بوابة الثانوية العامة المصرية

بوابة الثانوية العامة المصرية (https://www.thanwya.com/vb/index.php)
-   أرشيف المنتدي (https://www.thanwya.com/vb/forumdisplay.php?f=513)
-   -   موسوعة الأخلاق الإسلامية (https://www.thanwya.com/vb/showthread.php?t=511314)

محمد رافع 52 13-04-2013 11:56 PM

ثانيًا: في السُّنَّة النَّبويَّة

- عن عبد الله بن زيد بن عاصم قال: ((لـمَّا أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم يوم حنين قسم في النَّاس في المؤلَّفة قلوبهم، ولم يعطِ الأنصار شيئًا، فكأنَّهم وجدوا إذ لم يصبهم ما أصاب النَّاس، فخطبهم فقال: يا معشر الأنصار، ألم أجدكم ضُلَّالًّا فهداكم الله بي، وكنتم متفرِّقين فألَّفكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي؟ كلَّما قال شيئًا قالوا: الله ورسوله أَمَنُّ. قال: ما يمنعكم أن تجيبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: كلَّما قال شيئًا قالوا: الله ورسوله أَمَنُّ. قال: لو شئتم قلتم جئتنا كذا وكذا، أترضون أن يذهب النَّاس بالشَّاة والبعير، وتذهبون بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟ لولا الهجرة لكنت امرءًا مِن الأنصار، ولو سلك النَّاس واديًا وشعبًا لسلكت وادي الأنصار وشعبها، الأنصار شعار والنَّاس دثار، إنَّكم ستَلْقَون بعدي أَثَرَة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض)) .
وهذا مِن أكبر نعم الله في بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن ألَّف به بين قوم قويت بينهم العصبيَّات، وينبغي أن يكون شأن المسلم هكذا: يؤلِّف بين المتفرِّقين ويأتلف حوله المحبون .
- وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن يأْلَف ويُؤْلَف، ولا خير فيمن لا يأْلَف ولا يُؤْلَف)) .
قال المناوي في شرح قوله: ((المؤمن يأْلَف)) قال: (لحسن أخلاقه وسهولة طباعه ولين جانبه. وفي رواية: ((إلْفٌ مَأْلُوفٌ)). والإلْف: اللَّازم للشَّيء، فالمؤمن يأْلَف الخير، وأهله ويألفونه بمناسبة الإيمان، قال الطِّيبي: وقوله: ((المؤمن إلْفٌ)) يحتمل كونه مصدرًا على سبيل المبالغة، كرجل عدل، أو اسم كان، أي: يكون مكان الأُلْفَة ومنتهاها، ومنه إنشاؤها وإليه مرجعها، ((ولا خير فيمن لا يأْلَف ولا يُؤْلَف)) لضعف إيمانه، وعُسْر أخلاقه، وسوء طباعه. والأُلْفَة سببٌ للاعتصام بالله وبحبله، وبه يحصل الإجماع بين المسلمين وبضِدِّه تحصل الـنُّفْرة بينهم، وإنَّما تحصل الأُلْفَة بتوفيقٍ إلهي... ومِن التَّآلف: ترك المداعاة والاعتذار عند توهُّم شيء في النَّفس، وتَــرْك الجدال والمراء وكثرة المزاح) .
و(قال الماورديُّ: بيَّن به أن الإنسان لا يُصْلِح حاله إلَّا الأُلْفَة الجامعة؛ فإنَّه مقصود بالأذيَّة، محسود بالنِّعمة، فإذا لم يكن إلفًا مألوفًا تختطفه أيدي حاسديه، وتحكَّم فيه أهواء أعاديه، فلم تسلم له نعمة، ولم تَصْفُ له مدَّة، وإذا كان إلفًا مألوفًا انتصر بالأُلْف على أعاديه، وامتنع بهم مِن حسَّاده، فسلمت نعمته منهم، وصفت مودَّته بينهم، وإن كان صفو الزَّمان كدرًا ويُسْرُه عسرًا وسلمه خطرًا) .
قال الرَّاغب الأصفهاني: (ولذلك حثَّنا على الاجتماعات في الجماعات والجمعات، لكون ذلك سببًا للأُلْفَة، بل لذلك عظَّم الله تعالى المنَّة على المؤمنين بإيقاع الأُلْفَة بين المؤمنين ... وليس ذلك في الإنسان فقط، بل لولا أنَّ الله تعالى ألَّف بين الأركان المتضادة، لما استقام العالم) .
- وعن عوف بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((خيار أئمتكم: الذين تحبُّونهم ويحبُّونكم، ويصلُّون عليكم، وتصلُّون عليهم، وشرار أئمتكم: الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم)) .
إنَّ خيار النَّاس في نظر الشَّرع هم الذين يأْلَفون ويُؤْلَفون، وخاصَّة حين يكونون في منصب أو مسؤوليَّة، إذ قد ينزلقون إلى صورٍ مِن الغلظة والجفوة حين يكونون مطلوبين لا طالبين .
- وقال صلى الله عليه وسلم: ((النَّاس معادن كمعادن الفضَّة والذَّهب، خيارهم في الجاهليَّة خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، والأرواح جنودٌ مجنَّدة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف)) .
قال ابن حجر: (قال الخطابي: يحتمل أن يكون إشارة إلى معنى التشاكل في الخير والشر والصلاح والفساد، وأن الخير من الناس يحن إلى شكله، والشرير نظير ذلك يميل إلى نظيره، فتعارف الأرواح يقع بحسب الطباع التي جبلت عليها من خير وشر، فإذا اتفقت تعارفت وإذا اختلفت تناكرت، ويحتمل أن يراد الإخبار عن بدء الخلق في حال الغيب على ما جاء أن الأرواح خلقت قبل الأجسام وكانت تلتقي فتتشاءم، فلما حلت بالأجسام تعارفت بالأمر الأول فصار تعارفها وتناكرها على ما سبق من العهد المتقدم. وقال غيره: المراد أن الأرواح أول ما خلقت خلقت على قسمين، ومعنى تقابلها أن الأجساد التي فيها الأرواح إذا التقت في الدنيا ائتلفت أو اختلفت، على حسب ما خلقت عليه الأرواح في الدنيا إلى غير ذلك بالتعارف. قلت: ولا يعكر عليه أن بعض المتنافرين ربما ائتلفا لأنه محمول على مبدأ التلاقي فإنه يتعلق بأصل الخلقة بغير سبب، وأما في ثاني الحال فيكون مكتسبا لتجدد وصف يقتضي الألفة بعد النفرة، كإيمان الكافر وإحسان المسيء. وقوله: (جنود مجندة) أي أجناس م***ة أو جموع مجمعة. قال ابن الجوزي ويستفاد من هذا الحديث أن الإنسان إذا وجد من نفسه نفرة ممن له فضيلة أو صلاح فينبغي أن يبحث عن المقتضي لذلك؛ ليسعى في إزالته حتى يتخلص من الوصف المذموم، وكذلك القول في عكسه. وقال القرطبي: الأرواح وإن اتفقت في كونها أرواحًا لكنها تتمايز بأمور مختلفة تتنوع بها، فتتشاكل أشخاص النوع الواحد وتتناسب بسبب ما اجتمعت فيه من المعنى الخاص لذلك النوع للمناسبة، ولذلك نشاهد أشخاص كل نوع تألف نوعها وتنفر من مخالفها، ثم إنا نجد بعض أشخاص النوع الواحد يتآلف وبعضها يتنافر، وذلك بحسب الأمور التي يحصل الاتفاق والانفراد بسببها) .

محمد رافع 52 13-04-2013 11:59 PM

أقوال السَّلف والعلماء في الأُلْفَة

- عن مجاهد قال: رأى ابن عبَّاس رجلًا فقال: (إنَّ هذا ليحبُّني. قالوا: وما علمك؟ قال: إنِّي لأحبُّه، والأرواح جنودٌ مجنَّدة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف) .
- وعن الأوزاعيِّ قال: كتب إليَّ قتادة: إن يكن الدَّهر فرَّق بيننا فإنَّ أُلْفَة الله الَّذي ألَّف بين المسلمين قريب .
- وقال يونس الصَّدفي: (ما رأيت أعقل مِن الشَّافعي، ناظرته يومًا في مسألة، ثمَّ افترقنا، ولقيني، فأخذ بيدي، ثمَّ قال: يا أبا موسى، ألَا يستقيم أن نكون إخوانًا وإن لم نتَّفق في مسألة) .
- وقال السُّلمي: (وأصل التَّآلف هو بغض الدُّنْيا والإعراض عنها، فهي التي توقع المخالفة بين الإخوان) .
- وقال الماورديُّ: (الإنسان مقصود بالأذيَّة، محسود بالنِّعمة. فإذا لم يكن آلفًا مألوفًا تخطَّفته أيدي حاسديه، وتحكَّمت فيه أهواء أعاديه، فلم تسلم له نعمة، ولم تَصْفُ له مُدَّة. فإذا كان آلفًا مألوفًا انتصر بالأُلْفَة على أعاديه، وامتنع مِن حاسديه، فسَلِمت نعمته منهم، وصَفَت مُدَّتُه عنهم، وإن كان صفو الزَّمان عُسْرًا، وسِلمُه خَطَرًا) .
- وقال الْغَزالِي (الأُلْفَة ثَمَرَة حُسْن الخُلُق، والتَّفرق ثَمَرَة سوء الخُلُق، فَحُسْن الخُلُق يُوجب التَّحبُّب والتَّآلف والتَّوافق، وسُوء الخُلُق يُثمر التَّباغض والتَّحاسد والتَّناكر) .
- وقال أبو حاتم: (سبب ائتلاف النَّاس وافتراقهم بعد القضاء السَّابق هو: تعارف الرُّوحين وتناكر الرُّوحين، فإذا تعارف الرُّوحان وُجِدَت الأُلْفَة بين نفسيهما، وإذا تناكر الرُّوحان وُجِدَت الفُرْقَة بين جسميهما) .
- وقال أيضًا: (إنَّ مِن النَّاس مَن إذا رآه المرء يُعْجَب به، فإذا ازداد به علمًا ازداد به عجبًا، ومنهم مَن يبغضه حين يراه، ثمَّ لا يزداد به علمًا إلَّا ازداد له مقتًا، فاتِّفاقهما يكون باتِّفاق الرُّوحين قديمًا) .
- وقال ابن تيمية: (إنَّ السَّلف كانوا يختلفون في المسائل الفرعيَّة، مع بقاء الأُلْفَة والعصمة وصلاح ذات البين) .
- وقال الأبشيهي: (التَّآلف سبب القوَّة، والقوَّة سبب التَّقوى، والتَّقوى حصنٌ منيع وركن شديد، بها يُمْنَع الضَّيم، وتُنَال الرَّغائب، وتنجع المقاصد) .

محمد رافع 52 14-04-2013 12:09 AM

فوائد الأُلْفَة

1- قيام الأُلْفَة بين المؤمنين مِن أسباب النَّصر والتَّمكين.
2- الأُلْفَة تجمع شمل الأمَّة وتمنع ذلَّهم.
3- الأُلْفَة سببٌ للاعتصام بالله وبحبله.
4- الألفة من أسباب محبَّة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.
5- تُحقق التَّماسك الاجتماعي، وتُشيع روح المودَّة بين المسلمين.
6- داعية إلى التَّناصر وسلامة المجتمع المسلم.
7- توفِّر جوًّا اجتماعيًّا سليمًا لنمو الإنسان المسلم نموًّا سليمًا في إطار مبادئ الإسلام.
8- داعية إلى التَّوحد الاجتماعي، ونبذ أسباب الفُرْقة والمعاداة.
9- تُشيع التَّعاون بين المسلمين، وفي ذلك مدعاة لرضا الله تعالى ثمَّ رضا النَّاس.

محمد رافع 52 14-04-2013 12:14 AM

أسباب الأُلْفَة
هناك أسبابٌ كثيرةٌ تؤدِّي إلى الأُلْفَة والمحبَّة، وتقوي الروابط والعلاقات بين أفراد المجتمع المسلم فمنها:
1- التَّعارف ومعاشرة النَّاس:
قال صلى الله عليه وسلم: ((الأرواح جنودٌ مجنَّدة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف)) .
2- التَّواضع:
إنَّ (خفض الجنَاح ولين الكَلِمَة وتَرْك الإغلاظ مِن أَسبَاب الأُلْفَة واجتماع الكَلِمَة وانتظام الأَمر ولهذا قيل: مَن لانت كلمته وجبت محبَّته وحَسُنَت أُحدُوثته، وظمئت الْقُلُوب إلى لقائه وتنافست في مودته) .
قال ابن عثيمين: (وظيفة المسلم مع إخوانه، أن يكون هيِّنًا ليِّنًا بالقول وبالفعل؛ لأنَّ هذا ممَّا يوجب المودَّة والأُلْفَة بين النَّاس، وهذه الأُلْفَة والمودَّة أمرٌ مطلوبٌ للشَّرع، ولهذا نهى النَّبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلام عن كلِّ ما يوجب العداوة والبغضاء) .
3- القيام بحقوق المسلمين والالتزام بها:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((حق المسلم على المسلم خمسٌ: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس)) .
(فهذه الحقوق التي بيَّنها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم كلَّها إذا قام بها النَّاس بعضهم مع بعض، حَصل بذلك الأُلْفَة والمودَّة، وزال ما في القلوب والنُّفوس مِن الضَّغائن والأحقاد) .
ومن ذلك:
4- إفشاء السَّلام:
قال صلى الله عليه وسلم: ((يا أيُّها النَّاس أفشوا السَّلام، وأطعموا الطَّعام، وصلوا الأرحام، وصلُّوا باللَّيل والنَّاس نيام، تدخلوا الجنَّة بسلام)) .
(قال الإمام الرَّازي: الحكمة في طلب السَّلام عند التَّلاقي والمكاتبة دون غيرهما: أنَّ تحيَّة السَّلام طُلِبت عند ما ذكر؛ لأنَّها أوَّل أسباب الأُلْفَة، والسَّلامة التي تضمنها السَّلام هي أقصى الأماني فتنبسط النَّفس -عند الاطِّلاع عليه- أيَّ بسطٍ، وتتفاءل به أحسن فأل) .
5- زيارة المسلم وعيادته إذا مرض:
فزيارة المسلم لأخيه المسلم تبعث على الحبِّ والإخاء، ولا سيَّما عند المرض، مع ما أعده الله من الأجر والثواب له قال صلى الله عليه وسلم: ((مَن عاد مريضًا أو زار أخًا له في الله، ناداه مناد بأن طبت وطاب ممشاك، وتبوَّأت مِن الجنَّة منزلًا)) .
6- الكلام اللَّين:
فالكلام اللَّين والطَّيب مِن الأسباب التي تؤلِّف بين القلوب، قال تعالى: وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا [الإسراء: 53].
7- التَّعفُّف عن سؤال النَّاس:
قال صلى الله عليه وسلم: ((وازهد فيما في أيدي النَّاس يحبَّك النَّاس)) .
8- السَّعي للإصلاح بين النَّاس:
قال تعالى: فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ [الأنفال: 1].
9- الاهتمام بأمور المسلمين والإحساس بقضاياهم:
قال صلى الله عليه وسلم: ((المؤمنون كرجل واحد، إذا اشتكى رأسه تداعى له سائر الجسد بالحمَّى والسَّهر)) .
10- التَّهادي:
لا شك أن تقديم الهديَّة يزيد مِن الأُلْفَة والمحبَّة والتَّقارب بين المهدي والـمُهْدَى إليه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: ((تهادوا تحابُّوا)) .
11 – حسن الخلق:
قال الغزالي: (اعلم أن الألفة ثمرة حسن الخلق، والتفرق ثمرة سوء الخلق‏، فحسن الخلق يوجب التحاب والتآلف والتوافق وسوء الخلق يثمر التباغض والتحاسد والتدابر ومهما كان المثمر محمودًا كانت الثمرة محمودة) .
وقد أرجع الماورديُّ أسباب الأُلْفَة إلى خمسة أسباب رئيسة: وهي: الدِّين والنَّسب والمصاهرة والمودَّة والبرُّ، فقال:
1- (فأمَّا الدِّين: وهو الأوَّل مِن أسباب الأُلْفَة؛ فلأنَّه يبعث على التَّناصر، ويمنع مَن التَّقاطع والتَّدابر. وبمثل ذلك وصَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، فروى سفيان عن الزُّهري عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخوانًا لا يحلُّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث)) .
وهذا وإن كان اجتماعهم في الدِّين يقتضيه فهو على وجه التَّحذير مِن تذكُّر تراث الجاهليَّة وإحَن الضَّلالة. فقد بُعِث رسول الله صلى الله عليه وسلم والعرب أشدُّ تقاطعًا وتعاديًا، وأكثر اختلافًا وتماديًا، حتى إنَّ بني الأب الواحد يتفرَّقون أحزابًا، فتثير بينهم بالتَّحزب والافتراق أحقاد الأعداء، وإحَن البعداء...
2- وأما النَّسب: وهو الثَّاني مِن أسباب الأُلْفَة؛ فلأن تعاطف الأرحام حميَّة القرابة يبعثان على التَّناصر والأُلْفَة، ويمنعان مِن التَّخاذل والفرقة، أنفة مِن استعلاء الأباعد على الأقارب، وتوقيًا مِن تسلُّط الغرباء الأجانب. وقد رُوِي عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: ((إنَّ الرَّحم إذا تماسَّت تعاطفت)) .
3- وأمَّا المصاهرة: وهي الثَّالث مِن أسباب الأُلْفَة، فلأنَّها استحداث مواصلة، وتمازج مناسبة، صدرا عن رغبةٍ واختيار، وانعقدا على خيرٍ وإيثار، فاجتمع فيها أسباب الأُلْفَة ومواد المظاهرة. قال الله تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً [الرُّوم: 21] يعني بالمودَّة المحبَّة، وبالرَّحمة الحنو والشَّفقة، وهما مِن أوكد أسباب الأُلْفَة...
4- وأمَّا المؤاخاة بالمودَّة، وهي الرَّابع مِن أسباب الأُلْفَة؛ لأنَّها تكسب بصادق الميل إخلاصًا ومصافاة، ويحدث بخلوص المصافاة وفاءً ومحاماةً. وهذا أعلى مراتب الأُلْفَة، ولذلك آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه؛ لتزيد ألفتهم، ويقوي تضافرهم وتناصرهم ...
5- وأمَّا البرُّ، وهو الخامس مِن أسباب الأُلْفَة، فلأنَّه يوصِّل إلى القلوب ألطافًا، ويثنيها محبَّة وانعطافًا. ولذلك ندب الله تعالى إلى التَّعاون به، وقرنه بالتَّقوى له، فقال: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة: 2].
لأنَّ في التَّقوى رضى الله تعالى، وفي البرِّ رضى النَّاس. ومَن جَمَع بين رضى الله تعالى ورضى النَّاس فقد تمَّت سعادته، وعمَّت نعمته) .

محمد رافع 52 14-04-2013 12:21 AM

الأُلْفَة في واحة الشِّعر


قال عليٌّ رضي الله عنه:

عليك بإخوانِ الصفاءِ فإنَّهم***عمادٌ إذا استنجدتهم وظهورُ
وإنَّ قليلًا ألفُ خلٍّ وصاحبٍ***وإنَّ عدوًّا واحدًا لكثيرُ


قال أحمد بن محمَّد بن بكر الأبناوي:

إنَّ القلوبَ لأجنادٌ مجنَّدةٌ***للهِ في الأرضِ بالأهواءِ تعترفُ



فما تعارفَ منها فهو مؤتلفٌ***وما تناكرَ منها فهو مختلفُ


وقال منصور بن محمَّد الكريزي:

فما تبصرُ العينانِ والقلبُ آلفٌ***ولا القلبُ والعينان منطبقان



ولكن هما روحان تعرضُ ذي لذى***فيعرفُ هذا ذي فيلتقيان


وقال: محمَّد بن إسحاق بن حبيب الواسطي:

تعارفُ أرواحُ الرِّجال إذا التقوا***فمنهم عدوٌّ يُــتَّقى وخليلُ



كذاك أمورُ النَّاسِ والنَّاسُ منهم***خفيفٌ إذا صاحبته وثقيلُ


وقال المنتصر بن بلال الأنصاري:

يزينُ الفتى في قومِه ويشينُه***وفي غيرِهم أخدانُه ومداخلُه



لكلِّ امرئٍ شكلٌ مِن النَّاسِ مثلُه***وكلُّ امرئٍ يهوى إلى مَن يشاكلُه


وقال محمَّد بن عبد الله بن زنجي البغدادي:

إن كنت حُلْتَ، وبي استبدلت مُطَّرحًا***وُدًّا فلم تأتِ مكروهًا ولا بدعا



فكلُّ طيرٍ إلى الأشكالِ موقعُها***والفرعُ يجري إلى الأعراقِ منتزعا




محمد رافع 52 14-04-2013 12:23 AM

الأمَانَة
معنى الأمَانَة لغةً واصطلاحًا
معنى الأمَانَة لغةً:
الأمانة ضد الخيانة، وأصل الأَمْن: طمأنينة النفس وزوال الخوف، والأمانة مصدر أمن بالكسر أمانة فهو أمين، ثم استعمل المصدر في الأعيان مجازًا، فقيل الوديعة أمانة ونحوه، والجمع أمانات، فالأمانة اسم لما يُؤمَّن عليه الإنسان، نحو قوله تعالى: وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ [الأنفال: 27]، أي: ما ائتمنتم عليه، وقوله: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [الأحزاب: 72 ] .
معنى الأمَانَة اصطلاحًا:
الأمانة: هي كلُّ حقٍّ لزمك أداؤه وحفظه .
وقيل هي: (التَّعفُّف عمَّا يتصرَّف الإنسان فيه مِن مال وغيره، وما يوثق به عليه مِن الأعراض والحرم مع القدرة عليه، وردُّ ما يستودع إلى مودعه) .
وقال الكفوي: (كلُّ ما افترض على العباد فهو أمانة، كصلاة وزكاة وصيام وأداء دين، وأوكدها الودائع، وأوكد الودائع كتم الأسرار) .

محمد رافع 52 14-04-2013 12:26 AM

أولًا: في القرآن الكريم

- قوله تعالى: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا [النِّساء: 58].
قال ابن تيمية: (قال العلماء: نزلت... في ولاة الأمور: عليهم أن يؤدُّوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكموا بين النَّاس أن يحكموا بالعدل... وإذا كانت الآية قد أوجبت أداء الأمانات إلى أهلها والحكم بالعدل، فهذان جماع السياسة العادلة والولاية الصالحة) .
وقال الشَّوكاني: (هذه الآية مِن أمَّهات الآيات المشتملة على كثير مِن أحكام الشَّرع؛ لأنَّ الظَّاهر أنَّ الخطاب يشمل جميع النَّاس في جميع الأمانات، وقد رُوِي عن علي، وزيد بن أسلم، وشهر بن حوشب أنَّها خطاب لولاة المسلمين، والأوَّل أظهر، وورودها على سبب... لا ينافي ما فيها مِن العموم، فالاعتبار بعموم اللَّفظ لا بخصوص السَّبب، كما تقرَّر في الأصول، وتدخل الولاة في هذا الخطاب دخولًا أوَّليًّا، فيجب عليهم تأدية ما لديهم مِن الأمانات، وردُّ الظُّلامات، وتحرِّي العدل في أحكامهم، ويدخل غيرهم مِن النَّاس في الخطاب، فيجب عليهم ردُّ ما لديهم مِن الأمانات، والتَّحرِّي في الشهادات والأخبار. وممَّن قال بعموم هذا الخطاب: البراء بن عازب، وابن مسعود، وابن عبَّاس، وأبيُّ بن كعب، واختاره جمهور المفسِّرين، ومنهم ابن جرير، وأجمعوا على أنَّ الأمانات مردودة إلى أربابها: الأبرار منهم والفجار، كما قال ابن المنذر) .
- وقوله عزَّ وجلَّ: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [الأحزاب: 72-73].
ففي هذه الآية: (عظَّم تعالى شأن الأمَانَة، التي ائتمن الله عليها المكلَّفين، التي هي امتثال الأوامر، واجتناب المحارم، في حال السِّرِّ والخفية، كحال العلانية، وأنَّه تعالى عرضها على المخلوقات العظيمة، السَّماوات والأرض والجبال، عَرْض تخيير لا تحتيم، وأنَّكِ إن قمتِ بها وأدَّيتِهَا على وجهها، فلكِ الثَّواب، وإن لم تقومي بها، ولم تؤدِّيها فعليك العقاب. فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا أي: خوفًا أن لا يقمن بما حُمِّلْنَ، لا عصيانًا لربِّهن، ولا زهدًا في ثوابه، وعَرَضَها الله على الإنسان، على ذلك الشَّرط المذكور، فقَبِلها، وحملها مع ظلمه وجهله، وحمل هذا الحمل الثقيل) .
- وقال تعالى في ذكر صفات المفلحين: وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ [المؤمنون: 8]، (أي: مراعون لها، حافظون مجتهدون على أدائها والوفاء بها، وهذا شامل لجميع الأمانات التي بين العبد وبين ربِّه، كالتَّكاليف السِّرِّيَّة، التي لا يطَّلع عليها إلَّا الله، والأمانات التي بين العبد وبين الخلق، في الأموال والأسرار) .
- والقرآن حكى لنا قصَّة موسى حين سقى لابنتي الرَّجل الصَّالح، ورفق بهما، وكان معهما عفيفًا أمينًا: وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ [القصص: 23-26].

محمد رافع 52 14-04-2013 12:29 AM

ثانيًا: في السُّنَّة النَّبويَّة

- عن عبد الله بن عبَّاس رضي الله عنهما قال: (أخبرني أبو سفيان أنَّ هرقل قال له: سألتك ماذا يأمركم؟ فزعمت أنَّه يأمر بالصَّلاة والصِّدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمَانَة. قال: وهذه صفة نبي) .
- وعنه أيضًا رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)) .
(يعني إذا ائتمنه النَّاس على أموالهم أو على أسرارهم أو على أولادهم أو على أي شيء مِن هذه الأشياء فإنَّه يخون -والعياذ بالله-، فهذه مِن علامات النِّفاق) .
- وعن ابن عباس أيضًا قال: ((بينما النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في مجلس يحدِّث القوم، جاء أعرابيٌّ فقال: متى السَّاعة؟ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدِّث. فقال بعض القوم: سمع ما قال فكره ما قال، وقال بعضهم: بل لم يسمع. حتى إذا قضى حديثه قال: أين أُراه السَّائل عن السَّاعة؟ قال: ها أنا يا رسول الله. قال: فإذا ضُيِّعت الأمَانَة فانتظر السَّاعة. قال: كيف إضاعتها؟ قال: إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله فانتظر السَّاعة)) .
- وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: ((حدَّثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر: حدَّثنا أنَّ الأمَانَة نزلت في جذر قلوب الرِّجال، ثمَّ علموا مِن القرآن ثمَّ علموا مِن السُّنَّة. وحدَّثنا عن رفعها. قال: ينام الرَّجل النَّومة فتقبض الأمَانَة مِن قلبه فيظلُّ أثرها مثل أثر الوَكْت. ثمَّ ينام النَّومة فتُقْبض فيبقى فيها أثرها مثل أثر المجْل ، كجمر دحرجته على رجلك فنَفِط . فتراه منتبرًا وليس فيه شيء، ويصبح النَّاس يتبايعون، فلا يكاد أحد يؤدِّي الأمَانَة، فيقال: إنَّ في بني فلان رجلًا أمينًا. ويقال للرَّجل: ما أعقله، وما أظرفه! وما أجلده! وما في قلبه مثقال حبَّة خردل مِن إيمان)) .
(الحديث يصوِّر انتزاع الأمَانَة مِن القلوب الخائنة تصويرًا محرجًا، فهي كذكريات الخير في النُّفوس الشِّرِّيرة، تمرُّ بها وليست منها، وقد تترك مِن مرِّها أثرًا لاذعًا. بيد أنَّها لا تحيي ضميرًا مات، وأصبح صاحبه يزن النَّاس على أساس أثرته وشهوته، غير مكترث بكفر أو إيمان!! إنَّ الأمَانَة فضيلة ضخمة، لا يستطيع حملها الرَّجال المهازيل، وقد ضرب الله المثل لضخامتها، فأبان أنَّها تثقل كاهل الوجود، فلا ينبغي للإنسان أن يستهين بها أو يفرِّط في حقِّها. قال الله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً [الأحزاب: 72] والظُّلم والجهل آفتان عرضتا للفطرة الأولى، وعُني الإنسان بجهادهما فلن يخلص له إيمان إلَّا إذا أنقاه مِن الظُّلم: الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ... [الأنعام: 82] ولن تخلص له تقوى إلَّا إذا نَقَّاها مِن الجهالة: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء [فاطر:28] ولذلك بعد أن تقرأ الآية التي حملت الإنسان الأمَانَة تجد أنَّ الذين غلبهم الظُّلم والجهل خانوا ونافقوا وأشركوا، فحقَّ عليهم العقاب، ولم تـكـتب السَّــــلامة إلَّا لأهـــــل الإيمــــــان والأمَــــانَة: لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [الأحزاب: 73]) .
- وعن عبد الله بن عمرو عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: ((أربعٌ إذا كنَّ فيك فلا يضرَّنَّك ما فاتك مِن الدُّنْيا: صِدْق حديث، وحِفْظ أمانة، وحُسْن خليقة، وعفَّة طُعْمة)) .

محمد رافع 52 14-04-2013 05:23 PM

أقوال السَّلف والعلماء في الأمَانَة
- قال أبو بكر الصِّديق رضي الله عنه: (أصدق الصِّدق الأمَانَة وأكذب الكذب الخيانة) .
- وعن ابن أبي نجيح قال: (لما أُتِي عمر بتاج كسرى وسواريه جعل يقلبه بعود في يده ويقول: والله إنَّ الذي أدَّى إلينا هذا لأمين. فقال رجل: يا أمير المؤمنين أنت أمين الله يؤدُّون إليك ما أدَّيت إلى الله فإذا رتعت رتعوا. قال: صدقت) .
- وعن هشام أنَّ عمر قال: (لا تغرُّني صلاة امرئ ولا صومه، مَن شاء صام، ومَن شاء صلى، لا دين لمن لا أمانة له) .
- وقال عبد الله بن مسعود: (ال*** في سبيل الله كفَّارة كلِّ ذنب إلَّا الأمَانَة، وإنَّ الأمَانَة الصَّلاة والزَّكاة والغسل مِن الجنابة والكيل والميزان والحديث، وأعظم مِن ذلك الودائع) .
- وعن أبي هريرة قال: (أوَّل ما يرفع مِن هذه الأمَّة الحياء والأمَانَة، فسلوها الله) .
- وقال ابن عبَّاس رضي الله عنهما: (لم يرخِّص الله لمعسر ولا لموسر أن يمسك الأمَانَة) .
- وقال نافع مولى ابن عمر: (طاف ابن عمر سبعًا وصلَّى ركعتين، فقال له رجل مِن قريش: ما أسرع ما طفت وصلَّيت يا أبا عبد الرَّحمن. فقال ابن عمر: أنتم أكثر منَّا طوافًا وصيامًا، ونحن خير منكم بصدق الحديث، وأداء الأمَانَة وإنجاز الوعد) .
- وعن سفيان بن عيينة قال: (مَن لم يكن له رأس مال فليتخذ الأمَانَة رأس ماله) .
- وقال ميمون بن مهران: (ثلاثة يؤدَّين إلى البرِّ والفاجر: الأمَانَة، والعهد، وصلة الرَّحم) .
- وقال الشَّافعي: (آلات الرِّياسة خمس: صِدق اللَّهجة، وكتمان السِّرِّ، والوفاء بالعهد، وابتداء النَّصيحة، وأداء الأمَانَة) .
- وقال ابن أبي الدُّنْيا: (الدَّاعي إلى الخيانة شيئان: المهانة وقلَّة الأمَانَة، فإذا حسمهما عن نفسه بما وصفت ظهرت مروءته) .
- وعن خالد الربعي قال كان يقال: (إنَّ مِن أجدر الأعمال أن لا تُؤخَّر عقوبته أو يُعجَّل عقوبته: الأمَانَة تُخَان، والرَّحم تُقْطَع، والإحْسَان يُكْفَر) .

محمد رافع 52 14-04-2013 05:26 PM

فوائد الأمَانَة

1- الأمَانَة مِن كمال الإيمان وحسن الإسلام.
2- يقوم عليها أمر السَّموات والأرض.
3- هي محور الدِّين وامتحان ربِّ العالمين.
4- بالأمَانَة يُحْفَظ الدِّين والأعراض والأموال والأجسام والأرواح والمعارف والعلوم والولاية والوصاية والشَّهادة والقضاء والكتابة...
5- الأمين يحبُّه الله ويحبُّه النَّاس.
6- مِن أعظم الصِّفات الخُلقيَّة التي وصف الله بها عباده المؤمنين بقوله: وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ [المؤمنون: 8]، و[المعارج: 32]
7- مجتمع تفشو فيه الأمَانَة مجتمع خيرٍ وبركة.

محمد رافع 52 14-04-2013 05:31 PM

صور الأمَانة
هناك مجالات وصور تدخل فيها الأمَانَة وهي كثيرة فـ(الأمانة باب واسعٌ جدًّا، وأصلها أمران:
أمانة في حقوق الله: وهى أمانة العبد في عبادات الله عزَّ وجلَّ. وأمانة في حقوق البشر) . وفيما يلي تفصيل ما يدخل تحتهما من صور:
1- الأمَانَة فيما افترضه الله على عباده:
فمِن الأمَانَة: (ما ائتمنه الله على عباده مِن العبادات التي كلَّفهم بها، فإنَّها أمانة ائتمن الله عليها العباد) .
2- الأمَانَة في الأموال:
(ومِن الأمَانَة: العفَّة عمَّا ليس للإنسان به حقٌّ مِن المال، وتأدية ما عليه مِن حقٍّ لذويه، وتأدية ما تحت يده منه لأصحاب الحقِّ فيه، وتدخل في البيوع والديون والمواريث والودائع والرهون والعواري والوصايا وأنواع الولايات الكبرى والصُّغرى وغير ذلك) .
(ومنها الأمَانَة المالية وهي: الودائع التي تُعْطَى للإنسان ليحفظها لأهلها. وكذلك الأموال الأخرى التي تكون بيد الإنسان لمصلحته، أو مصلحته ومصلحة مالكها؛ وذلك أنَّ الأمَانَة التي بيد الإنسان إمَّا أن تكون لمصلحة مالكها أو لمصلحة مَن هي بيده أو لمصلحتهما جميعًا، فأمَّا الأوَّل فالوديعة تجعلها عند شخص، تقول -مثلًا-: هذه ساعتي عندك، احفظها لي. أو: هذه دراهم، احفظها لي. وما أشبه ذلك، فهذه وديعة المودع فيها بقيت عنده لمصلحة مالكها، وأمَّا التي لمصلحة مَن هي بيده فالعارية: يعطيك شخصٌ شيئًا يعيرك إيَّاه مِن إناء أو فراش أو ساعة أو سيَّارة، فهذه بقيت في يدك لمصلحتك، وأمَّا التي لمصلحة مالكها ومَن هي بيده: فالعين المستأجرة، فهذه مصلحتها للجميع؛ استأجرت منِّي سيَّارة وأخذتها، فأنت تنتفع بها في قضاء حاجتك، وأنا أنتفع بالأجرة، وكذلك البيت والدُّكَّان وما أشبه ذلك، كلُّ هذه مِن الأمانات) .
3– الأمَانَة في الأعراض:
فمِن الأمَانَة في الأعراض: العفَّة عمَّا ليس للإنسان فيه حقٌّ منها، وكفُّ النَّفس واللِّسان عن نيل شيء منها بسوء، كالقذف والغيبة.
4- الأمَانَة في الأجسام والأرواح:
فمِن الأمَانَة في الأجسام والأرواح: كفُّ النَّفس واليد عن التَّعرُّض لها بسوء، من *** أو جرح أو ضرٍّ أو أذى.
5– الأمَانَة في المعارف والعلوم:
فمِن الأمَانَة في المعارف والعلوم تأديتها دون تحريف أو تغيير، ونسبة الأقوال إلى أصحابها، وعدم انتحال الإنسان ما لغيره منها.
6- الأمَانَة في الولاية:
فمِن الأمَانَة في الولاية: تأدية الحقوق إلى أهلها، وإسناد الأعمال إلى مستحقِّيها الأكفياء لها، وحفظ أموال النَّاس وأجسامهم وأرواحهم وعقولهم، وصيانتها ممَّا يؤذيها أو يضرُّ بها، وحفظ الدِّين الذي ارتضاه الله لعباده مِن أن يناله أحدٌ بسوء، وحفظ أسرار الدَّولة وكلِّ ما ينبغي كتمانه مِن أن يسرَّب إلى الأعداء، إلى غير ذلك مِن أمور .
قال ابن عثيمين: (ومِن الأمَانَة -أيضًا- أمانة الولاية، وهي أعظمها مسؤوليَّة، الولاية العامَّة والولايات الخاصَّة، فالسُّلطان –مثلًا، الرَّئيس الأعلى في الدَّولة- أمينٌ على الأمَّة كلِّها، على مصالحها الدِّينية، ومصالحها الدُّنيويَّة، على أموالها التي تكون في بيت المال، لا يبذِّرها ولا ينفقها في غير مصلحة المسلمين وما أشبه ذلك. وهناك أمانات أخرى دونها، كأمانة الوزير -مثلًا- في وزارته، وأمانة الأمير في منطقته، وأمانة القاضي في عمله، وأمانة الإنسان في أهله) .
أمَّا إذا تعيَّن رجلان، أحدهما أعظم أمانة والآخر أعظم قوَّة، قُدِّم أنفعهما لتلك الولاية. قال ابن تيمية: (واجتماع القوَّة والأمَانَة في النَّاس قليل، ولهذا كان عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه يقول: اللَّهمَّ أشكو إليك جلد الفاجر وعجز الثِّقة، فالواجب في كلِّ ولاية الأصلح بحسبها، فإذا تعيَّن رجلان أحدهما أعظم أمانة، والآخر أعظم قوَّة، قُدِّم أنفعهما لتلك الولاية وأقلهما ضررًا فيها، فيُقَدَّم في إمارة الحروب الرَّجل القوي الشُّجاع -وان كان فيه فجور- على الرَّجل الضَّعيف العاجز، وإن كان أمينًا، كما سُئل الإمام أحمد عن الرَّجلين يكونان أميرين في الغزو، وأحدهما قويٌّ فاجر، والآخر صالح ضعيف، مع أيِّهما يُغْزى؟ فقال: أمَّا الفاجر القويُّ فقوَّته للمسلمين، وفجوره على نفسه، وأمَّا الصَّالح الضَّعيف فصلاحه لنفسه، وضعفه على المسلمين، فيُغْزَى مع القويِّ الفاجر، وقد قال النَّبيُّ: ((إنَّ الله يؤيِّد هذا الدِّين بالرَّجل الفاجر)) . ورُوِي: ((بأقوام لا خلاق لهم)) ، وإن لم يكن فاجرًا كان أولى بإمارة الحرب ممَّن هو أصلح منه في الدِّين، إذا لم يسدَّ مسدَّه) .
7– الأمَانَة في الشَّهادة:
وتكون الأمَانَة في الشَّهادة بتحمُّلها بحسب ما هي عليه في الواقع، وبأدائها دون تحريف أو تغيير أو زيادة أو نقصان.
8 – الأمَانَة في القضاء:
وتكون الأمَانَة في القضاء بإصدار الأحكام وفْقَ أحكام العدل التي استُؤْمِن القاضي عليها، وفُوِّض الأمر فيها إليه.
9– الأمَانَة في الكتابة:
وتكون الأمَانَة في الكتابة بأن تكون على وفْقِ ما يمليه ممليها، وعلى وفْقِ الأصل الذي تُنْسَخ عنه، فلا يكون فيها تغيير ولا تبديل ولا زيادة ولا نقص، وإذا كانت مِن إنشاء كاتبها فالأمَانَة فيها أن تكون مضامينها خالية مِن الكذب، والتَّلاعب بالحقائق، إلى غير ذلك.
10– الأمَانَة في الأسرار التي يُستأمن الإنسان على حفظها وعدم إفشائها:
وتكون الأمَانَة فيها بكتمانها .
(ومِن الأمانات ما يكون بين الرَّجل وصاحبه مِن الأمور الخاصَّة التي لا يجب أن يطَّلع عليها أحدٌ، فإنَّه لا يجوز لصاحبه أن يخبر بها، فلو استأمنك على حديث حدَّثك به، وقال لك: هذا أمانة، فإنَّه لا يحلُّ لك أن تخبر به أحدًا مِن النَّاس، ولو كان أقرب النَّاس إليك، سواءً أوصاك بأن لا تخبر به أحدًا، أو عُلِم مِن قرائن الأحوال أنَّه لا يحب أن يطلع عليه أحدٌ؛ ولهذا قال العلماء: إذا حدَّثك الرَّجل بحديث والتفت فهذه أمانة. لماذا؟ لأنَّ كونه يلتفت فإنَّه يخشى بذلك أن يسمع أحدٌ، إذًا فهو لا يحبُّ أن يطَّلع عليه أحدٌ، فإذا ائتمنك الإنسان على حديث فإنَّه لا يجوز لك أن تفشيه.
ومِن ذلك أيضًا ما يكون بين الرَّجل وبين زوجته مِن الأشياء الخاصَّة، فإنَّ شرَّ النَّاس منزلةً عند الله تعالى يوم القيامة الرَّجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه، ثمَّ يروح ينشر سرَّها، ويتحدَّث بما جرى بينهما) .
11– الأمَانَة في الرِّسالات:
وتكون الأمَانَة فيها بتبليغها إلى أهلها تامَّة غير منقوصة ولا مزاد عليها، وعلى وفْقِ رغبة محمِّلها، سواء أكانت رسالة لفظيَّة أو كتابيَّة أو عمليَّة .
12– الأمَانَة في السَّمع والبصر وسائر الحواس:
وتكون الأمَانَة فيها بكفِّها عن العدوان على أصحاب الحقوق، وبحفظها عن معصية الله فيها، وبتوجيهها للقيام بما يجب فيها مِن أعمال، فاستراق السَّمع خيانة، واستراق النَّظر إلى ما لا يحلُّ النَّظر إليه خيانة، واستراق اللَّمس المحرَّم خيانة .
(ومِن معاني الأمَانَة أن تنظر إلى حواسك التي أنعم الله بها عليك، وإلى المواهب التي خصَّك بها، وإلى ما حُبيت مِن أموالٍ وأولادٍ، فتدرك أنَّها ودائع الله الغالية عندك، فيجب أن تسخرها في قرباته، وأن تستخدمها في مرضاته. فإن امتُحِنتَ بنقص شيء منها فلا يستخفَّنَّكالجزع متوهمًا أنَّ ملكك المحض قد سُلب منك، فالله أولى بك منك. وأولى بما أفاء عليك وله ما أخذ وله ما أعطى. وإن امتُحِنتَ ببقائها فما ينبغي أن تجبن بها عن جهاد، أو تفتتن بها عن طاعة، أو تستقوي بها على معصية. قال الله عزَّ وجلَّ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [الأنفال: 27-28]) .
13- الأمَانَة في النُّصح والمشورة:
ومِن صور الأمَانَة أن تنصح مَن استشارك، وأن تَصْدُق مَن وَثَقَ برأيك، فإذا عرض عليك أحدٌ مِن النَّاس موضوعًا معيَّنًا، وطلب منك الرَّأي والمشورة والنَّصيحة، فاعلم أنَّ إبداء رأيك له أمانة، فإذا أشرت عليه بغير الرَّأي الصَّحيح، فذلك خيانة .
وقد قال الرَّسول صلى الله عليه وسلم: ((المستشار مؤتمن)) .

محمد رافع 52 14-04-2013 05:35 PM

الأمَانَة صفة الرُّسل

إنَّ صفة الأمَانَة أحد الصِّفات الواجب توافرها في كلِّ رسول...
فإن كان خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم، قد لُقِّب قبل البعثة (بالأمين) فلك أن تتصور شمائل الرُّجولة، وخصال الصَّلاح تتخايل في شخصه الكريم، والتي لأجلها وُضِع في المكان اللَّائق به.
والأَتْباع ما داموا عقلاء، فلابد أن يكون لهم نصيب مِن تلك الخِلَال، فقد وصف الله المؤمنين بما وصف به الملائكة والمرسلين، قال تعالى واصفًا للمؤمنين: وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وقد وردت مرَّتين: في سورة [المؤمنون: 8] وفي سورة [المعارج: 32].
وتلك الصِّفة بعينها ذُكِرت خمس مرَّات متواليات بحقِّ الأنبياء في سورة الشُّعراء:
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ.. فقد قالها نبيُّ الله نوح في آية [107]، ونبيُّ الله هود، في آية [125]، ونبيُّ الله صالح في آية [143]، ونبيُّ الله لوط في آية [162]، ونبيُّ الله شعيب في آية [178].
بل إنَّ جبريل عليه السَّلام، مِن أسمائه: (الرُّوح الأمين).
ولا غرو، فبقدر امتداد معنى الأمَانَة في النَّفس، تكون قيمتها، وتكون منزلة صاحبها.

محمد رافع 52 14-04-2013 05:38 PM

الرَّسول صلى الله عليه وسلم القدوة في الأمَانَة

أشهر مَن اتصف بالأمَانَة هو نبيُّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم في كلِّ أمور حياته، قبل البعثة وبعدها.
أما أمانته قبل البعثة: فقد عُرِف بين قومه قبل بعثته بالأمين ولقِّب به، فها هي القبائل مِن قريش لما بنت الكعبة حتى بلغ البنيان موضع الركن -الحجر الأسود- اختصموا فيه، كلُّ قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون القبيلة الأخرى حتى تخالفوا وأعدُّوا للقتال، فمكثت قريش على ذلك أربع ليالي أو خمسًا، ثمَّ تشاوروا في الأمر، فأشار أحدهم بأن يكون أوَّل مَن يدخل مِن باب المسجد هو الذي يقضي بين القبائل في هذا الأمر، ففعلوا، فكان أوَّل داخل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمَّا رأوه قالوا: هذا الأمين، رضينا، هذا محمَّد، فلمَّا انتهى إليهم، وأخبروه الخبر، قال -عليه الصَّلاة والسَّلام-: ((هلمَّ إليَّ ثوبًا، فأُتِي به، فأخذ الركن، فوضعه فيه بيده، ثمَّ قال: لتأخذ كلُّ قبيلة بناحية مِن الثَّوب، ثمَّ ارفعوه جميعًا، ففعلوا، حتى إذا بلغوا به موضعه، وضعه هو بيده، ثمَّ بنى عليه)) .
ولقد كان السَّبب في زواجه صلى الله عليه وسلم بخديجة رضي الله عنها هو الأمَانَة، فقد تاجر صلى الله عليه وسلم في مال خديجة قبل البعثة، وقد اتَّصف في تجارته بصدق الحديث، وعظيم الأمَانَة، يقول ابن الأثير في هذا الصَّدد: (فلمَّا بلغها -أي: خديجة- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صِدْقَ الحديث، وعظيم الأمَانَة، وكرم الأخلاق، أرسلت إليه ليخرج في مالها إلى الشَّام تاجرًا، وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره مع غلامها ميسرة، فأجابها، وخرج معه ميسرة) ، ولـمَّا عاد إلى مكَّة، وقصَّ عليها ميسرة أخبار محمَّد صلى الله عليه وسلم قررت الزَّواج به.
والمواقف التي تدلُّ على أمانته صلى الله عليه وسلم قبل البعثة كثيرة.
أمَّا أمانته بعد البعثة: فقد أدَّى الرَّسول صلى الله عليه وسلم الأمَانَة الكبرى -التي تكفَّل بها وهي الرِّسالة- أعظم ما يكون الأداء، وتحمَّل في سبيلها أعظم أنواع المشقَّة.
وقد شهد له العدوُّ قبل الصَّديق بأمانته، ومِن الأمثلة على ذلك: ما جاء في حوار أبي سفيان (قبل إسلامه) وهرقل، حيث قال هرقل: (سألتك ماذا يأمركم؟ فزعمت أنَّه يأمر بالصَّلاة، والصِّدق، والعفاف، والوفاء بالعهد، وأداء الأمَانَة، قال: وهذه صفة نبيٍّ)... وفي موضع آخر يقول هرقل: (وسألتك هل يغدر؟ فزعمت أن لا، وكذلك الرُّسل لا يغدرون).
وقد كان صلى الله عليه وسلم أحرص النَّاس على أداء الأمانات والودائع للنَّاس حتى في أصعب وأحلك الأوقات، فها هي قريش تُودِع عنده أموالها أمانة لما يتوسَّمون فيه مِن هذه الصِّفة، وها هو صلى الله عليه وسلم يخرج مهاجرًا مِن مكَّة إلى المدينة، فماذا يفعل في أمانات النَّاس التي عنده؟! (قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: نَمْ على فراشي، واتَّشح ببردي الأخضر، فنم فيه، فإنَّه لا يخلص إليك شيء تكرهه، وأمره أن يؤدِّي ما عنده مِن وديعة وأمانة .

محمد رافع 52 14-04-2013 05:40 PM

نماذج في الأمَانَة مِن الأمم الماضية
- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اشترى رجل مِن رجل عقارًا له فوجد الرَّجل الذي اشترى العقار في عقاره جرَّةً فيها ذهبٌ، فقال له الذي اشترى العقار: خذ ذهبك منِّى؛ إنَّما اشتريت منك الأرض ولم أبتع منك الذَّهب. فقال الذي شرى الأرض: إنَّما بعتك الأرض وما فيها. قال: فتحاكما إلى رجل، فقال الذي تحاكما إليه: ألكما ولدٌ؟ فقال: أحدهما لي غلامٌ، وقال الآخر: لي جارية. قال أنكحوا الغلام الجارية، وأنفقوا على أنفسكما منه وتصدَّقا)) .
- وعنه أيضًا، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه ذكر رجلًا مِن بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يُسْلفه ألف دينار، فقال: ائتني بالشُّهداء أشهدهم. فقال: كفى بالله شهيدًا. قال: فأتني بالكفيل. قال: كفى بالله كفيلًا. قال: صدقت. فدفعها إليه إلى أجلٍ مسمًّى، فخرج في البحر، فقضى حاجته، ثمَّ التمس مركبًا يركبها يقدم عليه للأجل الذي أجَّله، فلم يجد مركبًا فأخذ خشبة فنقرها، فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة منه إلى صاحبه، ثمَّ زجَّج موضعها، ثم أتى بها إلى البحر، فقال: اللَّهمَّ إنَّك تعلم أنِّي كنت تسلَّفت فلانًا ألف دينار، فسألني كفيلًا، فقلتُ: كفى بالله كفيلًا، فرضي بك، وسألني شهيدًا، فقلتُ: كفى بالله شهيدًا، فرضي بك، وإنِّي جهدت أن أجد مركبًا أبعث إليه الذي له فلم أقدر، وإنِّي أستودعكها، فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه، ثمَّ انصرف وهو في ذلك يلتمس مركبًا يخرج إلى بلده، فخرج الرَّجل الذي كان أسلفه ينظر، لعلَّ مركبًا قد جاء بماله، فإذا بالخشبة التي فيها المال، فأخذها لأهله حطبًا فلما نشرها وجد المال والصَّحيفة، ثمَّ قدم الذي كان أسلفه، فأتى بالألف دينار فقال: والله ما زلت جاهدًا في طلب مركب لآتيك بمالك، فما وجدت مركبًا قبل الذي أتيت فيه. قال: هل كنت بعثت إليَّ بشيء؟ قال: أخبرك أنِّي لم أجد مركبًا قبل الذي جئت فيه. قال: فإنَّ الله قد أدَّى عنك الذي بعثت في الخشبة، فانصرف بالألف الدِّينار راشدًا)) .

محمد رافع 52 14-04-2013 05:46 PM

المعاني التي ترمز إليها الأمانة
الأمَانَة في نظر الشَّارع واسعة الدِّلالة، وهي ترمز إلى معان شتَّى، مناطها جميعًا شعور المرء بتبعته في كلِّ أمر يُوكل إليه، وإدراكه الجازم بأنَّه مسؤول عنه أمام ربِّه... والعوام يقصرون الأمَانَة في أضيق معانيها وآخرها ترتيبًا، وهو حفظ الودائع، مع أنَّ حقيقتها في دين الله أضخم وأثقل.
وإنَّها الفريضة التي يتواصى المسلمون برعايتها ويستعينون بالله على حفظها، حتى إنَّه عندما يكون أحدهم على أُهْبة السَّفر يقول له أخوه: ((أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك)) .
وعن أنس قال: ((قلَّما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلَّا قال: لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له)) .
ولـمَّا كانت السَّعادة القصوى أن يُوقَى الإنسان شقاء العيش في الدُّنْيا، وسوء المنقلب في الأخرى، فإنَّ رسول الله جمع في استعاذته بين الحالين معًا، إذ قال: ((اللَّهمَّ إنِّي أعوذ بك مِن الجوع فإنَّه بئس الضَّجيع، وأعوذ بك مِنالخيانة فإنَّها بئس البطانة)) ، فالجوع ضياع الدُّنْيا والخيانة ضياع الدِّين .
العمل بالحيل يفتح باب الخيانة:
قال ابن تيمية: (أخبر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((أنَّ أوَّل ما يُفْقَد مِن الدِّين الأمَانَة، وآخر ما يُفْقد منه الصَّلاة)) ، وحدَّث عن رفع الأمَانَة مِن القلوب، الحديث المشهور وقال: ((خير القرون القرن الذي بعثت فيهم، ثمَّ الذين يلونهم، ثمَّ الذين يلونهم)) فذكر بعد قرنه قرنين، أو ثلاثة، ثمَّ ذكر أنَّ بعدهم قومًا ((يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السِّمن)) ، وهذه أحاديث صحيحة مشهورة. ومعلوم أنَّ العمل بالحيل يفتح بابالخيانة والكذب، فإنَّ كثيرًا مِن الحيل لا يتم إلَّا أن يتفق الرَّجلان على عقد يظهرانه ومقصودهما أمر آخر، كما ذكرنا في التَّمليك للوقف، وكما في الحيل الرِّبويَّة، وحيل المناكح، وذلك الذي اتفقا عليه إن لزم الوفاء به كان العقد فاسدًا. وإن لم يلزم فقد جُوِّزتالخيانة والكذب في المعاملات، ولهذا لا يطمئن القلب إلى مَن يستحل الحيل خوفًا مِن مكره، وإظهاره ما يبطن خلافه، وفي الصحيحين عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: ((المؤمن مَن أَمِنَه النَّاس على دمائهم وأموالهم)) . والمحتال غير مأمون، وفي حديث ابن عمر أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن عمر: ((كيف بك يا عبد الله إذا بقيت في حثالة مِن النَّاس قد مَرَجَت عهودهم وأمانتهم، واختلفوا فصاروا هكذا. وشبَّك بين أصابعه، قال: فكيف أفعل يا رسول الله؟ قال: تأخذ ما تعرف، وتدع ما تنكر، وتقبل على خاصَّتك، وتدعهم وعوامهم)) . وهو حديث صحيح، وهو في بعض نسخ البخاري، والحيل توجب مرج العهود والأمانات وهو قلقها واضطرابها، فإنَّ الرَّجل إذا سوغ له مَن يعاهد عهدًا، ثمَّ لا يفي به، أو أن يُؤْمَن على شيء، فيأخذ بعضه بنوع تأويل، ارتفعت الثِّقة به وأمثاله، ولم يُؤْمَن في كثير مِن الأشياء أن يكون كذلك، ومَن تأمَّل حيل أهل الدِّيوان وولاة الأمور التي استحلُّوا بها المحارم، ودخلوا بها في الغلول والخيانة، ولم يبق لهم معها عهدٌ ولا أمانة، عَلِم يقينًا أنَّ الاحتيال والتَّأويلات أوجب عِظَم ذلك، وعَلِم خروج أهل الحيل مِن قوله: وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ [المؤمنون: 8]، وقوله: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ [الإنسان:7]، ومخالفتهم لقوله تعالى: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النِّساء: 58]، وقوله تعالى: أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ [المائدة:1]) .

محمد رافع 52 14-04-2013 05:52 PM

الأمَانَة في واحة الشِّعر
قال كعب المزني:


أرعَى الأمَانَةَ لا أخونُ أمانتي***إنَّ الخؤونَ على الطريقِ الأنكبِ




وقال عبيد بن الأبرص:


إذا أنت حمَّلتَ الخؤونَ أمانةً***فإنَّك أسندتها شرَّ مسندِ



وقال المعري:


يخونُك مَن أدَّى إليك أمانةً***فلم ترعَه يومًا بقولٍ ولا فعلِ



فأَحْسِنْ إلى مَن شئتَ في الأرضِ أو أسئْ***فإنَّك تجزي حذوك النَّعل بالنَّعلِ



وقال العرجي:


وما حُمِّل الإنسانُ مثلَ أمانةٍ***أشقَّ عليه حين يحملُها حملا



فإن أنت حمِّلتَ الأمَانَةَ فاصطبرْ***عليها فقد حمِّلتَ مِن أمرها ثقلا



ولا تقبلنَّ فيما رضيتَ نميمة***وقل للذي يأتيك يحملُها مهلا



وقال صالح بن عبد القدوس:


أدِّ الأمَانَة والخيانة فاجْتَنِبْ***واعْدِلْ ولا تظلمْ، يَطِبْ لك مكسبُ

https://encrypted-tbn3.gstatic.com/i...LwPBmUxBgwO-4h



وإذا بُلِيْتَ بِنكبَةٍ فاصبرْ لها***مَن ذا رأيت مسلَّمًا لا يُنكَبُ

محمد رافع 52 14-04-2013 05:55 PM

الإيثَار
معنى الإيثَار لغةً واصطلاحًا
معنى الإيثَار لغةً:
الإيثَار مصدر آثر يُـؤْثِر إيثَارًا، بمعنى التَّقديم والاختيار والاختصاص، فآثره إيثارًا اختاره وفضله، ويقال: آثره على نفسه، والشيء بالشيء خصه به .
معنى الإيثَار اصطلاحًا:
(الإيثَار أن يقدِّم غيره على نفسه في النَّفع له، والدَّفع عنه، وهو النِّهاية في الأخوة) .
وقال ابن مسكويه: (الإيثار: هو فضيلة للنَّفس بها يكفُّ الإنسان عن بعض حاجاته التي تخصُّه حتى يبذله لمن يستحقُّه)

محمد رافع 52 14-04-2013 05:57 PM

الفرق بين الإيثَار والسَّخاء والجود
ذكر ابن قيِّم الجوزية فروقًا بين كلٍّ مِن الإيثار والسَّخاء والجود، مع أنَّها كلَّها أفعال بذلٍ وعطاء، قال ابن القيِّم في مدارج السالكين: (وهذا المنزل – أي الإيثَار-: هو منزل الجود والسَّخاء والإحْسَان، وسمِّي بمنزل الإيثَار؛ لأنَّه أعلى مراتبه، فإنَّ المراتب ثلاثة:
إحداها: أن لا ينقصه البذل ولا يصعب عليه، فهو منزلة السَّخاء.
الثَّانية: أن يعطي الأكثر ويبقي له شيئًا، أو يبقي مثل ما أعطى فهو الجود.
الثَّالثة: أن يؤثر غيره بالشَّيء مع حاجته إليه، وهي مرتبة الإيثَار) .

محمد رافع 52 15-04-2013 09:04 PM

أولًا: في القرآن الكريم

يعتبر الإيثَار مِن محاسن الأخلاق الإسلاميَّة، فهو مرتبة عالية مِن مراتب البذل، ومنزلة عظيمة مِن منازل العطاء، لذا أثنى الله على أصحابه، ومدح المتحلِّين به، وبيَّن أنَّهم المفلحون في الدُّنْيا والآخرة.
- قال الله تبارك وتعالى: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر: 9].
قال الطَّبري: (يقول تعالى ذكره: وهو يصفُ الأنصار: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قبل المهاجرين، وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ يقول: ويعطون المهاجرين أموالهم إيثَارًا لهم بِها على أنفسهم وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ يقول: ولو كان بهم حاجة وفاقة إلى ما آثَرُوا به مِن أموالهم على أنفسهم) .
وقال ابن كثير: (أي: يقدِّمون المحاويج على حاجة أنفسهم، ويبدؤون بالنَّاس قبلهم في حال احتياجهم إلى ذلك) .
ويقول ابن تيمية: (وأمَّا الإيثَار مع الخصاصة فهو أكمل مِن مجرَّد التَّصدق مع المحبَّة، فإنَّه ليس كلُّ متصدِّق محبًّا مؤثرًا، ولا كلُّ متصدِّق يكون به خصاصة، بل قد يتصدَّق بما يحبُّ مع اكتفائه ببعضه مع محبَّة لا تبلغ به الخصاصة) .
- وقال الله تعالى: لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ [آل عمران: 92].
(يعني: لن تنالوا وتدركوا البرَّ، الذي هو اسمٌ جامعٌ للخيرات، وهو الطَّريق الموصل إلى الجنَّة، حتى تنفقوا ممَّا تحبُّون، مِن أطيب أموالكم وأزكاها. فإنَّ النَّفقة مِن الطَّيب المحبوب للنُّفوس، مِن أكبر الأدلَّة على سماحة النَّفس، واتِّصافها بمكارم الأخلاق، ورحمتها ورقَّتها، ومِن أدلِّ الدَّلائل على محبَّة الله، وتقديم محبَّته على محبَّة الأموال، التي جبلت النُّفوس على قوَّة التَّعلُّق بها، فمَن آثر محبَّة الله على محبَّة نفسه، فقد بلغ الذِّروة العليا مِن الكمال، وكذلك مَن أنفق الطَّيبات، وأحسن إلى عباد الله، أحسن الله إليه ووفَّقه أعمالًا وأخلاقًا، لا تحصل بدون هذه الحالة) .
- وقال تبارك وتعالى:لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة: 177].
فبين الله تبارك وتعالى أنَّ مِن البرِّ بعد الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتب والأنبياء.. إطعام الطَّعام لمحتاجيه، وبذله لمريديه، مع حبِّه واشتهائه والرَّغبة فيه، وقد جاء به الله تعالى -أي: إطعام الطَّعام- بعد أركان الإيمان مباشرة، وفي ذلك دلالة على عظمته وعلو منزلته.
قال ابن مسعود في قوله (على حبِّه): هو أن تتصدق وأنت صحيح شحيح، تأمل البقاء، وتخشى الفقر .
- وقال تعالى: عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا [الإنسان: 6-9].
وقد (اخْتُلِف في مرجع الضَّمير عَلَى حُبِّهِ ، هل هو راجع على الطَّعام أم على الله تعالى ؟ أي: ويطعمون الطَّعام على حُبِّ الطَّعام؛ لِقِلَّته عندهم وحاجتهم إليه، أم على حُبِّ الله رجاء ثواب الله؟
وقد رجَّح ابن كثير المعنى الأوَّل، وهو اختيار ابن جرير، وساق الشَّواهد على ذلك، كقوله: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ [البقرة:177]، وقوله: لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران: 92].
والواقع أنَّ الاستدلال الأوَّل فيه ما في هذه الآية، ولكن أقرب دليلًا وأصرح قوله تعالى: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر: 9] ) .
- وقال الله تبارك وتعالى: وَجَزَاهُم صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا [الإنسان: 12-13].
(والمعنى: وجزاهم بصبرهم على الإيثار، وما يؤدِّي إليه مِن الجوع والعري بستانًا فيه مأكل هنيء وحريرًا فيه ملبس بهي) .

محمد رافع 52 15-04-2013 09:09 PM

ثانيًا: في السُّنَّة النَّبويَّة

- عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ الأشعريِّين إذا أرملوا في الغزو، أو قلَّ طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثمَّ اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسَّويَّة، فهم منِّي، وأنا منهم)) .
يقول العيني: (فيه منقبة عظيمة للأشعريين من إيثارهم ومواساتهم بشهادة سيدنا رسول الله وأعظم ما شرفوا به كونه أضافهم إليه ....وفيه فضيلة الإيثَار والمواساة) .
وقال أبو العبَّاس القرطبي: (هذا الحديث يدلُّ على أنَّ الغالب على الأشعريِّين الإيثَار، والمواساة عند الحاجة... فثبت لهم بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنَّهم...كرماء مؤثرون) .
- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((طعام الاثنين كافي الثَّلاثة، وطعام الثَّلاثة كافي الأربع)) . وفي لفظ لمسلم: ((طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثَّمانية)) .
(قال المهَلَّب: والمراد بهذه الأحاديث الحضُّ على المكارمة في الأكل والمواساة والإيثَار على النَّفس، الذي مدح الله به أصحاب نبيَّه، فقال: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9]. ولا يُراد بها معنى التَّساوي في الأكل والتَّشاح؛ لأنَّ قوله عليه السَّلام: ((كافي الثَّلاثة)) دليل على الأثرة التي كانوا يمتدحون بها والتَّقنُّع بالكفاية، وقد همَّ عمر بن الخطَّاب في سنة مجاعة أن يجعل مع كل أهل بيت مثلهم، وقال: لن يهلك أحد عن نصف قوته) .
- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((جاء رجل إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أي الصَّدقة أعظم أجرًا ؟ قال: أن تصدَّق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم ، قلتَ: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان)) .
قال ابن بطَّال: (فيه أنَّ أعمال البرِّ كلَّما صعبت كان أجرها أعظم، لأنَّ الصَّحيح الشَّحيح إذا خشي الفقر، وأمَّل الغنى صعبت عليه النَّفقة، وسوَّل له الشَّيطان طول العمر، وحلول الفقر به، فمَن تصدَّق في هذه الحال، فهو مؤثر لثواب الله على هوى نفسه، وأمَّا إذا تصدَّق عند خروج نفسه، فيخشى عليه الضِّرار بميراثه والجوار في فعله) .
- وعن جابر بن عبد الله حدَّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه أراد أن يغزو فقال: ((يا معشر المهاجرين والأنصار إنَّ مِن إخوانكم قومًا ليس لهم مال ولا عشيرة، فليضمَّ أحدكم إليه الرَّجلين أو الثَّلاثة، فما لأحدنا مِن ظهرٍ يحمله إلَّا عُقْبَةٌ كعُقْبَةِ. (يعني: أحدهم). فضممْتُ إليَّ اثنين أو ثلاثةً، قال: ما لي إلَّا عُقْبَةٌ كعُقْبَةِ أحدهم مِن جملي)) .

محمد رافع 52 15-04-2013 09:11 PM

فوائد الإيثَار
للإيثَار فوائد عظيمة وثمار جليلة يجنيها أصحاب هذا الخُلُق العظيم منها:
1- دخولهم فيمن أثنى الله عليهم مِن أهل الإيثَار، وجعلهم مِن المفلحين.
2- الإيثَار طريق إلى محبَّة الله تبارك وتعالى.
3- تحقيق الكمال الإيماني، فالإيثَار دليلٌ عليه، وثمرة مِن ثماره.
4- ومِن أعظم الثِّمار والفوائد: أنَّ التَّحلِّي بخُلُق الإيثَار فيه اقتداءٌ بالحبيب محمَّد صلى الله عليه وسلم.
5- أنَّ المؤْثر يجني ثمار إيثاره في الدُّنْيا قبل الآخرة وذلك بمحبَّة النَّاس له وثناؤهم عليه، كما أنَّه يجني ثمار إيثاره بعد موته بحسن الأحدوثة وجمال الذِّكر، فيكون بذلك قد أضاف عمرًا إلى عمره.
6- الإيثَار يقود المرء إلى غيره مِن الأخلاق الحسنة والخِلال الحميدة كالرَّحمة وحبِّ الغير والسَّعي لنفع النَّاس، كما أنَّه يقوده إلى تَرك جملةٍ مِن الأخلاق السَّيِّئة والخِلال الذَّميمة كالبخل وحبِّ النَّفس والأَثَـــرَة والطَّمع وغير ذلك.
7- الإيثار جالبٌ للبركة في الطَّعام والمال والممتلكات.
8- وجود الإيثَار في المجتمع دليلٌ على وجود حس التَّعاون والتَّكافل والمودَّة، وفقده مِن المجتمع دليلٌ على خلوِّه مِن هذه الركائز المهمَّة في بناء مجتمعات مؤمنة قويَّة ومتكاتفة.
9- بالإيثَار تحصل الكفاية الاقتصاديَّة والمادِّيَّة في المجتمع، فطعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الثَّلاثة، والبيت الكبير الذي تستأثر به أسرة واحدة مع سعته يكفي أكثر مِن أسرة ليس لها بيوت تؤويها وهكذا.

محمد رافع 52 15-04-2013 09:14 PM

: إيثار يتعلَّق القسم الأوَّل بالخالق
وهو أفضل أنواع الإيثَار وأعلاها منزلة، وأرفعها قدرًا، يقول ابن القيِّم: (والإيثَار المتعلِّق بالخالق أجلُّ مِن هذا -أي مِن الإيثَار المتعلِّق بالخلق- وأفضل، وهو إيثار رضاه على رضى غيره، وإيثار حبِّه على حبِّ غيره، وإيثار خوفه ورجائه على خوف غيره ورجائه، وإيثار الذُّل له والخضوع والاستكانة والضَّراعة والتملُّق على بذل ذلك لغيره، وكذلك إيثار الطلب منه والسُّؤال وإنزال الفاقات به على تعلُّق ذلك بغيره) .
ولهذا النَّوع مِن الإيثَار علامتان تدلان عليه، لا بدَّ أن تظهرا على مدَّعيه، وهما:
الأول: أن يفعل المرء كلَّ ما يحبُّه الله تعالى ويأمر به، وإن كان ما يحبُّه الله مكروهًا إلى نفسه، ثقيلًا عليه.
الثَّاني: أن يترك ما يكرهه الله تعالى وينهى عنه، وإن كان محبَّـــبًا إليه، تشتهيه نفسه، وترغِّب فيه.
يقول ابن القيِّم: (فبهذين الأمرين يصحُّ مقام الإيثَار) .
صعوبة هذا الإيثَار على النَّفس:
جُبِلت النَّفس على الرَّاحة والدَّعة والميل إلى الملاذ والمتع، كما جُبِلت على البعد عن كلِّ ما يشقُّ عليها أو ينغِّص متعتها أو يحدُّ مِن ملذَّاتها، ولـمَّا كان هذا النَّوع مِن الإيثَار يضادُّ ما جُبِلَت عليه النَّفس مِن الرَّاحة والدَّعة كان صعبًا عليها التَّلبُّس به، أو التَّخلُّق والتَّحلِّي بمعناه.
يقول ابن القيِّم مبيِّــنًا صعوبة هذا النَّوع مِن الإيثَار وثقله على النَّفس:
(ومؤنة هذا الإيثَار شديدة لغلبة الأغيار، وقوَّة داعي العادة والطَّبع، فالمحنة فيه عظيمة، والمؤنة فيه شديدة، والنَّفس عنه ضعيفة، ولا يتم فلاح العبد وسعادته إلَّا به، وإنَّه ليسيرٌ على مَن يسَّره الله عليه) .
وإن كان هذا النَّوع مِن الإيثَار شديدٌ على النَّفس صعب على الرُّوح إلَّا أنَّ ثمراته وما يجنيه الشَّخص منه تفوق ثمرات أيِّ نوع مِن الأعمال، فنهايته فوز محقَّق وفلاح محتوم، وملك لا يضاهيه ملك.
(فحقيق بالعبد أن يسمو إليه وإن صَعُب المرتقى، وأن يشمِّر إليه وإن عَظُمَت فيه المحنة، ويحمل فيه خطرًا يسيرًا لملْك عظيم وفوز كبير، فإنَّ ثمرة هذا في العاجل والآجل ليست تشبه ثمرة شيء مِن الأعمال، ويسيرٌ منه يرقِّي العبد ما لا يرقى غيره إليه في المدَد المتطاولة، وذلك فضل الله يؤتيه مَن يشاء) .

محمد رافع 52 15-04-2013 09:16 PM

القسم الثَّاني: إيثار يتعلَّق بالخَلْق
وهذا هو النَّوع الثَّاني مِن أنواع الإيثَار مِن حيث تعلُّقه بالخَلْق.. وقد قسَّم ابن عثيمين هذا النَّوع مِن الإيثَار إلى ثلاثة أقسام:
(الأوَّل: ممنوع، والثَّاني: مكروه أو مباح، والثَّالث: مباح.
- القسم الأوَّل: وهو الممنوع: وهو أن تؤثر غيرك بما يجب عليك شرعًا، فإنَّه لا يجوز أن تقدم غيرك فيما يجب عليك شرعًا... فالإيثَار في الواجبات الشَّرعية حرام، ولا يحل لأنَّه يستلزم إسقاط الواجب عليك.
- القسم الثَّاني: وهو المكروه أو المباح: فهو الإيثَار في الأمور المستحبة، وقد كرهه بعض أهل العلم، وأباحه بعضهم، لكن تَــركُه أولى لا شكَّ إلَّا لمصلحة.
- القسم الثَّالث: وهو المباح: وهذا المباح قد يكون مستحبًّا، وذلك أن تؤثر غيرك في أمر غير تعبُّدي أي تؤثر غيرك، وتقدِّمه على نفسك في أمرٍ غير تعبُّدي) .
شروط هذا النَّوع مِن الإيثَار:
ذكر ابن القيِّم شروطًا للإيثَار المتعلِّق بالمخلوقين تنقله مِن حيِّز المنع أو الكراهة إلى حيِّز الإباحة ولعلَّنا نجملها فيما يلي:
1- أن لا يضيع على المؤْثِر وقته.
2- أن لا يتسبَّب في إفساد حاله.
3- أن لا يهضم له دينه.
4- ألَّا يكون سببًا في سدِّ طريق خير على المؤْثِر.
5- أن لا يمنع للمُؤْثر واردًا.
فإذا توفَّرت هذه الشُّروط كان الإيثَار إلى الخَلْق قد بلغ كماله، أمَّا إن وُجِد شيء مِن هذه الأشياء كان الإيثَار إلى النَّفس أَوْلَى مِن الإيثَار إلى الغير، فالإيثَار المحمود -كما قال ابن القيِّم هو: (الإيثَار بالدُّنْيا لا بالوقت والدِّين وما يعود بصلاح القلب) .
ثانيًا: أقسامه مِن حيث باعثه والدَّاعي إليه
- الأوَّل: قسم يكون الباعث إليه الفطرة والغريزة: كالذي يكون عند الآباء والأمَّهات وأصحاب العِشْق، وهذا كما يقول عبد الرَّحمن الميداني الباعث إليه فطري في النُّفوس ينتج عنه حبٌّ شديدٌ عارم، والحبُّ مِن أقوى البواعث الذَّاتية الدَّافعة إلى التَّضْحية بالنَّفس وكلُّ ما يتَّصل بها مِن مصالح وحاجات مِن أجل سلامة المحبوب أو تحقيق رضاه، أو جلب السَّعادة أو المسرَّة إليه .
تقول أمُّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها: ((جاءتني مسكينة تحمل ابنتين لها، فأطعمتها ثلاث تمرات، فأعطت كلَّ واحدة منهما تمرة. ورفعت إلى فيها تمرة لتأكلها، فاستطعمتها ابنتاها، فشقَّت التَّمرة، التي كانت تريد أن تأكلها بينهما، فأعجبني شأنها، فذكرت الذي صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إنَّ الله قد أوجب لها بها الجنَّة، أو أعتقها بها مِن النَّار)) . فهذا الإيثَار دافعه حبُّ الأم لابنتيها ورحمتها بهما.
- الثَّاني: وقسم يكون الدَّافع هو الإيمان، وحبَّ الخير للغير، على حساب النَّفس وملذَّاتها ومشتهياتها، وهو كما قال الميداني: (ليس إيثارًا انفعاليًّا عاطفيًّا مجردًا، ولكنَّه إيثار يعتمد على محاكمة منطقيَّة سليمة، ويعتمد على عاطفة إيمانيَّة عاقلة) .

محمد رافع 52 15-04-2013 09:18 PM

درجات الإيثَار:
ذَكَر أبو إسماعيل الهرويُّ في كتابه ((منازل السَّائرين)) أنَّ للإيثار ثلاث درجات:
- الدَّرجة الأولى: (أن تؤثر الخَلْق على نفسك فيما لا يَحْرُم عليك دينًا، ولا يقطع عليك طريقًا، ولا يفسد عليك وقتًا) .
قال ابن القيِّم في شرحه لهذه الدَّرجة: (يعني: أن تُقدِّمهم على نفسك في مصالحهم، مثل: أن تطعمهم وتجوع، وتكسوهم وتعرى، وتسقيهم وتظمأ، بحيث لا يؤدِّي ذلك إلى ارتكاب إتلافٍ لا يجوز في الدِّين) .
- الدَّرجة الثَّانية: (إيثار رضى الله تعالى على رضى غيره، وإن عَظُمَت فيه المحن وثَقُلَت به المؤن، وضَعُفَ عنه الطول والبدن) .
قال ابن القيِّم: (هو أن يريد ويفعل ما فيه مرضاته، ولو أغضب الخَلْق، وهي درجة الأنبياء وأعلاها للرُّسل عليهم صلوات الله وسلامه وأعلاها لأولي العزم منهم، وأعلاها لنبيِّنا صلى الله عليه وسلم) .
- الدَّرجة الثَّالثة: (إيثارُ إيثارِ الله تعالى: فإنَّ الخوض في الإيثَار دعوى في الملك، ثمَّ تَرْك شهود رؤيتك إيثار الله، ثمَّ غيبتك عن التَّرك) .
قال ابن القيِّم: (يعني بإيثار إيثار الله: أن تنسب إيثارك إلى الله دون نفسك، وأنَّه هو الذي تفرَّد بالإيثَار لا أنت، فكأنَّك سلمت الإيثَار إليه فإذا آثرت غيرك بشيء فإنَّ الذي آثره هو الحقُّ لا أنت، فهو المؤْثر حقيقة... وقوله: ثمَّ ترك شهود رؤيتك إيثار الله، يعني أنَّك إذا آثرت إيثار الله بتسليمك معنى الإيثَار إليه: بقيت عليك مِن نفسك بقيَّةٌ أخرى لابدَّ مِن الخروج عنها وهي: أن تُعْرِض عن شهودك رؤيتك أنَّك آثرت الحقَّ بإيثارك، وأنَّك نسبت الإيثَار إليه لا إليك... وقوله: ثمَّ غيبتك عن التَّرك. يريد: أنَّك إذا نزلت هذا الشُّهود وهذه الرُّؤية: بقيت عليك بقيَّةٌ أخرى وهي رؤيتك لهذا التَّرك المتضمِّنة لدعوى ملكك للتَّرك، وهي دعوى كاذبة؛ إذ ليس للعبد شيء مِن الأمر، ولا بيده فعل ولا ترك، وإنَّما الأمر كلُّه لله) .

محمد رافع 52 15-04-2013 09:21 PM

الوسائل المعينة على اكتساب الإيثَار

الوسائل المعينة على اكتساب الإيثَار المتعلِّق بالخالق:
ذكر ابن قيِّم الجوزية أمورًا تجعل مِن هذا الإيثَار أمرًا سهلًا على النَّفس، فقال:
(والذي يسهِّله على العبد أمور:
- أحدها: أن تكون طبيعته ليِّنة منقادة سلسة ليست بجافية ولا قاسية، بل تنقاد معه بسهولة.
- الثَّاني: أن يكون إيمانه راسخًا ويقينه قويًّا؛ فإنَّ هذا ثمرة الإيمان ونتيجته.
- الثَّالث: قوَّة صبره وثباته.
فبهذه الأمور الثَّلاثة ينهض إلى هذا المقام ويسهل عليه دركه) .
الوسائل المعينة على اكتساب الإيثَار المتعلِّق بالخَلْق:
قال ابن القيِّم: (فإن قيل: فما الذي يسهِّل على النَّفس هذا الإيثَار، فإنَّ النَّفس مجبولة على الأَثَـــرَة لا على الإيثَار؟ قيل: يسهِّله أمور:
- أحدها: رغبة العبد في مكارم الأخلاق ومعاليها؛ فإنَّ مِن أفضل أخلاق الرَّجل وأشرفها وأعلاها: الإيثَار. وقد جبل الله القلوب على تعظيم صاحبه ومحبَّته، كما جبلها على بغض المستأثر ومقته، لا تبديل لخلق الله.
- الثَّاني: النُّفرة مِن أخلاق اللِّئام ومقت الشُّح وكراهته له.
- الثَّالث: تعظيم الحقوق التي جعلها الله سبحانه وتعالى للمسلمين بعضهم على بعض، فهو يرعاها حقَّ رعايتها، ويخاف مِن تضييعها، ويعلم أنَّه إن لم يبذل فوق العدل لم يمكنه الوقوف مع حدِّه؛ فإنَّ ذلك عَسِر جدًّا، بل لا بد مِن مجاوزته إلى الفضل أو التَّقصير عنه إلى الظُّلم، فهو -لخوفه مِن تضييع الحقِّ، والدُّخول في الظُّلم- يختار الإيثَار بما لا ينقصه ولا يضرُّه، ويكتسب به جميل الذِّكر في الدُّنْيا، وجزيل الأجر في الآخرة مع ما يجلبه له الإيثَار مِن البركة وفيضان الخير عليه، فيعود عليه مِن إيثاره أفضل ممَّا بذله، ومَن جرَّب هذا عرفه، ومَن لم يجرِّبه فليستقرئ أحوال العالم، والموفَّق مَن وفَّقه الله سبحانه وتعالى) .

محمد رافع 52 15-04-2013 09:25 PM

نماذج مِن إيثار رسول الله صلى الله عليه وسلم
أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم مِن جميع الأخلاق أوفر الحظِّ والنَّصيب، فما مِن خُلُقٍ إلَّا وقد تربَّع المصطفى صلى الله عليه وسلم على عرشه، وعلا ذِروة سَنَامه، ففي خُلُق الإيثَار كان هو سيِّد المؤثرين وقائدهم، بل وصل الحال به صلى الله عليه وسلم أنَّه لم يكن يشبع -لا هو ولا أهل بيته- بسبب إيثاره صلى الله عليه وسلم، قال ابن حجر: (والذي يظهر أنَّه صلى الله عليه وسلم كان يؤثر بما عنده، فقد ثبت في الصَّحيحين أنَّه كان -إذا جاءه ما فتح الله عليه مِن خيبر وغيرها مِن تمر وغيره- يدَّخر قوت أهله سنة، ثمَّ يجعل ما بقي عنده عُدَّة في سبيل الله تعالى، ثمَّ كان مع ذلك -إذا طرأ عليه طارئ أو نزل به ضيف- يشير على أهله بإيثارهم، فربَّما أدَّى ذلك إلى نفاد ما عندهم أو معظمه) .
وإليك أخي الكريم بعض الصُّور مِن إيثار رسول الله صلى الله عليه وسلم:
- عن سهل بن سعد، قال: ((جاءت امرأة ببردة، قال: أتدرون ما البردة؟ فقيل له: نعم، هي الشَّملة منسوج في حاشيتها. قالت: يا رسول الله، إنِّي نسجت هذه بيدي أكسوكها، فأخذها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم محتاجًا إليها، فخرج إلينا وإنَّها إزاره، فقال رجل مِن القوم: يا رسول الله، اكسنيها. فقال: (نعم). فجلس النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في المجلس، ثمَّ رجع فطواها، ثمَّ أرسل بها إليه، فقال له القوم: ما أحسنت، سألتها إيَّاه، لقد علمت أنَّه لا يردُّ سائلًا. فقال الرَّجل: والله ما سألته إلَّا لتكون كفني يوم أموت. قال سهل: فكانت كفنه)) .
- وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: ((إنَّا يوم الخندق نحفر فعرضت كُدْيَةٌ شديدةٌ فجاءوا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذه كُدْيَةٌ عرضت في الخندق. فقال: أنا نازل ثمَّ قام -وبطنه معصوبٌ بحجر، ولبثنا ثلاثة أيَّام لا نذوق ذواقًا- فأخذ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم المعول فضرب في الكُدْيَة فعاد كثيبًا أهيل أو أهيم ، فقلت: يا رسول الله ائذن لي إلى البيت، فقلت لامرأتي: رأيت في النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم شيئًا ما كان في ذلك صبر فعندك شيء؟ فقالت: عندي شعير وعناق . ف***ت العناق، وطحنت الشَّعير حتى جعلنا اللَّحم بالبرمة. ثمَّ جئت النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم والعجين قد انكسر، والبرمة بين الأثافي قد كادت أن تنضج. فقلت:طعيِّم لي، فقم أنت -يا رسول الله- ورجل أو رجلان. قال: كم هو؟ فذكرت له، فقال: كثير طيِّب. قال: قل لها لا تنزع البرمة ولا الخبز مِن التَّنُّور حتى آتي. فقال: قوموا. فقام المهاجرون والأنصار، فلمَّا دخل على امرأته. قال: ويحك جاء النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بالمهاجرين والأنصار ومَن معهم! قالت: هل سألك؟ قلت: نعم. فقال: ادخلوا ولا تضاغطوا . فجعل يكسر الخبز ويجعل عليه اللَّحم ويخمِّر البرمة والتَّنُّور إذا أخذ منه، ويقرِّب إلى أصحابه ثمَّ ينزع، فلم يزل يكسر الخبز ويغرف حتى شبعوا وبقي بقيَّةٌ. قال: كلي هذا وأهدي، فإنَّ النَّاس أصابتهم مجاعة)) .
- وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((قال أبو طلحة لأمِّ سليم: لقد سمعت صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفًا أعرف فيه الجوع، فهل عندك مِن شيء؟ قالت: نعم. فأخرجت أقراصًا مِن شعير، ثمَّ أخرجت خمارًا لها فلفَّت الخبز ببعضه، ثمَّ دسَّته تحت يدي ولاثتني ببعضه، ثمَّ أرسلتني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فذهبت به فوجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ومعه النَّاس، فقمت عليهم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: آرسلك أبو طلحة؟ فقلت: نعم. قال:بطعام؟ قلت: نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن معه: قوموا. فانطلق وانطلقت بين أيديهم حتى جئت أبا طلحة فأخبرته، فقال أبو طلحة: يا أمَّ سليم، قد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنَّاس، وليس عندنا ما نطعمهم. فقالت: الله ورسوله أعلم. فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو طلحة معه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هلمِّي يا أمَّ سليم ما عندك، فأتت بذلك الخبز، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ففتَّ، وعصرت أمُّ سليم عكَّة فأدمته ، ثمَّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ما شاء الله أن يقول، ثمَّ قال: ائذن لعشرة. فأذن لهم، فأكلوا حتى شبعوا، ثمَّ خرجوا، ثمَّ قال: ائذن لعشرة. فأذن لهم، فأكلوا حتى شبعوا ثمَّ خرجوا، ثمَّ قال: ائذن لعشرة. فأذن لهم، فأكلوا حتى شبعوا، ثمَّ خرجوا، ثمَّ قال: ائذن لعشرة. فأكل القوم كلُّهم حتى شبعوا، والقوم سبعون أو ثمانون رجلًا)) .
- وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّه كان يقول: ((الله الذي لا إله إلَّا هو، إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض مِن الجوع. وإن كنت لأشدُّ الحجر على بطني مِن الجوع. ولقد قعدت يومًا على طريقهم الذي يخرجون منه فمرَّ أبو بكر فسألته عن آية مِن كتاب الله ما سألته إلَّا ليشبعني، فمرَّ ولم يفعل، ثمَّ مرَّ أبو القاسم صلى الله عليه وسلم فتبسَّم حين رآني، وعرف ما في نفسي وما في وجهي. ثمَّ قال: يا أبا هر! قلت: لبَّيك رسول الله. قال: الْحَق. ومضى فتبعته، فدخل فاستأذن، فأذن لي، فدخل فوجد لبنًا في قدح، فقال: مِن أين هذا اللَّبن؟ قالوا: أهداه لك فلان- أو فلانة- قال: أبا هر! قلت: لبَّيك يا رسول الله. قال: الْحَق إلى أهل الصُّفَّة فادعهم لي. قال- وأهل الصُّفَّة أضياف الإسلام لا يأوون على أهل ولا مال ولا على أحد. إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئًا، وإذا أتته هديَّة أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها- فساءني ذلك، فقلت: وما هذا اللَّبن في أهل الصُّفَّة؟ كنت أحقَّ أن أصيب مِن هذا اللَّبن شربة أتقوَّى بها، فإذا جاءوا أمرني فكنت أنا أعطيهم، وما عسى أن يبلغني مِن هذا اللَّبن؟! ولم يكن مِن طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بدٌّ، فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا فاستأذنوا، فأذن لهم وأخذوا مجالسهم مِن البيت. قال: يا أبا هر، قلت: لبَّيك يا رسول الله. قال: خذ فأعطهم. فأخذت القدح فجعلت أعطيه الرَّجل فيشرب حتى يروى، ثمَّ يردُّ عليَّ القدح حتى انتهيت إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وقد روي القوم كلُّهم. فأخذ القدح فوضعه على يده فنظر إليَّ فتبسَّم، فقال: أبا هر، قلت: لبَّيك يا رسول الله. قال: بقيت أنا وأنت. قلت: صدقت يا رسول الله. قال: اقعد فاشرب، فقعدت فشربت. فقال: اشرب. فشربتُ، فما زال يقول: اشرب. حتى قلتُ: لا -والذي بعثك بالحقِّ- ما أجد له مسلكًا. قال: فأرني، فأعطيته القدح، فحمد الله وسمَّى، وشرب الفضلة)) .

محمد رافع 52 15-04-2013 09:29 PM

نماذج مِن إيثار الصَّحابة رضوان الله عليهم
ضرب الصَّحابة أروع أمثلة الإيثَار وأجملها، ومَن يتأمَّل في قصص إيثارهم يحسب ذلك ضربًا مِن خيال، لولا أنَّه منقولٌ لنا عن طريق الأثبات، وبالأسانيد الصَّحيحة الصَّريحة.
وإليك بعضًا مِن النَّماذج التي تروي لنا صورًا رائعة مِن الإيثَار:
ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم:
- عن أبي هريرة رضي الله عنه ((أنَّ رجلًا أتى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فبعث إلى نسائه، فقلن: ما معنا إلَّا الماء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن يضمُّ- أو يضيف- هذا؟ فقال رجل مِن الأنصار: أنا. فانطلق به إلى امرأته، فقال: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت: ما عندنا إلَّا قوت صبياني. فقال: هيِّئي طعامك، وأصبحي سراجك ، ونوِّمي صبيانك إذا أرادوا عشاء. فهيَّأت طعامها، وأصبحت سراجها، ونوَّمت صبيانها، ثمَّ قامت كأنَّها تصلح سراجها فأطفأته، فجعلا يريانه أنَّهما يأكلان، فباتا طاويين ، فلمَّا أصبح غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ضحك الله اللَّيلة- أو عجب مِن فعالكما-، فأنزل الله: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9])) .
الأنصار... إيثار منقطع النَّظير:
أقبل المهاجرون إلى المدينة لا يملكون مِن أمر الدُّنْيا شيئًا، قد تركوا أموالهم وما يملكون خلف ظهورهم، وأقبلوا على ما عند الله عزَّ وجلَّ يرجون رحمته ويخافون عذابه، فاستقبلهم الأنصار الذين تبوَّؤوا الدَّار، وأكرموهم أيَّما إكرام، ولم يبخلوا عليهم بشيء مِن حطام الدُّنْيا... في صورة يعجز عن وصفها اللِّسان، ويضعف عن تعبيرها البيان:
- فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((لما قدم المهاجرون المدينة نزلوا على الأنصار في دورهم، فقالوا: يا رسول الله، ما رأينا مثل قوم نزلنا عليهم أحسن مواساة في قليل، ولا أبذل في كثير منهم، لقد أشركونا في المهنأ وكفونا المؤنة، ولقد خشينا أن يكونوا ذهبوا بالأجر كلِّه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلَّا ما دعوتم الله لهم وأثنيتم به عليهم)) .
- وهذا عبد الرَّحمن بن عوف ((لـمَّا قدم المدينة آخى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الرَّبيع الأنصاريِّ، وعند الأنصاريِّ امرأتان، فعرض عليه أن يناصفه أهله وماله، فقال له: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلُّوني على السُّوق...)) .
إيثار... حتى بالحياة:
وقد وصل الحال بصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آثروا إخوانهم بحياتهم.. وهذا غاية الجود، ومنتهى البذل والعطاء.
- ففي غزوة اليرموك قال عكرمة بن أبي جهل: قاتلت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواطن وأفرُّ منكم اليوم؟! ثمَّ نادى: مَن يبايع على الموت؟ فبايعه عمُّه الحارث بن هشام، وضرار بن الأزور في أربعمائة مِن وجوه المسلمين وفرسانهم، فقاتلوا قدَّام فسطاط خالد حتى أُثْبِتُوا جميعًا جراحًا، وقُتِل منهم خلقٌ، منهم ضرار بن الأزور -رضي الله عنهم-... فلمَّا صرعوا مِن الجراح استسقوا ماء، فجيء إليهم بشربة ماء، فلمَّا قربت إلى أحدهم نظر إليه الآخر، فقال: ادفعها إليه. فلما دُفِعَت إليه نظر إليه الآخر، فقال: ادفعها إليه. فتدافعوها كلُّهم -مِن واحد إلى واحد- حتى ماتوا جميعًا ولم يشربها أحد منهم -رضي الله عنهم- أجمعين .
صورٌ مِن إيثار أمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها:
- لما طُعِن أمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب رضي الله عنهما قال لابنه عبد الله: (اذهب إلى أُمِّ المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- فقل: يقرأ عمر ابن الخطَّاب عليك السَّلام، ثمَّ سلها أن أُدْفَن مع صاحبيَّ. قالت: كنت أريده لنفسي، فلأوثرنَّه اليوم على نفسي. فلمَّا أقبل، قال له: ما لديك؟ قال: أذنت لك يا أمير المؤمنين. قال: ما كان شيء أهمَّ إليَّ من ذلك المضجع، فإذا قُبِضت فاحملوني، ثمَّ سلِّموا، ثمَّ قل: يستأذن عمر بن الخطَّاب، فإن أذنت لي فادفنوني، وإلَّا فردُّوني إلى مقابر المسلمين) .
- ودخل عليها مسكينٌ فسألها -وهي صائمة وليس في بيتها إلَّا رغيف- فقالت لمولاة لها: أعطيه إيَّاه. فقالت: ليس لك ما تفطرين عليه؟ فقالت: أعطيه إيَّاه. قالت: ففعلتُ. قالت: فلمَّا أمسينا أهدى لنا أهل بيت أو إنسان ما كان يُهدِي لنا: شاة وكفنها. فدعتني عائشة فقالت: كلي مِن هذا، فهذا خيرٌ مِن قرصك) .
ابن عمر نموذج آخر مِن نماذج الإيثَار الفذَّة:
- مرض ابن عمر فاشتهى عنبًا -أول ما جاء العنب- فأرسلت صفيَّة -يعني امرأته- فاشترت عنقودًا بدرهم، فاتَّبع الرَّسول السَّائل، فلمَّا دخل به، قال السَّائل: السَّائل. فقال ابن عمر: أعطوه إيَّاه. فأعطوه إيَّاه. ثمَّ أرسلت بدرهم آخر، فاشترت عنقودًا، فاتَّبع الرَّسول السَّائلُ، فلمَّا دخل، قال السَّائل: السَّائل. فقال ابن عمر: أعطوه إيَّاه. فأعطوه إيَّاه. فأرسلت صفيَّة إلى السَّائل، فقالت: والله إن عُدتَ لا تصيبُ منه خيرًا أبدًا. ثمَّ أرسلت بدرهم آخر فاشترت به.
- واشتهى يومًا سمكةً، وكان قد نَقِهَ مِن مرضٍ فالتُمِسَت بالمدينة، فلم توجد حتى وُجِدَت بعد مُدَّةٍ، واشْتُرِيَت بِدرهم ونصفٍ، فشُوِيَت وجيء بها على رغيف، فقام سائلٌ بالباب، فقال ابن عمر للغلام لفَّها برغيفها، وادفعها إليه. فأبى الغلام، فردَّه وأمره بدفعها إليه، ثمَّ جاء به فوضعها بين يديه، وقال: كُلْ هنيئًا -يا أبا عبد الرَّحمن-، فقد أعطيته درهمًا وأخذتها. فقال: لفَّها وادفعها إليه، ولا تأخذ منه الدِّرهم .
عمر يختبر إيثار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:
- أخذ عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه أربعمائة دينار، فجعلها في صرَّة، ثمَّ قال للغلام: اذهب بها إلى أبي عبيدة بن الجرَّاح، ثمَّ تلكَّأ ساعة في البيت حتى تنظر ماذا يصنع بها. فذهب بها الغلام إليه، فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذه في بعض حاجتك. فقال: وصله الله ورحمه. ثمَّ قال: تعالي يا جارية، اذهبي بهذه السَّبعة إلى فلان، وبهذه الخمسة إلى فلان. حتى أنفدها، فرجع الغلام إلى عمر، فأخبره فوجده قد أعدَّ مثلها لمعاذ بن جبل. وقال: اذهب بهذا إلى معاذ بن جبل، وتلكَّأ في البيت ساعة حتى تنظر ماذا يصنع. فذهب بها إليه، فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذه في بعض حاجتك. فقال: رحمه الله ووصله. وقال: يا جارية، اذهبي إلى بيت فلان بكذا وبيت فلان بكذا. فاطَّلعت امرأة معاذ فقالت: ونحن والله مساكين فأعطنا. ولم يبق في الخرقة إلَّا ديناران فنحا بهما إليها. فرجع الغلام إلى عمر فأخبره، فسُرَّ بذلك عمر، وقال: إنَّهم إخوة بعضهم مِن بعض) .
أخي وعياله أحوج..
- قال ابن عمر رضي الله عنه: أهدي لرجل مِن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة، فقال: إنَّ أخي فلانًا وعياله أحوج إلى هذا منَّا. فبعث به إليهم، فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى تداولها أهل سبعة أبيات حتى رجعت إلى الأوَّل، فنزلت: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر: 9] .
إيثار... حتى للحيوان:
- خرج عبد الله بن جعفر إلى ضيعة له، فنزل على نخيل قوم، وفيه غلام أسود يعمل فيه، إذ أتى الغلام بقوته فدخل الحائط كلبٌ ودنا مِن الغلام، فرمى إليه الغلام بقرصٍ فأكله، ثمَّ رمى إليه الثَّاني والثَّالث فأكله، وعبد الله ينظر إليه، فقال: يا غلام، كم قوتك كلَّ يوم؟ قال: ما رأيت. قال: فلِمَ آثرت به هذا الكلب؟! قال: ما هي بأرض كلاب، إنَّه جاء مِن مسافة بعيدة جائعًا، فكرهت أن أشبع وهو جائع. قال: فما أنت صانع اليوم؟! قال: أطوي يومي هذا. فقال عبد الله بن جعفر: أُلام على السَّخاء! إنَّ هذا الغلام لأسخى منِّي. فاشترى الحائط والغلام وما فيه مِن الآلات، فأعتق الغلام ووهبه منه .

محمد رافع 52 16-04-2013 04:36 PM

نماذج مِن إيثار السَّلف رحمهم الله

وعلى نفس الطَّريق سار سلف الأمَّة وصالحوها يحذون مَن سبقهم مِن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم حذو القذَّة بالقذَّة، ويتَّبعون آثارهم، وإليك أخي الكريم نماذج مِن إيثارهم رحمهم الله:
- عن أبي الحسن الأنطاكيِّ: أنَّه اجتمع عنده نيِّف وثلاثون رجلًا بقرية مِن قرى الرَّيِّ، ومعهم أرغفة معدودة لا تُشْبِع جميعهم، فكسروا الرُّغفان، وأطفئوا السِّراج، وجلسوا للطَّعام، فلمَّا رُفع فإذا الطَّعام بحاله، لم يأكل منه أحد شيئًا إيثارًا لصاحبه على نفسه.
- قال الهيثم بن جميل: جاء فضيل بن مرزوق- وكان مِن أئمة الهدى زهدًا وفضلًا- إلى الحسن بن حيي، فأخبره أن ليس عنده شيء، فقام الحسن فأخرج ستَّة دراهم، وأخبره أنَّه ليس عنده غيرها، فقال: سبحان الله أليس عندك غيرها وأنا آخذها، فأخذ ثلاثة وترك ثلاثة.
- ورُوِي أنَّ مسروقًا ادَّان دينًا ثقيلًا، وكان على أخيه خيثمة دين، قال: فذهب مسروق فقضى دين خيثمة، وهو لا يعلم، وذهب خيثمة فقضى دين مسروق وهو لا يعلم .
- وقال عبَّاس بن دهقان: ما خرج أحدٌ مِن الدُّنْيا كما دخلها إلَّا بشر ابن الحارث؛ فإنَّه أتاه رجل في مرضه، فشكا إليه الحاجة، فنزع قميصه وأعطاه إيَّاه، واستعار ثوبًا فمات فيه .
هذا غيضٌ مِن فيض، وما أغفلناه أكثر ممَّا ذكرناه، ويكفي مِن القلادة ما أحاط بالعنق.

محمد رافع 52 16-04-2013 04:38 PM

نماذج مِن إيثار العلماء المعاصرين
ابن باز.. بقيَّة مِن إيثار السَّلف:
يقول محمَّد بن موسى -وهو يتحدَّث عن الشَّيخ ابن باز: (والذي بيده ليس له ولو سُئل ما سُئل، فربَّما سُئل مالًا فأعطاه، وربَّما أتته الهديَّة في المجلس فسأله أحدُ الحاضرين إيَّاها فأعطاها إيَّاه، بل كثيرًا ما يبتدر مَن بجانبه بالهديَّة التي تُقَدَّم لسماحته، بل ربَّما سُئل عباءته التي يلبسها فأعطاها مَن سأله إيَّاها) .
يؤثرون له بعيونهم .. والجزاء مِن *** العمل:
كان الشَّيخ ابن باز قريبًا مِن النَّاس.. محببًّا إليهم.. ومِن أعجب قصص الإيثَار التي حصلت مع الشَّيخ قصتان:
أولاها: لرجل مسلم مِن بلجيكا وهو مغربيُّ الأصل، قدم على سماحة الشَّيخ، فلمَّا مَثُل أمام سماحته قال:
يا سماحة الشَّيخ أنا فلان مِن محبِّيك، وقد جئتك مهديًا لك إحدى عيني، ولقد سألت طبيبًا مختصًّا فقال لي: لا مانع. وسوف أذهب إلى المستشفى، وإلى الطَّبيب المختص لنزعها وإهدائها لك.
فقال له سماحة الشَّيخ: يا أخي بارك الله لك في عينيك، ونفعك بهما، نحن راضون بما كتب الله لنا.
- وفي عام 1418هـ جاء رجل مِن السُّودان، وأخذ يتجوَّل بين المكاتب في دار الإفتاء في الرِّياض، وهو يقول: لم أجد مَن يتجاوب معي ولا مَن يدخلني على سماحة الشَّيخ، قال الشَّيخ محمَّد بن موسى الموسى: فقلت له: وما تريد مِن سماحته؟ فقال: أنا أتيت إلى سماحته مهديًا إليه إحدى عينيَّ، أدخلوني على سماحته، فأخذت بيده وأدخلته عليه، فلمَّا رآه وسلم عليه، قال: يا سماحة الشَّيخ أنا مِن بلاد السُّودان، جئت إليك مهديًّا إحدى عينيَّ، فتفضَّل بقبولها وخذ إحداها. فشكر له سماحة الشَّيخ صنيعه ومحبَّته، وقال: بارك الله لك في عينيك، نحن راضون بما كتب الله لنا .

محمد رافع 52 16-04-2013 04:40 PM

أقوالٌ وحكمٌ في الإيثَار

- (قال أحدهم: لا تُوَاكِلَنَّ جائعًا إلَّا بالإيثَار، ولا تُوَاكِلَنَّ غنيًّا إلَّا بالأدب، ولا تُوَاكِلَنَّ ضيفًا إلَّا بالنَّهمة والانبساط .
- وقال أبو سليمان الدَّارني: لو أنَّ الدُّنْيا كلَّها لي فجعلتها في فم أخ مِن إخواني لاستقللتها له.
- وقال أيضًا: إنِّي لألقم اللُّقمة أخًا مِن إخواني فأجد طعمها في حلقي .
- (قال أبو حفص: الإيثَار هو أن يقدِّم حظوظ الإخوان على حظوظه في أمر الدُّنْيا والآخرة.
- وقال بعضهم: الإيثَار لا يكون عن اختيار، إنَّما الإيثَار أن تقدِّم حقوق الخَلْق أجمع على حقِّك، ولا تميِّز في ذلك بين أخ وصاحب ذي معرفة.
- وقال يوسف بن الحسين: مَن رأى لنفسه ملكًا لا يصحُّ منها الإيثَار، لأنَّه يرى نفسه أحقَّ بالشَّيء برؤية ملكه، إنَّما الإيثَار ممَّن يرى الأشياء كلَّها للحقِّ؛ فمَن وصل إليه فهو أحقُّ به، فإذا وصل شيء مِن ذلك إليه يرى نفسه ويده فيه يد أمانة، يوصِّلها إلى صاحبها أو يؤدِّيها إليه) .

محمد رافع 52 16-04-2013 04:47 PM

الإيثَار في واحة الشِّعر
قال الشَّاعر:


عجبتُ لبعضِ النَّاسِ يبذلُ ودَّه***ويمنعُ ما ضمَّت عليه الأصابعُ



إذا أنا أعطيتُ الخليلَ مودَّتي***فليس لمالي بعدَ ذلك مانعُ



وقال آخر:


وتركي مواساةَ الأخلَّاءِ بالذي***تنالُ يدي ظلمٌ لهم وعقوقُ



وإنِّي لأستحيي مِن الله أن أُرَى***بحال اتِّساعٍ والصَّديق مُضيقُ



وقال آخر:


مَن كان للخير منَّاعًا فليس له***عند الحقيقة إخوان وأخدان



وقال علي بن محمَّد التهامي:


أُسدٌ ولكن يؤثرون بزادِهم***والأُسد ليس تدينُ بالإيثَارِ



يتزيَّنُ النَّادي بحسنِ وجوهِهم***كتزيُّنِ الهالاتِ بالأقمارِ



وقال أحمد محرم:


المالُ للرَّجلِ الكريمِ ذرائعٌ***يبغي بهنَّ جلائلَ الأخطارِ



والنَّاسُ شتى في الخِلَالِ وخيرُهم***مَن كان ذا فضلٍ وذا إيثارِ



وقال حماد عجرد:


إنَّ الكريمَ ليُخفي عنك عُسرتَه***حتى يُخالَ غنيًّا وهو مجهودُ



وللبخيلِ على أموالِه عللٌ***زرقُ العيونِ عليها أوجهٌ سودُ




وقال حاتمٌ الطَّائي:


وإنِّي لأستحيي صحابي أن يروا***مكانَ يدي في جانبِ الزَّادِ أقرعا



أقصِّرُ كفي أن تنالَ أكفَّهم***إذا نحن أهوينا وحاجاتنا معا



محمد رافع 52 16-04-2013 04:50 PM

البِرِّ
معنى البِرِّ لغةً

معنى البِرِّ لغةً:
البِرُّ: الصِّدق والطَّاعة والخير والفضل، وبَرَّ يَبـَــرُّ، إذا صَلَحَ. وبَرَّ في يمينه يَبَرُّ، إذا صدَّقه ولم يحنث. وبَرَّ رحمه يَبَرُّ، إذا وصله. ويقال: فلان يَبَرُّ ربَّه ويتبرَّره، أي: يطيعه. ورجل بَرٌّ بذي قرابته، وبارٌّ: من قوم بررة وأبرار، والمصدر: البِرُّ، والبَـرُّ: الصَّادق أو التقي وهو خلاف الفاجر، والبِرُّ: ضدُّ العقوق. وبَرِرْتُ والدي بالكسر، أَبَـــرُّهُ برًّا، وقد بَرَّ والده يَبَرُّه ويَبِرُّه بِرًّا... وهو بَـرٌّ به وبارٌّ.. وجمع البَرِّ الأبرار، وجمع البَارِّ البَرَرَةُ .
معنى البِرِّ اصطلاحًا:
قال المناوي: (البِرُّ بالكسر أي: التوسُّع في فعل الخير، والفعل المرضِي، الذي هو في تزكية النَّفس... يقال: بَرَّ العبدُ ربَّه. أي: توسَّع في طاعته... وبِرُّ الوالد: التَّوسع في الإحسان إليه، وتحرِّي محابِّه، وتوقِّي مكارهِه، والرِّفقُ به، وضدُّه: العقوق. ويستعمل البِرُّ في الصِّدق؛ لكونه بعض الخير المتوسَّع فيه) .
قال القاضي المهدي: (والبِرُّ: هو الصِلة، وإسداء المعروف، والمبالغة في الإحسان) .

محمد رافع 52 16-04-2013 04:53 PM

الفرق بين البِرِّ وبعض الصفات

- الفرق بين البِرِّ والخير:
(أنَّ البِرَّ مضَمَّن بجعل عاجل قد قُصِد وجه النفع به، فأمَّا الخير فمطلق، حتَّى لو وقع عن سهو لم يخرج عن استحقاق الصِّفة به. ونقيض الخير: الشَّر، ونقيض البِرِّ: العقوق) .
- الفرق بين البِرِّ والصلة:
(أنَّ البِرَّ سعة الفضل المقصود إليه، والبِرُّ أيضًا يكون بلين الكلام، وبَرَّ والده إذا لقيه بجميل القول والفعل. قال الرَّاجز:


بُنَيَّ إنَّ البرَّ شيء هيِّن***وجهٌ طليق وكلامٌ ليِّن



والصِّلة: البِرُّ المتأصِّل. وأصل الصِّلة: وصلة على فعله، وهي للنَّوع والهيئة، يقال: بارٌّ وصولٌ، أي: يصل برَّه فلا يقطعه. وتواصل القوم: تعاملوا بوصول بِرِّ كل واحد منهم إلى صاحبه. وواصله: عامله بوصول البِرِّ. وفي القرآن: وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ [القصص: 51]، أي: كثَّــرْنا وصول بعضه ببعض بالحكم الدَّالة على الرَّشد) .
- الفرق بين الصَّدقة والبِرِّ:
(الفرق بين البر وَالصَّدَقَة أنَّك تصَّدَّق على الفقير لسدِّ خلَّته، وتبرُّ ذا الحقِّ لاجتلاب مودَّته، ومن ثمَّ قيل: بِرُّ الوالدين. ويجوز أن يقال: البِرُّ هو: النَّفع الجليل. ومنه قيل: البِرُّ لسعته محلًّا له نفعة. ويجوز أن يقال: البِرُّ سعة النَّفع. وقيل: البِرُّ الشَّفقة) .
- الفرق بين القُرْبَان والبِرِّ:
قال أبو هلال: (إنَّ القُرْبَان: البِرُّ الذي يتقرَّب به إلى الله، وأصله المصدر، مثل الكفران والشُّكران) .

محمد رافع 52 16-04-2013 04:55 PM

أولًا: في القرآن الكريم

- قال تعالى: لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة: 177].
قال الزَّمخشريُّ: (البِرُّ اسم للخير ولكلِّ فعل مُرْضِى، أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ الخطاب لأهل الكتاب؛ لأنَّ اليهود تصلِّى قِبل المغرب إلى بيت المقدس، والنَّصارى قِبل المشرق. وذلك أنَّهم أكثروا الخوض في أمر القبلة حين حوَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة، وزعم كلُّ واحد من الفريقين أنَّ البِرَّ التوجُّه إلى قبلته، فردَّ عليهم. وقيل: ليس البِرَّ فيما أنتم عليه، فإنَّه منسوخ خارج من البِرِّ، ولكنَّ البِرَّ ما نبيِّنه. وقيل: كثر خوض المسلمين وأهل الكتاب في أمر القبلة، فقيل: ليس البِرَّ العظيم الذي يجب أن تذهلوا بشأنه عن سائر صنوف البِرِّ: أمر القبلة، ولكنَّ البِرَّ الذي يجب الاهتمام به وصرف الهمَّة: بِرُّ من آمن، وقام بهذه الأعمال) .
- قال تعالى: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [المائدة: 2].
(قوله جلَّ ذكره: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى ، البِرُّ: فعل ما أُمِرْت به، والتَّقوى: ترك ما زُجرت عنه. ويقال: البِرُّ: إيثار حقِّه سبحانه، والتَّقوى: ترك حظِّك. ويقال: البِرُّ: موافقة الشَّرع، والتَّقوى: مخالفة النَّفس. ويقال: المعاونة على البِرِّ بحسن النَّصيحة، وجميل الإشارة للمؤمنين. والمعاونة على التَّقوى بالقبض على أيدي الخطَّائين بما يقتضيه الحال من جميل الوعظ، وبليغ الزَّجر، وتمام المنع على ما يقتضيه شرط العلم. والمعاونة على الإثم والعدوان بأن تعمل شيئًا مما يُقتدى بك لا يرضاه الدِّين، فيكون قولك الذي تفعله، ويُقتدى بك (فيه) سنَّة تظهرها، و(عليك) نبُوُّ وِزْرها. وكذلك المعاونة على البِرِّ والتَّقوى، أي الاتصاف بجميل الخصال على الوجه الذي يُقتدى بك فيه) .

محمد رافع 52 16-04-2013 04:58 PM

ثانيًا: في السُّنَّة النَّبويَّة

- عن الـنَّـوَّاسِ بن سمعانَ رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البِرِّ والإثم، فقال: ((البِرُّ حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك، وكرهت أن يطلع عليه النَّاس)) .
قال ابن دقيق العيد: (أمَّا البِرُّ فهو الَّذي يُبِرُّ فاعلَه، ويلحقه بالأبرار، وهم المطيعون لله عزَّ وجلَّ. والمراد بحسن الخلق: الإنصاف في المعاملة، والرِّفق في المحاولة، والعدل في الأحكام، والبذل في الإحسان، وغير ذلك من صفات المؤمنين) .
وقال علي القاري: (.. ((فقال: البِرُّ)) أي: أعظم خصاله، أو البِرُّ كلُّه مجملًا ((حسن الخلق)) أي: مع الخلق بأمر الحقِّ أو مداراة الخلق، ومراعاة الحقِّ. قيل: فُسِّر البِرُّ في الحديث بمعان شتى:
ففسَّره في موضع بما اطمأنَّت إليه النَّفس، واطمأنَّ إليه القلب.
وفسَّره في موضع بالإيمان، وفي موضع بما يقرِّبك إلى الله، وهنا بحسن الخلق، وفسَّر حسن الخلق باحتمال الأذى، وقلَّة الغضب، وبسط الوجه، وطيب الكلام، وكلُّها متقاربة في المعنى...
وقال بعض المحققين: تلخيص الكلام في هذا المقام أن يقال: البِرُّ اسمٌ جامعٌ لأنواع الطَّاعات والأعمال المقرِّبات، ومنه بِرُّ الوالدين، وهو استرضاؤهما بكلِّ ما أمكن، وقد قيل: إنَّ البِرَّ من خواصِّ الأنبياء عليهم السلام، أي: كمال البِرِّ. إذ لا يستبعد أن يوجد في الأمَّة من يوصف به، وقد أشار إليهما من أُوتي جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم بقوله: حسن الخلق؛ لأنَّه عبارة عن حسن العشرة، والصُّحبة مع الخلق بأن يعرف أنهم أسراء الأقدار، وإنْ كان ما لهم من الخلق والخلق والرِّزق والأجل بمقدار، فيحسن إليهم حسب الاقتدار، فيأمنون منه، ويحبُّونه بالاختيار. هذا مع الخلق، وأما مع الخالق فبأَنْ يشتغل بجميع الفرائض والنَّوافل، ويأتي لأنواع الفضائل، عالـمًا بأنَّ كلَّ ما أتى منه ناقص يحتاج إلى العذر، وكل ما صدر من الحقِّ كامل يوجب الشُّكر) .
- وعن ثوبانَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزيد في العمر إلَّا البِرُّ، ولا يردُّ القدر إلَّا الدُّعاء، وإنَّ الرَّجل ليُحْرَم الرِّزق بخطيئة يعملها)) .
قال السِّندي في حاشيته: (قوله: ((لا يزيد في العمر إلا البِرُّ)) إمَّا لأنَّ البارَّ ينتفع بعمره وإن قلَّ، أكثر ممَّا ينتفع به غيره وإن كثر، وإما لأنَّه يُزاد له في العمر حقيقة، بمعنى أنَّه لو لم يكن بارًّا لقصر عمره عن القدر الذي كان إذا بَرَّ، لا بمعنى أنَّه يكون أطول عمرًا من غير البارِّ، ثمَّ التفاوت إنَّما يظهر في التَّقدير المعلَّق، لا فيما يعلم الله تعالى أنَّ الأمر يصير إليه. فإنَّ ذلك لا يقبل التَّغير. وإليه يشير قوله تعالى: يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد: 39]) .
- وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عليكم بالصِّدق؛ فإنَّ الصِّدق يهدي إلى البِرِّ. وإنَّ البِرَّ يهدي إلى الجنَّة. وما يزال الرجل يصدُق، ويتحرَّى الصِّدق حتى يُكتب عند الله صدِّيقًا. وإيَّاكم والكذب؛ فإنَّ الكذب يهدي إلى الفجور. وإنَّ الفجور يهدي إلى النَّار. وما يزال الرَّجل يكذب، ويتحرَّى الكذب حتَّى يُكتب عند الله كذابًا)) .
قال القاري: (.. ((عليكم بالصِّدق)). أي: الزموا الصِّدق، وهو الإخبار على وفق ما في الواقع. ((فإنَّ الصِّدق)). أي: على وجه ملازمته ومداومته. ((يهدي)). أي: صاحبه. ((إلى البِرِّ)). وهو جامع الخيرات من اكتساب الحسنات واجتناب السيئات، ويطلق على العمل الخالص الدَّائم المستمر معه إلى الموت. ((وإنَّ البِرَّ يهدي)). أي: يوصل صاحبه. ((إلى الجنَّة)). أي: مراتبها العالية ودرجاتها) .

محمد رافع 52 17-04-2013 09:19 AM

أقوال السَّلف والعلماء في البِرِّ
- روي عن عيسى ابن مريم -على نبينا وعليه السلام-: (البِرُّ ثلاثة: المنطق والنَّظر والصمت، فمن كان منطقه في غير ذكر فقد لغا، ومن كان نظره في غير اعتبار فقد سها، ومن كان صمته في غير فكر فقد لها) .
- وقال أبو الدَّرداء: (اعبدوا الله كأنَّكم ترونه، وعُدُّوا أنفسكم في الموتى، واعلموا أنَّ قليلًا يغنيكم، خير من كثير يلهيكم، واعلموا أنَّ البِرَّ لا يبلى، وأنَّ الإثم لا يُنسى) .
وعن أبي الأشهب قال: (سمعت الحسن، يقول: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [المؤمنون: 60]، قال: كانوا يعملون ما عملوا من أنواع البِرِّ، وهم مشفقون أن لا ينجيهم ذلك من عذاب الله) .
- وقال أبو ذر الغفاري رضي الله عنه: (يكفي من الدُّعاء مع البِرِّ مثل ما يكفي الطَّعام من الملح) .
- و(قال سليمان بن عبد الملك: يا أبا حازم أيُّ عباد الله أكرم؟ قال: أهل البِرِّ والتَّقوى) .
- و(قال داود الطائي: البَرُّ همَّته التَّقوى، فلو تعلَّقت جميع جوارحه بالدُّنيا، لردَّته نيَّته يومًا إلى نيَّةٍ صالحةٍ، وكذلك الجاهل بعكس ذلك) .
- وقيل لسفيان بن عيينة: ما السَّخاء؟ قال: (السَّخاء: البِرُّ بالإخوان، والجود بالمال) .
- وقال مالك بن دينار: (ما من أعمال البِرِّ شيء إلا دونه عقبة، فإنْ صبر صاحبها أفضت به إلى رَوحٍ، وإنْ جزع رجع) .
- وقال ابن حزم: (ينبغي أنْ يرغب الإنسان العاقل في الاستكثار من الفضائل وأعمال البِرِّ التي يستحق من هي فيه الذِّكر الجميل، والثَّناء الحسن، والمدح، وحميد الصِّفة. فهي التي تقرِّبه من بارئه تعالى، وتجعله مذكورًا عنده عزَّ وجلَّ الذِّكر الذي ينفعه، ويحصل على بقاء فائدته، ولا يبيد أبد الأبد) .
- وقال ابن عبد البر: (وقالوا: البِرُّ في المساعدة، والمؤانسة، والمؤاخاة) .
- وعن يونس بن عبيد قال: (لا تجد شيئًا من البِرِّ واحدًا يتبعه البِرُّ كلُّه غير اللِّسان، فإنَّك تجد الرَّجل يُكثر الصيام ويُفطر على الحرام، ويقوم الليل ويشهد بالزُّور، وذكر شيئًا نحو هذا، ولكن لا تجده لا يتكلم إلا بحقٍّ، فيخالف ذلك علمه أبدًا) .
- وقال سهل بن عبد الله: (ليس كلُّ من عمل بطاعة الله صار حبيب الله، ولكن من اجتنب ما نهى الله عنه صار حبيب الله، ولا يجتنب الآثام إلا صدِّيق مقرَّب، وأمَّا أعمال البِرِّ فيعملها البَرُّ والفاجر) .
- وقال محمد بن علي التِّرمذي: (ليس في الدُّنيا حِمل أثقل من البِرِّ؛ لأنَّ من برَّك فقد أوثقك، ومن جفاك فقد أطلقك) .
- وقال ابن القيِّم: (إنَّ أعمال البِرِّ تنهض بالعبد، وتقوم به، وتصعد إلى الله به، فبحسب قوَّة تعلُّقه بها يكون صعوده مع صعودها) .

محمد رافع 52 17-04-2013 09:23 AM

فوائد البر
1- البِرُّ طريق موصل إلى الجنَّة:
فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (عليكم بالصِّدق؛ فإنَّ الصِّدق يهدي إلى البِرِّ، وإنَّ البِرَّ يهدي إلى الجنَّة، وإنَّ الرَّجل يَصْدُق حتى يكتب عند الله صِدِّيقًا).
2- من فضائل البِرِّ أنه سبيل للزيادة في العمر:
فعن سلمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يردُّ القضاء إلَّا الدُّعاء، ولا يزيد في العمر إلَّا البِرُّ).
3- البِرُّ من أسباب سعادة المرء في الدَّارين.
4- البِرُّ يؤدِّي إلى نيل محبَّة النَّاس، وإلى الألفة وشيوع روح المحبَّة في المجتمع.
5- بذل البِرِّ يؤكِّد المحبَّة، فقد قيل: (أربعة تؤكِّد المحبَّة: حسن البِشْر، وبذل البِرِّ، وقصد الوفاق، وترك النِّفاق) .
قال الماورديُّ: (وأما البِرُّ، وهو الخامس من أسباب الألفة؛ فلأنَّه يوصل إلى القلوب ألطافًا، ويثنيها محبَّة وانعطافًا) .
6- البِرُّ طريقٌ لراحة البال، واستقرار النَّفس واطمئنانها:
ففي حديث وابصة بن معبد قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((جئتَ تسأل عن البِرِّ والإثم؟ قلت: نعم. قال: استفت قلبك، البِرُّ ما اطمأنَّت إليه النَّفس، واطمأنَّ إليه القلب)) .
7- البِرُّ إحدى الصِّفات التي لا تكتمل مكارم الأخلاق إلَّا بها:
عن النَّوَّاس بن سمعانَ رضي الله عنه: ((سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البِرِّ والإثم؟ فقال: البِرُّ حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك، وكرهت أن يطَّلع عليه النَّاس)).
8- أنَّ كلَّ أنواع الخير ينطوي تحت كلمة البِرِّ .
قال ابن القيِّم: (إنَّ أعمال البِرِّ تنهض بالعبد، وتقوم به، وتصعد إلى الله به، فبحسب قوة تعلُّقه بها يكون صعوده مع صعودها) .
9- أنَّ البِرَّ يحرس النِّعم ويحصِّنها:
يقول النَّبي صلى الله عليه وسلم: ((ما نقص مال عبد من صدقة)) .
(وقيل: من تلقَّى أوائل النِّعم بالشُّكر، ثم أمضاها في سبل البِرِّ، فقد حرسها من الزَّوال، وحصَّنها من الانتقال) .
10- أنَّ البِرَّ والإحسان إلى النَّاس يعطي هيبة تعين على أمور الدُّنيا والدِّين .
فمن أحسن إلى النَّاس عظم في أعينهم، ولقي الاحترام والتوقير، وبادلوه الحبَّ، ممَّا يجعل له مكانته وهيبته في المجتمع، فتعينه تلك المكانة على أموره.
قال الشَّاعر:


أحسِن إلى النَّاس تستعبدْ قلوبهمُ***فطالما استعبد الإحسانُ إنسانًا

محمد رافع 52 17-04-2013 09:25 AM

أقسام البِرُّ
ينقسم إلى قسمين:
بِرُّ صِلَة، وبِرُّ معروف.
قال الماورديُّ: (والبِرُّ نوعان: صِلَة، ومعروف.
فأما الصلَة: فهي التَّبرع ببذل المال في الجهات المحدودة لغير عوض مطلوب، وهذا يبعث عليه سماحة النَّفس وسخاؤها، ويمنع منه شحُّها وإباؤها. قال الله تعالى: وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر: 9].
وأما النَّوع الثَّاني من البِرِّ فهو: المعروف، ويتنوع أيضا نوعين: قولًا وعملًا. فأما القول: فهو طيب الكلام، وحسن البِشْر، والتودُّد بجميل القول، وهذا يبعث عليه حسن الخلق، ورِقَّة الطبع، ويجب أن يكون محدودًا كالسَّخاء؛ فإنَّه إن أسرف فيه كان مَلَقًا مذمومًا، وإن توسط واقتصد فيه كان معروفًا، وبِرًّا محمودًا.
وأمَّا العمل: فهو بذل الجاه والمساعدة بالنَّفس، والمعونة في النَّائبة، وهذا يبعث عليه حبُّ الخير للنَّاس، وإيثار الصَّلاح لهم. وليس في هذه الأمور سَرَفٌ، ولا لغايتها حَدٌّ، بخلاف النَّوع الأوَّل؛ لأنَّها وإن كثرت فهي أفعال خير تعود بنفعين: نفع على فاعلها في اكتساب الأجر، وجميل الذِّكر، ونفع على المعان بها في التخفيف عنه، والمساعدة له) .

محمد رافع 52 17-04-2013 09:29 AM

صور البِرِّ
البِرُّ لفظةٌ تعمُّ جميع أعمال الإحسان، وتشمل كلَّ خصال الخير، وعلى هذا فللبر أشكال وصور كثيرة، لكنْ من أبرز صور البِرِّ والإحسان:
البِرُّ بالوالدين:
قال الله تعالى مثنيًا على نبيه عيسى عليه السلام: وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا [مريم: 32].
وقال عن نبيه يحيى عليه السلام: وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا [مريم: 14].
وقرن بر الوالدين بتوحيده فقال: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا 23 وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء: 23-24].
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ((سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي العمل أحب إلى الله تعالى؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله)) فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بر الوالدين أفضل من الجهاد في سبيل الله (ويكاد الإنسان لا يفي والديه حقهما عليه مهما أحسن إليهما، لأنهما كانا يحسنان إليه حينما كان صغيرًا وهما يتمنيان له كل خير، ويخشيان عليه من كل سوء، ويسألان الله له السلامة وطول العمر، ويهون عليهما من أجله كل بذلٍ مهما عظم، ويسهران على راحته دون أن يشعرا بأي تضجر من مطالبه، ويحزنان عليه إذا آلمه أي شيء) .
ولا يقتصر بر الوالدين على حال حياتهما، بل يمتد أيضًا إلى ما بعد مماتهما، ففي الحديث ((عن أبي أُسَيْد مالك بن ربيعة السَّاعدي قال: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذْ جاءه رجل من بني سلمة، فقال: يا رسول الله، هل بقي من بِرِّ أبوي شيء أبرُّهما به بعد موتهما؟ قال: نعم، الصَّلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرَّحم التي لا تُوصل إلا بهما، وإكرام صديقهما)) . وفي الحديث الآخر، حديث ابن عمر: ((مِنْ أبَرِّ البِرِّ، أن يصل الرَّجل أهل وُدِّ أبيه بعد أن يُوَلِّي)) . فصلة أقارب الميت وأصدقائه بعد موته هو من تمام بِرِّه.
(وإذا قيل: فما هو البِرُّ الذي أمر الله به ورسوله؟ قيل: قد حَدَّه الله ورسوله بحَدٍّ معروف، وتفسير يفهمه كلُّ أحد، فالله تعالى أطلق الأمر بالإحسان إليهما، وذكر بعض الأمثلة التي هي أنموذج من الإحسان، فكل إحسان قوليٍّ أو فعليٍّ أو بدنيٍّ، بحسب أحوال الوالدين والأولاد والوقت والمكان، فإنَّ هذا هو البِرُّ... فكلُّ ما أرضى الوالدين من جميع أنواع المعاملات العرفيَّة، وسلوك كلِّ طريق ووسيلة ترضيهما، فإنَّه داخل في البِرِّ، كما أنَّ العقوق: كلُّ ما يسخطهما من قول أو فعل. ولكن ذلك مقيد بالطَّاعة لا بالمعصية. فمتى تعذَّر على الولد إرضاء والديه إلا بإسخاط الله، وجب تقديم محبَّة الله على محبَّة الوالدين. وكان اللَّوم والجناية من الوالدين، فلا يلومان إلا أنفسهما) .

محمد رافع 52 17-04-2013 09:47 AM

موانع فعل البِرِّ
1- البعد عن الله سبحانه وتعالى، وكثرة الذُّنوب تحيل بين المرء وبين عمل المعروف والبِرِّ.
2- البخل والشُّحُّ، وحبُّ المال، والحرص عليه، والتعلق به.
3- الحقد، والتَّحاسد، والكراهية تمنع الشخص من الإحسان إلى النَّاس.
4- الجهل بما يرتَّب على عمل البِرِّ من أجر عظيم.
الوسائل المعينة على فعل البِرِّ:
1- طلب رضا الله، فمن أراد التقرُّب إلى الله، فإنَّه سيسعى بكلِّ عمل يوصله إليه، ومن ذلك كلُّ أعمال البِرِّ.
2- تدريب النفس وتعويدها على عمل الصَّالحات، حتَّى وإن دعته نفسه إلى تركها:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ الصِّدق يهدي إلى البِرِّ، وإنَّ البِرَّ يهدي إلى الجنَّة، وإن الرجل ليصدق ويتحرى الصدق...)).
3- حبُّ النَّاس، والسَّعي للتودُّد إليهم، والتقرُّب منهم، مدعاة للبِرِّ، والإحسان لهم.
4- معالجة النَّفس من مرضالبخل والشُّحِّ، ومحاولة تعويدها على الإنفاق في وجوه الخير، وفي مختلف القرب:
قال تعالى: لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ [آل عمران: 92].
5- تقوى الله ومخافته، طريق يجعل الإنسان يسعى لإرضائه جلَّ وعلا: قال تعالى: وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى [البقرة: 189].
6- نزع الحقد والغلِّ والحسد وغيرها من الصِّفات القبيحة، والتي تقف حائلًا أمام الإحسان إلى النَّاس وبرِّهم.

محمد رافع 52 17-04-2013 09:52 AM

الحِكَم والأمثال في البِرِّ
- أخ أراد البِرَّ صرحًا فاجتهد .
- البِرُّ أن تعمل في السِّر عمل العلانية .
- خير البِرِّ عاجله .
- برُّ الكريم طبع، وبرُّ البخيل دفعٌ .
- أبرُّ من هرَّة
- خير البِرِّ ما صفا وضفا .
- (سئل بزَرْجَمهر الحكيم: من أولى النَّاس بالسَّعادة؟ فقال: من سلم من الذُّنوب. فقيل له: من أفضل النَّاس عيشًا؟ قال: المجتهد الموَفَّق. قيل له: فما أفضل البِرِّ؟ قال: الورع) .
- قال ابن المقفع: (من أفضل البِرِّ ثلاث خصال: الصِّدق في الغضب، والجود في العُسرة، والعفو عند القدرة) .
- يقال: (ثلاث من كنوز البِرِّ: كتمان الصَّدقة، وكتمان الوجع، وكتمان المصيبة) .
- ويقال: (مكتوب في التوراة: من يزرع البِرَّ يحصد السَّلامة) .
- يقال: (سبعة أشياء من كنوز البِرِّ، وكلُّ واحد من ذلك واجب بكتاب الله تعالى.
أولها: الإخلاص في العبادة، لقول الله عزَّ وجلَّ: وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء[البينة: 5]، والثَّاني: بِرُّ الوالدين، لقوله عزَّ وجلَّ: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان: 14]، والثَّالث: صلة الرَّحم، لقوله عزَّ وجلَّ: وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ [النساء: 1]، والرَّابع: أداء الأمانة، لقوله تعالى: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء: 58] الآية. والخامس: أن لَّا يطيع أحدًا في المعصية، لقول الله عزَّ وجلَّ: وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ آل عمران: 64[، والسَّادس: أن لَّا يعمل بهوى نفسه، لقول الله عزَّ وجلَّ: وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ]النازعات: 40[، والسَّابع: أن يجتهد في الطَّاعة، ويخاف الله تعالى، ويرجو ثوابه، لقوله تعالى: يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ]السجدة: 16[، فالواجب على كلِّ إنسان أن يكون خائفًا باكيًا، فإنَّ الأمر شديد) .
- ويقال: (من علامات التَّوفيق ثلاث: دخول أعمال البِرِّ عليك من غير قصد لها، وصرف المعاصي عنك مع الطَّلب لها، وفتح باب اللَّجَأ والافتقار إلى الله عزَّ وجلَّ في الشِّدَّة والرَّخاء، ومن علامات الخذلان ثلاث: تعسُّر الخيرات عليك مع الطَّلب لها، وتيسُّر المعاصي لك مع الرَّهَب منها، وغلق باب اللَّجَأ والافتقار إلى الله عزَّ وجلَّ) .
- وقالوا: (البِرُّ في المساعدة، والمؤانسة، والمؤاخاة) .

محمد رافع 52 17-04-2013 10:01 AM

البِرُّ في واحة الشِّعر
قال ابن الأعرابي:


ليس بما ليس به بأسٌ باسُ***ولا يضيرُ البَرَّ ما قال النَّاسُ



قال الشَّاعر:


واللهُ أنجحُ ما طلبتَ به***والبِرُّ خيرُ حقيبةِ الرَّحْلِ



وقال آخر:


وما البِرُّ إلا مُضْمَراتٌ من التُّقى***وما المال إلا مُعْمَراتٌ ودائع



وقال سابق البربري:


إنَّ التُّقى خيرُ زادٍ أنت حاملُه***والبِرُّ أفضلُ شيءٍ ناله بشرُ



وقال آخر:


والإثمُ مِن شرِّ ما يُصالُ به***والبِرُّ كالغيثِ نبتُه أَمِرُ



وقال آخر:


من لم يُنِلْك البِرَّ في حياتِه***لم تبكِ عيناك على وفاتِه



وقال آخر:


بُنيَّ إنَّ البِرَّ شيءٌ هيِّنُ***المنطقُ الليِّنُ والطُعَيِّمُ



أنشد الكُرَيْزي:


مِن خيرِ ما حُزتَه وُدٌّ لذي كرمٍ***يجزيك ما عشتَ بالإحسانِ إحسانا



تلقَى بشَاشَته في قربِه وإذا***أنال نالك منه البِرُّ ما كانا



قال الشَّاعر:


وكم صاحبٍ أكرمته غيرَ طائعٍ***ولا مكرهٍ إلا لأمرٍ تعمَّدا



وما كان ذاك البِرُّ إلا لغيرِه***كما نصبوا للطيرِ بالحبِّ مصيدا



وقال أبو العتاهية:


وإن امرأ لم يرتجِ النَّاسُ نفعَه***ولم يأمنوا منه الأذَى لَلَئيمُ



وإن امرأ لم يجعلِ البِرَّ كنزَه***ولو كانت الدُّنيا له لعديمُ



قال الصرصري:


واغرسْ أصولَ البِرِّ تجْنِ ثمارَها***فالبِرُّ أزكَى منبتًا للغارسِ



وقال سفيان ابن عيينة:


أَبُنَيَّ إنَّ البِرَّ شيءٌ هيِّنُ***وجهٌ طليقٌ وكلامٌ ليِّنُ



وأنشد أبو الحسن الهاشمي:


النَّاس كلُّهم عيالُ***اللهِ تحتَ ظلالِه



فأحبُّهم طُرًّا إليه***أبرُّهم لعيالِه



قال أبو إسحاق الإلبيري:


فلا ترضَ المعايبَ فهي عارٌ***عظيمٌ يُورثُ الإنسانَ مقتا



وتهوي بالوجيهِ من الثُّريَّا ***وتبدلُه مكانَ الفوقِ تحتا



كما الطَّاعاتُ تَنعَلُكَ الدَّراري ***وتجعلُك القريبَ وإن بعدتا



وتنشرُ عنك في الدُّنيا جميلًا***فَـتُلفي البِرَّ فيها حيث كنتا



وتمشي في مناكبها كريمًا***وتجني الحمدَ ممَّا قد غرستا



قال الوليد ين يزيد:


من يتَّقِ الله يجدْ غِبَّ التُّقى***يومَ الحسابِ صائرًا إلى الهدَى



إنَّ التُّقى أفضلُ شيءٍ في العملْ***أرى جماعَ البِرِّ فيه قد دخلْ



محمد رافع 52 17-04-2013 10:04 AM

البَشَاشَة

معنى البَشَاشَة لغةً واصطلاحًا
معنى البَشَاشَة لغةً:
البَشَاشَة: هي طلاقة الوجه، وقد بَشِشْت به، أَبَشُّ بَشَاشَةً، ورجل هَشٌّ بَشٌّ، أي طَلْق الوجه طيب .
ومن معاني البَشِّ: اللُّطف في المسألة، والإقبال على الرجل، وقيل: هو أن يضحك له، ويلقاه لقاء جميلًا. تقول: بَشِشْت به بَشًّا وبَشَاشَةً. والبَشِيش: الوجه. يقال: رجل مضيء البَشِيش، أي: مضيء الوجه.
والبَشُّ أيضا: فرح الصَّديق بالصَّديق، والتَّبَشْبُش في الأصل التَّبَشُّش، فاستثقل الجمع بين ثلاث شينات، فقلبت إحداهن باءً .
وقولهم: قد رحب فلان بفلان وبَشَّ به، معنى بَشَّ به: سُّرَّ به، وفرح، وانبسط إليه .
معنى البَشَاشَة اصطلاحًا:
البَشَاشَة هي: طلاقة الوجه، مع الفرح، والتَّبسُّم، وحسن الإقبال، واللُّطف في المسألة .
أما طلاقة الوجه: وهو إشراقه حين مقابلة الخلق، وهو ضدُّ العبوس.
وهي أيضًا: السُّرور بمن تلقاه .

محمد رافع 52 17-04-2013 10:06 AM

الفرق بين البِشْر والهشاشة والبَشَاشَة
هناك فرق بين البِشْر والهشاشة والبَشَاشَة، فالبِشْر أول ما يظهر من السُّرور بلُقي من يلقاك، ومنه البِشَارة، وهي أول ما يصل إليك من الخبر السَّار، فإذا وصل إليك ثانيًا،لم يُسَمَّ بشارة، ولهذا قالت الفقهاء: إنَّ من قال: من بشَّرني بمولود من عبيدي فهو حرٌّ. أنه يُعتق أول من يخبره بذلك. وفي المثل: البِشْر علم من أعلام النَّجح.
والهَشَاشَة هي الخفَّة للمعروف، وقد هَشِشْت يا هذا، بكسر الشين، وهو من قولك: شيء هَشٌّ، إذا كان سهل التَّناول، فإذا كان الرَّجل سهل العطاء، قيل: هو هَشٌّ بَيِّنُ الهَشَاشَة.
والبَشَاشَة: إظهار السُّرور بمن تلقاه، وسواء كان أولًا أو أخيرًا .

محمد رافع 52 17-04-2013 10:10 AM

مدح البَشَاشَة وطلاقة الوجه في السنة النبوية
وردت أحاديث من السُّنَّة النَّبويَّة، تحثُّ على البَشَاشَة وطلاقة الوجه، ومن هذه الأحاديث:
- عن أبي ذرٍّ رضي الله عنه، قال: قال لي النَّبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تحقرنَّ من المعروف شيئًا، ولو أن تلقى أخاك بوجه طَلْق)) .
(قوله صلى الله عليه وسلم: ((ولو أن تلقى أخاك بوجه طَلْق))، روي (طَلْق) على ثلاثة أوجه: إسكان اللام وكسرها، وطليق، بزيادة ياء، ومعناه: سهل منبسط. فيه الحثُّ على فضل المعروف، وما تيسَّر منه وإن قلَّ، حتى طلاقة الوجه عند اللِّقاء) .
- عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كلُّ معروف صدقة، وإنَّ من المعروف أن تلقى أخاك بوجهٍ طَلْق)) .
قال المباركفوري: (...((وإنَّ من المعروف)) أي: من جملة أفراده، ((أن تلقى أخاك)) أي: المسلم. ((بوجهٍ)) بالتنوين، ((طَلْق)) معناه: يعني تلقاه منبسط الوجه متهلِّله) .
وقال في ((دليل الفالحين)): (أي بوجه ضاحك مستبشر، وذلك لما فيه من إيناس الأخ المؤمن، ودفع الإيحاش عنه، وجبر خاطره، وبذلك يحصل التَّأليف المطلوب بين المؤمنين) .
وقال أيضًا: (أي: متهلِّلٌ بالبِشْر والابتسام؛ لأنَّ الظَّاهر عنوان الباطن، فلُقْيَاه بذلك يشعر لمحبَّتك له، وفرحك بلُقْيَاه، والمطلوب من المؤمنين التوادُّ والتحابُّ) .
- عن أبي ذر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تبسُّمك في وجه أخيك لك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرَّجل في أرض الضَّلال لك صدقة، وبصرك للرَّجل الرَّديء البصر لك صدقة، وإماطتك الحجر والشَّوكة والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة)) .
((تبسُّمك في وجه أخيك)) أي: على وجه الانبساط. صدقة. أي: إحسان إليه، أو لك، فيه ثواب صدقة، وأمرك بالمعروف صدقة، ونهيك عن المنكر صدقة، والصَّدقات مختلفة المراتب .
قال المناوي: (...((تبسُّمك في وجه أخيك)) أي في الإسلام، ((لك صدقة)) يعني: إظهارك له البَشَاشَة، والبِشْر إذا لقيته، تؤجر عليه كما تؤجر على الصَّدقة. قال بعض العارفين: التبسُّم والبِشْر من آثار أنوار القلب، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ [عبس: 38-39] قال ابن عيينة: والبَشَاشَة مصيدة المودَّة، و البِرُّ شيء هيِّن، وجه طليق، وكلام ليِّن. وفيه رَدٌّ على العالم الذي يصَعِّر خدَّه للناس، كأنَّه معرض عنهم، وعلى العابد الذي يعبِّس وجهه ويقطِّب جبينه، كأنَّه منزَّهٌ عن النَّاس، مستقذر لهم، أو غضبان عليهم. قال الغزالي: ولا يعلم المسكين أنَّ الورع ليس في الجبهة حتى يُقَطَّب، ولا في الوجه حتى يُعَفَّر، ولا في الخدِّ حتى يُصَعَّر، ولا في الظَّهر حتى ينحني، ولا في الذَّيل حتى يُضَمَّ، إنَّما الورع في القلب) .
قال ابن بطَّال: (فيه أنَّ لقاء النَّاس بالتَّبسُّم، وطلاقة الوجه، من أخلاق النُّبوة، وهو مناف للتكبُّر، وجالب للمودَّة) .

محمد رافع 52 17-04-2013 10:12 AM

أقوال السَّلف والعلماء في البَشَاشَة وطلاقة الوجه
- عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: (مكتوب في الحكمة: ليكن وجهك بسطًا، وكلمتك طيبة، تكن أحبَّ إلى النَّاس من الذي يعطيهم العطاء) .
- قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: (إنَّ المسلمَيْنِ إذا التقيا، فضحك كلُّ واحد منهما في وجه صاحبه، ثم أخذ بيده، تَحَاتَّتْ ذنوبهما كتحات ورق الشجر) .
- قال عبد الله بن المبارك: (حسن الخلق: طلاقة الوجه، وبذل المعروف، وكفُّ الأذى) .
- قال ابن القيِّم: (طلاقة الوجه والبِشْر المحمود وسط بين التَّعبيس والتَّقطيب، وتصعير الخدِّ، وطيِّ البِشْر عن البَشَر، وبين الاسترسال مع كلِّ أحد بحيث يذهب الهيبة، ويزيل الوقار، ويطمع في الجانب، كما أنَّ الانحراف الأوَّل يوقع الوحشة، والبغضة، والنُّفرة في قلوب الخَلْق، وصاحب الخُلُق الوسط: مهيب محبوب، عزيز جانبه، حبيب لقاؤه. وفي صفة نبيِّنا: من رآه بديهة هابه، ومن خالطه عشرة أحبَّه) .
- قال بعض الحكماء: (الْقَ صاحب الحاجة بالبِشْر، فإنْ عدمت شكره، لم تعدم عذره) .
- قيل للأوزاعي رحمه الله: ما كرامة الضَّيف؟ قال: طلاقة الوجه، وطيب الحديث .
- قال ابن حبان: (البَشَاشَة إدام العلماء، وسجيَّة الحكماء؛ لأنَّ البِشْر يطفئ نار المعاندة، ويحرق هيجان المباغضة، وفيه تحصين من الباغي، ومنجاة من الساعي) .
- وقال أبو جعفر المنصور: (إنْ أحببت أنْ يكثر الثَّناء الجميل عليك من النَّاس بغير نائل، فالْقَهُمْ ببِشْر حسن) .

محمد رافع 52 17-04-2013 10:12 AM

أقوال السَّلف والعلماء في البَشَاشَة وطلاقة الوجه
- عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: (مكتوب في الحكمة: ليكن وجهك بسطًا، وكلمتك طيبة، تكن أحبَّ إلى النَّاس من الذي يعطيهم العطاء) .
- قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: (إنَّ المسلمَيْنِ إذا التقيا، فضحك كلُّ واحد منهما في وجه صاحبه، ثم أخذ بيده، تَحَاتَّتْ ذنوبهما كتحات ورق الشجر) .
- قال عبد الله بن المبارك: (حسن الخلق: طلاقة الوجه، وبذل المعروف، وكفُّ الأذى) .
- قال ابن القيِّم: (طلاقة الوجه والبِشْر المحمود وسط بين التَّعبيس والتَّقطيب، وتصعير الخدِّ، وطيِّ البِشْر عن البَشَر، وبين الاسترسال مع كلِّ أحد بحيث يذهب الهيبة، ويزيل الوقار، ويطمع في الجانب، كما أنَّ الانحراف الأوَّل يوقع الوحشة، والبغضة، والنُّفرة في قلوب الخَلْق، وصاحب الخُلُق الوسط: مهيب محبوب، عزيز جانبه، حبيب لقاؤه. وفي صفة نبيِّنا: من رآه بديهة هابه، ومن خالطه عشرة أحبَّه) .
- قال بعض الحكماء: (الْقَ صاحب الحاجة بالبِشْر، فإنْ عدمت شكره، لم تعدم عذره) .
- قيل للأوزاعي رحمه الله: ما كرامة الضَّيف؟ قال: طلاقة الوجه، وطيب الحديث .
- قال ابن حبان: (البَشَاشَة إدام العلماء، وسجيَّة الحكماء؛ لأنَّ البِشْر يطفئ نار المعاندة، ويحرق هيجان المباغضة، وفيه تحصين من الباغي، ومنجاة من الساعي) .
- وقال أبو جعفر المنصور: (إنْ أحببت أنْ يكثر الثَّناء الجميل عليك من النَّاس بغير نائل، فالْقَهُمْ ببِشْر حسن) .

محمد رافع 52 17-04-2013 10:14 AM

فوائد البَشَاشَة وطلاقة الوجه
1- طلاقة الوجه تبشر بالخير، ويقبل على صاحبها النَّاس، والوجه العبوس سبب لنفرة النَّاس.
2- من فوائدها محبَّة الله عزَّ وجلَّ؛ لقوله عليه السَّلام: ((إنَّ الله يحبُّ الطَّلْق الوجه، ولا يحبُّ العبوس)) .
3- طلاقة الوجه للضيف من إكرامه، مع طيب الحديث عند الدُّخول، والخروج، وعلى المائدة .
وقد قيل: (من آداب المضيف: أن يخدم أضيافه، ويظهر لهم الغنى، والبسط بوجهه، فقد قيل: البَشَاشَة خير من القِرَى) .
4- تكلُّفُ البِشْر والطَّلاقة، وتجنُّب العبوس والتَّقطيب من الوسائل المعينة على اكتساب الأخلاق الحميدة.
5- الهَشَاشَة وطلاقة الوجه تثمر المحبَّة بين المسلمين، والتآلف بينهم.

محمد رافع 52 17-04-2013 04:38 PM

موانع اكتساب البَشَاشَة
1- خبث النَّفس، وتغلغل الصِّفات القبيحة فيها من الحسد والغلِّ والحقد والكبر، والتي ترسم الجهامة على وجه صاحبها، وتجعل البَشَاشَة تفارق مُحَيَّاه.
2- عدم اتباع هدي النَّبي صلى الله عليه وسلم، والذي حثَّ على هذه الصِّفة بخلقه وقوله صلَّى الله عليه وسلم.
3 - بغض النَّاس، وكراهية الخير لهم.
4- عدم استشعار الأجر المترتِّب على التَّحلِّي بهذه الصِّفة.
الوسائل المعينة على اكتساب البَشَاشَة:
1- استشعار الأجر الذي رتَّبه الشرع على البَشَاشَة وحسن ملاقاة المسلمين.
2- اتِّباع هدي النَّبي صلى الله عليه وسلم، والذي كانت البَشَاشَة خلقه، وعلمها لأمته بقوله عليه الصَّلاة والسلام.
3- حُبُّ النَّاس يجعلك تَبَشُّ في وجوههم.
4- التَّخلُّص من الصِّفات الذَّميمة كالحسد والحقد، التي تجعل المرء يمقت من حوله ويكره لهم الخير، ويلاقيهم بجهامة ووجه عبوس.
5- التعوُّد على رسم الابتسامة على الوجه، ومحاولة أن تكون سمة دائمة للشَّخص.



محمد رافع 52 17-04-2013 04:41 PM

نماذج من البشاشة في حياة الرَّسول صلى الله عليه وسلم
- بَشَاشَته صلى الله عليه وسلم لأخت خديجة -رضي الله عنها- وفاءً لها، كما ورد عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: ((استأذنت هالة بنتُّ خويلد -أخت خديجة- على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرف استئذان خديجة، فارتاح لذلك، فقال: اللهمَّ هالة. قالت: فَغِرْت. فقلت: ما تذكر من عجوز من عجائز قريش، حمراء الشِّدقين، هلكت في الدَّهر، قد أبدلك الله خيرًا منها)) .
- بَشَاشَته صلى الله عليه وسلم عند مقابلة ذوي الخلق السيِّئ، مداراة لهم واتقاء لفحشهم وتأليفًا لهم، كما ورد عن عروة بن الزُّبير أنَّ عائشة -رضي الله عنها- أخبرته قالت: ((استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ائذنوا له، بئس أخو العشيرة! أو ابن العشيرة. فلما دخل، ألان له الكلام. قلت: يا رسول الله! قلت الذي قلت، ثم ألنت له الكلام! قال: أي عائشة! إنَّ شرَّ النَّاس من تركه النَّاس، أو ودعه النَّاس اتقاء فحشه)) .
- بَشَاشَته صلى الله عليه وسلم عند مقابلته للناس، فعن جرير رضي الله عنه قال: ((ما حجبني النَّبي صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسَّم في وجهي)) .
وكما قيل عنه صلى الله عليه وسلم:

بادي البَشَاشَة باسم لوفوده*** يهتزُّ منه للنَّدى العطفان


كفاه أسخى بالعطاء لمجْتَد*** من وابل الغيث المسفِّ الدَّاني


سبعين ألفا فَضَّها في مجلس*** لم يبق منها عنده فِلْسَان




جميع الأوقات بتوقيت GMT +2. الساعة الآن 10:17 AM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.