبْدُوَنْ لي شامة وطفيل([144])



قالت: فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: «اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، وانقل حماها إلى الجحفة، اللهم بارك لنا في مدنا وصاعها»([145]).
وقد استجاب الله دعاء نبيه صلى الله عليه وسلم وعوفي المسلمون بعدها من هذه الحمى، وغدت المدينة موطناً ممتازاً لكل الوافدين والمهاجرين إليها من المسلمين على تنوع بيئاتهم ومواطنهم([146]).
20- مكافأة النبي صلى الله عليه وسلم لأم معبد:
وقد روي أنها كثرت غنمها، ونمت حتى جلبت منها جلباً إلى المدينة، فمر أبو بكر، فرآه ابنها فعرفه، فقال: يا أمه هذا الرجل الذي كان مع المبارك، فقامت إليه فقالت: يا عبد الله من الرجل الذي كان معك؟ قال: أو ما تدرين من هو؟ قالت: لا، قال: هو نبي الله، فأدخلها عليه، فأطعمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطاها. وفي رواية: فانطلقت معي وأهدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من أقط ومتاع الأعراب، فكساها وأعطاها، قال: ولا أعلمه إلا قال: وأسلمت، وذكر صاحب (الوفاء) أنها هاجرت هي وزوجها وأسلم أخوها خنيس واستشهد يوم الفتح([147]).
21- أبو أيوب الأنصاري t ومواقف خالدة:
قال أبو أيوب الأنصاري t: «ولما نزل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي نزل في السفل وأنا وأم أيوب في العُلْو، فقلت له: يا نبي الله، بأبي أنت وأمي، إني لأكره وأعظم أن أكون فوقك، وتكون تحتي، فاظهر أنت فكن في العلو، وننزل نحن فنكون في السفل، فقال: «يا أبا أيوب: إن أرفق بنا وبمن يغشانا أن نكون في سُفل البيت» قال: فلقد انكسر حُب لنا فيه ماء، فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا مالنا لحاف غيرها ننشف بها الماء تخوفا أن يقطر على رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شيء يؤذيه»([148]).
22- هجرة علي t وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر في المجتمع الجديد:
بعد أن أدى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمانات التي كانت عنده للناس، لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم وأدركه بقباء بعد وصوله بليلتين أو ثلاث، فكانت إقامته بقباء ليلتين، ثم خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة يوم الجمعة([149]) وقد لاحظ سيدنا علي مدة إقامته بقباء امرأة مسلمة لا زوج لها، ورأى إنسانا يأتيها من جوف الليل، فيضرب عليها بابها، فتخرج إليها فيعطيها شيئاً معه، فتأخذه، قال: فاستربت بشأنه، فقلت: يا أمة الله، من هذا الذي يضرب عليك بابك كل ليلة فتخرجين إليه، فيعطيك شيئا لا أدري ما هو؟ وأنت امرأة مسلمة لا زوج لك؟ قالت: هذا سهل بن حنيف بن وهب، وقد عرف أني امرأة لا أحد لي، فإذا أمسى عدا على أوثان قومه فكسرها، ثم جاءني بها، فقال: احتطبي بهذا، فكان علي t يأثر ذلك من شأن سهل بن حنيف حين هلك عنده بالعراق([150]).
23- الهجرة النبوية نقطة تحول في تاريخ الحياة:
كانت الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة المنورة، أعظم حدث حول مجرى التاريخ، وغيَّر مسيرة الحياة ومناهجها التي كانت تحياها، وتعيش محكومة بها في صورة قوانين ونظم وأعراف، وعادات وأخلاق وسلوك للأفراد والجماعات، وعقائد وتعبدات وعلم ومعرفة، وجهالة وسفه وضلال وهدى، وعدل وظلم([151]).
24- الهجرة من سنن الرسل الكرام:
إن الهجرة في سبيل الله سنة قديمة، ولم تكن هجرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بدعا في حياة الرسل لنصرة عقائدهم، فلئن كان قد هاجر من وطنه ومسقط رأسه من أجل الدعوة حفاظاً عليها وإيجاد بيئة خصبة تتقبلها وتستجيب لها، وتذود عنها، فقد هاجر عدد من إخوانه من الأنبياء قبله من أوطانهم لنفس الأسباب التي دعت نبينا للهجرة.
وذلك أن بقاء الدعوة في أرض قاحلة لا يخدمها بل يعوق مسارها ويشل حركتها، وقد يعرضها للانكماش داخل أضيق الدوائر، وقد قص علينا القرآن الكريم نماذج من هجرات الرسل وأتباعهم من الأمم الماضية لتبدو لنا في وضوح سنة من سنن الله في شأن الدعوات، يأخذ بها كل مؤمن من بعدهم إذا حيل بينه وبين إيمانه وعزته، واستخف بكيانه ووجوده واعتدى على مروءته وكرامته([152]).
هذه بعض الفوائد والعبر والدروس، وأترك للقارئ الكريم أن يستخرج غيرها ويستنبط سواها من الدروس والعبر والفوائد الكثيرة النافعة من هذا الحدث العظيم.

* * *




([1]) انظر: السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية، ص 135.

([2]) انظر: البداية والنهاية (3/181)، وابن حجر في الفتح وحسن إسناده، فتح الباري (7/236).

([3]) انظر: في ظلال القرآن (3/1501).

([4]) الهاجرة: نصف النهار عند زوال الشمس مع الظهر أو إلى العصر.

([5]) انظر: السيرة النبوية لابن كثير (2/233، 234).

([6]) كمنا فيه: أي استترا واستخفيا ومنه الكمين في الحربة، النهاية (4/201).

([7]) ثَقِفْ: ذو فطنة وذكاء والمراد ثابت المعرفة بما يحتاج إليه، النهاية (1/216).

([8]) لقن: فهم حسن التلقي لما يسمعه، النهاية (4/266).

([9]) يدلج: أدلج إذا سار أول الليل وادّلج بالتشديد إذا سار آخره.

([10]) يُكتادان: أي يطلب لهما فيه المكروه وهو من الكيد.

([11]) الرضيف: اللبن المرضوف، وهو الذي طرح فيه الحجارة المحماة ليذهب وَخَمُه.

([12]) ينعق: نعق بغنمه، أي صاح بها وزجرها، القاموس المحيط (3/295).

([13]) الغلس: ظلمة آخر الليل إذا اختلطت بضوء الصباح، النهاية (3/377).

([14]) غمس حلفاً: أي أخذ بنصيب من عقدهم وحلفهم يأمن به.

([15]) البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب هجرة النبي رقم 3905.

([16]) السيرة النبوية لابن كثير (2/234) (11) الهجرة في القرآن الكريم، ص334.



([18]) خاتم النبيين لأبي زهرة (1/659) السيرة النبوية لابن كثير (2/234).

([19]) الترمذي، كتاب المناقب، باب فضل مكة (5/722).

([20]) مسند الإمام أحمد (1/348). (3) انظر: تفسير الرازي (30/208).

(4) انظر: تفسير أبي مسعود (9/60).




([23]) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص72.

(1) انظر: في ظلال القرآن (4/2247).


([25]) البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب المهاجرين، رقم 3653.

([26]) انظر:المستفاد من قصص القرآن (2/101). (4) هي عاتكة بنت كعب الخزاعية.



([28]) وادي قديد: يبعد عن الطريق المعبدة حوالي ثمانين ميلاً.

([29]) البداية والنهاية (3/188).

([30]) برزة: كهلة كبيرة السن، لا تحتجب احتجاب الشواب.

([31]) جلدة: قوية صلبة وقيل عاقلة.

([32]) تحتبي: أي تجلس وتضم يديها إحداهما إلى الأخرى، على ركبتيها، وتلك جلسة الأعراب.

([33]) مرملين: نفذ زادهم.

([34]) مسنتين: أي داخلين في أسَنَة وهي الجدب والمجاعة والقحط.

([35]) كسر الخيمة: بفتح الكاف وكسرها، وسكون المهملة: أي جانبها.

([36]) تفاجت: فتحت ما بين رجليها للحلب. (8) درت: أرسلت اللبن.



([38]) واجترت: من الجرة وهي ما تخرجها البهيمة من كرشها تمضغها.

([39]) يربض: يرويهم حتى يثقلوا فيربضوا، أي يقعوا على الأرض للنوم والراحة.

([40]) ثجا: لبنا كثيراً سائلا. (12) علاه البهاء: أي أعلا الإناء بهاء اللبن.



([42]) أراضوا: أي رووا، فنقعوا بالري، يريد شربوا مرة بعد مرة.

([43]) عجافا: ضد السمن، وهو جمع عجفاء وهي المهزولة.

([44]) يتساوكن هزلا: يتمايلن من الضعف.

([45]) عازب: بعيدة المرعى لا تأوي إلى البيت إلا في الليل، حيال: لا تحمل.

([46]) ظاهر الوضاءة: ظاهر الجمال والحسن.
(18) أبلغ الوجه: مشرق الوجه مضيئه.



([48]) نحلة: من النحول والدقة والضمور، أي أنه ليس نحيلا.

([49]) صعلة: صغر الرأس وهي تعني الدقة والنحول في البدن.

([50]) وسيم: الوسيم المشهور بالحسن كأنه صار الحسن له سمة.

([51]) دعج: شديد سواد العين في شدة بياضها.
(5) في أشفاره وطف: الشعر النابت على الجفن فيه طول.



([53]) صهل: كالبحة وهو ألا يكون حاد الصوت. (7) سطع: طول العنق.




([55]) أزج: دقيق شعر الحاجبين مع طولهما.

([56]) أقرن: متصل ما بين حاجبين من الشعر، أو مقرون الحاجبين.

([57]) سما: علا برأسه، أو بيده وارتفع.

([58]) لا هذر ولا نذر: الهذر من الكلام ما لا فائدة فيه والنزر: القليل.

([59]) رَبْع: ليس بالقصير ولا بالطويل. (13) لا يأس من طول: لا يجاوز الناس طولا.



([61]) لا تقتحمه العين من قصر: لا تزدريه ولا تحتقره. (15) محفود: مخدوم.




([63]) محشود: يجتمع الناس حواليه.

([64]) لا عابس ولا مفند: ليس عابس الوجه ولا مفند: ليس منسوباً إلى الجهل وقلة العقل.

([65])انظر: الهجرة النبوية المباركة (ص 104-106) والهوامش منه ببعض تصرف.

([66]) أسودة: جمع قلة لسواد وهو الشخص يرى من بعيد أسود، الهجرة في القرآن، ص344.

([67]) الأكمة: هي الرابية. (3) الزج: الحديدة في أسفل الرمح.



([69]) الأزلام: الأقداح التي كانت في الجاهلية مكتوب عليها الأمر، والنهي: افعل ولا تفعل.

([70]) ساخت يدا فرسي: أي غاصت في الأرض.

([71]) عثان: أي دخان، وجمعه عواثن على غير قياس، النهاية (3/183).

([72]) فلم يرزآني: أي لم يأخذا مني شيئاً. (8) أديم: قطعة من جلد.



([74]) البخاري، كتاب مناقب الأنصار، رقم 3906. (10) التزبب في الإنسان: كثرة الشعر وطوله.



([76]) انظر: الروض الأنف (4/218)، الهجرة في القرآن، ص346.

(3) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/495).(3) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/494).

(4) أطم: كالحصن.(5) مبيضين: عليهم ثياب بيض.





([81]) السراب: أي يزول بهم السراب عن النظر بسبب عروضهم له.

([82]) جدكم: حظكم وصاحب دولتكم، الذي تتوقعونه.

([83]) قال الحافظ بن حجر: هذا هو المعتمد وشذ من قال يوم الجمعة، الفتح (7/544).

([84]) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، ص351.(4) نفس المصدر، ص352.




([86]) صحيح البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب هجرة النبي (5/77، 78).

([87]،7) نفس المصدر رقم 3911. (8) الهجرة في القرآن الكريم، ص 353.






([90]) مسلم، كتاب الزهد والرقائق باب حديث الهجرة، رقم 2009.

([91]) الضمير هنا للنبي صلى الله عليه وسلم (فتح الباري (7/251) (2) يخترف: أي يحتبي من ثمارها، انظر: النهاية (2/24)



([93]) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، ص354. (4) مقيلا: أي مكاناً تقع فيه القيلولة.



([95]) البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب هجرة النبي إلى المدينة (5/79).

([96]) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، ص355. (7) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص199.




([98]) انظر الهجرة النبوية المباركة، ص200.

(2) انظر: الأساس في السنة، سعيد حوى (1/357).

([100]) انظر: في السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحيطة، ص141.

([101]) انظر: معين السيرة، ص147. (5) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، ص361.



([103]) انظر: أضواء على الهجرة، لتوفيق محمد، ص393: 397.

([104]) انظر: من معين السيرة، ص148. (2،3) انظر: المستفاد من قصص القرآن (2/108).






([107]) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص206.

([108])انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص126.

([109]) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (2/102) إسناده صحيح.

([110]) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص128.

([111]) انظر: فقه السيرة للبوطي، ص193. (2) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، ص364.




([113]) انظر: معين السيرة، ص148، 149.

(1) المسند (1/3) تحقيق أحمد محمد شاكر. (2) انظر: في ظلال الهجرة النبوية، ص58.



([116]) انظر: التربية القيادية (2/191، 192). (4) السيرة النبوية دروس وعبر للسباعي، ص71.



([118]) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص204.(2) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس، ص254.



([120]) انظر: السيرة النبوية للسباعي، ص68. (4) انظر: الهجرة النبوية لأبي فارس، ص54.



([122]) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص205.

([123]) انظر: الهجرة النبوية لأبي فارس، ص59. شرح المواهب (1/405).

([124]) انظر: الإصابة، (1/146).

([125]) صحيح الجامع الصغير (1/328) رقم 986. (4) الفتح الرباني للساعتي (20/289).




([127]) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (3/178). (2) انظر السيرة النبوية لأبي شهبة، (1/495).




([129]) المصدر السابق، (1/495) صحيح السيرة النبوية، ص181.

([130]) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص405.

([131]) انظر: السيرة النبوية للسباعي، ص43، الهجرة في القرآن الكريم، ص367.

([132]) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس، ص358، 359. (3) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص202.



([134]) انظر: بناء المجتمع الإسلامي في عصر النبوة، محمد توفيق، ص119.

([135])انظر: بناء المجتمع الإسلامي في عصر النبوة، محمد توفيق، ص122، 123.

(2) انظر: فقه السيرة للبوطي، ص172.

([137]) انظر: الغرباء الأولون، ص198، 199.

([138]) الترمذي، كتاب المناقب، باب فضل مكة (5/722) رقم 3925.





(1) الوعك: الحمى. (2) بطوقه: بطاقته. ([141]) بروقه: بقرنه.

([142]) عقيرته: صوته، قال الأصمعي، إن رجلا عقرت رجله فرفعها على الأخرى وجعل يصيح فصار كل من رفع صوته يقال له: رفع عقيرته وإن لم يرفع رجله.

([143]) الأذخر: نبات طيب الرائحة.

([144]) شامة وطفيل: جبلان مشرفان على مجنة على بريد مكة.

([145]) البخاري، كتاب الدعوات، باب الدعاء برفع الوباء والوجع، رقم 6372.

([146]) انظر: التربية القيادية (2/310).

([147]) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/489، 490).

([148]) انظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/220).

([149]) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/497).

([150]) انظر: محمد رسول الله، محمد الصادق عرجون (2/421).

([151]) انظر: محمد رسول الله، (2/423).

([152]) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، ص175.

محمد رافع 52 13-10-2014 10:22 PM

المبحث الثاني


الثناء على المهاجرين بأوصاف حميدة والوعد


لمن هاجر منهم والوعيد لمن تخلف

تعتبر الهجرة النبوية المباركة من مكة إلى المدينة أهم حدث في تاريخ الدعوة الإسلامية، إذ كانت نقطة تحول في تاريخ المسلمين، كان المسلمون قبل الهجرة أمة دعوة، يبلغون دعوة الله للناس، دون أن يكون لهم كيان سياسي، يحمي الدعاة أو يدفع عنهم الأذى من أعدائهم.
وبعد الهجرة تكونت دولة الدعوة، هذه الدولة التي أخذت على عاتقها نشر الإسلام في داخل الجزيرة العربية وخارجها، ترسل الدعاة إلى الأمصار وتتكفل بالدفاع عنهم وحمايتهم من أي اعتداء قد يقع عليهم ولو أدى ذلك إلى قيام حرب أو حروب([1]).
وبجانب هذا، فإن الهجرة النبوية لها مكانتها في فهم القرآن وعلومه حيث فرق العلماء بين المكي والمدني، فالمكي: ما نزل قبل الهجرة وإن كان بغير مكة، والمدني: ما نزل بعد الهجرة وإن كان بغير المدينة وترتب على ذلك فوائد من أهمها:
1- تذوق أساليب القرآن الكريم والاستفادة منها في أسلوب الدعوة إلى الله.
2- الوقوف على السيرة النبوية من خلال الآيات القرآنية([2]): ولأهمية الهجرة النبوية نرى أن القرآن الكريم حث المؤمنين على الهجرة في سبيل الله بأساليب متنوعة، مرة بالثناء على المهاجرين، بأوصاف حميدة، وأخرى بالوعد للمهاجرين، وتارة بالوعيد للمتخلفين عن الهجرة([3]).
أولاً: الثناء على المهاجرين بأوصاف حميدة:
فمن أهم الصفات المميزة للمهاجرين([4]).
1- الإخلاص:
قال تعالى ( لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ )[الحشر:8] قوله تعالى ( يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا ) يدل على أنهم لم يخرجوا من ديارهم وأموالهم إلا أن يكونوا مخلصين لله، مبتغين مرضاته ورضوانه([5]).
2- الصبر:
قال تعالى: ( وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ` الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ )[النحل:41،42]
3- الصدق:
قال تعالى: ( لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ )[الحشر:8].
قال البغوي في تفسيره: قوله: ( أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) أي في إيمانهم ([6]).
4- الجهاد والتضحية:
قال تعالى ( الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ )[التوبة:20].
ولعل الملاحظة الجديرة بالتأمل في هذا المجال، أن التضحية ملازمة للجهاد في سبيل الله، إذ لا جهاد دون تضحية([7]).
5- نصرهم لله ورسوله:
قال تعالى عن المهاجرين: ( وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ )[الحشر:8].
6- التوكل على الله عز وجل:
قال تعالى عن المهاجرين: ( الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ )[النحل:41-42]
7- الرجاء:
قال تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ )[البقرة:218].
وإنما قال ( يَرْجُونَ ) وقد مدحهم؛ لأنه لا يعلم أحد في هذه الدنيا أنه صائر إلى الجنة ولو بلغ في طاعة الله كل مبلغ لأمرين، أحدهما: لا يدري بما يختم له والثاني: لئلا يتكل على عمله، فهؤلاء قد غفر الله لهم، ومع ذلك يرجون رحمة الله وذلك زيادة إيمان منهم([8]).
8- اتباع الرسول صلى الله عليه وسلمفي العسرة:
قال تعالى ( لَقَد تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ )[التوبة:117].
وقد نزلت هذه الآية في غزوة تبوك
قال قتادة: خرجوا إلى الشام عام تبوك، في لهبان الحر، على ما يعلم الله من الجهد، أصابهم فيها جهد شديد، حتى لقد ذكر لنا أن الرجلين كانا يشقان التمرة بينهما، وكان النفر يتداولون التمرة بينهم، يمصها هذا ثم يشرب عليها، ثم يمصها هذا ثم يشرب عليها، فتاب الله عليهم وأقفلهم([9]) من غزوتهم([10]).
9- حق السبق في الإيمان والعمل يورث حيازة القدوة والسيادة:
قال تعالى: ( وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ )

[التوبة:100].

قال الرازي: والسبق موجب للفضيلة، فإقدامهم على هذه الأفعال يوجب اقتداء غيرهم بهم، وثبت بهذا أن المهاجرين هم رؤساء المسلمين وسادتهم([11]).
10- الفوز:
قال تعالى ( الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ )[التوبة:20]. قال أبو السعود في تفسيره: قوله تعالى: ( هُمُ الْفَائِزُونَ ): أي المختصون بالفوز العظيم أو بالفوز المطلق، كأن فوز من عداهم ليس بفوز بالنسبة إلى فوزهم([12]).
11- الإيمان:
قال تعالى: ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آَوَوا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ )[الأنفال:74].
ثانياً: الوعد للمهاجرين:
ذكر الله تعالى بعض النعم التي وعدها الله عز وجل للمهاجرين في الدنيا والآخرة ومن هذه النعم:
1- سعة رزق الله لهم في الدنيا:
قال تعالى: ( وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ
مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إلى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا
رَّحِيمًا )[النساء:100].

ومن سعة رزق الله لهم في الدنيا تخصيصهم بمال الفيء والغنائم، فالمال لهؤلاء؛ لأنهم أخرجوا من ديارهم فهم أحق الناس به([13]).
2- تكفير سيئاتهم ومغفرة ذنوبهم:
قال تعالى: ( فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ
عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ ثَوَابًا مِّن عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ
الثَّوَابِ )[آل عمران:195].

وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة في بيان أن الهجرة من أعظم الوسائل المكفرة للسيئات، وأنها سبب لمغفرة ذنوب أهلها.
3- ارتفاع منزلتهم وعظمة درجتهم عند ربهم:
قال تعالى: ( الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ )[التوبة:20].
فالذين نالوا فضل الهجرة والجهاد بنوعيه؛ النفسي والمالي أعلى مرتبة وأعظم كرامة ممن لم يتصف بهما كائناً من كان، ويدخل في ذلك أهل السقاية والعمارة([14]).
4- تبشيرهم بالجنة والخلود فيها:
قال تعالى: ( الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ` يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ` خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ )[التوبة:20-22].
هذا بعض ما وعد الله به المهاجرين من الجزاء والثواب بسبب جهادهم المرير.
إن المهاجرين بإيمانهم الراسخ ويقينهم الخالص لم يمكنوا الجاهلية في مكة من وأد الدعوة، وهي في مستهل حياتها، لقد استمسكوا بما أوحى إلى نبيهم ولم تزدهم حماقة قريش إلا اعتصاما بما اهتدوا إليه وأمنوا به، فلما أسرفت الجاهلية في ذلك صاروا أهلا لما أسبغه الله عليهم من فضل في الدنيا، وما أعده لهم يوم القيامة من ثواب عظيم([15]).

محمد رافع 52 13-10-2014 10:25 PM

ثالثـًا: الوعيد للمتخلفين عن الهجرة:
من العقوبات التي توعد الله عز وجل بها للمتخلفين عن الهجرة سوء المصير، قال تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا )[النساء:97].
عن ابن عباس t قال: «كان قوم من أهل مكة أسلموا وكانوا يستخفون بالإسلام فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم، فأصيب بعضهم، فقال المسلمون: ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ ) الآية: قال: فكتب إلى من بقي بمكة من المسلمين بهذه الآية، لا عذر لهم، قال: فخرجوا فلحقهم المشركون فأعطوهم الفتنة، فنزلت فيهم: ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَ لَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ )[العنكبوت:10].
فكتب المسلمون إليهم بذلك، فخرجوا وأيسوا من كل خير ثم نزلت فيهم: ( ثُمَّ
إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِن بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ
رَّحِيمٌ )[النحل:110]([16]).

لقد وصف الله -سبحانه- المتخلفين عن الهجرة بأنهم ظالمو أنفسهم، والمراد بالظلم في هذه الآية، أن الذين أسلموا في دار الكفر وبقوا هناك، ولم يهاجروا إلى المدينة، ظلموا أنفسهم بتركهم الهجرة([17]).
وفي هذه الآية الكريمة وعيد للمتخلفين عن الهجرة بهذا المصير السيئ، وبالتالي التزم الصحابة بأمر الله، وانضموا إلى المجتمع الإسلامي في المدينة تنفيذاً لأمر الله وخوفاً من عقابه، وكان لهذا الوعيد أثره في نفوس الصحابة رضي الله عنهم، فهذا ضمرة بن جندب لما بلغه قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ ) وهو بمكة قال لبنيه: احملوني فإني لست من المستضعفين، وإني لأهتدي الطريق، وإني لا أبيت الليلة بمكة، فحملوه على سرير متوجهاً إلى المدينة وكان شيخاً كبيراً، فمات بالتنعيم، ولما أدركه الموت أخذ يصفق بيمينه على شماله، ويقول: اللهم هذه لك وهذه لرسولك صلى الله عليه وسلم، أبايعك على ما بايع عليه رسولك، ولما بلغ خبر موته الصحابة رضي الله عنهم قالوا: ليته مات بالمدينة فنزل([18]) قوله تعالى: ( إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً` فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا )[النساء:98-99].
وهذا الموقف يرينا ما كان عليه جيل الصحابة من سرعة في امتثال الأمر، وتنفيذه
في النشاط والشدة، كائنة ما كانت ظروفهم، فلا يلتمسون لأنفسهم المعاذير، ولا يطلبون الرخص([19]).
فهذا الصحابي تفيد بعض الروايات أنه كان مريضاً([20]) إلا أنه رأى أنه ما دام
له مال يستعين به، ويحمل به إلى المدينة فقد انتفى عذره، وهذا فقه أملاه الإيمان، وزكَّاه الإخلاص واليقين([21]).

وبعد أن ذكر الله عز وجل وعيده للمتخلفين عن الهجرة بسوء مصيرهم، استثنى في ذلك من لا حيلة لهم في البقاء في دار الكفر، والتعرض للفتنة في الدين، والحرمان من الحياة في دار الإسلام من الشيوخ والضعاف والنساء والأطفال، فيعلقهم بالرجاء في عفو الله ومغفرته، ورحمته بسبب عذرهم البين وعجزهم عن الفرار([22]) قال تعالى: ( إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً` فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا )[النساء:98-99].

* * *






([1]) انظر: الهجرة النبوية، الدكتور محمد أبو فارس، ص13.
([2]) انظر: مباحث في علوم القرآن للقطان، ص59.
([3]) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، ص84.
([4]) نفس المصدر، ص85، هذا المبحث أخذته من هذا الكتاب مع التصرف اليسير.
([5]) الهجرة في القرآن الكريم، ص86. (2) انظر: تفسير البغوي (4/318).

(3) الهجرة في القرآن الكريم، 106.


([8]) الجامع لأحكام القرآن (3/50)، تفسير أبي السعود، (1/218).
([9]) أقفلهم: بمعنى أرجعهم سالمين. (2) تفسير ابن كثير (2/397).

([11]) انظر: تفسير الرازي (15/208). (4) تفسير أبي السعود (4/53).


([13]) انظر تفسير ابن كثير (4/295) وتفسير أبي السعود (8/228) وتفسير فتح القدير (5/200)،والهجرة في القرآن الكريم، ص132.
([14]) تفسير المراغي (10/78)، تفسير الرازي (16/13،14).
([15]) انظر: هجرة الرسول وصحابته في القرآن والسنة للجمل، ص332، 333.
([16]) زاد المسير لابن الجوزي (2/97) تفسير القاسمي (3/399)
([17]) انظر: الهجرة في القرآن الكريم ص 161.
([18]) روح المعاني (5/128، 129) للألوسي، أسباب النزول للواحدي، ص181.
([19]،3، 4) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص124- 126.




([22]) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، ص167.

محمد رافع 52 13-10-2014 10:36 PM

الفصل السابع


دعائم دولة الإسلام في المدينة

شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ دخوله المدينة يسعى لتثبيت دعائم الدولة الجديدة على قواعد متينة، وأسس راسخة، فكانت أولى خطواته المباركة الاهتمام ببناء دعائم الأمة كبناء المسجد الأعظم بالمدينة، والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار على الحب في الله، وإصدار الوثيقة أو الدستور الإسلامي في المدينة الذي ينظم العلاقات بين المسلمين واليهود ومشركي المدينة، وإعداد جيش لحماية الدولة، والسعي لتحقيق أهدافها، والعمل على حل مشاكل المجتمع الجديد، وتربيته على المنهج الرباني في كافة شئون الحياة فقد استمر البناء التربوي والتعليمي، واستمر القرآن الكريم يتحدث في المدينة عن عظمة الله وحقيقة الكون والترغيب في الجنة والترهيب من النار ويشرع الأحكام لتربية الأمة، ودعم مقومات الدولة التي ستحمل نشر دعوة الله بين الناس قاطبة، وتجاهد في سبيل الله.
وكانت مسيرة الأمة العلمية والتربوية تتطور مع تطور مراحل الدعوة وبناء المجتمع وتأسيس الدولة.
وعالج رسول الله صلى الله عليه وسلم الأزمة الاقتصادية بالمدينة من خلال المنهج الرباني. واستمر البناء التربوي ففرض الصيام، وفُرضت الزكاة وأخذ المجتمع يزدهر والدولة تتقوى على أسس ثابتة وقوية.

* * *




محمد رافع 52 13-10-2014 10:38 PM

المبحث الأول


الدعامة الأولـــــى


بناء المسجد الأعظم بالمدينة

كان أول ما قام به الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة بناء المسجد، وذلك لتظهر فيه شعائر الإسلام التي طالما حوربت، ولتقام فيه الصلوات التي تربط المرء برب العالمين وتنقي القلب من أدران الأرض، وأدناس الحياة الدنيا([1]).
روى البخاري بسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المدينة راكباً راحلته، فسار يمشي معه الناس حتى بركت عند مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهو يصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين، وكان مربدا([2]) للتمر لسهل وسهيل غلامين يتيمن في حجر أسعد بن زرارة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بركت به راحلته: «هذا إن شاء الله المنزل» ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الغلامين فساومهما بالمربد ليتخذه مسجداً فقالا: لا، بل نهبه لك يا رسول الله، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما([3]).
وفي رواية أنس بن مالك: فكان فيه ما أقول: كان فيه نخل وقبور المشركين، وخرب، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالنخل فقطع، وبقبور المشركين فنبشت، وبالخرب فسويت، قال: فصفوا النخل قبلة، وجعلوا عضادتيه حجارة، قال: فكانوا يرتجزون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يقولون:
اللهم إنه لا خير إلا خير الآخرة --- فاغفر للأنصار والمهاجرة([4])




شرع الرسول صلى الله عليه وسلم في العمل مع أصحابه، وضرب أول معول في حفر الأساس الذي كان عمقه ثلاث أذرع، ثم اندفع المسلمون في بناء هذا الأساس بالحجارة، والجدران، التي لم تزد عن قامة الرجل إلا قليلاً، باللبن الذي يعجن بالتراب ويسوى على شكل أحجار صالحة للبناء([5]) وفي الناحية الشمالية منه أقيمت ظلة من الجريد على قوائم من جذوع النخل، كانت تسمى «الصفة» أما باقي أجزاء المسجد فقد تركت مكشوفة بلا غطاء([6]).
أما أبواب المسجد فكانت ثلاثة: باب في مؤخرته من الجهة الجنوبية، وباب في الجهة الشرقية كان يدخل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم بإزاء باب بيت عائشة، وباب من الجهة الغربية يقال له باب الرحمة أو باب عاتكة([7]).
أولاً: بيوتات النبي صلى الله عليه وسلم التابعة للمسجد:
وبني لرسول الله صلى الله عليه وسلم حُجَر حول مسجده الشريف، لتكون مساكن له ولأهله، ولم تكن الحجر كبيوت الملوك والأكاسرة والقياصرة، بل كانت بيوت من ترفع عن الدنيا وزخارفها، وابتغى الدار الآخرة، فقد كانت كمسجده مبنية من اللبن والطين وبعض الحجارة، وكانت سقوفها من جذوع النخل والجريد، وكانت صغيرة الفناء قصيرة البناء ينالها الغلام الفارع بيده، قال الحسن البصري- وكان غلاما مع أمه خيرة مولاة أم سلمة-: «قد كنت أنال أول سقف في حجر النبي صلى الله عليه وسلم بيدي»([8])، وهكذا كانت بيوت النبي صلى الله عليه وسلم في غاية البساطة، بينما كانت المدينة تشتهر بالحصون العالية التي كان يتخذها علية القوم تباهيا بها في السلم واتقاءً بها في الحرب، وكانوا من تفاخرهم بها يضعون لها أسماء كما كان حصن عبد الله بن أبي ابن سلول اسمه مزاحماً، وكما كان حصن حسان بن ثابت t اسمه فارعاً.
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم بنى بيوته بذلك الشكل المتواضع، وكان باستطاعته أن يبني لنفسه قصورًا شاهقة، ولو أنه أشار إلى رغبته بذلك- مجرد إشارة- لسارع الأنصار في بنائها له، كما كان بإمكانه أن يشيدها من أموال الدولة العامة كالفيء ونحوه، ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك ليضرب لأمته مثلاً رفيعاً وقدوة عالية في التواضع والزهد في الدنيا، وجمع الهمة والعزيمة للعمل لما بعد الموت([9]).
ثانياً: الأذان في المدينة:
تشاور رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه لإيجاد عمل ينبه النائم ويذكر الساهي، ويعلم الناس بدخول الوقت لأداء الصلاة، فقال بعضهم: ترفع راية إذا حان وقت الصلاة ليراها الناس، فاعترضوا على هذا الرأي؛ لأنها لا تفيد النائم، ولا الغافل، وقال آخرون نشعل ناراً على مرتفع من الهضاب، فلم يقبل هذا الرأي أيضاً. وأشار آخرون ببوق، وهو ما كانت اليهود تستعمله لصلواتهم، فكرهه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يجب مخالفة أهل الكتاب في أعمالهم، وأشار بعض الصحابة باستعمال الناقوس، وهو ما يستعمله النصارى، فكرهه الرسول صلى الله عليه وسلم أيضا، وأشار فريق بالنداء فيقوم بعض الناس إذا حانت الصلاة وينادي بها فَقُيل هذا الرأي. وكان أحد المنادين عبد الله بن زيد الأنصاري، فبينما هو بين النائم واليقظان، إذ عرض له شخص، وقال: ألا أعلمك كلمات تقولها عند النداء بالصلاة؟ قال بلى: فقال له: قل: الله أكبر، مرتين، وتشهد مرتين، ثم قل: حي علي الصلاة مرتين، ثم قل: حي على الفلاح مرتين، ثم كبر مرتين: ثم قل: لا إله إلا الله. فلما استيقظ توجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأخبره خبر رؤياه فقال: «إنها لرؤيا حق» ثم قال له: «لقن بلالاً فإنه أندى صوتاً منك»، وبينما بلال يؤذن للصلاة بهذا الأذان جاء عمر بن الخطاب يجر رداءه فقال: والله لقد رأيت مثله يا رسول الله. وكان بلال بن رباح أحد مؤذنيه بالمدينة، والآخر عبد الله بن أم مكتوم، وكان بلال يقول في أذان الصبح بعد حي على الفلاح: الصلاة خير من النوم مرتين وأقره الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك([10])، وكان يؤذن في البداءة من مكان مرتفع ثم استحدث المنارة (المئذنة).

محمد رافع 52 13-10-2014 10:41 PM

ثالثاً: أول خطبة خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة:
كانت أول خطبة خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة أنه قام فيهم، فحمد الله، وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال:
«أما بعد: أيها الناس فقدموا لأنفسكم، تعلمن والله ليصعقن أحدكم، ثم ليدعن غنمه ليس لها راعٍ، ثم ليقولن له ربه، وليس له ترجمان ولا حاجب يحجبه دون: ألم يأتك رسولي فبلغك وآتيتك مالا، وأفضلت عليك، فما قدمت لنفسك؟ فلينظرن يميناً وشمالاً فلا يرى شيئاً، ثم لينظرن قُدامه فلا يرى غير جنهم، فمن استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشق تمرة فليفعل ومن لم يجد فبكلمة طيبة، فإنها بها تجزى الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والسلام عليكم وعلى رسول الله ورحمة الله وبركاته».
ثم خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة أخرى فقال:
«إن الحمد لله أحمده وأستعينه، نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إن أحسن الحديث كتاب الله تبارك وتعالى، قد أفلح من زينه الله في قلبه، وأدخله في الإسلام بعد الكفر، واختاره على ما سواه من أحاديث الناس، إنه أحسن الحديث وأبلغه أحبوا من أحبه الله، أحبوا الله من كل قلوبكم، ولا تملوا كلام الله وذكره، ولا تقس عنه قلوبكم، فإنه من كل ما يخلق الله؛ يختار ويصطفي قد سماه الله خيرته من الأعمال، ومصطفاه من العباد، والصالح من الحديث، ومن كل ما أوتي الناس من الحلال والحرام، فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا واتقوه حق تقاته، واصدقوا الله صالح ما تقولون بأفواهكم، وتحابوا بروح الله، إن الله يغضب إن نكث عهده والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته»([11]).
رابعاً: الصُّفَّة التابعة للمسجد النبوي:
لما تم تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة بأمر الله تعالى، وذلك بعد ستة عشر شهراً من هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة([12]) بقي حائط القبلة الأولى في مؤخر المسجد النبوي، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم به فظلل أو سقف وأطلق عليه اسم الصفة أو الظلة([13]) ولم يكن له ما يستر جوانبه([14]).
قال القاضي عياض: الصفة ظلة في مؤخر مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يأوي إليها المساكين وإليها ينسب أهل الصفة([15]).
وقال ابن تيمية: الصفة كانت في مؤخرة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في شمالي المسجد بالمدينة المنورة([16]).
وقال ابن حجر: الصفة مكان في مؤخر المسجد النبوي مظلل أعد لنزول الغرباء فيه ممن لا مأوى له ولا أهل([17]).
1- أهل الصفة:
قال أبو هريرة: «وأهل الصفة أضياف الإسلام، لا يأوون على أهل ولا مال ولا على أحد»([18]).
إن المهاجرين الأوائل الذين هاجروا قبل النبي صلى الله عليه وسلم أو معه أو بعده حتى نهاية الفترة الأولى قبل غزوة بدر، استطاع الأنصار أن يستضيفوهم في بيوتهم وأن يشاركوهم النفقة ولكن فيما بعد كبر حجم المهاجرين مما لم يعد هناك قدرة للأنصار على استيعابهم([19]).
فقد صار المهاجرون يكثرون بعد ذلك شيئاً بعد شيء، فإن الإسلام صار ينتشر والناس يدخلون فيه.. ويكثر المهاجرون إلى المدينة من الفقراء والأغنياء، والآهلين والعُزَّاب، فكان من لم يتيسر له مكان يأوي إليه، يأوي إلى تلك الصُّفة في المسجد([20]).
والذي يظهر للباحث أن المهاجر الذي يقدم إلى المدينة كان يلتقي بالرسول صلى الله عليه وسلم، ثم يوجهه بعد ذلك إلى من يكفله فإن لم يجد فإنه يستقر في الصفة مؤقتاً ريثما يجد السبيل([21]) فقد جاء في المسند عن عبادة بن الصامت، قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُشغل، فإذا قدم رجل مهاجر على رسول الله صلى الله عليه وسلم دفعه إلى رجل منا يعلمه القرآن، فدفع إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً، وكان معي في البيت أُعشيه عشاء أهل البيت، فكنت أقرئه القرآن»([22])، وقد كان أول من نزل الصفة المهاجرون([23]) لذلك نسبت إليهم فقيل صفة المهاجرين([24]) وكذلك كان ينزل بها الغرباء من الوفود التي كانت تقدم على النبي صلى الله عليه وسلم معلنة إسلامها وطاعتها([25]) وكان الرجل إذا قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وكان له عريف نزل عليه وإذا لم يكن له عريف نزل مع أصحاب الصفة([26]) وكان أبو هريرة t عريف من سكن الصفة من القاطنين، ومن نزلها من الطارقين، فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد دعوتهم عهد إلى أبي هريرة فدعاهم لمعرفته بهم، وبمنازلهم ومراتبهم في العبادة والمجاهدة([27]) ونزل بعض الأنصار في الصفة حباًّ لحياة الزهد والمجاهدة والفقر، رغم استغنائهم عن ذلك ووجود دار لهم في المدينة ككعب بن مالك الأنصاري، وحنظلة بن أبي عامر الأنصاري (غسيل الملائكة) وحارثة بن النعمان الأنصاري وغيرهم([28]).
2- نفقة أهل الصفة ورعاية النبي صلى الله عليه وسلموالصحابة لهم:
كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعهد أهل الصفة بنفسه، فيزورهم ويتفقد أحوالهم ويعود مرضاهم، كما كان يكثر مجالستهم ويرشدهم ويواسيهم ويذكرهم ويعلمهم ويوجههم إلى قراءة القرآن الكريم ومدارسته، وذكر الله والتطلع إلى الآخرة([29]). وكان صلى الله عليه وسلم يؤمن نفقتهم بوسائل متعددة ومتنوعة فمنها:
* إذ أتته صلى الله عليه وسلم صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئاً، وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها، وأشركهم فيها.
* كثيراً ما كان يدعوهم إلى تناول الطعام في إحدى حجرات أمهات المؤمنين رضي الله عنهم، ولم يكن يغفل عنهم مطلقاً، بل كانت حالتهم ماثلة أمامه، فعن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما، قال إن أصحاب الصفة كانوا أناسا فقراء، وإن النبي صلى الله عليه وسلم قال مرة: «من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس أو سادس» أو كما قال، وإن أبا بكر جاء بثلاثة، وانطلق النبي صلى الله عليه وسلم بعشرة([30]).
* وكما كان صلى الله عليه وسلم يقدم حاجتهم على غيرها مما يطلب منه، فقد أتى بسبي مرة فأتته فاطمة رضي الله عنها تسأله خادماً، فكان جوابه كما في المسند عند الإمام أحمد: «والله لا أعطيكم وأدع أهل الصفة تطوي بطونُهم من الجوع لا أجد ما أنفق عليهم، ولكن أبيعهم وأنفق عليهم أثمانهم»([31]).
3- انقطاعهم للعلم والعبادة والجهاد:
كان أهل الصفة يعتكفون في المسجد للعبادة، ويألفون الفقر والزهد فكانوا في خلواتهم يصلون ويقرأون القرأن ويتدارسون آياته ويذكرون الله تعالى، ويتعلم بعضهم الكتابة حتى أهدى أحدهم قوسه لعبادة بن الصامت t؛ لأنه كان يعلمهم القرآن والكتابة([32])، واشتهر بعضهم بالعلم وحفظ الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل أبي هريرة t عرف بكثرة تحديثه، وحذيفة بن اليمان الذي اهتم بأحاديث الفتن.
وكان أهل الصفة يشاركون في الجهاد، بل كان منهم الشهداء ببدر مثل صفوان بن بيضاء، وخريم بن فاتك الأسدي، وخبيب بن يساف، وسالم بن عمير، وحارثة بن النعمان الأنصاري([33])، ومنهم من استشهد بأحد مثل حنظلة الغسيل([34])، ومنهم من شهد الحديبية مثل جرهد بن خويلد وأبو سريحة الغفاري([35]) ومنهم من استشهد بخيبر مثل تقف بن عمرو([36]) ومنهم من استشهد بتبوك مثل عبد الله ذو البجادين([37]).
ومنهم من استشهد باليمامة مثل سالم مولى أبي حذيفة وزيد بن الخطاب، فكانوا رهباناً بالليل فرساناً في النهار([38])، وكان بعض الصحابة قد اختاروا المكوث في الصفة رغبة منهم لا اضطرارا، كأبي هريرة t فقد أحب أن يلازم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعوض ما فاته من العلم والخير، فقد جاء إلى المدينة بعد فتح خيبر في العام السابع، وحرص على سماع أكبر قدر ممكن من حديثه صلى الله عليه وسلم ومعرفة أحواله وتبركا بخدمته صلى الله عليه وسلم وهذا لا يتوفر له إلا إذا كان قريباً من بيت النبي صلى الله عليه وسلم فكانت الصفة هي المكان الوحيد الذي يؤمن له ذلك، ولنستمع إليه يوضح لنا ذلك، قال أبو هريرة t: «إنكم تقولون إن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون ما بال المهاجرين والأنصار لا يحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثل حديث أبي هريرة، وإن إخوتي من المهاجرين كان يشغلهم صفْقٌ الأسواق، وكنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني، فأشهد إذا غابوا، وأحفظ إذا نسوا، وكان يشغل إخوتي من الأنصار عمل أموالهم، وكنت امرءاً مسكيناً من مساكين الصفة أعي حين ينسون»([39]) وهكذا يوضح t أنه فعل ذلك رغبة منه في ملازمة النبي صلى الله عليه وسلم ثم إن أبا هريرة كان له سكن في المدينة، وهو المكان الذي تسكنه أمه، والتي طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو لها بالهداية([40]) ثم إن أبا هريرة لم يكن فقيراً معدماً، ففي أول يوم قدم فيه على النبي صلى الله عليه وسلم في خيبر أسهم له صلى الله عليه وسلم من الغنيمة، كما أنه لما قدم كان معه عبد يخدمه كما ورد في الصحيح([41]) وإذن فالذي أفقره هو إيثاره ملازمة النبي صلى الله عليه وسلم واستماع أحاديثه، وكان يستطيع الاستغناء عن الصُّفة لو أراد([42]).
كان أهل الصفة يكثرون ويقلون بحسب تبدل الأحوال التي تحيط بأهل الصُّفة من عودة الأهل، أو زوج، أو يسر بعد عَسر، أو شهادة في سبيل الله.
ولم يكن فقرهم لقعودهم عن العمل وكسب الرزق، فقد ذكر الزمخشري أنهم كانوا يرضخون النوى بالنهار، ويظهر أنهم كانوا يرضخون النوى- يكسرونه- لعلف الماشية وهم ليسوا أهل ماشية، فهم إذن يعملون لكسب الرزق([43]).
4- عددهم وأسماؤهم:
كان عددهم يختلف باختلاف الأوقات، فهم يزيدون إذا قدمت الوفود إلى المدينة ويقلون إذا قل الطارقون من الغرباء على أن عدد المقيمين منهم في الظروف العادية كان في حدود السبعين رجلاً([44])، وقد يزيد عددهم كثيراً حتى أن سعد بن عبادة كان يستضيف وحده ثمانين منهم، فضلاً عن الآخرين الذين يتوزعهم الصحابة([45])، ومن أراد الوقوف على بعض أسمائهم فليرجع إلى كتب السيرة([46]).
وقد وقع بعض الباحثين في خطأ فادح حين استدل بعضهم على مشروعية مسلك بعض المنحرفين من المتصوفة، من حيث ترك العمل والإخلاد إلى الراحة والكسل، والمكوث في الزوايا والتكايا، بحجة التوكل بحال أهل الصفة([47]). إن أبا هريرة، وهو أكثر ارتباطاً بالصفة من غيره لم يستمر فيها وخرج إلى الحياة، بل أصبح أميراً في بعض أيامه على البحرين في عهد عمر بن الخطاب، ولم يكن مخشوشنا في حياته([48]) بل إن أهل الصفة كانوا من المجاهدين في سبيل الله في ساحات القتال، وقد استشهد بعضهم كما ذكرت.

محمد رافع 52 13-10-2014 10:49 PM

خامسًا: فوائد ودروس وعبر:
1- المسجد من أهم الركائز في بناء المجتمع:
إن إقامة المساجد من أهم الركائز في بناء المجتمع الإسلامي، ذلك أن المجتمع المسلم إنما يكتسب صفة الرسوخ والتماسك، بالتزام نظام الإسلام وعقيدته وآدابه، وإنما ينبع ذلك من روح المسجد ووحيه([49]).
قال تعالى: ( لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُّحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ )[التوبة:108].
قال تعالى: ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآَصَالِ` رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ` لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ )[النور:36-38].
2- المسجد رمز لشمولية الإسلام:
أ- حيث أنشئ ليكون متعبداً لصلاة المؤمنين وذكرهم الله تعالى وتسبيحهم له، وتقديسهم إياه بحمده وشكره على نعمه عليهم، يدخله كل مسلم، ويقيم فيه صلاته وعبادته ولا يضاره أحد، ما دام حافظاً لقداسته ومؤدياًّ حق حرمته»([50]).
ب- كما «أنشئ ليكون ملتقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه والوافدين عليه، طلباً للهداية ورغبة في الإيمان بدعوته وتصديق رسالته»([51]).
ج- وهو قد أنشئ ليكون جامعة للعلوم والمعارف الكونية والعقلية والتنزيلية، التي حث القرآن الكريم على النظر فيها، وليكون مدرسة يتدارس فيها المؤمنون أفكارهم وثمرات عقولهم، ومعهدا يؤمه طلاب العلم من كل صوب، ليتفقهوا في الدين ويرجعوا إلى قومهم مبشرين ومنذرين، داعين إلى الله هادين، يتوارثونها جيلاً بعد جيل([52]).
د- وهو قد أنشئ ليجد فيه الغريب مأوى، وابن السبيل مستقراً لا تكدره منَّة أحد عليه فينهل من رفده ويعب من هدايته ما أطاق استعداده النفسي والعقلي، لا يصده أحد عن علم أو معرفة أو لون من ألوان الهداية، فكم من قائد تخرج فيه، وبرزت بطولته بين جدرانه، وكم من عالم استبحر علمه في رحابه، ثم خرج به على الناس يروي ظمأهم للمعرفة، وكم من داعٍ إلى الله تلقى في ساحاته دروس الدعوة إلى الله فكان أسوة الدعاة، وقدوة الهداة، وريحانة جذب القلوب شذاها فانجفلت تأخذ عنها الهداية لتستضيء بأنوارها»([53])
وكم من أعرابي جلف لا يفرق بين الأحمر والأصفر، وفد عليه فدخله ورأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حوله هالة تحف به، يسمعون منه وكأن على رؤوسهم الطير، فسمع معهم وكانت عنده نعمة العقل مخبأة تحت ستار الجهالة، فانكشف له غطاء عقله، فعقل وفقه، واهتدى واستضاء، ثم عاد إلى قومه إماماً يدعوهم إلى الله، ويربيهم بعلمه الذي علم، وسلوكه الذي سلك فآمنوا بدعوته، واهتدوا بهديه، فكانوا سطراً منيراً في كتاب التاريخ الإسلامي»([54]).
هـ- وهو «قد أنشئ ليكون قلعة لاجتماع المجاهدين إذا استنفروا، تعقد فيه ألوية الجهاد، والدعوة إلى الله، وتخفق فيه فوق رؤوس القادة الرايات للتوجه إلى مواقع الأحداث، وفي ظلها يقف جند الله في نشوة ترقب النصر أو الشهادة.
و- وهو «قد أنشئ ليجد فيه المجتمع المسلم الجديد ركناً في زواياه، ليكون مشفى يستشفى فيه جرحى كتائب الجهاد ليتمكن نبي الله صلى الله عليه وسلم من عبادتهم، والنظر في أحوالهم والاستطباب لهم، ومداواتهم في غير مشقة ولا نصب تقديراً لفضلهم.
ز- وهو «قد أنشئ ليكون مبرداً لبريد الإسلام منه تصدر الأخبار، ويبرد البريد، وتصدر الرسائل، وفيه تتلقى الأنباء السياسية سلماً أو حرباً وفيه تتلقى وتقرأ رسائل البشائر بالنصر، ورسائل طلب المدد، وفيه ينعى المستشهدون في معارك الجهاد ليتأسى بهم المتأسون وليتنافس في الاقتداء بهم المتنافسون.
ح- وهو «قد أنشئ ليكون مرقباً للمجتمع المسلم، يتعرف منه على حركات العدو المريبة ويرقبها ولا سيما الأعداء الذين معه يساكنونه ويخالطونه في بلده من شراذم اليهود وزمر المنافقين ونفايات الوثنية، الذين تمتوا في الشرك فلم يتركوه، ليحذر المجتمع المسلم عاقبة كيدهم وسوء مكرهم وتدبيرهم، ويأمن مغبة غدرهم وخياناتهم»([55]).
فالمسجد النبوي «بدأ بتأسيسه وبنائه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أول ما بدأ من عمل في مستقره ودار هجرته في مطلع مقدمه ليكون نموذجا يحتذى به في بساطة المظهر، وعمق وعموم المخبر، ليحقق به أعظم الأهداف وأعمها، بأقل النفقات وأيسر المشقات»([56]).
3- التربية بالقدوة العملية:
من الحقائق الثابتة أن النبي صلى الله عليه وسلم شارك أصحابه العمل والبناء، فكان يحمل الحجارة وينقل اللبن على صدره وكتفيه، ويحفر الأرض بيديه كأي واحد منهم، فكان مثال الحاكم العادل الذي لا يفرق بين رئيس ومرؤوس، أو بين قائد ومقود، أو بين سيد ومسود، أو بين غني وفقير، فالكل سواسية أمام الله، لا فرق بين مسلم وآخر إلا بالتقوى، ذلك هو الإسلام عدالة ومساواة في كل شيء، والفضل فيه يكون لصاحب العطاء في العمل الجماعي للمصلحة العامة، وبهذا الفضل ثواب من الله، والرسول صلى الله عليه وسلم كغيره من المسلمين لا يطلب إلا ثواب الله([57]) فقد كانت مشاركة النبي صلى الله عليه وسلم في عملية البناء ككل العمال الذين شاركوا فيه، وليس بقطع الشريط الحريري فقط، وليس بالضربة الأولى بالفأس فقط، بل غاص بعلمية البناء كاملة، فقد دهش المسلمون من النبي صلى الله عليه وسلم وقد علته غبرة، فتقدم أسيد بن حضير t ليحمل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أعطنيه؟ فقال: «اذهب فاحتمل غيره فإنك لست بأفقر إلى الله مني»([58]) فقد سمع المسلمون ما يقول النبي صلى الله عليه وسلم لصاحبه، فازدادوا نشاطا واندفاعا في العمل([59]).
إنه مشهد فريد من نوعه ولا مثيل له في دنيا الناس، وإذا كان الزعماء والحكام قد يقدمون على المشاركة أحياناً بالعمل لتكون شاشات التلفزيون جاهزة لنقل أعمالهم، وتملأ الدنيا في الصحف ووسائل الإعلام كلها بالحديث عن أخلاقهم وتواضعهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم ينازع الحجر أحد أفراد المسلمين، ويبين له أنه أفقر إلى الله تعالى، وأحرص على ثوابه منه.
وقد تفاعل الصحابة الكرام تفاعلاً عظيماً في البناء وأنشدوا هذا البيت:
لئن قعدنا والنبي يعمل --- لذاك منا العمل المضلل([60])




إن هذه التربية العملية لا تتم من خلال الموعظة، ولا من خلال الكلام المنمق، إنما تتم من خلال العمل الحي الدؤوب، والقدوة المصطفاة من رب العالمين، والتي ما كان يمكن أن تتم في أجواء مكة، والملاحقة والاضطهاد والمطاردة فيها إنما تتم في هذا المجتمع الجديد والدولة التي تبني وكأنما غدا هذا الجميع من الصحابة الكرام كله صوتاً واحداً، وقلباً واحداً، فمضى يهتف:
اللهم إن العيش عيش الآخرة --- فانصر الأنصار والمهاجرة




ويهتف بلحن واحد:
لئن قعدنا والنبي يعمل --- لذاك منا العمل المضلل




وكان الهتاف الثالث:
هذي الحمال لا حمال خيبر --- هذا أبر لربنا وأطهر([61])




فأحمال التمر والزبيب من خيبر إلى المدينة كانت لها مكانتها في المجتمع اليثربي أصبحت لا تذكر أمام حمل الطوب لبناء المسجد النبوي العظيم، فقد أيقنوا: ( مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللهِ بَاقٍ )[النحل:96].
وأما الهتاف الرابع:
لا يستوي من يعمر المساجدا --- بدأب فيه قائماً وقاعداً




ومن يرى عن الغبار حائدا([62])


4- الاهتمام بالخبرة والاختصاص:
أخرج الإمام أحمد عن طلق بن علي اليمامي الحنفي، قال بنيت المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يقول: «قربوا اليمامي من الطين فإنه أحسنكم له مسيساً» وأخرج الإمام أحمد عن طلق أيضاً، قال: جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يبنون المسجد وكأنه لم يعجبه عملهم، فأخذت المسحاة، فخلطت الطين، فكأنه أعجبه فقال: «دعوا الحنفي والطين، فإنه أضبطكم للطين» وأخرج ابن حبان عن طلق فقال: فقلت: يا رسول الله أأنقل كما ينقلون؟ قال: «لا، ولكن اخلط لهم الطين، فأنت أعلم به»([63]).
فقد اهتم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الوافد الجديد على المدينة، والذي لم يكن من المسلمين الأوائل، ووظف خبرته في خلط الطين، وفي قوة العمل، وهو درس للمسلمين في الثناء على الكفاءات والاستفادة منها، وإرشاد نبوي كريم في كيفية التعامل معها وما أحوجنا إلى هذا الفهم العميق([64]).
5- شعار الدولة المسلمة:
إن أذان الصلاة شعار لأول دولة إسلامية عالمية: (الله أكبر، الله أكبر) إنها تعني أن الله أكبر من أولئك الطغاة، وأكبر من صانعي العقبات، وهو الغالب على أمره.
(أشهد أن لا إله إلا الله) أي لا حاكمية ولا سيادة ولا سلطة إلا لله رب العالمين (إن الحكم إلا لله) فمعنى لا إله إلا الله: لا حاكم ولا آمر ولا مشرع إلا الله.
(أشهد أن محمدًا رسول الله) أسلمه الله تعالى القيادة، فليس لأحد أن ينزعها منه، فهو ماضٍ بها إلى أن يكمل الله دينه بما ينزله على رسوله من قرآن، وبما يلهمه إياه من سنة([65])، ويعني الاعتراف لرسول الله بالرسالة والزعامة الدينية والدنيوية والسمع والطاعة له([66]).
(حي على الصلاة، حي على الفلاح) أقبل يا أيها الإنسان للانضواء تحت لواء هذه الدولة التي أخلصت لله، وجعلت من أهدافها تمتين العلاقة بين المسلم وخالقه، وتمتين العلاقة بين المؤمنين على أساس من القيم السامية.
(قد قامت الصلاة) وقد اختيرت الصلاة من بين سائر العبادات؛ لأنها عماد الدين كله؛ ولأنها بما فيها من الشعائر كالركوع والسجود والقيام أعظم مظهر لمظاهر العبادة بمعناها الواسع التي تعني: الخضوع والتذلل والاستكانة، فهي خضوع ليس بعده خضوع، فكل طاعة لله على وجه الخضوع، والتذلل، فهي عبادة، فهي طاعة العبد لسيده، فيقف بين يديه قد أسلم نفسه طاعة وتذللاً قال تعالى: ( قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِن رَّبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ )[غافر:16].
وهذا الارتباط بين شعار الدولة الرسمي بحاكمية الله وسيادة الشرع، وسقوط الطواغيت، وقوانينهم، وأنظمتهم وشرائعهم بـ(حي على الفلاح.. قد قامت الصلاة) يشير إلى أنه لا قيام للصلاة، ولا إقامة لها كما ينبغي إلا في ظل دولة تقوم عليها وتقوم بها
ولها، فقد كان المسلمون يصلون خفية في شعاب مكة قبل قيام دولتهم، أما وقد
قامت تحت حماية سيوف الأنصار، فليجهروا بالأذان، والإقامة، وليركعوا وليسجدوا
لله رب العالمين.
إن الواقع التاريخي خير شاهد على أن الله لا يعبد في الأرض حق عبادته إلا في ظل دولة قوية تحمي رعايها من أعداء الدين.
ثم تتكرر كلمات الأذان (الله أكبر.. الله أكبر) للتأكيد على المعاني السابقة([67]).
إننا بحاجة ماسة لفهم الأذان، وإدراك معانيه والعمل على ترجمته ترجمة عملية، لنجاهد في الله حق جهاده، حتى ندمر شعارات الكفر، ونرفع شعارات الإيمان، ونقيم دولة التوحيد التي تحكم بشرع الله ومنهجه القويم.
6- فضائل المسجد النبوي:
تحدث النبي صلى الله عليه وسلم عن فضائل المسجد النبوي؛ ولذلك تعلق الصحابة به ويمكننا الرجوع إلى صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما؛ للوقوف على هذه الفضائل الميمونة. وسنذكر هنا حديثًا واحدًا لمعناه العميق الذي نحتاجه ونستمسك به وهو عن:
7- فضل التعلم والتعليم في المسجد النبوي:
عن أبي هريرة t أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من دخل مسجدنا هذا ليتعلم خيراً أو يعمله كان كالمجاهد في سبيل الله، ومن دخله لغير ذلك كان كالناظر إلى ما ليس له»([68]).

* * *




([1]) انظر: فقه السيرة للغزالي، ص191، وفقه السيرة للبوطي، ص151.
([2]) مربد، الموضع الذي يجفف فيه التمر، القاموس المحيط (1/304).
([3]) البخاري، كتاب بدء الخلق، باب هجرة النبي وأصحابه (5/78).
([4]) مسلم، كتاب المساجد، باب ابتناء مسجد النبي، رقم 524.
([5]) انظر: البداية والنهاية (3/33) انظر: التاريخ السياسي والعسكري، على معطي، ص156.
([6]) انظر: البداية والنهاية (3/303) محمد رسول الله لمحمد رضا، ص143.
([7]) انظر: التاريخ السياسي والعسكري لدولة المدينة، علي معطي، ص157.
([8]) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة، (2/36).
([9]) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي، (4/13).
([10]) انظر: نور اليقين للخضري، تحقيق أحمد عبد اللطيف، ص 95، تاريخ خلفية بن خياط، ص56، نقلا عن تاريخ دولة الإسلام الأولى، د. فايد حماد عاشور، سليمان أبو عزب، ص108.
([11]) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (2/166، 167) سنن البيهقي (2/524، 525).
([12]) انظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/257)
([13]) انظر: وفاء الوفاء للسمهودي (1/321) (4) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/258).

([15]) انظر: نظام الحكومة النبوية المسمى: التراتيب الإدارية، لعبد الحي الكتاني (1/474).
([16]) الفتاوى (11/38). (7) انظر: فتح الباري (6/595)، (1/535).

([18]) البخاري رقم 6452.
([19]) انظر: السيرة النبوية تربية أمة وبناء دولة للشامي، ص175.
([20]) الفتاوى (11/40،41). (2) انظر: السيرة النبوية تربية أمة وبناء دولة، ص175.

([22]) المسند (5/324).(4) انظر: وفاء الوفاء السمهودي، (1/323).

([24]) سنن أبي داود (2/361).(6) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/258).


([26]، 8، 9) نفس المصدر (1/259).(10) المصدر السابق (1/266).





([30]) البخاري رقم 3581، ومسلم برقم 2057.
([31]) أصل الحديث في البخاري برقم 3113، وهذا لفظ المسند (1/106، مرقم 838).
([32]) سنن أبي داود (2/237) وابن ماجه (2/730).
([33]) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/264).(5) انظر: حلية الأولياء (1/375).


([35]) نفس المصدر (1/353: 355). (7) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/264).

([37]،9) نفس المصدر (1/264).

([39]) البخاري رقم 2047، مسلم رقم 2492. (2) مسلم برقم 2491.

([41]) انظر: السيرة النبوية تربية أمة وبناء دولة، ص184.
([42]) نفس المصدر، ص184.
([43]) انظر: المدينة النبوية فجر الإسلام والعصر الراشدي لشراب (1/222).
([44]) انظر: أبو نعيم الحلية (1/339: 341). (7) نفس المصدر (1/341).

([46]) على سبيل المثال: السيرة النبوية الصحيحة (1/262، 263).
([47]) انظر: السيرة النبوية تربية أمة وبناء دولة، ص186.
([48]) نفس المصدر، ص188. (3) انظر: فقه السيرة للبوطي، ص203، بتصرف.

([50]،5 ،6) محمد رسول الله، محمد عرجون (3/33).


([53]) انظر: محمد رسول الله، محمد عرجون (3/34).
([54]) المصدر السابق، (3/34، 35).
([55])انظر: محمد رسول الله، محمد عرجون (3/36) عَسَوا: أسنُّوا وكبروا.
([56]) محمد رسول الله، (3/33).
([57]) انظر: التاريخ الإسلامي والعسكري، د. علي معطي، ص158.
([58]) انظر: صور من حياة الرسول، أمين دويدار، ص261.
([59]) انظر: التاريخ السياسي والعسكري، د. علي معطي، ص158.
([60]) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (1/496).
([61]) انظر: التربية القيادية (2/249).
([62]) انظر: محمد رسول الله، محمد عرجون (3/15).
([63]) نفس المصدر (3/15).
(1) انظر: التربية القيادية (2/252).

([65]) انظر: قراءة سياسية للسيرة النبوية، محمد قلعجي، ص114.
([66]) انظر: دولة الرسول صلى الله عليه وسلم من التكوين إلى التمكين، كامل سلامة الدقس، ص438.
([67]) انظر: دولة الرسول صلى الله عليه وسلم من التكوين إلى التمكين، ص439.
([68]) انظر: المصنف لأبي شيبة (2/371)، (12/209) رقم 12567، وفي رواية الحاكم قال: (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، فقد احتجا بجميع رواته، ثم لم يخرجاه، ولا أعلم له علة)، وأقره الذهبي. انظر: تلخيص المستدرك (1/91). 272

محمد رافع 52 15-10-2014 10:36 PM

المبحث الثاني


المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار

كان من أولى الدعائم التي اعتمدها الرسول صلى الله عليه وسلم في برنامجه الإصلاحي، والتنظيمي للأمة وللدولة والحكم، الاستمرار في الدعوة إلى التوحيد والمنهج القرآني، وبناء المسجد، وتقرير المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار وهي خطوة لا تقل أهمية عن الخطوة الأولى في بناء المسجد لكي يتلاحم المجتمع المسلم ويتآلف وتتضح معالم تكوينه([1]) الجديد.
كان مبدأ التآخي العام بين المسلمين قائما منذ بداية الدعوة في عهدها المكي،
ونهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن كل ما يؤدي إلى التباغض بين المسلمين فقال صلى الله عليه وسلم: «لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام» ([2]).

وقال صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يُسلمه([3]) ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته([4]) ومن فرج عن مسلم كربة([5]) فرج الله- عز وجل- عنه كربة من كربات يوم القيامة ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة»([6]).
وقد أكد القرآن الكريم الأخوة العامة بين أبناء الأمة في قوله تعالى: ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ
بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ
تَهْتَدُونَ )[آل عمران:103].

وقوله تعالى: ( وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )[الأنفال:63].
أما موضوع هذا البحث فهو المؤاخاة الخاصة التي شرعت وترتبت عليها حقوق وواجبات أخص من الحقوق والواجبات العامة بين المؤمنين كافة([7]).
وقد تحدث بعض العلماء عن وجود مؤاخاة كانت في مكة بين المهاجرين، فقد أشار البلاذري إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين المسلمين في مكة قبل الهجرة على الحق والمواساة، فآخى بين حمزة وزيد بن حارثة، وبين أبي بكر وعمر، وبين عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وبين الزبير بن العوام وعبد الله بن مسعود، وبين عبيدة بن الحارث وبلال الحبشي، وبين مصعب بن عمير وسعد بن أبي وقاص، وبين أبي عبيدة بن الجراح وسالم مولى أبي حذيفة، وبين سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وطلحة بن عبيد الله، وبينه وبين علي بن أبي طالب([8]) ويعتبر البلاذري (ت276هـ) أقدم من أشار إلى المؤاخاة المكية، وقد تابعه في ذلك ابن عبد البر (ت463هـ) دون أن يصرح بالنقل عنه، كما تابعهما ابن سيد الناس دون التصريح بالنقل عن أحدهما([9])، وقد أخرج الحاكم في المستدرك من طريق جميع بن عمير عن ابن عمر: «آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أبي بكر وعمر، وبين طلحة والزبير، وبين عبد الرحمن بن عوف وعثمان»([10]) وعن ابن عباس: «آخى النبي صلى الله عليه وسلم بن الزبير وابن مسعود»([11]).
وذهب كل من ابن القيم وابن كثير إلى عدم وقوع المؤاخاة بمكة، فقال ابن القيم: «وقد قيل إنه- أي النبي صلى الله عليه وسلم- آخى بين المهاجرين بعضهم مع بعض مؤاخاة ثانية، واتخذ فيها عليا أخا لنفسه، والثبت الأول([12])، والمهاجرون كانوا مستغنين بأخوة الإسلام، وأخوة الدار وقرابة النسب، عن عقد مؤاخاة بخلاف المهاجرين مع الأنصار»([13]) أما ابن كثير فقد ذكر أن من العلماء من ينكر هذه المؤاخاة لنفس العلة التي ذكرها ابن القيم([14]).
لم تشر كتب السيرة الأولى المختصة إلى وقوع المؤاخاة بمكة، والبلاذري ساق الخبر بلفظ (قالوا) دون إسناد مما يضعف الرواية، كما أن البلاذري نفسه ضعف النقاد، وعلى فرض صحة هذه المؤاخاة بمكة فإنها تقتصر على المؤازرة والنصيحة بين المتآخين دون أن تترتب عليها حقوق التوارث([15]).

محمد رافع 52 15-10-2014 10:46 PM

أولاً: المؤاخاة في المدينة:
ساهم نظام المؤاخاة في ربط الأمة بعضها ببعض، فقد أقام الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الصلة على أساس الإخاء الكامل بينهم، هذا الإخاء الذي تذوب فيه عصبيات الجاهلية، فلا حمية إلا للإسلام وأن تسقط فوارق النسب واللون والوطن، فلا يتأخر أحد أو يتقدم إلا بمروءته وتقواه.
وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الأخوة عقداً نافذاً لا لفظاً فارغاً، وعملا يرتبط بالدماء والأموال لا تحية تثرثر بها الألسنة ولا يقوم لها أثر.
وكانت عواطف الإيثار والمواساة والمؤانسة تمتزج في هذه الأخوة وتملأ المجتمع الجديد بأروع الأمثال([16]).
والسبب الذي أدى إلى تقوية هذه الأخوة بين المهاجرين والأنصار هو أن أهل هذا المجتمع ممن التقوا على دين الله وحده، نشّأهم دينهم الذي اعتنقوه على أن يقولوا ويفعلوا، وعلّمهم الإيمان والعمل جميعًا، فهم أبعد ما يكونون عن الشعارات التي لا تتجاوز أطراف الألسنة، وكانوا على النحو الذي حكاه الله عنهم في قوله تعالى: ( إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إذا دُعُوا إلى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )[النور:51].
وبذلك الذي درج عليه المسلمون كفل البقاء والاستمرار لهذه الأخوة، التي شد الله بها أزر دينه ورسوله حتى آتت ثمارها في كل أطوار الدعوة طوال حياته صلى الله عليه وسلم، وامتد أثرهاحتى وفاته صلى الله عليه وسلم، وبقيت هذه المؤاخاة عند مبايعة الصديق t ولم يحدث الأنصار صدعًا في شمل الأمة، مستجيبين في ذلك لشهوات السلطة وغريزة السيطرة، ذلك فإن سياسة المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، نوع من السبق السياسي الذي اتبعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في تأصيل المودة وتمكينها في مشاعر المهاجرين والأنصار، الذين سهروا جميعا على رعاية هذه المودة وذلك الإخاء، بل كانوا يتسابقون في تنفيذ بنوده([17]).
ولا سيما الأنصار الذين لا يجد الكتاب والباحثون مهما تساموا إلى ذروة البيان خيرا من حديث الله عنهم([18]) قال تعالى: ( وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )[الحشر:9].
* بعض أسماء المهاجرين والأنصار ممن تآخوا في الله:
أبو بكر الصديق t وخارجة بن زهير، عمر بن الخطاب وعتبان بن مالك، أبو عبيدة بن الجراح وسعد بن معاذ، عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع، الزبير بن العوام وسلامة بن سلامة بن وقش، طلحة بن عبيد الله وكعب بن مالك، سعيد بن زيد وأبي بن كعب، مصعب بن عمير وأبو أيوب خالد بن زيد، أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة وعباد بن بشر بن وقش، عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان، أبو ذر الغفاري والمنذر بن عمرو، حاطب بن أبي بلتعة وعويم بن ساعدة، سلمان الفارسي وأبو الدرداء، بلال مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو رويحة عبد الله بن عبد الرحمن الخثعمي([19]).
ثانيًا: الدروس والعبر والفوائد:
1- آصرة العقيدة هي أساس الارتباط:
إن المجتمع المدني الذي أقامه الإسلام كان مجتمعاً عقديُّا يرتبط بالإسلام ولا يعرف الموالاة إلا لله ولرسوله وللمؤمنين، وهو أعلى أنواع الارتباط وأرقاه، إذ يتصل بوحدة العقيدة والفكر والروح([20]).
إن الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين من أهم الآثار والنتائج المترتبة على الهجرة، وكان القرآن الكريم يربي المسلمين على هذه المعاني الرفيعة، فقد بين الحق سبحانه وتعالى أن ابن نوح وإن كان من أهله باعتبار القرابة لكنه لم يعد من أهله لما فارق الحق وكفر بالله ولم يتبع نبي الله. قال تعالى:
( وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ` قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ )[هود:45،46].
وقد حصر الإسلام الأخوة والموالاة بين المؤمنين فقط قال تعالى: ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ )[الحجرات:10].
وقطع الولاية بين المؤمنين والكافرين من المشركين واليهود والنصارى، حتى لو كانوا آباءهم أو إخوانهم أو أبناءهم، ووصف من يفعل ذلك من المؤمنين بالظلم، مما يدل


على أن موالاة المؤمنين للكافرين، من أعظم الذنوب قال تعالى: (
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لاَ تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ )[التوبة:23].
فإذا كان الله سبحانه يحذر المؤمنين في الآيات السابقة من موالاة الكفار عامة، فهناك آيات كثيرة وردت في تحذير المؤمنين ونهيهم عن طاعة أهل الكتاب خاصة، أو اتخاذهم أولياء، أو الركون إليهم([21]).
قال تعالى: ( وَلَنْ تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ
هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ
نَصِيرٍ )[البقرة:120].
وقال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ )[آل عمران:100].
وقال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ )[المائدة:51].
وحدد المولى عز وجل للذين آمنوا جهة الولاء الوحيدة التي تتفق مع صفة
الإيمان وبين لهم من يتولون قال تعالى: (


إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ` وَمَن يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ )[المائدة:55-56].
فقد فهم الصحابة أن ولاءهم لا يكون إلا لقيادتهم، وإخلاصهم لا يكون إلا لعقيدتهم، وجهادهم لا يكون إلا لإعلاء كلمة الله، فحققوا ذلك كله في أنفسهم وطبقوه على حياتهم فمحضوا ولاءهم وجعلوه لله ورسوله والمؤمنين، وأصبح تاريخهم حافلاً بالمواقف الرائعة التي تدل على فهمهم العميق لمعنى الولاء الذي منحوه لخالقهم ولدينهم وعقيدتهم وإخوانهم.
إن التآخي الذي تم بين المهاجرين والأنصار كان مسبوقاً بعقيدة تم اللقاء عليها، والإيمان بها، فالتآخي بين شخصين يؤمن كل منهما بفكرة أو عقيدة مخالفة للأخرى خرافة ووهم، خصوصاً إذا كانت تلك الفكرة أو العقيدة مما يحمل صاحبها على سلوك معين في الحياة العملية، ولذلك كانت العقيدة الإسلامية التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى هي العمود الفقري للمؤاخاة التي حدثت، لأن تلك العقيدة تضع الناس كلهم في مصاف العبودية الخالصة لله دون الاعتبار لأي فارق إلا فارق التقوى والعمل الصالح، إذ ليس من المتوقع أن يسود الإخاء، والتعاون والإيثار بين أناس فرقتهم العقائد والأفكار المختلفة، فأصبح كل منهم ملكا لأنانيته وأثرته وأهوائه([22]).
2- الحب في الله أساس بنية المجتمع المدني:
إن المؤاخاة على الحب في الله من أقوى الدعائم في بناء الأمة المسلمة، فإذا وهت يتآكل كل بنيانها([23]) ولذلك حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تعميق معاني الحب في الله في المجتمع المسلم الجديد فقد قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي»([24]).
وكان للحب في الله أثره في المجتمع المدني الجديد، فعن أنس بن مالك t قال: (كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة نخلاً، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، فلما نزلت: ( لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ )[آل عمران:92] قام أبو طلحة فقال: يا رسول الله، إن الله يقول: ( لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ) وإن أحب أموالي إلي (بيرحاء) وإنها صدقة لله أرجو برها، وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، وقد سمعتُ ما قلتَ وإني أرى أن تجعلها في الأقربين» فقال أبو طلحة، أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه
وبني عمه([25]).

وهذا عبد الرحمن بن عوف t يحدثنا عن هذه المعاني الرفيعة حيث قال: لما قدمنا المدينة آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبين سعد بن الربيع، فقال سعد بن الربيع: إني أكثر الأنصار مالاً فأقسم لك نصف مالي، وانظر أي زوجتي هويت نزلت لك عنها، فإذا حلت([26]) تزوجتها، قال: فقال عبد الرحمن: لا حاجة لي في ذلك، هل من سوق فيه تجارة؟ قال: سوق قينقاع([27]) فغدا إليه عبد الرحمن فأتى بأقط وسمن قال: ثم تابع الغدو([28]) فما لبث أن جاء عبد الرحمن عليه أثر صفرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم«تزوجت» قال: نعم، قال: «ومن؟» قال: امرأة من الأنصار، قال: «كم سقت؟» قال زنة نواة من ذهب، أو نواة من ذهب فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أولم ولو بشاة» ([29]) ونلاحظ أن كرم سعد بن الربيع قابله عفة وكرم نفس من عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم، ولم يكن مسلك عبد الرحمن بن عوف خاصًّا به، بل إن الكثير من المهاجرين كان مكوثهم يسيراً في بيوت إخوانهم من الأنصار ثم باشروا العمل والكسب واشتروا بيوتاً لأنفسهم وتكفلوا بنفقة أنفسهم، ومن هؤلاء أبو بكر وعمر وعثمان وغيرهم رضي الله عنهم.
3- النصيحة بين المتآخين في الله:
فقد كان للمؤاخاة أثر في المناصحة بين المسلمين فقد آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذلة، فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاماً، فقال له: كل، فإني صائم قال: ما أنا بآكل حتى تأكل قال: فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، قال: نم، فنام، ثم ذهب يقوم، فقال: نم، فلما كان آخر الليل، قال سلمان: قم الآن، فصليا، فقال سلمان: إن لربك عليك حقاَّ، ولنفسك عليك حقاًّ، ولأهلك عليك حقاًّ، فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «صدق سلمان»([30]).
4- لا ما أثنيتم عليهم ودعوتم الله لهم:
كان الأنصار قد واسوا إخوانهم المهاجرين بأنفسهم وزادوا على ذلك بأن آثروهم على أنفسهم بخير الدنيا، فعن أبي هريرة t قال: (قالت الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم أقسم بيننا وبين إخواننا النخيل، قال: «لا» فقالوا: تكفوننا المؤونة ونشرككم في الثمرة، قالوا: سمعنا وأطعنا)([31]).
فهذا الحديث يفيد أن الأنصار عرضوا على النبي صلى الله عليه وسلم أن يتولى قسمة أموالهم بينهم وبين إخوانهم المهاجرين، وقد كانت أموالهم هي النخيل، فأبى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم وأراد أمرا تكون فيه المواساة من غير إجحاف بالأنصار، بزوال ملكية أموالهم منهم، فقال الأنصار للمهاجرين: تكفوننا المؤونة- أي العمل في النخيل من سقيها وإصلاحها- ونشرككم في الثمرة، فلما قالوا ذلك رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذا الرأي ضمن سد حاجة المهاجرينن مع الإرفاق بالأنصار فأقرهم على ذلك فقالوا جميعا: سمعنا وأطعنا([32]).
وقد قام الأنصار بالمؤونة وأشركوا المهاجرين في الثمرة، ولعل المهاجرين كانوا يساعدونهم في العمل، ولكن أكثر العمل عند الأنصار، وقد شكر المهاجرون للأنصار فعلهم ومواقفهم الرفيعة في الإيثار والكرم، وقالوا: يا رسول الله ما رأينا مثل قوم قدمنا
عليهم أحسن مواساة في قليل ولا أحسن بذلاً في كثير، ولقد كفونا المؤونة وأشركونا في
المهنأ ([33]) حتى لقد حسبنا أن يذهبوا بالأجر كله، قال: «لا، ما أثنيتم عليهم ودعوتم الله عز وجل لهم» ([34]).

وفي إشارة المهاجرين إلى الأجر الأخروي بيان لعمق تصورهم للحياة الآخرة، وهيمنة هذا التصور على تفكيرهم([35]).
وقد أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكافئ الأنصار على تلك المكارم العظيمة التي قدموها لإخوانهم المهاجرين، فعن أنس بن مالك t قال: دعا النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار إلى أن يقطع لهم البحرين، فقالوا: لا، إلا أن تقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها، قال: «إمَّا لا، فاصبروا حتى تلقوني فإنه سيصيبكم بعدي أثرة» ([36]).
لقد حققت المؤاخاة أهدافها، فمنها إذهاب وحشة الغربة للمهاجرين ومؤانستهم عن مفارقة الأهل والعشيرة، وشد أزر بعضهم بعضاً، ومنها نهوض الدولة الجديدة، لأن أي دولة لا يمكن أن تنهض وتقوم إلا على أساس من وحدة الأمة وتساندها، ولا يمكن لكل من الوحدة والتساند أن يتم بغير عامل التآخي والمحبة المتبادلة، فكل جماعة، لا تؤلف بينها آصرة المودة والتآخي الحقيقية، لا يمكن أن تتحد حول مبدأ ما، وما لم يكن الاتحاد حقيقة قائمة في الأمة أو الجماعة فلا يمكن أن تتألف منها دولة([37]).
5- الإرث بالمؤاخاة:
لم يعرف تاريخ البشر كله حادثاً جماعياًّ كحادث استقبال الأنصار للمهاجرين بهذا الحب الكريم وبهذا البذل السخي، وبهذه المشاركة الفعالة وبهذا التسابق إلى الإيواء واحتمال الأعباء، فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الأخوة مسئولية حقيقة تشيع بين هؤلاء الإخوة «جعل الله سبحانه وتعالى حق الميراث منوطاً بهذا التآخي، دون حقوق القرابة والرحَم فقد كان من حكمة التشريع أن تتجلى الأخوة الإسلامية حقيقة محسوسة في أذهان المسلمين وأن يعلموا أن ما بين المسلمين من التآخي والتحابب ليس شعارا وكلاما مجردين»، والفترة الأولى من الهجرة وضعت كلاًّ من الأنصار والمهاجرين أمام مسئولية خاصة من التعاون والتناصر والمؤانسة، بسبب مفارقة المهاجرين لأهلهم، وتركهم ديارهم وأموالهم في مكة ونزولهم ضيوفاً على إخوانهم الأنصار في المدينة، فكان من إقامة الرسول صلى الله عليه وسلم من التآخي بين أفراد المهاجرين والأنصار ضمانة لتحقيق هذه المسئولية، ولقد كان من مقتضى هذه المسئولية أن يكون هذا التآخي أقوى في حقيقته وأثره من أُخوة الرحم المجردة، فلما استقر أمر المهاجرين في المدينة وتمكن الإسلام فيها، غدت الروح الإسلامية هي وحدها العصب الطبيعي للمجتمع الجديد في المدينة([38]).
فلما ألف المهاجرون جو المدينة وعرفوا مسالك الرزق فيها، وأصابوا من غنائم بدر الكبرى بما كفاهم، رجع التوارث إلى وضعه الطبيعي المنسجم مع الفطرة البشرية على أساس صلة الرحم، وأبطل التوارث بين المتآخين، وذلك بنص القرآن الكريم فقال تعالى: ( وَالَّذِينَ آمَنُوا مِن بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ )[الأنفال:75].
فهذه الآية نسخت التوارث بموجب نظام المؤاخاة([39]) وبقيت النصرة والرفادة والنصيحة بين المتآخين([40]) فقد بين حبر الأمة ابن عباس ذلك عند قوله تعالى: ( وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا )[النساء:33] أنه قال: ( وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ ) قال: ورثة (والذين عاقدت إيمانكم) كان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجر الأنصاري دون ذوي رحمه، للأخوة التي آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم، فلما نزلت ( وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ ) نسخت، ثم قال: ( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ )([41]) من النصر والرفادة والنصيحة وقد ذهب الميراث ويوصي له([42]).
6- قيم إنسانية ومبادئ مثالية:
من خلال الروابط الوثيقة التي ألفت بين المهاجرين والأنصار أُرسيت قيم إنسانية واجتماعية ومبادئ مثالية لا عهد للمجتمع القبلي بها، وإنما هي من شأن المجتمعات المتحضرة الفاضلة.
7- تذويب الفوارق الإقليمية والقبلية:
إن القضاء على الفوارق الإقليمية والقبلية ليست بالأمر الهين في المجتمعات الجاهلية، حيث العصبية هي الدين عندهم، وعملية المؤاخاة تهدف إلى إذابة هذه الفوارق بصورة واقعية منطلقة من قلب البيئة الجاهلية.
إن من الأمراض في الصف الإسلامي المعاصر سيطرة الروح الإقليمية والعصبية في نفوس بعض الدعاة وهذه الأمراض تحيل بينهم وبين التمكين وتضعف الصفوف بل تشتتها وينشغل الصف بنفسه عن أهدافه الكبار، وقد تولد هذا عن أمراض في نفوس بعض الأفراد بسبب بعدهم عن القرآن الكريم، وسنة سيد المرسلين، فلم يتربوا عليها ولذلك كثر التناحر والتباغض.
إن المسلمين اليوم بأشد الحاجة إلى مثل هذه المؤاخاة التي حدثت بين المهاجرين والأنصار؛ لأنه يستحيل أن تستأنف حياة إسلامية عزيزة قوية إذ لم تتخلق المجتمعات الإسلامية بهذه الأخلاق الكريمة، وترتقي إلى هذا المستوى الإيماني الرفيع وإلى هذه التضحيات الكبيرة.
8- المؤاخاة بين المسلمين من أسباب التمكين المعنوية:
إن من أسباب التمكين المعنوية العمل على تربية الأفراد تربية ربانية، وإعداد القيادة الربانية، ومحاربة أسباب الفُرقة، والأخذ بأصول الوحدة والاتحاد([43]).
وأهم أصول الوحدة والاتحاد، وحدة العقيدة، صدق الانتماء إلى الإسلام طلب الحق والتحري في ذلك وتحقيق الأخوة بين أفراد المسلمين.
قال تعالى: ( وَإِن يُّرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ` وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )[الأنفال:62-63].
وقال تعالى: ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ )[الحجرات:10].
ولا يذوق حلاوة الإيمان إلا من أشرب هذه الأخوة، قال صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من كُنَّ فيه وجد حلاة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر، كما يكره أن يقذف في النار»([44]).
إن الأخوة في الله من أهم الأسباب التي تعمل على الصمود في وجه أعتى المحن التي تنزل بالمسلمين، كما أن الفهم المتبادل والكامل للأخوة في الله، من أسباب تماسك صفوف المسلمين وقوتهم، ومن أسباب شموخهم والتمكين لهم([45]).
9- من فضائل الأنصار:
أ- تسمية الله لهم «الأنصار»:
سماهم الله ورسوله بهذا الاسم حين بايعوا على الإسلام، وقاموا بإيواء المؤمنين ونصرة دين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ولم يكونوا معروفين بذلك من قبل([46]) فعن غيلان بن جرير رحمه الله قال: قلت لأنس: أرأيت اسم (الأنصار) كنتم تسمون به، أم سماكم الله؟ قال: سمانا الله([47]) عز وجل.
أما مناقبهم وفضائلهم فكثيرة لا تحصى، منها مناقب عامة لجميع الأنصار، ومناقب خاصة بأفراد من الأنصار، أما المناقب العامة الواردة في القرآن الكريم ما يلي:
* فقد وصفهم المولى عز وجل بأنهم من المؤمنين حقا، فقال تعالى: ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آَوَوا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ )[الأنفال:74].
* وبشرهم ربهم برضاه عنهم، وامتدح رضاءهم عنه، فقال تعالى: ( وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ )[التوبة:100].
* ووصفهم المولى عز وجل بالفلاح قال تعالى: ( وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )[الحشر:9].
وأما الأحاديث التي تحدثت عن مآثر الأنصار فمنها:
- حب النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار:
عن أنس t قال: رأى النبي صلى الله عليه وسلم النساء والصبيان مقبلين- قال: حسبت أنه قال: من عرس- فقام النبي صلى الله عليه وسلم مُمْثِلا ً([48]) فقال: «اللهم أنتم من أحب الناس إلي» قالها ثلاث([49])مِرار.
ب- حب الأنصار علامة الإيمان وبغضهم علامة النفاق:
عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله»([50]).
جـ- الشهادة لهم بالعفاف والصبر:
العفة والصبر شيمتان كريمتان تدلان على أصالة معدن المتخلق بهما، وتمام مروءته، وكمال رجولته وفتوته، وقد شهد النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار بهما، وما أعظمها شهادة وما أعظمه من شاهد([51]) فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما يضر امرأة نزلت بين بيتين من الأنصار أو نزلت بين أبويها»([52]).
د- رغبة النبي صلى الله عليه وسلم في الانتساب إليهم لولا الهجرة:
عن أبي هريرة t عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن الأنصار سلكوا واديًا أو شِعْباً لسلكت في وادي الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار»([53]).
هـ - دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بالمغفرة لهم ولأبنائهم وأزواجهم ولذراريهم:
لا شك أن دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم مستجاب، فقد فاز الأنصار بهذا الفضل فعن زيد بن أرقم t أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم اغفر للأنصار، ولأبناء الأنصار، ولأبناء أبناء الأنصار، ولنساء الأنصار»([54]).
و- وصية النبي صلى الله عليه وسلم بالإحسان إليهم وعدم إفزاعهم:
كان جهاد الأنصار في سبيل الدين عظيماً، وكان فضلهم في نشره والدفاع عنه بليغاً، إذ لم يمنعهم من الخفة إلى الخروج في سبيل الله عسر ولا يسر، وحفظ الله لهم ذلك في قوله تعالى: ( لَقَد تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ )[التوبة:117].
ومن ثم كانت وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأنصار والإحسان إلى محسنهم، والتجاوز عن مسيئهم، وكان ترهيبه صلى الله عليه وسلم من ترويعهم وتفزيعهم، وكانت توصيته بالأنصار خيراً([55]) فعن أنس t، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الأنصار كرشي وعيبتي([56]) وإن الناس سيكثرون ويقلون([57])، فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزا عن مسيئهم»([58]).
وعنه أيضاً قال: خرج نبي الله صلى الله عليه وسلم فتلقته الأنصار بينهم، فقال: «والذي نفس محمد بيده إني لأحبكم، وإن الأنصار قد قضوا ما عليهم، وبقي الذي عليكم([59])، فأحسنوا إلى محسنهم، وتجاوزا عن مسيئهم» ([60]) وعن أبي قتادة t قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر للأنصار: «... فمن ولي الأنصار فليحسن إلى محسنهم، وليتجاوز عن مسيئهم، ومن أفزعهم فقد أفزع هذا الذي بين هاتين» وأشار إلى نفسه([61]).

* * *






([1]) انظر: الإدارة الإسلامية في عصر عمر بن الخطاب، د. مجدلاوي، ص52، 53.
([2]) البخاري، رقم 6065، مسلم رقم 24.
([3]) أي لا يتركه مع من يؤذيه، ولا فيما يؤذيه، بل ينصره ويدفع عنه.
([4]) مسند أحمد رقم 7929. (5) كربة: أي غمة.


([6]) البخاري، رقم 2442.
([7]) انظر:/ السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/240).
([8]) البلاذري: أنساب الأشراف (1/270). (2) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/240).

([10]) نفس المصدر (1/240). (4) فتح الباري (7/304)


([12]) يعني المؤاخاة في المدينة. (6) زاد المعاد (2/79).


([14]) انظر: السيرة النبوية لابن كثير. (8) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/241).

([16]) انظر: فقه السيرة للغزالي ص 193، 194.
([17]) انظر: فصول في السيرة النبوية، د. عبد المنعم السيد، ص200.
([18]) انظر: هجرة الرسول وصحابته في القرآن السنة للجمل، ص245.
([19]) انظر: ابن هشام (2/109: 111) السيرة النبوية لابن كثير (2/324).
([20]) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/252)
([21]) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، أحزمي جزولي، ص417.
([22]) انظر: فقه السيرة للبوطي، ص156. (2) انظر: محمد رسول الله، عرجون (3/129).

([24]) مسلم، كتاب البر والصلة والآداب رقم الحديث 2566.
([25]) انظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/254)
([26]) نزلت لك عنها: أي طلقتها لأجلك، فإذا حلت: أي انقضت عدتها.
([27]) قينقاع قبيلة من اليهود نسب السوق إليهم.
([28]) تابع الغدو: أي دوام الذهاب إلى السوق للتجارة.
([29]) البخاري، كتاب البيوع، رقم 2048.
([30]) صحيح البخاري، كتاب الصوم، رقم 1968 (4/209).
([31]) صحيح البخاري، المزارعة رقم 2325. (3) انظر: التاريخ الإسلامي (4/30).

([33]) يعني كفونا العمل وأشركونا في الثمرة.
([34]) مسند أحمد (3/200، 201) ابن أبي شيبة (9/68) رقم 6561.
([35]) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (4/406). (2) صحيح البخاري، مناقب الأنصار رقم 3794.

([37]) في ظلال القرآن (6/3526) (4) انظر: فقه السيرة للبوطي، ص211، 212.

([39]) انظر: السيرة النبوية الصحيحة، (1/246). (2) انظر: التاريخ الإسلامي (4/25).

([41]) هذه الجملة من رواية الطبري بنفس إسناد البخاري (فتح الباري 8/249).
([42]) صحيح البخاري، كتاب التفسير رقم 4580.
([43]) انظر: فقه التمكين في القرآن الكريم للصلابي، ص253.
([44]) انظر: البخاري، كتاب الإيمان، باب حلاوة الإيمان (1/11).
([45]) انظر: نظرات في رسالة التعاليم، محمد عبد الله الخطيب، محمد عبد الحليم حامد 262، بتصرف.
([46]) انظر: الهجرة النبوية المباركة، عبد الرحمن البر، ص131: 135.
([47]) البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب مناقب الأنصار، رقم 3776.
([48]) مُمْثِلاً: يعني انتصب قائمًا. (3) البخاري، كتاب مناقب الأنصار، رقم 3785.


([50]) البخاري، كتاب مناقب الأنصار، رقم 3783.
([51]) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص142.
([52]) رواه أحمد (6/257) مجمع الزوائد (10/40) الحاكم (4/83).
([53]) البخاري، مناقب الأنصار (6/112) رقم 3779.
([54]) البخاري، كتاب التفسير، سورة المنافقين، رقم 4906.
([55]) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص150.
([56]) الكرش، كالكتف، والعيبة – بفتح المهملة وسكون المثناة بعدها موحدة معناها ما يحرز الرجل فيها ويحفظ نفيس ما عنده من المتاع، والعيبة من الرجل: موضع سره وأمانته، انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص150.
([57]) قال ابن حجر: (أي أن الأنصار يقلون، وفيه إشارة إلى دخول قبائل العرب والعجم في الإسلام، وهم أضعاف أضعاف قبيلة الأنصار، فمهما فرض من الأنصار من الكثرة كالتناسل فرض في كل طائفة من أولئك، فهم أبداً بالنسبة إلى غيرهم قليل. ويحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم اطلع على أنهم يقلون مطلقاً فأخبر بذلك، فكان كم أخبر، لأن الموجودين الآن من ذرية علي بن أبي طالب ممن يتحقق نسبه إليه أضعاف من يوجد من قبليتي الأوس والخزرج ممن يتحقق نسبه وقس على ذلك ولا التفات إلى كثرة من يدعي أنه منهم بغير برهان) (فتح الباري7/122)
([58]) البخاري، كتاب مناقب الأنصار، رقم 3801.
([59]) قضوا الذي عليهم، يشير إلى ما وقع لهم ليلة العقبة من المبايعة فإنهم بايعوا على أن يؤوا النبي صلى الله عليه وسلم وينصروه على ان لهم الجنة، فوفوا بذلك (فتح الباري 7/122).
([60]) مسند الإمام أحمد (3/187).
([61]) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص151.

محمد رافع 52 15-10-2014 10:52 PM

المبحث الثالث


الوثيقة أو الصحيفة

نظم النبي العلاقات بين سكان المدينة، وكتب في ذلك كتاباً أوردته المصادر التاريخية واستهدف هذا الكتاب أو الصحيفة توضيح التزامات جميع الأطراف داخل المدينة، وتحديد الحقوق والواجبات، وقد سميت في المصادر القديمة بالكتاب والصحيفة، وأطلقت الأبحاث الحديثة عليها لفظ (الدستور).
ولقد تعرض الدكتور أكرم ضياء العمري في كتابه السيرة النبوية الصحيحة لدراسة طرق ورود الوثيقة، وقال: «ترقى بمجموعها إلى مرتبة الأحاديث الصحيحة»([1]) وبين أن أسلوب الوثيقة ينم عن أصالتها «فنصوصها مكونة من كلمات وتعابير كانت مألوفة في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم» ثم قل استعمالها فيما بعد حتى أصبحت معلقة على غير المتعمقين في دراسة تلك الفترة، وليس في هذه الوثيقة نصوص تمدح أو تقدح فرداً أو جماعة، أو تخص أحداً بالإطراء أو الذم؛ لذلك يمكن القول بأنها وثيقة أصلية وغير مزورة»([2]) ثم إن التشابه الكبير بين أسلوب الوثيقة وأساليب كتب النبي صلى الله عليه وسلم يعطيها توثيقاً آخر.
أولاً: كتابه صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار واليهود:
نص الوثيقة([3]):
1- هذا كتاب من محمد النبي (رسول الله) بين المؤمنين والمسلمين من قريش (وأهل يثرب)، ومن تبعهم فَلَحق بهم وجاهد معهم.
2- إنهم أمة واحدة من دون الناس.
3- المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
4- وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
5- وبنو الحارث (بن الخزرج) على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
6- وبنو ساعدة على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف، والقسط بين المؤمنين.
7- وبنو جُشَم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف، والقسط بين المؤمنين.
8- وبنو النجار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف، والقسط بين المؤمنين.
9- وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف، والقسط بين المؤمنين.
10- بنو النبيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف، والقسط بين المؤمنين.
11- وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف، والقسط بين المؤمنين.
12- وإن المؤمنين لا يتركون مُفْرَحا بينهم أن يعطوه بالمعروف من فداء أو عقل، أن لا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه.
13- وإن المؤمنين المتقين (أيديهم) على (كل) من بغى منهم أو ابتغى دسيعة ظلم أو إثماً أو عدواناً أو فساداً بين المؤمنين، وإن أيديهم عليه جميعاً، ولو كان ولد أحدهم.
14- ولا ي*** مؤمن مؤمناً في كافر، ولا ينصر كافراً على مؤمن.
15- وإن ذمة الله واحدة، يجير عليهم أدناهم، وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس.
16- وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين ولا متناصر عليهم.
17- وإن سلم المؤمنين واحدة لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله، إلا على سواء وعدل بينهم.
18- وإن كل غازية غزت يعقب على بعضها بعضا.
19- وإن المؤمنين يبيء([4]) بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل الله.
20- وإن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه، وإنه لا يجير مشرك مالاً لقريش، ولا نفساً ولا يحول دون على مؤمن.
21- وإنه من اعتبط([5]) مؤمناً ***اً عن بينة فإنه قود به إلا أن يرضى ولي المقتول (بالعقل)، وإن المؤمنين عليه كافة، ولا يحل لهم إلا قيام عليه.
22- وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما في الصحيفة، وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثاً أو يُؤويه، وإن من نصره أو آواه، فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل.
23- وإنه مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله وإلى محمد صلى الله عليه وسلم.
24- وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.

محمد رافع 52 15-10-2014 10:54 PM

25- وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، ومواليهم وأنفسهم إلا من ظلم نفسه وأَثِم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته.
26- إن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف.
27- وإن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف.
28- وإن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف.
29- وإن ليهود بن جُشَم مثل ما ليهود بني عوف.
30- وإن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف.
31- وإن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يتوتغ إلا نفسه وأهل بيته.
32- وإن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم.
33- وإن لبني الشُّطَيبة مثل ما ليهود بني عوف وإن البر دون الإثم.
34- وإن موالي ثعلبة كأنفسهم.
35- وإن بطانة يهود كأنفسهم.
36- وإنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد صلى الله عليه وسلم.
37- وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم.
38- وإنه لا يأثم امرؤ بحليفه وإن النصر للمظلوم.
39- وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.
40- وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة.
41- وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم.
42- وإنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها.
43- وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مردَّه إلى الله، وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره.
44- وإن بينهم النصر على من دهم يثرب.
[وإنه لا تجار قريش ولا من نصرها]([6]).
45- أ- وإذا دعوا إلى الصلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه أو يلبسونه، وإنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإن لهم على المؤمنين إلا من حارب في الدين.
ب-على كل أناس حقهم من جانبهم الذى قبلهم.
46- وإن يهود الأوس، مواليهم وأنفسهم، على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة، وإن البر دون الإثم، لا يكسب كاسبَُ إلا على نفسه، وإن الله على ما أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره.
47- وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم، إنه من خرج آمن ومن قعد
آمن بالمدينة، إلا من ظلم وأثم، وأن الله جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول
الله صلى الله عليه وسلم([7]).

محمد رافع 52 15-10-2014 11:02 PM

ثانياً: دروس وعبر وفوائد من الوثيقة:
1- تحديد مفهوم الأمة:
تضمنت الصحيفة مبادئ عامة، درجت دساتير الدول الحديثة على وضعها فيها، وفي طليعة هذه المبادئ تحديد مفهوم الأمة، فالأمة في الصحيفة تضم المسلمين جميعا مهاجريهم وأنصارهم ومن تبعهم، ممن لحق بهم وجاهد معهم أمة واحدة، من دون الناس([8]) وهذا شيء جديد كل الجدّه في تاريخ الحياة السياسية في جزيرة العرب، إذ نقل الرسول صلى الله عليه وسلم قومه من شعار القبلية، والتبعية لها إلى شعار الأمة، التي تضم كل من اعتنق الدين الجديد، فلقد قالت الصحيفة عنهم «أمة واحدة» (المادة21) وقد جاء به القرآن الكريم قال تعالى ( إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ )[الأنبياء:92].
وبين سبحانه وتعالى وسطية هذه الأمة في قوله تعالى: ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ )[البقرة:143]. ووضح سبحانه وتعالى أنها بكونها أمة إيجابية فهي لا تقف موقف المتفرج من قضايا عصرها، بل تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتدعوا إلى الفضائل، وتحذر من الرذائل([9])، قال تعالى: ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ )[آل عمران:110].
وبهذا الاسم الذي أطلق على جماعة من المسلمين والمؤمنين ومن تبعهم من أهل يثرب، اندمج المسلمون على اختلاف قبائلهم في هذه الجماعة التي ترتبط بينها برابطة الإسلام، فهم يتكافلون فيما بينهم، وهم ينصرون المظلوم على الظالم، وهم يرعون حقوق القرابة، والمحبة، والجوار([10]) لقد انصهرت طائفتا الأوس والخزرج في جماعة الأنصار، ثم انصهر الأنصار والمهاجرون في جماعة المسلمين، وأصبحوا أمة واحدة([11]) تربط أفرادها رابطة العقيدة وليس الدم، فيتحد شعورهم وتتحد أفكارهم وتتحد قبلتهم ووجهتهم، وولاؤهم لله وليس للقبيلة، واحتكامهم للشرع وليس للعرف، وهم يتمايزون بذلك كله على بقية الناس «من دون الناس» فهذه الروابط تقتصر على المسلمين ولا تشمل غيرهم من اليهود والحلفاء.
ولا شك أن تمييز الجماعة الدينية كان أمراً مقصوداً يستهدف زيادة تماسكها، واعتزازها بذاتها([12]) يتضح ذلك في تمييزها بالقبلة واتجاهها إلى الكعبة بعد أن اتجهت ستة عشر أو سبعة عشر شهراً إلى بيت المقدس([13]).
وقد مضى النبي صلى الله عليه وسلم يميز أتباعه عمن سواهم في أمور كثيرة، ويوضح لهم أنه يقصد بذلك مخالفة اليهود، من ذلك: أن اليهود لا يصلون بالخفاف فأذن النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه أن يصلوا بالخف، واليهود لا تصبغ الشيب فصبغ المسلمون شيب رؤوسهم بالحناء والكتم، واليهود تصوم عاشوراء والنبي صلى الله عليه وسلم يصومه أيضاً ثم اعتزم أواخر حياته أن يصوم تاسوعاء معه مخالفة لهم([14]). ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم وضع للمسلمين مبدأ مخالفة غيرهم والتميز عليهم فقال: «من تشبه بقوم فهو منهم» ([15]) وقال: «لا تشبهوا باليهود» ([16]) والأحاديث في ذلك كثيرة وهي تفيد معنى تميز المسلمين واستعلائهم على غيرهم، ولا شك أن التشبه والمحاكاة للآخرين يتنافى مع الاعتزاز بالذات والاستعلاء على الكفار، ولكن هذا التميز والاستعلاء لا يشكل حاجزًا بين المسلمين وغيرهم، فكيان الجماعة الإسلامية مفتوح وقابل للتوسع ويستطيع الانضمام إليه من يؤمن بعقيدته([17]).
واعتبرت الصحيفة اليهود جزءا من مواطني الدولة الإسلامية، وعنصراً من عناصرها ولذلك قيل في الصحيفة: «وأن من تبعنا من يهود، فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين، ولا متناصر عليهم» (المادة 16) ثم زاد هذا الحكم إيضاحا في المادة (25) وما يليها، حيث نص فيها صراحة بقوله: (وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين...).
وبهذا نرى أن الإسلام قد اعتبر أهل الكتاب الذين يعيشون في أرجائه مواطنين، وأنهم أمة مع المؤمنين، ما داموا قائمين بالواجبات المترتبة عليهم، فاختلاف الدين ليس-بمقتضى أحكام الصحيفة- سبباً للحرمات من مبدأ (المواطنة)([18]).
2- المرجعية العليا لله ورسوله:
جعلت الصحيفة الفصل في كل الأمور بالمدينة يعود إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فقد نصت على مرجع فض الخلاف في المادة (23)، وقد جاء فيها: «وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء، فإن مرده إلى الله وإلى محمد صلى الله عليه وسلم» والمغزى من ذلك واضح وهو تأكيد سلطة عليا دينية تهيمن على المدينة وتفصل في الخلافات منعاً لقيام اضطرابات في الداخل من جراء تعدد السلطات، وفي نفس الوقت تأكيد ضمني برئاسة الرسول صلى الله عليه وسلم على الدولة([19]) فقد حددت الصحيفة مصدر السلطات الثلاث؛ التشريعية، والقضائية، والتنفيذية، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصاً على تنفيذ أوامر الله من خلال دولته الجديدة، لأن تحقيق الحاكمية لله على الأمة هو محض العبودية لله تعالى؛ لأنه بذلك يتحقق التوحيد ويقوم الدين قال تعالى: ( مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ )[يوسف:40].
يعني: «ما الحكم الحق في الربوبية والعقائد والعبادات، والمعاملات إلا لله وحده، يوحيه لمن اصطفاه من رسله، لا يمكن لبشر أن يحكم فيه برأيه وهواه، ولا بعقله واستدلاله، ولا باجتهاده واستحسانه، فهذه القاعدة هي أساس دين الله تعالى على ألسنة جميع رسله لا تختلف باختلاف الأزمة والأمكنة»([20]).
لقد نزل القرآن الكريم من أجل تحقيق العبودية والحاكمية لله تعالى، قال تعالى: ( إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ` أَلاَ للهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إلى اللهِ زُلْفَى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ )[الزمر:2،3]. وقال تعالى: ( إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا )[النساء:105] فكما أن تحقيق العبودية غاية من إنزال الكتاب، فكذلك تطبيق الحاكمية غاية من إنزاله، وكما أن العبادة لا تكون إلا عن وحي منزل، فكذلك لا ينبغي أن يحكم إلا بشرع منزل، أو بماله أصل في شرع منزل([21]).
إن تحقيق الحاكمية تمكين للعبودية، وقيام بالغاية التي من أجلها خلق الإنسان والجان، قال تعالى: ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ )[الذاريات:56].
وقد اعترف اليهود في هذه الصحيفة بوجود سلطة قضائية عليا، يرجع إليها سكان المدينة بمن فيهم اليهود بموجب المادة (43)، لكن اليهود لم يُلزموا بالرجوع إلى القضاء الإسلامي دائماً بل فقط عندما يكون الحدث أو الاشتجار بينهم وبين المسلمين، أما في قضاياهم الخاصة وأحوالهم الشخصية فهم يحتكمون إلى التوراة ويقضي بينهم أحبارهم، ولكن إذا شاءوا فبوسعهم الاحتكام إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد خير القرآن الكريم النبي صلى الله عليه وسلم بين قبول الحكم فيهم أو ردهم إلى أحبارهم، قال تعالى: ( سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ )[المائدة:42].
ومن القضايا التي أراد اليهود تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم فيها اختلاف بني النضير وبني قريظة في دية ال***ى بينهما، فقد كانت بنو النضير أعز من بني قريظة، فكانت تفرض عليهم دية مضاعفة ل***اها، فلما ظهر الإسلام في المدينة امتنعت بنو قريظة عن دفع الضعف، وطالبت بالمساواة في الدية([22]) فنزلت الآية: ( وَكَتَبْنَاعَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ )[المائدة:45].
وبهذه الصحيفة التي أقرت المادة (43): «على أنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده، فإن مرده إلى الله وإلى محمد رسوله صلى الله عليه وسلم» أصبح للرسول صلى الله عليه وسلم سلطة قضائية مركزية عليا يرجع إليها الجميع، وجعلها ترجع إلى الله وإلي الرسول صلى الله عليه وسلم ولها قوة تنفيذية؛ لأن أوامر الله واجبة الطاعة وملزمة التنفيذ، كما أن أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم هي من الله، وطاعته واجبة([23]).
وبذلك أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم رئيس الدولة، وفي نفس الوقت رئيس السلطة القضائية والتنفيذية والتشريعية؛ فقد تولى رسول الله صلى الله عليه وسلم السلطات الثلاث بصفته رسول الله المكلف بتبليغ شرع الله، والمفسر لكلام الله، والسلطة التنفيذية بصفته الرسول الحاكم، ورئيس الدولة، فقد تولى رئاسة الدولة وفق نصوص الصحيفة، وباتفاق الطوائف المختلفة الموجودة في المدينة، ممن شملتهم نصوص الصحيفة في المادة (36) التي تقرر أنه «لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد صلى الله عليه وسلم» ولهذا تأثير كبير في عدم السماح لهم بمحالفة قريش أو غيرها من القبائل المعادية، وهناك المادة (43) التي ذهبت إلى ما هو أبعد وأصرح من ذلك إذ قررت أنه (لا تجار قريش ولا من نصرها) ولم يرد في الصحيفة اسم لأي شخص ما عدا رسول الله صلى الله عليه وسلم([24]).

محمد رافع 52 15-10-2014 11:05 PM

3- إقليم الدولة:
وجاء في الصحيفة: «وأن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة» مادة (40) وأصل التحريم أن لا يقطع شجرها، ولا ي*** طيرها، فإذا كان هذا هو الحكم في الشجر والطير فما بالك في الأموال والأنفس([25]) فهذه الصحيفة حددت معالم الدولة: أمة واحدة، وإقليم هو المدينة، وسلطة حاكمة يرجع إليها وتحكم بما أنزل الله.
إن المدينة كانت بداية إقليم الدولة الإسلامية ونقطة الانطلاق، ومركز الدائرة التي كان الإقليم يتسع منها حتى يضع حدًّا للقلاقل والاضطرابات ويسوده السلم والأمن العام.
وقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ليثبتوا أعلاماً على حدود حرم المدينة من جميع الجهات، وحدود المدينة بين لابتيها شرقاً وغرباً، وبين جبل ثور في الشمال وجبل عَيْر في الجنوب.
ثم اتسع (الإقليم) باتساع الفتح، ودخول شعوب البلاد المفتوحة في الإسلام حتى عم مساحة واسعة في الأرض والبحر وما يعلموها من فضاء، فمن المحيط الأطلسي غرباً ومناطق واسعة من غرب أوربا وجنوبها ومناطق فسيحة من غرب آسيا وجنوبها، إلى أكثر أهل الصين وروسيا شرقاً، وكل شمال إفريقيا وأواسطها([26]) إن إقليم الدولة مفتوح وغير محدود بحدود جغرافية أو سياسية، فهو يبدأ من عاصمة الدولة (المدينة) ويتسع حتى يشمل الكرة الأرضية بأسرها قال تعالى: ( قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ )[الأعراف:128]. كما أن مفهوم الأمة مفتوح وغير منغلق على فئة دون فئة، بل هي ممتدة لتشمل الإنسانية كلها، إذا ما استجابت لدين الله تعالى الذي ارتضاه لخلقه ولبني آدم أينما كانوا.
فالدولة الإسلامية دولة الرسالة العالمية، لكل فرد من أبناء المعمورة نصيب فيها، وهي تتوسع بوسيلة الجهاد([27]).
4- الحريات وحقوق الإنسان:
إن الصحيفة تدل بوضوح وجلاء على عبقرية الرسول صلى الله عليه وسلم، في صياغة موادها وتحديد علاقات الأطراف بعضها ببعض، فقد كانت موادها مترابطة وشاملة، وتصلح لعلاج الأوضاع في المدينة آنذاك، وفيها من القواعد والمبادئ ما يحقق العدالة المطلقة، والمساواة التامة بين البشر، وأن يتمتع بنو الإنسان على اختلاف ألوانهم ولغاتهم وأديانهم بالحقوق والحريات بأنواعها([28]). يقول الأستاذ الدكتور محمد سليم العوا: «ولا تزال المبادئ التي تضمنها الدستور في جملتها معمولاً بها، والأغلب أنها ستظل كذلك في مختلف نظم الحكم المعروفة إلى اليوم... وصل إليها الناس بعد قرون من تقريرها في أول وثيقة سياسية دوَّنها الرسول صلى الله عليه وسلم »([29]).
فقد أعلنت الصحيفة أن الحريات مصونة، كحرية العقيدة والعبادة وحق الأمن، إلخ، فحرية الدين مكفولة: «للمسلمين دينهم ولليهود دينهم» قال تعالى: ( لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ )[البقرة:256]. وقد أنذرت الصحيفة بإنزال الوعيد، وإهلاك من يخالف هذا المبدأ أو يكسر هذه القاعدة، وقد نصت الوثيقة على تحقيق العدالة بين الناس، وعلى تحقيق مبدأ المساواة.
إن الدولة الإسلامية واجب عليها أن تقيم العدل بين الناس، وتفسح المجال وتيسر السبل أمام كل إنسان يطلب حقه أن يصل إلى حقه بأيسر السبل وأسرعها، دون أن يكلفه ذلك جهداً أو مالاً([30]) وعليها أن تمنع أي وسيلة من الوسائل من شأنها أن تعيق صاحب الحق من الوصول إلى حقه.
لقد أوجب الإسلام على الحكام أن يقيموا العدل بين الناس، دون النظر إلى لغاتهم أو أوطانهم، أو أحوالهم الاجتماعية، فهو يعدل بين المتخاصمين، ويحكم بالحق، ولا يهمه أن يكون المحكوم لهم أصدقاء أو أعداء، أغنياء أو فقراء، عمالاً أو أصحاب عمل، قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ )[المائدة:8].
والمعنى: لا يحملنكم بغض قوم على ظلمهم، ومقتضى هذا أنه لا يحملنكم قوم على محاباتهم والميل معهم([31]).
أما مبدأ المساواة؛ فقد جاءت نصوص صريحة في الصحيفة حولها، منها: «أن ذمة الله واحدة» وأن المسلمين «يجير عليهم أدناهم» وأن «بعضهم موالي بعض دون الناس» ومعنى الفقرة الأخير أنهم يتناصرون في السراء والضراء (المادة 15). وتضمنت المادة (19) أن «المؤمنين يبيء بعضهم علي بعض بما نال دماءهم في سبيل الله» قال السهيلي شارح السيرة في كتابه (الروض الأنف): (ومعنى قوله يُبيء هو من البواء، أي: المساواة)([32]).
يعد مبدأ المساواة أحد المبادئ العامة، التي أقرها الإسلام، وهي من المبادئ التي تساهم في بناء المجتمع المسلم، قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ )[الحجرات:13].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا أحمر على أسود، ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى، أبَلَّغت»([33]).
إن هذا المبدأ كان من أهم المبادئ التي جذبت الكثير من الشعوب قديما نحو الإسلام فكان هذا المبدأ مصدراً من مصادر القوة للمسلمين الأولين([34]).
وليس المقصود بالمساواة هنا (المساواة العامة) بين الناس جميعاً في كافة أمور الحياة، كما ينادي بعض المخدوعين ويرون ذلك عدلاً([35]) فالاختلاف في المواهب والقدرات، والتفاوت في الدرجات غاية من غايات الخلق([36])، ولكن المقصود المساواة التي دعت إليها الشريعة الإسلامية، مساواة مقيدة بأحوال، وليست مطلقة في جميع الأحوال([37]) فالمساواة تأتي في معاملة الناس أمام الشرع، والقضاء، وكافة الأحكام الإسلامية، والحقوق العامة دون تفريق بسبب الأصل، أو ال***، أو اللون، او الثروة أو الجاه، أو غيرها([38]).
كانت الوثيقة قد اشتملت على أتم ما قد تحتاج الدولة من مقوماتها الدستورية والإدارية، وعلاقة الأفراد بالدولة، وكان القرآن يتنزل في المدينة عشر سنين، يرسم للمسلمين، خلالها مناهج الحياة، ويرسي مبادئ الحكم، وأصول السياسة، وشئون المجتمع وأحكام الحرام والحلال وأسس التقاضي، وقواعد العدل، وقوانين الدولة المسلمة في الداخل والخارج، والسنة الشريفة تدعم هذا وتشيده، وتفصله في تنوير وتبصرة، فالوثيقة خطت خطوطاً عريضة في الترتيبات الدستورية، وتعتبر في القمة من المعاهدات التي تحدد صلة المسلمين بالأجانب الكفار المقيمين معهم، في شيء كثير من التسامح والعدل والمساواة، وعلى التخصيص إذا لوحظ أنها أول وثيقة إسلامية، تسجل وتنفذ في أقوام كانوا منذ قريب وقبل الإسلام أسرى العصبية القبلية، ولا يشعرون بوجودهم إلا من وراء الغلبة، والتسلط وبالتخوض في حقوق الآخرين وأشيائهم([39]). كانت هذه الوثيقة فيها من المعاني الحضارية الشيء الكثير، وما توافق الناس على تسميته اليوم بحقوق الإنسان، وإنه لا بد على الجانبين المتعاقدين أن يلتزموا ببنودها، فهل حدث هذا الالتزام([40])؟.

محمد رافع 52 15-10-2014 11:08 PM

ثالثاً: موقف اليهود في المدينة:
لقد قامت الحجج القاطعة والبراهين الساطعة لليهود على صدق رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن ذلك لم يزدهم إلا عناداً وعداوة واستكباراً وحقداً وحسداً على الرسول والذين آمنوا معه، فعن صفية بنت حُيَي بن أخطب أنها قالت: «كنت أحب ولد أبي إليه، وإلى عمي أبي ياسر، لم ألقهما قط مع ولد لهما إلا أخذاني دونه، قالت: فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، ونزل قباء في بني عمرو بن عوف، غدا عليه أبي، حيي بن أخطب، وعمي، أبو ياسر بن أخطب، مُغَلَّسين، قالت: فلم يرجعا حتى كان مع غروب الشمس، قالت: فأتيا كالَّين كسلانين ساقطين يمشيان الهوينى، قالت: فَهشِشت إليهما، كما كنت أصنع، فوالله ما التفت إلي واحد منهما، مع ما بهما من الغم، قالت: وسمعت عمي أبا ياسر، وهو يقول لأبي حيي بن أخطب: أهو هو؟ قال: نعم والله، قال: أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم، قال: فما في نفسك منه؟ قال: عداوته والله ما بقيت»([41]).
وقد شن اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه حملات إعلامية لتشويه صورة الرسول صلى الله عليه وسلم وتنفير الناس منه، ونزع الثقة فيه منهم، لقد شعر اليهود بخطورة هذا الدين على مصالحهم، وعلى عقيدتهم المنحرفة المزيفة، القائمة على الاستعلاء واحتقار الناس عدا ال*** اليهودي، لقد جاء ينادي بعقيدة التوحيد، وهم يقولون: عزير ابن الله، وجاء ينادي بالمساواة بين أفراد ال*** البشري، وأنه لا يعلو شعب على شعب ولا جماعة على جماعة، وهم يرون أنهم شعب الله المختار، يترفعون عن بقية الأجناس، وينظرون إليهم على أنهم دونهم، وأقل منهم([42]) ولذلك لم يلتزموا ببنود الوثيقة، وشرعوا في التشكيك في نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم ورسالته، وأكثروا من الأسئلة لإحراج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخدعوا المؤمنين ودلسوا عليهم([43]) وغير ذلك من الأعمال الخبيثة.
1- محاولة اليهود لتصديع الجبهة الداخلية:
ومن وسائلهم الخبيثة في حرب الإسلام محاولاتهم المستمرة لتمزيق الصف المسلم وتخريبه، بتقطيع أواصر المحبة بين المسلمين وذلك بإثارة الفتن الداخلية، والشعارات الجاهلية، والنعرات الإقليمية، والدعوات القومية والقبلية، والسعي بالدسيسة والوقيعة بين الإخوة المتآلفين المتوادين المتحابين، فهم في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر([44]).
فقد تفتق ذهن أحد شيوخهم الكبار في السن عن حيلة هدف بها إلى تفريق وحدة الأنصار، وذلك بإثارة العصبية القبلية بينهم ليعودوا إلى جاهليتهم، فتعود الحروب بينهم كما كانت، ويخسر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك أقوى أنصاره([45]) وفي بيان هذا الخبر يقول محمد بن إسحاق رحمه الله تعالى: ومر شأس بن قيس وكان شيخا قد عسا([46]) عظيم الكفر شديد الضِّغْن على المسلمين، شديد الحسد لهم، على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج، في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من ألفتهم وجماعتهم، وصلاح ذات بينهم على الإسلام، بعد الذي كان بينهم في الجاهلية، فقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة([47]) بهذه البلاد، لا والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار، فأمر فتى شاباً من يهود كان معهم، فقال: اعمِد إليهم، فاجلس معهم ثم اذكر يوم بُعاث وما كان قبله، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار.
وكان يوم بعاث يوماً اقتتلت فيه الأوس والخزرج، وكان الظفر فيه يومئذ للأوس على الخزرج، وكان على الأوس يومئذ حُضير بن سماك الأشهلي وأبو أسيد بن حضير وعلى الخزرج عمرو بن النعمان البياضي، ف***ا جميعاً.
قال ابن إسحاق: ففعل فتكلم القوم عند ذلك وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الرُّكب: أوس بني قيظي، أحد بني حارثة بن الحارث، من الأوس، وجبار بن صخر، أحد بني سلمة من الخزرج، فتقاولا، ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم رددناها الآن خذَعة([48]) فغضب الفريقان جميعاً وقالوا: قد فعلنا، موعدكم الظاهرة- والظاهرة: الحرة – السلاح السلاحَ، فخرجوا إليها.
فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين حتى جاءهم فقال: «يا معشر المسلمين الله الله، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام، وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر وألف به بين قلوبكم؟».
فعرف القوم أنها نزغةٌ من الشيطان، وكيدٌ من عدوهم، فبكوا وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضاً، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، سامعين مطعين، قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شأس بن قيس، فأنزل الله تعالى في شأس بن قيس وما صنع: ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ` قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ )[آل عمران:98-99] وأنزل الله في أوس بن قيظي وجَبَّار بن صخر، ومن كان معهما من قومهما الذين صنعوا ما صنعوا عما أدخل عليهم شأس من أمر الجاهلية([49]): ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ` وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ` يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ` وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ` وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ` وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ )[آل عمران: 100- 105] ونرى من خلال القصة قدرة القيادة النبوية على إفشال مخطط اليهود الهادف لتفتيت وحدة الصف، ويظهر اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بأمور المسلمين، وإشفاقه عليهم، وفزعه مما يصيبهم من الفتن والمصائب، فقد أسرع إلى الأنصار وذكرهم بالله، وبين لهم أن ما أقدموا عليه من أمر الجاهلية، وذكرهم بالإسلام وما أكرمهم الله به من القضاء على الحروب، والفتن وتطهير النفوس من الضغائن، وتأليف القلوب بالإيمان، وكان لكلمات النبي صلى الله عليه وسلم أثر في نفوسهم وسرت في كيانهم روح جديدة مسحت كل أثر لأمر الجاهلية بفضل الله تعالى، ثم بكلمات نبيه صلى الله عليه وسلم المعبرة وروحه القوية المؤثرة وهيئته الوثابة المنذرة، وأدركوا أن ما وقعوا فيه كان من وساوس الشيطان وكيد عدوهم من اليهود، فبكوا ندماً على ما وقعوا فيه من الذنوب، وتعانق رجال الإسلام، تعبيراً على محبتهم الإيمانية لبعضهم([50]).
2- التهجم على الذات الإلهية:
ذكر غير واحد من كتاب السير والمفسرين أن أبا بكر t قد دخل بيت المدراس([51]) على يهود، فوجد منهم ناساً كثيراً قد اجتمعوا إلى رجل منهم، يقال له: (فنحاص)، وكان من علمائهم وأحبارهم، ومعه حبر من أحبارهم، يقال له (أشيع)([52]) فقال أبو بكر لفنحاص: ويحك اتق الله وأسلم فوالله إنك تعلم أن محمدا لرسول الله قد جاءكم بالحق من عنده، تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل، فقال فنحاص لأبي بكر: والله يا أبا بكر، ما بنا إلى الله من فقر، وإنه إلينا لفقير، وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا، وإنا عنه لأغنياء، وما هو عنا بغني، ولو كان عنا غنيًا ما استقرضنا أموالنا، كما يزعم صاحبكم، ينهاكم عن الربا ويعطيناه، ولو كان عنا غنيًا ما أعطانا الربا، فغضب أبو بكر، فضرب وجه فنحاص ضرباً شديداً، وقال: والذي نفسي بيده، لولا العهد الذي بيننا وبينكم لضربت رأسك أي عدو الله، فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد انظر ما صنع بي صاحبك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: «ما حملك على ما صنعت؟» فقال أبو بكر: يا رسول الله، إن عدو الله قال قولاً عظيماً، إنه يزعم أن الله فقير، وأنهم أغنياء فلما قال ذلك غضبت لله مما قال، وضربت وجهه، فجحد ذلك فنحاص، وقال: ما قلت ذلك، فأنزل الله تعالى فيما قال فنحاص ردًّا عليه، وتصديقًا لأبي بكر: ( لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ )[آل عمران:181].
ونزل في أبي بكر الصديق t وما بلغه في ذلك من الغضب([53]): ( لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ )[آل عمران:186] وذكر القرآن الكريم في أكثر من موضع سوء أدبهم مع الله سبحانه وتعالى، وعدم تنزيهه عن النقائص، ووصفه بما لا يليق به سبحانه، وهذا عين الوقاحة، وانعدام الأدب ومن هذه الآيات قول الله تعالى: ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ )[المائدة:64].
ويبدو من مضمون الآية أن هذا الموقف الذي وقفوه كان منبعثاً مما كان يملأ صدورهم من الغيظ والسخط من رسوخ في قدم النبي صلى الله عليه وسلم، وانتشار دعوته، ولعل مما يصح أن يضاف إلى هذا الاحتمال كون المسلمين قد انصرفوا عنهم، أو قاطعوهم بسبب مواقف الكيد والجحود التي ما فتئوا يقفونها، واستجابة لأمر القرآن ونهيه وتحذيره، فأثر ذلك في حالتهم الاقتصادية تأثيراً سيئاً، زاد سخطهم وغيظهم وتبرمهم، ودفعهم إلى ما كان منهم من سوء الأدب في حق الله، ومن رد غير جميل لرسول الله صلى الله عليه وسلم([54]).
3- سوء أدبهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والنيل من الرسول الكرام والقرآن الكريم:
وكان اليهود يسيئون الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، في حضرته وأثناء خطابه، إذ يلمزونه، ويحيونه بتحية فيها من الأذى والتهجم ما يدل على سوء أخلاقهم، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: جاء ناس من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: السام([55]) عليك يا أبا القاسم، فقلتُ: السام عليكم، وفعل الله بكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مه يا عائشة، فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش» فقلت: يا رسول الله، ترى ما يقولون؟ فقال: «ألست تريني أرد عليهم ما يقولون؟ وأقول: وعليكم» قالت: فنزلت هذه الآية في ذلك([56]) وهي قوله تعالى: ( أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا اللهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ )[المجادلة:8].
وهذه الآية تظهر الحقد الذي هيمن على نفوس اليهود ودفعهم إلى استخدام كل الوسائل والطرق لهم الإسلام والتخلص من صاحب الرسالة، والسيطرة على المسلمين، ولكن يظهر من دعاء بعض اليهود على الرسول صلى الله عليه وسلم بالموت مع التظاهر بالسلام عليه، الضعفُ الذي كانوا عليه عند التجائهم إلى هذا النوع من السلام، فالممارس لمثل ما قام به اليهودى الذي سلم على الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله:السام عليك يعيش أزمة نفسية متولدة عن فقدان عز كان يظن أنه ينعم فيه، لقد تغلبت قوى جديدة على ماضيه وحاضره، ولم يستطع أن يتفاعل مع من تغلب عليه.ومنعهم الحسد والغيرة، من الانقياد للدين الجديد، ومما زاد في تأزم اليهود أنهم جربوا محاربة الإسلام بوسائلهم التي كانوا يظنون أنها لا تقهر، فكان الفشل حليفهم، لذلك لجأواى الطرق السلبية، والوسائل الملتوية، فالدعاء على الخصم مع التظاهر بالسلام هو سلاح العاجزين، ووسيلة الخائبين، وترياق الحاقدين([57]).
ولما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صدر عن عائشة رضي الله عنها دعاها إلى الرفق واللين، وبين لها أن المسلم لا يجوز له أن يترك الغضب يتحكم فيه، فالرفق في الإسلام ثمرة لا يثمرها إلا حسن الخلق، فالله رفيق يحب الرفق ويعطي عليه ما لا يعطي على ال***([58]).
وأما نيلهم من المرسلين فقد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفر من يهود فيهم أبو ياسر بن أخطب، ونافع بن أبي نافع، وعازر بن أبي عازر وغيرهم وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن يؤمن به من الرسل فقال صلى الله عليه وسلم: «نؤمن بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون» فلما ذكر عيسى عليه السلام، وقالوا: لا نؤمن بعيسى ابن مريم ولا نؤمن بمن آمن به([59]) فأنزل الله فيهم: ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ )[المائدة:59].
وأما في محاولاتهم للنيل من القرآن الكريم في أسئلتهم، ونقاشهم الذي لا ينتهي فعن ابن عباس t قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قالت أحبار اليهود: يا محمد أرأيت قولك: ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً )[الإسراء:85] إيانا تريد أم قومك؟ قال: «كُلاًّ» قالوا: فإنك تتلوا فيما جاءك: أنا قد أوتينا التوراة فيها بيان كل شيء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنها في علم الله قليل، وعندكم في ذلك ما يكفيكم لو أقمتموه»([60]) قال: فأنزل الله تعالى فيما سألوه عنه من ذلك: ( وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )[لقمان:27].
4- دعم حزب المنافقين وتآمرهم معهم:
حدثنا القرآن الكريم عن قيادة اليهود الفكرية لحزب المنافقين، فهم شياطين المنافقين يخططون لهم، ويوجهونهم ويدرسونهم أساليب الكيد والمكر والخداع والدهاء، وإثارة الفتن قال تعالى: ( وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إلى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ )[البقرة:14].
قال النسفي في تفسيره: «وشياطينهم الذين ماثلوا الشياطين في تمردهم، وهم اليهود»([61]).
وكان اليهود في المدينة يتآمرون مع المنافقين ضد المسلمين، وفي هذا التآمر قال تعالى: ( بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا` الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ للهِ جَمِيعًا )[النساء:138-139].
قال الأستاذ محمد دروزة: «وجمهور المفسرين على أن الكافرين هنا هم اليهود، وفي الآية قرينة على صحة ذلك، كما أن فيما بعدها قرينة ثانية أيضاً، وواضح أن اتخاذ المنافقين اليهود أولياء، وتواثقهم معهم، إنما هما أثران من آثار التآمر الموطد بين اليهود والمنافقين تجاه الدعوة والقوة الإسلامية»([62]).
وقد دفعوا المنافقين لإشعال حرب ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن عروة بن الزبير أن أسامة بن زيد t أخبره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب على حمار على قطيفة فدكية وأردف أسامة بن زيد وراءه يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج قبل وقعة بدر، قال: حتى مر بمجلس فيه عبد الله بن أبي ابن سلول، وذلك قبل أن يسلم عبد الله بن أبي، فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين، عبدة الأوثان، واليهود، وفي المجلس عبد الله بن رواحة، فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة، خمر عبد الله بن أبي أنفه بردائه، ثم قال: لا تغبروا علينا، فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم ثم وقف، فنزل فدعاهم إلى الله، وقرأ عليهم القرآن، فقال عبد الله بن أبي ابن سلول: أيها المرء، إنه لا أحسن مما تقول، إن كان حقا فلا تؤذينا به في مجلسنا، ارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه، فقال عبد الله بن رواحة: بلى يا رسول الله فاغشنا به في مجالسنا، فإنا نحب ذلك فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتثاورون([63]) فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكنوا، ثم ركب النبي صلى الله عليه وسلم دابته فسار حتى دخل على سعد بن عبادة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «يا سعد، ألم تسمع ما قال أبو حباب- يريد عبد الله بن أبي- قال كذا وكذا»، قال سعد بن عبادة: يا رسول الله اعف عنه واصفح فوالذي أنزل عليك الكتاب، لقد جاء الله بالحق الذي أنزل عليك، ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة([64]) على أن يتوجوه فيعصبونه بالعصابة، فلما أبى الله ذلك بالحق الذي أعطاك الله شرق بذلك، فذلك فعل به ما رأيت، فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم([65]).

محمد رافع 52 15-10-2014 11:11 PM

5- طعن اليهود في من آمن من الأحبار (عبد الله بن سلام) رضي الله عنه:
عندما بلغ عبد الله بن سلام مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فأتاه فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: قال: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكل أهل الجنة؟ ومن أي شيء ينزع الولد إلى أبيه؟ ومن أي شيء ينزع إلى أخواله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خبرني بهن آنفا جبريل» قال: فقال عبد الله: ذاك عدو اليهود من الملائكة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما أول أشراط الساعة: فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة: فزيادة كبد الحوت، وأما الشبه في الولد، فإن الرجل إذا غشي المرأة فسبقها ماؤه كان الشبه له، وإذا سبقه ماؤها كان الشبه لها» قال: أشهد أنك رسول الله، ثم قال: يا رسول الله، إن اليهود قوم بهت وإن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم بهتوني عندك، فجاءت اليهود ودخل عبد الله البيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أي رجل فيكم عبد الله بن سلام؟» فقالوا: أعلمنا وابن أعلمنا، وأخيرنا وابن أخيرنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفرأيتم إن أسلم عبد الله؟» قالوا: أعاذه الله من ذلك، فخرج عبد الله إليهم فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، فقالوا: شرنا وابن شرنا، ووقعوا فيه([66]) فكانوا يؤذون من آمن من أحبارهم، ويثيرون حولهم الشكوك، ويقذفونهم بتهم باطلة قبيحة، وقد حدثنا القرآن الكريم عن هذه الوسيلة ودافع عن هؤلاء المؤمنين الذين وجه اليهود ضدهم تلك الحملات الظالمة([67]) قال تعالى: ( لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ` يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ` وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ).[آل عمران:113-115].
قال الواحدي في أسباب النزول: «قال ابن عباس ومقاتل: لما أسلم عبد الله بن سلام، وثعلبة بن أسعد، وأسيد بن سعية، وأسد بن عبيد، ومن أسلم من اليهود، قالت أحبار اليهود: ما آمن لمحمد إلا شرارنا، ولو كانوا من أخيارنا لما تركوا دين آبائهم، وقالوا لهم: لقد خنتم حين استبدلتم بدينكم دينا غيره، فأنزل الله تعالى ( لَيْسُوا سَوَاءً )([68]).
6- بث الإشاعات والشماتة بالنبي صلى الله عليه وسلموالمسلمين:
كان اليهود يتحينون الفرص للنيل من المسلمين والبحث عما يفرق كلمتهم، ومن ذلك استغلالهم- في الأشهر الأولى من الشهر- لوفاة أحد النقباء الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة وهو أبو أمامة أسعد بن زرارة الأنصاري الخزرجي t فعندما أخذته الشوكة([69]) فجاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوده، فقال: «بئس الميت ليهود – مرتين – سيقولون:لولا دفع عن صاحبه، ولا أملك له ضراً ولا نفعاً، ولأتمحَّلنَّ ([70])له» فأمر به فكوي بخطين فوق رأسه([71]) فمات وفي رواية: فكواه حوران([72]) على عنقه فمات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بئس الميت لليهود، يقولون: قد داواه صاحبة أفلا نفعه»([73]). ولم تكن حادثة أبي أمامة هي الحدث الوحيد الذي أبان الحقد اليهودي على المسلمين، فقد أشاعوا في أول الهجرة أنهم سحروا المسلمين فلا يولد لهم ولد، أشاعوا ذلك ليضيقوا على المسلمين الخناق، ويفسدوا عليهم حياتهم الجديدة التي عاشوها في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليعكروا ذلك الجو الصافي الذي يملؤه الحب والتآلف بين المسلمين، ومما يدل على مقدار ما فعلته تلك الإشاعة بين المسلمين، شدة الفرحة التي اعترتهم حيث ولد بينهم أول مولود ذكر من المهاجرين وهو عبد الله بن الزبير t([74]) فعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها، أنها حملت بعبد الله بن الزبير في مكة قالت: فخرجت وأنا مُتِمٌّ فأتيت المدينة فنزلت قباء، فولدت بقباء، ثم أتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه في حجره، ثم دعا بتمرة فمضغها، ثم تفل في فيه فكان أول شيء دخل جوفه ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم حنكه بالتمرة، ثم دعا له فبرّك عليه، وكان أول مولود ولد في الإسلام، ففرحوا به فرحاً شديداً، لأنهم قيل لهم: إن اليهود قد سحرتكم فلا يولد لكم([75]).
وفي رواية: «وسماه عبد الله، ثم جاء بعد وهو ابن سبع أو ابن ثمان سنين ليبايع النبي صلى الله عليه وسلم وأمره الزبير t بذلك، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم حين رآه مقبلاً وبايعه، وكان أول من ولد في الإسلام بالمدينة مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت اليهود تقول: قد أخذناهم فلا يولد لهم بالمدينة ولد ذكر، فكبر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ولد عبد الله»([76]).
7- موقفهم من تحويل القبلة:
تكاد تكون حادثة تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة هي الفاصل بين الحرب الكلامية وحرب المناوشات، والتدخل الفعلي من جانب اليهود لزعزعة الدولة الإسلامية الناشئة([77])، فعن البراء بن عازب t قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان أول ما قدم المدينة نزل على أجداده، أو قال: أخواله، من الأنصار وأنه صلى قبل بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهرا، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وأنه صلي أول صلاة صلاها صلاة العصر وصلى معه قوم فخرج رجل ممن صلى معه فمر على أهل مسجد وهم راكعون فقال: أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مكة، فداروا كما هم قبل البيت، وكانت اليهود قد أعجبهم إذ كان يصلي قِبَل بيت المقدس وأهل الكتاب، فلما ولى وجهه قبل البيت أنكروا ذلك([78]) وقد نزلت في هذه الحادثة آيات عظيمة فيها عبر وحكم ودروس للصف المسلم، قال تعالى: ( وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ` وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ` كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ` فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ )[البقرة:149-152].
أ- أخبر الله تبارك وتعالى بما سيقوله اليهود عند تحول القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة من إثارة الشكوك والتساؤلات قبل وقوع الأمر، ولهذا دلالته فهو يدل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم إذ هو أمر غيبي، فأخبر عنه قبل وقوعه ثم وقع، فدل ذلك على أن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول ونبي يخبره الوحي بما سيقع، إذ من الأدلة على صدق رسالة الرسول أن يخبر بأمور غيبية ثم تقع بعد ذلك.
وهو يدل أيضاً على علاج للمشاكل قبل حدوثها حتى يستعد المسلمون ويهيئوا أنفسهم لهذه المشاكل للتغلب عليها، والرد عليها ودفعها؛ لأن الامر حين يكون مفاجئا لهم يكون وقعه على النفس أشد، ويربك المفاجأ به، أما حين يحدثون عنه قبل وقوعه، فالحديث يطمئنهم ويوطن نفوسهم ويعدها لمواجهة الشدائد([79]) قال أبو السعود في تفسيره: «وأخبر بالأمر قبل وقوعه لتوطين النفوس وإعدادها لما يبكتهم، فإن مفاجأة المكروه على النفس أشق وأشد، والجواب العتيد لشغب الخصم الألد أرد» ([80]) وقد وصف الله تعالى اليهود بالسفه لاعتراضهم على تحويل القبلة وللكيد ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو السعود: «والسفهاء الذين خفت أحلامهم، واستمهنوها بالتقليد والإعراض عن التدبر والنظر وقولهم: ثوب سفيه إذا كان خفيف النسيج، وقيل: السفيه البهات الكذاب المتعمد خلاف ما يعلم، وقيل: الظلوم الجهول، والسفهاء هم اليهود»([81]).
ب- ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ )[البقرة:143].
فالآية تذكر أن الصلاة نحو بيت المقدس كانت فتنة، أي اختبار، والتحول من بيت المقدس إلى الكعبة كان أيضاً اختباراً وامتحاناً قال البيضاوي في تفسيره: «وما جعلنا قبلتك بيت المقدس إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه إلا لنمتحن به الناس، ونعلم من يتبعك في الصلاة إليها، ممن يرتد عن دينك إلفاً لقبلة آبائه، أو لنعلم من يتبع الرسول ممن لا يتبعه، وما كان لعارض، يزول بزواله، وعلى الأول معناه: ما رددناك إلى التي كانت عليها إلا لنعلم الثابت على الإسلام ممن ينكص على عقبيه لقلة وضعف إيمانه»([82]).
فالصلاة إلى الكعبة في بداية الأمر، ثم الصلاة إلى بيت المقدس، ثم العودة إلى الكعبة واستمرار ذلك لا شيء فيه، ما دام الباري سبحانه أمر بذلك، ومن ثم فالتوجه في كل حالة هو عبادة، وما على الناس إلا أن ينقادوا لأمر الله تبارك وتعالى، ويلتزموا بأمره، فالذي يتبع الرسول وينقاد لأوامره في القبلة يعد فائزاً في الاختبار والامتحان، والذي يجد في نفسه على حكم من الأحكام الشرعية كان ساقطاً وهالكا، والإيمان الحق هو الذي يلزم صاحبه بالاتباع ومخالفة الهوى([83])، ولهذا ثبت الصحابة الكرام واستجابوا لأوامر الله تعالى، فعن ابن عمر t قال: بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يسقتبل الكعبة، فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلي الشام فاستداروا إلى الكعبة([84]).
جـ- ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ )[البقرة:143].
وتبين الآية الكريمة كذلك حرص المؤمنين على إخوانهم وحب الخير لهم: حينما نزلت الآيات التي تأمر المؤمنين بتحويل القبلة إلى الكعبة تساءل المؤمنون مشفقين على مصير عبادة إخوانهم الذين ماتوا، وقد صلوا نحو بيت المقدس، فأخبر الله عز وجل أن صلاتهم مقبولة، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما وُجَّه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة قالوا: يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس([85])؟ فأنزل الله: ( وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ )[البقرة:143]. وبين لهم أنه رءوف رحيم «وبها يسكب في قلوب المسلمين الطمأنينة، ويذهب عنها القلق ويفيض عليها الرضا والثقة واليقين»([86]).
د- ( قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ` وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إذا لَّمِنَالظَّالِمِينَ` الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ` الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ` وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَمَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعًا إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )[البقرة:144-148].
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصاً على أن يتوجه في صلاته إلى كعبة أبيه إبراهيم عليه السلام، فهو أولى الناس به؛ لأنه من ثمرة دعوة أبيه إبراهيم عليه السلام، وحامل لواء التوحيد بحق كما حملها إبراهيم عليه السلام، وهو صلى الله عليه وسلم كان يحرص على أن يكون مستقبلا ومتميزا على أهل الديانات السابقة الذين حرفوا وبدلوا وغيروا كاليهود والنصارى؛ ولهذا كان ينهى عن تقليدهم والتشبه بهم، بل يأمر بمخالفتهم ويحذر من الوقوع فيما وقعوا فيه من الزلل والخطل والانحراف، ومقتضى هذا الحرص أن يتوجه في صلاته بشكل دائم إلى قبلة أبي الأنبياء، وهو أول بيت وضع للناس([87]).
إن لحادثة تحويل القبلة أبعاداً كثيرة: منها السياسي: ومنها العسكري، ومنها الديني البحت، ومنها التاريخي، فبُعدها السياسي أنها جعلت الجزيرة العربية محور الأحداث، وبعدها التاريخي أنها ربطت هذا العالم بالإرث العربي لإبراهيم عليه الصلاة والسلام، وبعدها العسكري أنها مهدت لفتح مكة وإنهاء الوضع الشاذ في المسجد الحرام، حيث أصبح مركز التوحيد مركزاً لعبادة الأصنام، وبعدها الديني أنها ربطت القلب بالحنيفية، وميزت الأمة الإسلامية عن غيرها، والعبادة في الإسلام عن العبادة في بقية الأديان([88]).
هـ- ( وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ` وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ` كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ` فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ )

[البقرة:149-152].

كأن الله تعالي يقول للمؤمنين: إن نعمة توجيهكم إلى قبلتكم، وتمييزكم بشخصيتكم من نعائم الله عليكم، وقد سبقتها الآلاء من الله كثيرة عليكم ومنها:
* ( كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنْكُمْ ) فوجود شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم إمام المربين والدعاة، هو من خصيصة هذه النخبة القيادية، التي شرفها الله تعالى بأن يكون هو المسئول عن تربيتها، فقيه النفوس، وطبيب القلوب، ونور الأفئدة، فهو النور والبرهان والحجة.
* ( يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا ) فالمادة الأساسية للبناء والتربية كلام الله تعالى، وكان يرافقه شحنة عظيمة لنزوله أول الأمر غضًّا طريًّا، فكان جيلاً متميزاً في تاريخ الإنسانية.
* ( وَيُزَكِّيكُمْ ) فالمعلم المربي رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو المسؤول عن عملية التربية، وهو الذي بلغ من الخلق والتطبيق لأحكام القرآن الكريم، ما وصفه الله تعالى به من هذا الوصف الجامع المانع الذي تفرد به من دون البشرية كافة ( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ )[القلم:4] وهو الذي وصفته عائشة رضي الله عنها بأعظم ما يملك بشر أن يصف به نبي فقالت: «كان خلقه القرآن» فكان الصحابة يسمعون القرآن الذي يتلى من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرون القرآن الذي يمشي على الأرض متجسداً في خلقه الكريم.
* ( وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ) فهذه المهمة الثالثة تعليم الصحابة الكرام الكتاب والحكمة، فالقرآن الكريم لكي يكون مؤثراً في الأمة لا بد من المربي الرباني الذي يزكي النفوس ويطهر القلوب ويعلمها شرع الله تعالى من خلال القرآن الكريم وسنة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم فيشرح للمسلمين غامضه ويبين محكمه، ويفصل مجمله، ويسأل عن تطبيقه، ويصحح خطأ الفهم لهم إن وجد، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلِّم ويربي أصحابه لكي يعلموا ويربوا الناس على المنهج الرباني فتعلم الصحابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم منهج التعليم، ومنهج التربية ومنهج الدعوة، ومنهج القيادة للأمة من خلال ما تسمع وما تبصر، ومن خلال ما تعاني وتجاهد فاستطاع صلى الله عليه وسلم أن يعد الجيل إعداداً كاملاً، ومؤهلاً لقيادة البشرية، وانطلق أصحابه من بعده يحملون التربية القرآنية، والتربية النبوية إلى كل صقع، وأصبحوا شهداء على الناس.
* ( وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ) ماذا كانوا قبل الوحي، والرسالة وماذا أصبحوا بعد ذلك؟ كانوا في حروب وصراع وجاهلية عمياء، وأصبحوا بفضل الله ومنه وكرمه أمة عظيمة لها رسالة وهدف في الحياة، لا همَّ لها إلا العمل ابتغاء مرضاته سبحانه وتعالى، وحققوا العبودية لله وحده، والطاعة لله، ولرسوله صلى الله عليه وسلم وانتقلوا من نزعة الفردية والأنانية والهوى إلى البناء الجماعي، بناء الأمة، وبناء الدولة وصناعة الحضارة واستحقت بفضل الله ومنه أعظم وسامين في الوجود([89]): ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ )[آل عمران:110] ووسام ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ )[البقرة:143].
* ( فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ )[البقرة:152] فهذه المنن، وهذه العطايا وهذه الخيرات تحتاج لذكر الله في الغدو والآصال وشكره عليها، وحثهم المولى عز وجل على ذكره، وبكرمه يذكرون في الملأ الأعلى بعدما كانوا تائهين في الصحاري ضائعين في الفيافي.
*( فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ )[البقرة:152] وحقَّ لهذه النعم جميعاً أن تشكر([90]).
وهكذا، الآيات الكريمة تربي الصحابة من خلال الأحداث العظيمة، وتصوغ الشخصية المسلمة القوية التي لا ترضى إلا بالإسلام ديناً والتي تعرفت على طبيعة اليهود من خلال القرآن الكريم، وبدأت تتعمق في ثناياها طبيعتهم الحقيقية، وانتهت إلى الصورة الكلية النهائية التي تربوا عليها من خلال القرآن الكريم والتربية النبوية قال تعالى: ( وَلَنْ تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ )[البقرة:120].

محمد رافع 52 15-10-2014 11:15 PM

8- من صفات اليهود في القرآن الكريم:
إن المتتبع لتاريخ اليهود ومواقفهم مع المصطفى صلى الله عليه وسلم يشاهد تلك الأفعال القبيحة والأخلاق الرذيلة التي يتصف بها هؤلاء البشر، ولا غرابة في ذلك فهي طبيعة كل آدمي ينسلخ عن دينه الصحيح، وعقيدته السليمة.
كانت معاناة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين من اليهود شديدة وأليمة، فالقرآن الكريم تحدث عن بعضها، وكتب السنة والسير والتاريخ حافلة بالأحداث الجسيمة مع اليهود، وقد تحدث القرآن الكريم، وبينت السنة النبوية صفاتهم القبيحة، كالنفاق وسوء الأدب مع الله ورسوله، والمكر والخداع، والمداهنة، وعدم الانتفاع بالعلم، والحقد والكراهية، والحسد، والجشع والبخل، ونكران الجميل، وعدم الحياء، والغرور والتكبر، وحب الظهور، والإشراك في العبادة، ومحاربة الأنبياء والصالحين، والتقليد الأعمى، وكتمان العلم، وتحريف المعلومات، والتحايل على المحرمات، والتفرق والطبقية في تنفيذ الأحكام، والرشوة، والكذب والقذارة([91])، وسوف نشير إلى بعض هذه الصفات الذميمة التي جاءت في القرآن الكريم.
أ- الإشراك في العبادة:
فعبادة اليهود شركية باطلة، حيث يعتقدون أن لله ولدا، ويشركون معه في عبادته غيره، وقد سجل الله عز وجل عليهم بعض مظاهر الإشراك، قال تعالى: ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ` اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ )[التوبة:30-31].
فهم لم يكتفوا في الإشراك بالقول المتقدم بل عبدوا أنبيائهم وصالحيهم واتخذوا
قبورهم مساجد وأوثاناً يعبدونها من دون الله([92]) قال صلى الله عليه وسلم: «قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»([93]).

ب- محاربة الأنبياء والصالحين:
في الوقت الذي يقدسون فيه أحبارهم ورهبانهم إلى درجة العبادة، نجد اليهود في المقابل لا يتورعون في محاربة أنبيائهم وصالحيهم، ويشنون عليهم الحملات المغرضة بشتى الطرق وكافة الوسائل، ولا يمتنعون حتى عن ***هم، كما فعلوا بزكريا ويحيى عليهم السلام([94])، وقد أخبرنا الله عز وجل عنهم بذلك فبعد أن بين عز وجل ألواناً من العذاب أوقعه عليهم قال: ( وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ )[البقرة:61].
جـ- كتمانهم العلم وتحريفهم للحقائق:
إن كتمان العلم وتحريف الحقائق صفة ملازمة لليهود من قديم الزمن، فعن أبي هريرة t قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قيل لبني إسرائيل ( ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ ) فبدلوا، فدخلوا يزحفون على أستاههم، وقالوا: حبة في شَعْرَةٍ»([95]).
ومن أعظم العلوم التي كتمها أحبار اليهود، وحاولوا إخفاء حقيقتها، علم نبوة
محمد صلى الله عليه وسلم فعن ابن عباس t قال: جاء رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رافعُ بن حارثة وسلام بن مشكم ومالك بن الصيف، ورافع بن حُريـملة، فقالوا: يا محمد ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه، وتؤمن بما عندنا من التوراة، وتشهد أنها من الله حق؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بلى، ولكنكم أحدثتم وجحدتم ما فيها مما أخذ الله عليكم من الميثاق، وكتمتم منها ما أمرتم لأن تبينوه للناس، فبرئت من أحداثكم» قالوا: فإنا نأخذ بما في أيدينا، فإنا على الهدى والحق، ولا نؤمن بك ولا نتبعك([96]).

فأنزل الله عز وجل فيهم: ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ )[المائدة:68].
د- التفرق:
إن اليهود دائماً وأبداً مختلفون في الأفكار، مفترقون في الأحكام، تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى، تماماً كما وصفهم الباري عز وجل في قوله تعالى: ( تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ )[الحشر:14].
هـ- الرشوة:
إن من سمات اليهود في معالم مجتمعاتهم بحثهم عن تحقيق الغاية التي ينشدونها بشتى السبل والوسائل، ولو كانت مخالفة لشرعهم، كدفع الرشوة والمال الحرام، فأكل السحت من رشوة ومال حرام من طباعهم وقد وصفهم الحق سبحانه وتعالى بذلك: ( سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ )[المائدة:42].
و- النفاق:
وقد أظهر بعض زعماء اليهود الإسلام حين قويت شوكة المسلمين بالمدينة وتستروا بالنفاق، وقد سجل الله عليهم ذلك في قوله تعالى: ( وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا


خَلَوْا إلى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ `
اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ
يَعْمَهُونَ )[البقرة:14،15].

ز- المداهنة:
فكانوا يسايرون الواقع والمجتمع ولا ينكرون المنكر؛ ولذلك لعنهم الله عز وجل
وسجل لعنته عليهم في كتابه العزيز: (


لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ
وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ` كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ )[المائدة:78،79].

حـ- عدم الانتفاع بالعلم:
وقد أخبرنا الله تعالى بذلك وصور هذه الصفة تصويراً دقيقاً([97]) قال تعالى: ( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ )[الجمعة:5].
ط- الحقد والكراهية:
من صفات اليهود المستقرة في أعماق نفوسهم الحقد على كل شيء ليس منهم والكراهية لكل ما هو غير يهودي، مهما كان نوعه ومصدره، وخاصة إذا كان يمت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصلة، كما حصل في أمر القبلة، وما حصل في تحريم الخمر، فعن عبد الله ابن مسعود t قال: لما نزلت تحريم الخمر، قالت اليهود: أليس إخوانكم الذين ماتوا كانوا يشربونها([98]) فأنزل الله عز وجل: ( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا )[المائدة:93] فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «قيل لي: أنت منهم».
ى- الحسد:
فقد حسد اليهود النبي صلى الله عليه وسلم على الرسالة، إذ كانوا يظنون أن الرسول الذي سيبعث سيكون منهم، يتجمعون حوله ويقاتلون به أعداءهم، فلما بُعث الرسول صلى الله عليه وسلم من غيرهم جن جنونهم، وطار صوابهم ووقفوا يعادونه عداوة شديدة، ولقد حسدوا أصحابه على الإيمان ونعمة الهدى التي شرح الله صدورهم لها ([99]).
قال تعالى: ( وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )

[البقرة:109].

ك- الغرور والتكبر:
اتصف اليهود بالغرور والتكبر على الخلق من قديم الزمان، فهم يرون أنهم أرقى من الناس، وأفضل من الناس، ويزعمون أنهم شعب الله المختار، ويعتقدون أن الجنة لليهودي، وأن طريق اليهودية هي طريق الهداية وسواها ظلال، وقد أخبر المولى عز وجل في كتابه عن هذه الخصلة الذميمة([100]) فيهم قال تعالى: ( وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ )[البقرة:111] وقد مارسوا ذلك الغرور والتعالي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بشتى الوسائل والصور، ومن ذلك هذه الصورة([101])، فعن ابن عباس t قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نعمان بن أضاء وبحري بن عمرو، وشأس بن عدي، فكلموه وكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الله وحذرهم نقمته، فقالوا: ما تخوفنا يا محمد نحن أبناء الله وأحباؤه([102])- كقول النصارى- فأنزل الله تعالى: ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَّشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَللهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ )[المائدة:18].
ل- البخل:
من صفات اليهود القديمة بخلهم بالمال، وعدم إنفاقه في سبيل الخير، فكانوا يأتون رجالاً من الأنصار ويقولون لهم: لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر في ذهابها، ولا تسارعوا في النفقة فإنكم لا تدرون علام يكون([103]) فأنزل الله فيهم: ( الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا )[النساء:37] أي من التوراة التي فيها تصديق ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم: ( وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ وَكَانَ اللهُ بِهِم عَلِيمًا )[النساء:39].
م- العناد:
رغم قيام الأدلة والبراهين على صدق نبوة ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم إلا أن اليهود بسبب عنادهم امتنعوا عن الإيمان، وانغمسوا في الكفر والتكذيب؛ لأن العناد يقفل العقول بأقفال الهوى، وقد بين المولى عز وجل هذه الصفة في قوله تعالى: ( وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إذا لَّمِنَالظَّالِمِينَ )[البقرة:145] نعم لو قدمت لهم يا محمد ألف دليل ودليل ما اقتنعوا وما غيروا وبدلوا، ويصدق([104]) فيهم قول الله تعالى: ( قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ )[يونس:101].
هذه بعض الصفات التي تجسدت في الشخصية اليهودية، والتي أشار القرآن الكريم
إليها لنعرف اليهود على حقيقتهم، حتى لا يغتر المسلمون بهم في أي وقت أو أي زمان
أو أي مكان.


جميع الأوقات بتوقيت GMT +2. الساعة الآن 09:42 AM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.