بوابة الثانوية العامة المصرية

بوابة الثانوية العامة المصرية (https://www.thanwya.com/vb/index.php)
-   أرشيف المنتدي (https://www.thanwya.com/vb/forumdisplay.php?f=513)
-   -   موسوعة الأخلاق الإسلامية (https://www.thanwya.com/vb/showthread.php?t=511314)

محمد رافع 52 25-04-2013 11:15 AM

فوائد الحلم

1- الحليم عظيم الشَّأن، رفيع المكان، محمود الأمر، مرضي الفعل .
2- (أنَّه دليل كمال العقل وسعة الصَّدر، وامتلاك النَّفس.
3- يعمل على تآلف القلوب ونشر المحبَّة بين النَّاس.
4- يزيل البغضاء بين النَّاس ويمنع الحسد) .
5- صفة الحِلْم عواقبها محمودة.
6- أوَّل عِوَض الحَليم عن حِلْمه أنَّ النَّاس أنصارُه على الجاهل .
7- الحليم له القوَّة في التَّحكُّم في انفعالاته، قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((ليس الشَّديد بالصُّرَعَة، إنَّما الشَّديد الذي يملك نفسه عند الغضب)) .
الوسائل المعينة على اكتساب الحِلْم:
1- تذكُّر كثرة حلم الله على العبد، فالله سبحانه وتعالى حليم: يرى معصية العاصي ومخالفته لأمره فيمهله، قال تعالى: وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ [البقرة: 235].
قال أبو حاتم: (الواجب على العاقل، إذا غضب واحتدَّ، أن يذكر كثرة حلم الله عنه، مع تواتر انتهاكه محارمه، وتعدِّيه حرماته، ثمَّ يَحْلُم، ولا يخرجه غيظه إلى الدُّخول في أسباب المعاصي) .
وقال محمَّد بن السعدي لابنه عروة لما وَلِي اليمن: (إذا غضبت فانظر إلى السَّماء فوقك، وإلى الأرض تحتك، ثمَّ عظِّم خالقهما) .
2- تذكُّر الثَّواب مِن الله للعافين عن النَّاس، قال تعالى: وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران: 133- 134].
عن أبي جعفر الخطمي أنَّ جدَّه عمير بن حبيب -وكان قد بايع النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم- أوصى بنيه، فقال لهم: (أيْ بني! إيَّاكم ومخالطة السُّفهاء؛ فإنَّ مجالستهم داء، وإنَّه مَن يَحْلُم عن السَّفِيه يُسَر بحِلْمِه، ومَن يجبه يندم، ومَن لا يقر بقليل ما يأتي به السَّفِيه، يقر بالكثير) .
3- الرَّحمة بالجاهل، ومِن ذلك ما جاء عن أنس بن مالك رضي الله عنه، حيث قال: ((بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابيٌّ، فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مه مه. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تزرموه، دعوه. فتركوه حتى بال، ثمَّ إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه، فقال له: إنَّ هذه المساجد لا تصلح لشيء مِن هذا البول ولا القذر، إنَّما هي لذكر الله عزَّ وجلَّ، والصَّلاة، وقراءة القرآن. أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فأمر رجلًا مِن القوم فجاء بدلوٍ مِن ماء فشنَّه عليه)) .
4- التَّرفُّع عن المعاملة السَّيِّئة بالمثل، وهذا يدلُّ على شرف النَّفس، وعلوِّ الهمَّة، يقول جابر بن عبد الله رضي الله عنه: ((غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة نَجْدٍ، فلمَّا أدركته القائلة وهو في واد كثير العِضَاه ، فنزل تحت شجرة، واستظلَّ بها وعلَّق سيفه، فتفرَّق النَّاس في الشَّجر يستظلُّون، وبينا نحن كذلك إذ دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئنا، فإذا أعرابيٌّ قاعد بين يديه، فقال: إنَّ هذا أتاني وأنا نائمٌ، فاخترط سيفي ، فاستيقظت وهو قائمٌ على رأسي مخترطٌ صلتًا ، قال: مَن يمنعك مني؟ قلت: الله. فشَامَه ثمَّ قعد، فهو هذا، قال: ولم يعاقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم)) .
5- التَّفضُّل على المسيء، ومِن ذلك ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه، حيث قال: (كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه بردٌ نجرانيٌّ غليظ الحاشية، فأدركه أعرابيٌّ، فجبذه بردائه جَبْذَةً شديدةً، حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثَّرت بها حاشية البُرْد مِن شدَّة جَبْذَته، ثمَّ قال: يا محمَّد! مُرْ لي مِن مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمَّ ضحك، ثمَّ أمر له بعطاء) .
6 الاستحياء مِن جزاء الجواب، وكان الأحنف بن قيس يقول: (مَن لم يصبر على كلمة سمع كلمات، ورُبَّ غيظٍ قد تجرَّعته مخافة ما هو أشدُّ منه، وأنشد:


رضيت ببعض الذُّل خوف جميعه****كذلك بعض الشَّرِّ أهونُ مِن بعض



7- الرِّعاية ليدٍ سالفة، وحرمة لازمة، وهذا مِن الوفاء، وحُسنِ العهد، وكمال المروءة، عن حفص بن غياث قال: (كنت جالسًا عند جعفر بن محمد، ورجل يشكو رجلًا عنده، قال لي كذا، وفعل لي كذا، فقال له جعفر: مَن أكرمك فأكرمه، ومَن استخفَّ بك فأكرم نفسك عنه) .
قال الشَّاعر:


إنَّ الوفاء على الكريم فريضـة****واللُّؤم مقرون بذي الإخـلاف



وترى الكريم لمن يعاشر منصفًا****وترى اللَّئيم مجانب الإنصاف

محمد رافع 52 25-04-2013 11:20 AM

نماذج مِن حلم النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم

لقد بلغ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم غاية الحِلْم والعفو، والسُّنَّة النَّبويَّة حافلة بمواقف الرَّسول الكريم في الحِلْم، ومِن ذلك:
- قصَّة الأعرابي الذي جبذ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بردائه جَبْذَةً شديدةً، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه بردٌ نجرانيٌّ غليظ الحاشية، فأدركه أعرابيٌّ، فجبذه بردائه جبْذَةً شديدةً، حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثَّرت بها حاشية البُرْد مِن شدَّة جَبْذَته، ثمَّ قال:يا محمَّد! مُرْ لي مِن مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمَّ ضحك، ثمَّ أمر له بعطاء)) .
- وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رجلًا أتى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يتقاضاه فأغلظ، فهمَّ به أصحابه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوه فإنَّ لصاحب الحقِّ مقالًا. ثمَّ قال: أعطوه سِنًّا مِثْل سِنِّه، قالوا: يا رسول الله، لا نجد إلَّا أمثل مِن سِنِّه، فقال: أعطوه، فإنَّ مِن خيركم أحسنكم قضاءً)) .
- وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ((كأنِّي أنظر إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يحكي نبيًّا مِن الأنبياء ضربه قومه فأدموه، فهو يمسح الدَّم عن وجهه، ويقول: ربِّ اغفر لقومي فإنَّهم لا يعلمون)) .
قال النَّوويُّ: (فيه ما كانوا عليه صلوات الله وسلامه عليهم مِن الحِلْم والتَّصبُّر والعفو والشَّفقة على قومهم، ودعائهم لهم بالهداية والغفران، وعذرهم في جنايتهم على أنفسهم بأنَّهم لا يعلمون، وهذا النَّبيُّ المشار إليه مِن المتقدِّمين، وقد جرى لنبيِّنا صلى الله عليه وسلم مثل هذا يوم أحد) .
- وعن أنس رضي الله عنه قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مِن أحسن النَّاس خُلُقًا، فأرسلني يومًا لحاجة، فقلت: والله لا أذهب، وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبيُّ الله صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم، قال: فخرجت حتى أمرَّ على صبيان وهم يلعبون في السُّوق، فإذا رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، قابضٌ بقفاي مِن ورائي، فنظرت إليه وهو يضحك، فقال: يا أنيس! اذهب حيث أمرتك، قلت: نعم، أنا أذهب يا رسول الله. قال أنس: والله لقد خدمته سبع سنين أو تسع سنين ما علمت قال لشيء صنعتُ: لم فعلتَ كذا وكذا؟ ولا لشيء تركتُ: هلَّا فعلتَ كذا وكذا؟)) .
- وعن عائشة رضي الله عنها زوج النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّها قالت للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يومٌ كان أشدَّ مِن يوم أُحُدٍ؟ قال: لقد لقيت مِن قومك ما لقيت، وكان أشدُّ ما لقيت منهم: يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كُلَالٍ، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهمومٌ على وجهي، فلم أستفق إلَّا وأنا بقرن الثَّعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلَّتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني، فقال: إنَّ الله قد سمع قول قومك لك، وما ردُّوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. فناداني ملك الجبال، فسلَّم عليَّ، ثمَّ قال: يا محمَّد، فقال: ذلك فيما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يُخْرِج الله مِن أصلابهم مَن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا)) .
- وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: ((بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يَقْسم قَسْمًا، إذ أتاه ذو الخُوَيصرة -رجل مِن بني تميم- فقال: يا رسول الله اعدل! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويلك! ومَن يعدل إن لم أعدل؟! لقد خبتُ وخسرتُ إذا لم أعدل، فمن يعدل؟! فقال عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه: يا رسول الله! ائذن لي فأضرب عنقه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دَعْه، فإنَّ له أصحابًا يَحْقِر أحدُكم صلاتَه مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقِيهم http://www.dorar.net/misc/tip.gif ، يمرقون مِن الإسلام كما يمرُق السَّهم مِن الرَّميَّة ، ينظر إلى نَصْله فلا يوجد فيه شيء، ثمَّ إلى رِصَافِهِ، فلا يوجد فيه شيء، ثمَّ ينظر إلى نَضِيَّة -وهو قِدْحه- فلا يوجد فيه شيء، ثمَّ ينظر إلى قُذَذِه فلا يوجد فيه شيء، قد سبق الفَرْث والدَّم، آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثَدْي المرأة، أو مثل البَضْعَة تَدَرْدَرُ ، ويخرجون على حين فُــرْقة مِن النَّاس. قال أبو سعيد: فأشهد أنِّي سمعت هذا مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشهد أنَّ عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه قاتَلَهم وأنا معه، وأمر بذلك الرَّجل فالتُمس، فأُتي به حتى نظرتُ إليه على نَعْت رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نعت)) .
- وعن أنس رضي الله عنه قال: لما كان يوم الحديبية، هبط على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ثمانون رجلًا مِن أهل مكَّة بالسِّلاح مِن قِبَل جبل التَّنْعيم يريدون غِرَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا عليهم فأُخذوا، قال عفَّان: فعفا عنهم، ونزلت هذه الآية: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ [الفتح: 24]) .
- وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: سحر النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم رجلٌ مِن اليهود، فاشتكى لذلك أيَّامًا، قال: فجاءه جبريل عليه السَّلام، فقال: إنَّ رجلًا مِن اليهود سحرك، عقد لك عقدًا في بئر كذا وكذا، فأرسل إليها مَن يجيء بها. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًّا رضي الله تعالى عنه، فاستخرجها، فجاءه بها فحلَّلها، قال: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنَّما نُشِطَ مِنْ عِقَالٍ، فما ذكر ذلك لليهودي ولا رآه في وجهه حتى مات .
- وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: ((أن امرأة يهودية أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة، فأكل منها. فجيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فسألها عن ذلك، فقالت: أردت لأ***ك. قال: ما كان الله ليسلطك على ذاك، قال: أو قال: علي، قال: قالوا: ألا ن***ها؟ قال: لا، قال: فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله صلى الله عليه وسلم)) .

محمد رافع 52 25-04-2013 11:22 AM

نماذج مِن حِلْم الصَّحابة رضي الله عنهم
حِلْم أبي ذر رضي الله عنه:
شَتم رجلٌ أبا ذَرٍّ رضي الله عنه فقال: (يا هذا، لا تُغرق في شَتمنا ودَع للصُّلح مَوضعًا، فإنَّا لا نكافئ مَن عصى الله فينا بأكثر مِن أن نُطيع الله فيه) .
حِلْم معاوية رضي الله عنه:
كان الرَّجل يقول لمعاوية رضي الله عنه: والله لتستقيمنَّ بنا يا معاوية، أو لنقوِّمنَّك، فيقول: بماذا؟ فيقولون بالخشب، فيقول إذًا أستقيم .
حِلْم عمرو بن العاص رضي الله عنه:
قال رجل لعمرو بن العاص رضي الله عنه: والله لأتفرَّغنَّ لك، قال: هنالك وقعت في الشُّغل، قال: كأنَّك تهدِّدني، والله لئن قلت لي كلمة لأقولنَّ لك عشرًا، فقال عمرو: وأنت والله لئن قلتَ لي عشرًا، لم أقلْ لك واحدة .
حِلْم ابن عبَّاس رضي الله عنهما:
سبَّ رجلٌ ابن عبَّاس رضي الله عنهما، فقال ابن عبَّاس: (يا عكرمة هل للرَّجل حاجة فنقضيها؟ فنكَّس الرَّجل رأسه، واستحى ممَّا رأى مِن حلمه عليه) .

محمد رافع 52 25-04-2013 11:24 AM

نماذج مِن حِلْم السَّلف
حِلْم عمر بن عبد العزيز:
وأسمع رجلٌ عمر بن عبد العزيز بعضَ ما يَكْره، فقال: (لا عليك، إنَّما أردتَ أن يَسْتفزَّني الشَّيطان بعزَّة السُّلطان، فأنال منك اليوم ما تنالُه منِّي غدًا، انصرفْ إذا شئت) .
حِلْم الشَّعَبي:
شَتم رجلٌ الشَعبَيَّ، فقال له: إن كنتَ صادقًا فغَفر الله لي، وإن كنتَ كاذبًا فغفر الله لك .

محمد رافع 52 25-04-2013 11:26 AM

نماذج مِن حِلْم العلماء المعاصرين

حِلْم الشَّيخ ابن باز:
قبل سنتين مِن وفاته رحمه الله، كان في الطَّائف، وفي يومٍ مِن الأيَّام جاء سماحته مِن الدَّوام، ودخل مجلسه، فحيَّا الجموع التي كانت تأتي كالعادة إليه، وفي هذه الأثناء دخل عليه رجلٌ ثائر، ومعه أوراق يطلب فيها شفاعة الشَّيخ؛ ليحصل على مال؛ ليتزوَّج، فشرع الرَّجل يتكلَّم بصوت مرتفعٌ أزعج الحاضرين في المجلس، فوجَّهه سماحة الشَّيخ بما يلزم، وقال: اذهب إلى فلان في بلدكم الفلاني، واطلب منه أن يكتب لكم تزكية، ويقوم باللَّازم، ثمَّ يرفعه إلينا، ونحن نكمل اللَّازم، ونرفع إلى أحد المحسنين في شأنك.
فقال الرَّجل: يا شيخ ارفعها إلى المسؤول الفلاني -يعني أحد المسؤولين الكبار- فقال سماحة الشَّيخ: ما يكون إلَّا خير، فرفع الرَّجل صوته، وأخذ يكرِّر: لابدَّ أن ترفعها إلى فلان، وما زال يردِّد، وما زال الشَّيخ يلاطفه، ويرْفق به، ويعِدُه بالخير، حتى إنَّ الحاضرين تكدَّروا، وبدا الغضب مِن على وجوههم، بل إنَّ بعضهم هَمَّ بإخراج الرَّجل، ولكنَّهم تأدَّبوا بحضرة الشَّيخ. ولم يرغبوا بالتَّقدُّم بين يديه. فقال الرَّجل: يا شيخ! عمري يزيد على الخمسين، وما عندي زوجة، وما بقي مِن عمري إلَّا القليل، فتبسَّم سماحة الشَّيخ، وقال: يا ولدي إن شاء الله، ستتزوَّج، ويزيد عمرك إن شاء الله على التَّسعين، وسنعمل ما نستطيع في تلبية طلبك.
فما كان مِن ذاك الرَّجل الثائر المستوفز إلَّا أن تَبلَّجت أساريره، وأقبل على سماحة الشَّيخ، وأخذ برأس الشَّيخ يُقَبِّله، ويدعو له، فلمَّا همَّ بالانصراف، ودَّع الشَّيخ، فقال له سماحته: لا نسمح لك؛ غداؤك معنا، فقال: يا شيخ أنا على موعد، فقال له الشَّيخ: هذا الهاتف اعتذر، فما زال يحاول التَّخلُّص، وما زال سماحة الشَّيخ يلحُّ عليه بتناول الغداء، ولم يقبل سماحته الاعتذار إلَّا بعد لَأْيٍ وجَهْد.
حينئذٍ تعجَّب الحاضرون مِن تحمُّل الشَّيخ، وأصبحت تُرَى الدَّهشة بادية على وجوههم، فكأنَّه أعطاهم درسًا عمليًّا في فضل الحِلْم، وحميد عاقبته .

محمد رافع 52 25-04-2013 11:27 AM

الأمثال في الحِلْم

- (قولهم: إذا نزل بك الشَّرُّ فاقعد. أي: فاحْلُم ولا تسارع إليه.
- وقولهم: الحليم مطيَّة الجاهل.
- وقولهم: لا ينتصف حليم مِن جاهل.
- وقولهم: حلمي أصمُّ، وأذني غير صمَّاء.
- وقولهم في الحُلَماء: كأنَّما على رؤوسهم الطَّير) .

محمد رافع 52 25-04-2013 11:37 AM

الحِلْم في واحة الشِّعر
قال الشافعي:


يخاطبني السَّفِيهُ بكلِّ قبحٍ***فأكرهُ أن أكونَ له مجيبَا



يزيدُ سفاهةً فأزيدُ حلمًا***كعودٍ زاده الإحراقُ طيبَا



وقال أيضا:


إذا نطق السَّفِيهُ فلا تُجِبْه***فخيرٌ مِن إجابتِه السُّكوتُ



فإن كلَّمته فرَّجت عنه***وإن خلَّيته كمدًا يموتُ



وقال أيضا:


إذا سبَّني نذلٌ تزايدت رفعةً***وما العيبُ إلَّا أن أكونَ مساببه



ولو لم تكنْ نفسي عليَّ عزيزةً***لمكَّنتُها مِن كلِّ نذلٍ تحاربُه



ولو أنَّني أسعى لنفعي وجدتني***كثيرَ التَّواني للَّذي أنت طالبُه



ولكنَّني أسعى لأنفعَ صاحبي***وعارٌ على الشَّبعانِ إن جاع صاحبُه



وقال الشاعر:


وإني لأترك عورَ الكلا***مِ لئلَّا أجابَ بما أكرهُ



وأغضى على الكلمِ المحْفِظا***تِ وأحْلُمُ والحِلْمُ بي أشبهُ



فلا تغتررْ برواءِ الرِّجال***وما زخرفوا لك أو موَّهوا



فكم مِن فتى يعجبُ النَّاظريــــ***ـن له ألسنٌ وله أوجهُ



ينامُ إذا حضر المكرما***تِ وعند الدَّناءةِ يستنبهُ



وقال آخر:


تخالهم للحِلْم صمًّا عن الخنا***وخرسًا عن الفحشاء عند التهاترِ



ومرضى إذا لاقوا حياءً وعفةً***وعند الحروب كاللُّيوثِ الخوادرِ



لهم ذلُّ إنصافٍ ولينُ تواضعٍ***بهم ولهم ذلَّت رقابُ المعاشرِ



كأنَّ بهم وصمًا يخافون عارَه***وما وَصمُهم إلَّا اتقاءُ المعايرِ



وقال آخر:


ألم تر أنَّ الحِلْم زَيْنٌ مُسَوِّدٌ***لصاحبِه والجهلُ للمرءِ شائنُ



فكن دافنًا للجهل بالحِلْم تسترحْ***مِن الجهل إنَّ الحِلْمَ للجهلِ دافنُ



وقال الشاعر:


ألَا إنَّ حِلْمَ المرءِ أكبرُ نسْبةٍ***يُسامى بها عند الفخار كريمُ



فيا ربِّ هَبْ لي منك حِلْمًا فإنَّني***أرى الحِلْمَ لم يندمْ عليه حليمُ



وقال الشاعر:


وفي الحِلم رَدْعٌ للسَّفِيه عن الأذى***وفي الخُـرْق إغراءٌ فلا تَكُ أَخْرَقا



فَتَنْدَمَ إذ لا تنفعنك ندامةٌ***كما ندِم المغْبُونُ لما تَفَــرَّقا



وقال الشاعر:


رجعت على السَّفِيه بفضلِ حِلْمٍ***وكان الفعلُ عنه له لِجَاما



وظنَّ بي السَّفاهَ فلم يجدني***أسافهُه وقلتُ له سلاما



فقام يجرُّ رجليه ذليلًا***وقد كسب المذمَّةَ والملاما



وفضلُ الحِلْمِ أبلغُ في سفيهٍ***وأحرى أن ينالَ به انتقاما



وقال الآخر:


أيا مَن تدَّعي شتمي سفاهًا***عجلت عليَّ خيرًا يا أخيَّا



أكسيك الثَّواب بِبِنْتِ شتمي***وأستدعي به إثمًا إليَّا



فأنت إذن وقد أصبحت ضدًّا***أعزُّ عليَّ مِن نفسي عليَّا

https://encrypted-tbn3.gstatic.com/i...LwPBmUxBgwO-4h

محمد رافع 52 25-04-2013 11:39 AM

الحَيَاء
معنى الحَيَاء لغةً

معنى الحَيَاء لغةً:
الحياء: الحشمة، ضد الوقاحة. وقد حيي منه حياء واستحيا واستحى فهو حَيِيٌّ، وهو الانقباض والانزواء .
معنى الحَيَاء اصطلاحًا:
هو: (انقباض النَّفس مِن شيءٍ وتركه حذرًا عن اللَّوم فيه) .
وقال ابن حجر: (الحَياء: خُلُق يبعث صاحبه على اجتناب القبيح، ويمنع مِن التقصير في حقِّ ذي الحقِّ) .
وقيل هو: (تغيُّر وانكسار يعتري الإنسان مِن خوف ما يُعَاب به ويُذَمُّ، ومحلُّه الوجه) .

محمد رافع 52 25-04-2013 11:42 AM

الفرق بين الحَيَاء والخجل

(الخجل: معنى يظهر في الوجه لغمٍّ يلحق القلب، عند ذهاب حجَّةٍ، أو ظهور على ريبة، وما أشبه ذلك، فهو شيء تتغير به الهيبة.
والحَيَاء: هو الارتداع بقوَّة الحَيَاء، ولهذا يُقَال: فلانٌ يستحي في هذا الحال أن يفعل كذا، ولا يقال: يخجل أن يفعله في هذه الحال؛ لأنَّ هيئته لا تتغيَّر منه قبل أن يفعله، فالخَجَل ممَّا كان والحَيَاء ممَّا يكون.
وقد يُسْتَعمل الحَيَاء موضع الخَجَل توسُّعًا، وقال الأنباري: أصل الخَجَل في اللُّغة: الكَسَل والتَّواني وقلَّة الحركة في طلب الرِّزق، ثمَّ كثر استعمال العرب له حتى أخرجوه على معنى الانقطاع في الكلام.
وفي الحديث: ((إذا جعتنَّ وقعتنَّ، وإذا شبعتنَّ خجلتنَّ)) ، «وقعتنَّ» أي: ذللتنَّ، و«خجلتن»: كسلتن.
وقال أبو عبيدة: الخَجَل هاهنا الأَشَر، وقيل هو سوء احتمال العناء.
وقد جاء عن العرب الخَجَل بمعنى: الدَّهش.
قال الكُمَيْتُ:


فلم يدفعوا عندنا ما لهم***لوقع الحروب ولم يخجلوا



أي لم يبقوا دهشين مبهوتين) .

محمد رافع 52 25-04-2013 12:30 PM

أولًا: في القرآن الكريم
- قال تعالى: وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ [الأعراف:26].
فُسِّر لباس التَّقوى بأنَّه الحَيَاء كما رُوِي عن الحسن ، ومعبد الجهني .
- قال تعالى: فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [القصص: 25].
قال مجاهد: (يعْني: واضعةً ثوبها على وجهها ليست بخرَّاجةٍ ولا وَلَّاجةٍ) .
قال الطَّبري: (فأَتَتْهُ تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ)، وهي تسْتَحْيِي منه) .
- وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ [الأحزاب:53].
قال ابن كثير: (قيل: المراد أنَّ دخولكم منزله بغير إذنه، كان يشُقُّ عليه ويتأذَّى به، لكن كان يكره أن ينهاهم عن ذلك مِن شدَّة حَيَائه عليه السَّلام، حتى أنزل الله عليه النَّهي عن ذلك) .
وقال الشَّوكاني: (أي:يسْتَحْيِي أن يقول لكم: قوموا، أو اخرجوا) .

محمد رافع 52 25-04-2013 12:36 PM

ثانيًا: في السُّنَّة النَّبويَّة
- عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ ممَّا أدرك النَّاس مِن كلام النُّبوَّة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت)) .
قال الخطَّابي: (قال الشَّيخ: معنى قوله ((النُّبوَّة الأولى)) أنَّ الحَيَاء لم يزل أمره ثابتًا، واستعماله واجبًا منذ زمان النُّبوَّة الأولى، وأنه ما مِن نبيٍّ إلَّا وقد نَدَب إلى الحَيَاء وبُعِث عليه، وأنَّه لم ينسخ فيما نسخ مِن شرائعهم، ولم يُبَدَّل فيما بُدِّل منها) .
قال ابن القيِّم: (خُلق الحَيَاء مِن أفضل الأخلاق وأجلِّها وأعظمها قدرًا وأكثرها نفعًا، بل هو خاصَّة الإنسانيَّة، فمَن لا حياء فيه، فليس معه مِن الإنسانيَّة إلَّا اللَّحم والدَّم وصورتهما الظَّاهرة، كما أنَّه ليس معه مِن الخير شيء) .
- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الإيمان بضع وسبعون -أو بضع وستُّون- شعبة، أعلاها: قول: لا إله إلَّا الله. وأدناها: إماطة الأذى عن الطَّريق. والحياء شعبة مِن الإيمان)) .
قال الخطَّابي: (معنى قوله: ((الحَيَاء شعبة مِن الإيمان)) أنَّ الحَيَاء يقطع صاحبه عن المعاصي ويحجزه عنها، فصار بذلك مِن الإيمان) .
و(إنَّما أفرد صلَّى الله عليه وسلَّم هذه الخصلة مِن خصال الإيمان في هذا الحديث، وخصَّها بالذِّكر دون غيرها مِن باقي شعب الإيمان؛ لأنَّ الحَيَاء كالدَّاعي إلى باقي الشُّعب، فإنَّ صاحب الحَيَاء يخاف فضيحة الدُّنْيا والآخرة فيأتمر وينزجر، فلمَّا كان الحَيَاء كالسَّبب لفعل باقي الشُّعب؛ خُصَّ بالذِّكر ولم يذكر غيره معه) .
وقال السعدي: (هذا الحديث مِن جملة النُّصوص الدَّالة على أنَّ الإيمان اسمٌ يشمل عقائد القلب وأعماله، وأعمال الجوارح، وأقوال اللِّسان، فكلُّ ما يقرِّب إلى الله، وما يحبُّه ويرضاه مِن واجبٍ ومستحبٍّ فإنَّه داخلٌ في الإيمان. وذكر هنا أعلاه وأدناه، وما بين ذلك وهو: الحَيَاء. ولعلَّ ذكر الحَيَاء؛ لأنَّه السَّبب الأقوى للقيام بجميع شعب الإيمان. فإنَّ مَن استحيا مِن الله لتواتر نعمه، وسوابغ كرمه، وتجلِّيه عليه بأسمائه الحسنى، -والعبد مع هذا كثير التَّقصير مع هذا الرَّبِّ الجليل الكبير، يظلم نفسه ويجني عليها- أوجب له هذا الحَيَاء التوقِّي مِن الجرائم، والقيام بالواجبات والمستحبَّات) .
- وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((الحَيَاء لا يأتي إلَّا بخير)) .
قال ابن بطَّال: (معناه أنَّ مَن استحيا مِن النَّاس أن يروه يأتي الفجور ويرتكب المحارم، فذلك داعيةٌ له إلى أن يكون أشدَّ حياءً مِن ربِّه وخالقه، ومَن استحيا مِن ربِّه فإنَّ حياءه زاجرٌ له عن تضييع فرائضه وركوب معاصيه؛ لأنَّ كلَّ ذي فطرة صحيحة، يعلم أنَّ الله تعالى النَّافع له والضَّار والرَّزاق والمحيي والمميت، فإذا عَلِم ذلك فينبغي له أن يستحيي منه عزَّ وجلَّ) .
قال ابن رجب: (... ((الحياء لا يأتي إلَّا بخير)): فإنَّه يكفُّ عن ارتكاب القبائح ودناءة الأخلاق، ويحثُّ على استعمال مكارم الأخلاق ومعاليها، فهو مِن خصال الإيمان بهذا الاعتبار) .
قال ابن حجر: (إذا صار الحَيَاء عادة، وتخَلَّق به صاحبه، يكون سببًا يجلب الخير إليه، فيكون منه الخير بالذَّات والسَّبب) .
فالحَيَاء فضيلة مِن فضائل الفطرة، وهو مادَّة الخير والفضيلة، وبهذا وصفه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بقوله: ((الحَيَاء خيرٌ كلُّه)).
- وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، مرَّ على رجل، وهو يعاتب أخاه في الحياء، يقول: إنَّك لتستحيى حتى كأنَّه يقول: قد أضرَّ بك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دعه، فإنَّ الحياء مِن الإيمان)) .
قال ابن بطَّال: (معناه أنَّ الحَيَاء مِن أسباب الإيمان وأخلاق أهله؛ وذلك أنَّه لما كان الحَيَاء يمنع مِن الفواحش، ويحمل على الصَّبر والخير، كما يمنع الإيمان صاحبه مِن الفجور، ويقيِّده عن المعاصي، ويحمله على الطَّاعة، صار كالإيمان لمساواته له في ذلك، وإن كان الحَيَاء غريزة، والإيمان فعل المؤمن، فاشتبها مِن هذه الجهة) .
- وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((استحيوا مِن الله حقَّ الحياء. قال: قلنا: يا رسول الله إنَّا لنستحيي، والحمد للَّه. قال: ليس ذاك، ولكنَّ الاستحياء مِن الله حقَّ الحياء: أن تحفظ الرَّأس وما وعى، وتحفظ البطن وما حوى، وتتذكَّر الموت والبِلَى، ومَن أراد الآخرة، ترك زينة الدُّنيا، فمَن فعل ذلك، فقد استحيا مِن الله حقَّ الحياء)) .
قال ابن رجب: (يدخل فيه حفظ السَّمع والبصر واللِّسان مِن المحرَّمات، وحفظ البطن وما حوى، يتضمَّن حفظ القلب عن الإصرار على ما حرَّم الله، ويتضمَّن أيضًا حفظ البطن مِن إدخال الحرام إليه مِن المآكل والمشارب، ومِن أعظم ما يجب حفظه مِن نواهي الله عزَّ وجلَّ اللِّسان والفرج) .
وقال المباركفوريُّ في شرح الحديث: (قوله: ((استحيوا مِن الله حقَّ الحَيَاء)). أي: حياءً ثابتًا ولازمًا صادقًا، قاله المناويُّ، وقيل: أي: اتَّقوا الله حقَّ تقاته.
((قلنا يا نبيَّ الله إنَّا لنستحيي)). لم يقولوا: حقَّ الحَيَاء؛ اعترافًا بالعجز عنه.
((والحمد لله)). أي على توفيقنا به.
((قال: ليس ذاك)). أي: ليس حقَّ الحَيَاء ما تحسبونه، بل أن يحفظ جميع جوارحه عمَّا لا يرضى.
((ولكن الاستحياء مِن الله حقَّ الحَيَاء: أن تحفظ الرَّأس)). أي: عن استعماله في غير طاعة الله، بأن لا تسجد لغيره، ولا تصلِّي للرِّياء، ولا تخضع به لغير الله، ولا ترفعه تكــبُّرًا.
((وما وعى)). أي: جمعه الرَّأس مِن اللِّسان والعين والأذن عمَّا لا يحلُّ استعماله.
((وتحفظ البطن)). أي: عن أكل الحرام.
((وما حوى)). أي ما اتصل اجتماعه به مِن الفرج والرِّجلين واليدين والقلب، فإنَّ هذه الأعضاء متَّصلة بالجوف، وحفظها بأن لا تستعملها في المعاصي، بل في مرضاة الله تعالى.
((وتتذكَّر الموت والبِلَى)). بكسر الباء، مِن بَلَى الشَّيء إذا صار خَلِقًا متفتِّتًا، يعني تتذكَّر صيرورتك في القبر عظامًا بالية.
((ومَن أراد الآخرة ترك زينة الدُّنْيا)). فإنَّهما لا يجتمعان على وجه الكمال حتى للأقوياء، قاله القاري.
وقال المناويُّ: لأنَّهما ضرَّتان، فمتى أرضيت إحداهما أغضبت الأخرى) .
- وعن يَعْلَى أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا يغتسل بالبَــرَاز فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: إنَّ الله عزَّ وجلَّ حَلِيمٌ حَيِىٌّ سِتِّيرٌ، يحبُّ الحَيَاء والسَّتْر، فإذا اغتسل أحدكم فليَسْتَتِر)) .
- عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما كان الفُحْش في شيء إلَّا شانه، وما كان الحَيَاء في شيء إلَّا زَانَهُ)) .

محمد رافع 52 25-04-2013 01:59 PM

أقوال السَّلف والعلماء في الحَيَاء
- قال عمر رضي الله عنه: (مَن قلَّ حياؤه قلَّ ورعه، ومَن قلَّ ورعه مات قلبه) .
- قال ابن القيِّم في حقيقة الحَيَاء: (قال صاحب المنازل: الحَيَاء: مِن أوَّل مدارج أهل الخصوص، يتولَّد مِن تعظيمٍ منوطٍ بودٍّ. إنَّما جَعَل الحَيَاء مِن أوَّل مدارج أهل الخصوص: لما فيه مِن ملاحظة حضور مَن يستَحيي منه، وأوَّل سلوك أهل الخصوص: أن يروا الحقَّ سبحانه حاضرًا معهم، وعليه بناء سلوكهم. وقوله: إنَّه يتولَّد مِن تعظيمٍ منوطٍ بودٍّ. يعني: أنَّ الحَيَاء حالة حاصلة مِن امتزاج التَّعظيم بالمودَّة، فإذا اقترنا تولَّد بينهما الحَيَاء، والجنيد يقول: إنَّ تولُّده مِن مشاهدة النِّعم ورؤية التَّقصير، ومنهم مَن يقول: تولُّده مِن شعور القلب بما يستحيي منه، فيتولَّد مِن هذا الشُّعور والنُّفرة، حالةٌ تُسَمَّى: الحَيَاء، ولا تنافي بين هذه الأقوال، فإنَّ للحياء عدَّة أسباب) .
- وقال أيضًا: (حياة القلب يكون فيه قوَّة خُلُق الحَيَاء، وقلَّة الحَيَاء مِن موت القلب والرُّوح، فكلَّما كان القلب أحيى كان الحَيَاء أتم.
- قال الجنيد: الحَيَاء: رؤية الآلاء ورؤية التَّقصير، فيتولَّد بينهما حالة تُسمَّى الحَيَاء، وحقيقته: خُلُقٌ يبعث على ترك القبائح، ويمنع مِن التَّفريط في حقِّ صاحب الحقِّ).
- وقال الفضيل بن عياض: (خمسٌ مِن علامات الشَّقاوة: القسوة في القلب، وجمود العين، وقلَّة الحَيَاء، والرَّغبة في الدُّنْيا، وطول الأمل) .
- وقال أبو عبيدة النَّاجي: سمعت الحسن يقول: (الحَيَاء والتَّكرُّم خصلتان مِن خصال الخير، لم يكونا في عبد إلَّا رفعه الله عزَّ وجلَّ بهما) .
- (وقال ابن عطاء: العلم الأكبر: الهيبة والحَيَاء؛ فإذا ذهبت الهيبة والحَيَاء، لم يبق فيه خير.
- وقال ذو النُّون المصري: الحَيَاء، وجود الهيبة في القلب، مع وحشة ما سبق منك إلى ربِّك تعالى.
- وقال أبو عثمان: مَن تكلَّم في الحَيَاء ولا يستحي مِن الله عزَّ وجلَّ فيما يتكلَّم به، فهو مُستَدرَج.
- وقال الجريري: تعامل القرن الأوَّل مِن النَّاس فيما بينهم بالدِّين، حتى رقَّ الدِّين.. ثمَّ تعامل القرن الثَّاني بالوفاء حتى ذهب الوفاء، ثمَّ تعامل القرن الثَّالث بالمروءة حتى ذهبت المروءة، ثمَّ تعامل القرن الرَّابع بالحَيَاء حتى ذهب الحَيَاء، ثمَّ صار النَّاس يتعاملون بالرَّغبة والرَّهبة.
- وقيل: مِن علامات المستحي: أن لا يُرَى بموضع يُسْتَحَيا منه) .
- وقال ابن أبي الدُّنْيا: (قيل لبعض الحكماء: ما أنفع الحَيَاء؟ قال: أن تستحي أن تسأله ما تحبُّ، وتأتي ما يكره) .
- وقال ربيط بني إسرائيل: (زين المرأة الحَيَاء، وزين الحكيم الصَّمت) .

محمد رافع 52 25-04-2013 02:01 PM

فوائد الحَيَاء
1- أن الحَيَاء مِن خصال الإيمان.
2- هجر المعصية خجلًا من الله سبحانه وتعالى.
3- الإقبال على الطَّاعة بوازع الحبِّ لله عزَّ وجلَّ.
4- يبعد عن فضائح الدُّنْيا والآخرة.
5- أصل كلِّ شعب الإيمان.
6- يكسو المرء الوَقَار فلا يفعل ما يخلُّ بالمروءة والتوقير ولا يؤذي مَن يستحقُّ الإكرام.
7- لا يمنع مِن مواجهة أهل الباطل ومرتكبي السوء.
8- مَن استحى مِن الله ستره الله في الدُّنْيا والآخرة.
9- يُعدُّ صاحبه مِن المحبوبين عند الله وعند النَّاس.
10- يمنع الشَّخص عن الفواحش، ويجعله يستتر بها إذا هو سقط في شيء مِن أوحالها.
11- يدفع المرء إلى التَّحلِّي بكلِّ جميل محبوب، والتَّخلِّي عن كلِّ قبيح مكروه .

محمد رافع 52 25-04-2013 02:03 PM

أقسام الحَيَاء

(ينقسم الحَيَاء باعتبار محلِّه إلى قسمين:
1- القسم الأوَّل: حياء فطريٌّ: وهو الذي يُولَد مع الإنسان متزوِّدًا به، ومِن أمثلته: حياء الطِّفل عندما تنكشف عورته أمام النَّاس، وهذا النَّوع مِن الحَيَاء منحة أعطاها الله لعباده.
2- والقسم الثَّاني: حياء مكتسب: وهو الذي يكتسبه المسلم مِن دينه، فيمنعه مِن فعل ما يُذَمُّ شرعًا، مخافة أن يراه الله حيث نهاه، أو يفقده حيث أمره.
وينقسم باعتبار متعلَّقه إلى قسمين:
1- القسم الأوَّل: الحَيَاء الشَّرعي: وهو الذي يقع على وجه الإجلال والاحترام، وهو محمود.
2- القسم الثَّاني: الحَيَاء غير الشَّرعي: وهو ما يقع سببًا لترك أمر شرعي، وهذا النَّوع مِن الحَيَاء مذموم، وهو ليس بحياء شرعي، وإنَّما هو ضعف ومهانة) .

محمد رافع 52 25-04-2013 02:07 PM

صور الحياء
من صور الحياء المحمود:
- الحَيَاء مِن الله: وذلك بالخوف منه ومراقبته، وفعل ما أمر واجتناب ما نهى عنه، وأن يستحي المؤمن أن يراه الله حيث نهاه، وهذا الحَيَاء يمنع صاحبه مِن ارتكاب المعاصي والآثام؛ لأنَّه مرتبطٌ بالله يراقبه في حِلِّه وترحاله.
- الحَيَاء مِن الملائكة: وذلك عندما يستشعر المؤمن بأنَّ الملائكة معه يرافقونه في كلِّ أوقاته، ولا يفارقونه إلَّا عندما يأتي الغائط، وعندما يأتي أهله.
- الحَيَاء مِن النَّاس: وهو دليلٌ على مروءة الإنسان؛ فالمؤمن يستحي أن يؤذي الآخرين سواءً بلسانه أو بيده، فلا يقول القبيح ولا يتلفَّظ بالسُّوء، ولا يطعن أو يغتاب أو ينم، وكذلك يستحي مِن أن تنكشف عوراته فيطَّلع عليها النَّاس.
صور الحَيَاء المذموم:
مِن صور الحَيَاء المذموم:
- الحَيَاء في طلب العلم:
إذا تعلَّق الحَيَاء بأمر دينيٍّ، يمنع الحَيَاء مِن السُّؤال فيه أو عرضه في تعليم أو دعوة، فإنَّ ممَّا ينبغي حينها، رفع الحرج، ومدافعة هذا الحَيَاء الذي يمنع مِن التَّحصيل العلمي أو الدَّعوة إلى الله سواءً عند الرِّجال أو النساء .
فقد ورد أنَّ أمَّ سليم رضي الله عنها ((جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إنَّ الله لا يستحيي مِن الحقِّ، فهل على المرأة مِن غسلٍ إذا احتلمت؟ قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: إذا رأت الماء. فغطَّت أمُّ سلمة -تعني وجهها- وقالت: يا رسول الله وتحتلم المرأة؟! قال: نعم، تَرِبَت يمينك، فيمَ يشبهها ولدها)) .
وعن مجاهد، قال: (إنَّ هذا العلم لا يتعلَّمه مستحٍ ولا متكبِّرٍ) .
وعن سعيد بن المسيب ((أنَّ أبا موسى قال لعائشة -رضي الله عنها-: إنِّي أريد أن أسألكِ عن شيءٍ وإنِّي أستحييك. فقالت: لا تستحيي أن تسألني عمَّا كنت سائلًا عنه أمَّك التي ولدتك، فإنَّما أنا أمُّك. قلت: فما يوجب الغسل؟ قالت: على الخبير سقطت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا جلس بين شُعَبِها الأربع، ومسَّ الختانُ الختانَ فقد وجب الغسل)) .
ورُوِي عن الأسود ومَسْرُوق قال: ((أتينا عائشة لنسألها عن المباشرة للصَّائم، فاستحينا فقمنا قبل أن نسألها، فمشينا لا أدري كم، ثمَّ قلنا: جئنا لنسألها عن حاجة ثمَّ نرجع قبل أن نسألها؟ فرجعنا فقلنا: يا أمَّ المؤمنين، إنَّا جئنا لنسألك عن شيء فاستحينا فقمنا. فقالت: ما هو؟ سلا عمَّا بدا لكما. قلنا: أكان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يباشر وهو صائم؟ قالت: قد كان يفعل ذلك، ولكنَّه كان أملك لإرْبِه منكم)) .
- الحَيَاء مِن الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر:
الحَيَاء لا يمنع المسلم مِن أن يأمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر، قال تعالى: وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ [الأحزاب:53].
بل الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر سمة مِن سمات هذه الأمَّة، كما قال عزَّ وجلَّ: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ [آل عمران:110].
والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مع شدَّة حيائه، لم يثنه ذلك عن قول الحقِّ، ويتبيَّن ذلك في موقفه مع أسامة بن زيد رضي الله عنهما، حينما أراد أن يشفع في حدٍّ مِن الحدود، فلم يمنعه حياؤه صلى الله عليه وسلم مِن أن يقول لأسامة في غضب: أتشفع في حدٍّ مِن حدود الله؟! ثمَّ قام فاختطب، ثمَّ قال: إنَّما أهلك الذين قبلكم أنَّهم كانوا إذا سرق فيهم الشَّريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضَّعيف أقاموا عليه الحدَّ، وايم الله لو أنَّ فاطمة بنت محمَّد سرقت لقطعت يدها) .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنَّ الله ليسأل العبدَ يوم القيامة حتى يقول: ما منعك إذْ رأيتَ المنكر أن تنكره؟ فإذا لقَّن الله عبدًا حجَّته قال: يا ربِّ! رجوتُك وفَرِقْتُ مِن النَّاس)) .
- فعل أمر نهى عنه الشَّارع:
فمَن دفعه حياؤه إلى فعل أمرٍ نهى عنه الشَّارع، أو إلى ترك واجب مرغوب في الدِّين فليس حييًّا شرعًا، وإنَّما هذا يعتبر ضعفًا ومهانة.
فليس مِن الحَيَاء أن يترك الصَّلاة الواجبة بسبب ضيوفٍ عنده حتى تفوته الصَّلاة. وليس مِن الحَيَاء أن يمتنع الشَّخص مِن المطالبة بالحقوق التي كفلها له الشَّرع .
صور الحَيَاء كما ذكرها ابن القيِّم:
ذكر ابن القيِّم صورًا للحياء وقسَّمها إلى عشرة أوجه وهي:
(حياء جناية، وحياء تقصير، وحياء إجلال، وحياء كرم، وحياء حِشْمَة، وحياء استصغارٍ للنَّفس واحتقارٍ لها، وحياء محبَّة، وحياء عبوديَّة، وحياء شرف وعزَّة، وحياء المستحيي مِن نفسه.
فأمَّا حياء الجناية: فمنه حياء آدم عليه السَّلام لما فرَّ هاربًا في الجنَّة، قال الله تعالى: أفرارًا منِّي يا آدم؟ قال: لا يا ربِّ، بل حياءً منك.
وحياء التَّقصير: كحياء الملائكة الذين يسبِّحون اللَّيل والنَّهار لا يفترون، فإذا كان يوم القيامة قالوا: سبحانك! ما عبدناك حقَّ عبادتك.
وحياء الإجلال: هو حياء المعرفة، وعلى حسب معرفة العبد بربِّه، يكون حياؤه منه.
وحياء الكَرَم: كحياء النَّبيِّ مِن القوم الذين دعاهم إلى وليمة زينب وطوَّلوا الجلوس عنده، فقام واستحيى أن يقول لهم: انصرفوا.
وحياء الحِشْمَة: كحياء علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أن يسأل رسول الله عن المذْي لمكان ابنته منه.
وحياء الاستحقار واستصغار النَّفس: كحياء العبد مِن رَبِّه عزَّ و جلَّ حين يسأله حوائجه، احتقارًا لشأن نفسه واستصغارًا لها...
وقد يكون لهذا النَّوع سببان:
أحدهما: استحقار السَّائل نفسه، واستعظام ذنوبه وخطاياه.
والثَّاني: استعظام مسؤوله.
وأمَّا حياء المحبَّة: فهو حياء المحبِّ مِن محبوبه، حتى إنَّه إذا خطر على قلبه في غيبته هاج الحَيَاء مِن قلبه، وأحسَّ به في وجهه، ولا يدرى ما سببه، وكذلك يعرض للمحبِّ عند ملاقاته محبوبه ومناجاته له روعةٌ شديدةٌ، ومنه قولهم: جمال رائع، وسبب هذا الحَيَاء والرَّوعة، ممَّا لا يعرفه أكثر النَّاس.
ولا ريب أنَّ للمحبَّة سلطانًا قاهرًا للقلب، أعظم مِن سلطان مَن يقهر البدن، فأين مَن يقهر قلبك وروحك إلى مَن يقهر بدنك؟ ولذلك تعجَّبت الملوك والجبابرة مِن قهرهم للخَلْق، وقهر المحبوب لهم وذلهم له، فإذا فاجأ المحبوب مُحِبَّه ورآه بغتةً: أحسَّ القلب بهجوم سلطانه عليه فاعتراه روعةٌ وخوف...
وأمَّا الحَيَاء الذي يعتريه منه -وإن كان قادرًا عليه كأمته وزوجته- فسببه والله أعلم أنَّ هذا السُّلطان لـمَّا زال خوفه عن القلب، بقيت هيبته واحتشامه، فتولَّد منها الحَيَاء، وأمَّا حصول ذلك له في غيبة المحبوب فظاهرٌ لاستيلائه على قلبه، فوهمه يغالطه عليه ويكابره حتى كأنَّه معه.
وأمَّا حياء العبوديَّة: فهو حياء ممتزجٌ مِن محبَّة وخوف، ومشاهدة عدم صلاح عبوديَّته لمعبوده، وأنَّ قدره أعلى وأجلُّ منها، فعبوديتَّه له توجب استحياءه منه لا محالة.
وأما حياء الشَّرف والعزَّة، فحياء النَّفس العظيمة الكبيرة، إذا صدر منها ما هو دون قدرها مِن بذلٍ أو عطاءٍ وإحسانٍ، فإنَّه يستحيي -مع بذله- حياء شرف نفسٍ وعزَّةٍ، وهذا له سببان: أحدهما: هذا. والثَّاني: استحياؤه مِن الآخذ حتى كأنَّه هو الآخذ السَّائل، حتى إنَّ بعض أهل الكَرَم لا تطاوعه نفسه بمواجهته لمن يعطيه حياءً منه، وهذا يدخل في حياء التَّلوُّم؛ لأنَّه يستحيي مِن خَجْلَة الآخذ.
وأما حياء المرء مِن نفسه: فهو حياء النُّفوس الشَّريفة العزيزة الرَّفيعة مِن رضاها لنفسها بالنَّقص وقناعتها بالدُّون، فيجد نفسه مستحيًا مِن نفسه حتى كأنَّ له نفسين يستحيي بإحداهما مِن الأخرى، وهذا أكمل ما يكون مِن الحَيَاء؛ فإنَّ العبد إذا استحيى مِن نفسه فهو بأن يستحيي مِن غيره أجدر) .


جميع الأوقات بتوقيت GMT +2. الساعة الآن 06:28 AM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.