Monier
22-12-2008, 12:02 PM
قلت له بلهجة المؤنب الصارمة وكأني أُحمله الخطيئة كلها: أنتم معشر المعلمين مسؤولون عن التهم الظالمة التي ألصقت بالحمير!
انتفض الرجل، كأن تيارًا كهربيًا قد مسه. أعارني سمعه وبصره وظننته يثب عليَّ.. ويمسك بتلابيبي لكنه أخرج كلماته بتؤدة.
ـ وماذا أيضًا في جعبتك.. يا صاحب الأفكار؟
وبلا مبالاة ـ وكأني لا أعير مشاعره أدنى مراعاة ـ قلت: دائمًا ما تصفون «البليد» بأنه «حمار.. وآذانه طويلة» إمعانًا في الإهانة وتجسيدًا للتقول..!
وتابعت اندفاعي غير منتظر قولاً له.. ولاردة فعل.. محاضرًا.. ومقررًا..
الحمار يا صاحبي ليس بليدًا.. ولا حتى تلاميذكم.. ولا هو خارج عن النظام، وليس به عيب يحط من قدره.. أو يصنفه في جانب سيئي السمعة!
لو كنت حمارًا لصرخت في وجوهكم.. كلكم «أنتم مفترون» انظروا إلى أفعالكم. نحن معشر الحمير نخجل أن نأتي مثلها!
أمال محدثي رأسه إلى الوراء.. وكأن بعض كربه قد انفرج، أو ظن أنه ظفر مني بانتكاسة مهينة، أو وقع على انتقاص من مروءتي: «كأنك تريد أن تنسب إلى جماعة الحمير».
وانفجر ضاحكًا بصوت مجلجل.. أثارني.. وأغرقني في اضطراب وحيرة! سكنت عضلات وجهه.. واقترب مني متوددًا، قال وهو يربت على كتفي وعيناه تمطراني بوابل من شماتة الغرور:
ـ مبروك عليك.. مبروك. وغادر مجلسه... دون وداع. أخذت أدير في رأسي.. أفكارًا لعلي أقتنص منها ما يصلح شأني في هذا المجتمع الجديد الذي اخترته لنفسي طواعية.. وزادني تمسكًا به شماتة صديقي.. وبركاته.
قال لي العارفون:
ـ اذهب إلى عمك الشيخ حسن فهو من أعرف الناس.
طرقت بابه .. باب الحوش الكبير.. وعندما لمحني حماره.. حياني على البعد، فشكرت له هذه المبادرة.. لما فيها من سبق لبعض بني البشر..!
على مائدة الشاي الساخن.. بالأعشاب البرية التي يعتني بها الشيخ عناية فائقة.. «لعل فيها أسرارًا.. أو سر ذلك العقل الحكيم».
تنهد وأخرج من صدره زفرة حرَّى.
ـ إيه يا بني.. علمت بأمرك.. وسررت لك. لأنك عرفت للحمير مكانتها.. وكرامتها.
قلت.. وقد أخذتني النشوة لهذا الإطراء الجميل:
ـ ليس هذا وحسب.. يا عم، بل إني انتسبت لجماعة الحمير..
ـ آه لو أنك لم تفعل.. فقد ذهبت بعيدًا في نفسك، وسوف تلقى عنتًا كبيرًا. فخطوتك لا يستسيغها عقل جماعتك.. إنهم مشغولون بالمظاهر عن البواطن.. ولا يكلفون أنفسهم عناء التفكير.
قلت له:
ـ علمني شيئًا يقويني ويزيدني عزمًا وصلابة.. فيما أنا فيه. قال لي: وهو يتفرس في وجهي كأنه يشفق عليّ.. أو يدعو لي: لا أعلم.
ـ الناس، يا بني، لم يضعوا الحمار في مكان «عليٍّ» إلا في واحدة عندما ذهب مثلهم:
«اللي ما يقدرش على الحمار.. يتشطر على البردعة».
فأوهموا السامع أن للحمار قوة وصولة تحفظه من الإهانة.. ولكنها يا بني، من التفكير الآدمي المخاتل.. الذي يترفع عنه تفكير الحمار..
قلت مندهشًا.
ـ أنا لا أفهم ما تقول. زدني إيضاحًا..
قال:
ستفهم فيما بعد.. لكن عليك أن تستخدم عقلك.. وانظر بعين الفاحص في الأحداث والوقائع تصل إلى عين الحقيقة.. لا محالة!
قلت.. بانكسار:
جئتك يا سيدي لتفتح لي الأبواب.. وها أنت تغلقها دوني!
قال مواسيًا:
ـ لا عليك.. لا عليك.
الحمار.. يا هذا يحتمل من الإهانات ما لا يطاق. بعض الآدميين يجعل مسمارًا في عصا.. فيصير مسمارًا داميًا ومؤلمًا.. وينجرح ظهر الحمار من سوء صنع البردعة.. ويصبح الجرح ملهبة مميتة.. وتزيدها الأحمال الثقيلة.. آلامًا مبرحة.. والمسكين صامت.. وقلب بني آدم لا يلين.
يجتر الحمار آلامه.. ويرضيه من كل هذا العذاب.. حفنة من شعير، وشربة من ماء..! ويجعل الإنسان طعامه ألوانًا.. وشرابه فنونًا..
الحمار صبور مسالم.. انظر حولك.. ماذا يفعل الناس.. وماذا تقترف أيديهم.. وإن سألتهم.. قالوا إنما نحن مصلحون؟!
هنيئًا لك يا بني.. إذ أخرجت نفسك من الآدمية إلى الحميرية حتى تنفض يديك من الدماء والآثام والظلم.. والظلمات.. التي يخبط فيها الإنسان كحاطب ليل..
هزتني هذه الكلمات هزًا عنيفًا.. وكأني قد وجدت الدماء الحميرية تغلي في عروقي.. نقية صافية.. وقد تطهرت من آثام آدميتي السابقة وفتحت نافذة الشيخ التي تطل على الشارع الكبير في وسط القرية.
وبأعلى صوتي: يا ناس.. يا عالم.. يا هو..
تقاطر الناس وشرعت النوافذ.. على مصاريعها وصار الناس آذانًا صاغية.
جعلت أصابعي في أذني وصحت: أنا حمار.
أنا حمار.. حمار.. حمار
وكونوا من الشاهدين
منقول
انتفض الرجل، كأن تيارًا كهربيًا قد مسه. أعارني سمعه وبصره وظننته يثب عليَّ.. ويمسك بتلابيبي لكنه أخرج كلماته بتؤدة.
ـ وماذا أيضًا في جعبتك.. يا صاحب الأفكار؟
وبلا مبالاة ـ وكأني لا أعير مشاعره أدنى مراعاة ـ قلت: دائمًا ما تصفون «البليد» بأنه «حمار.. وآذانه طويلة» إمعانًا في الإهانة وتجسيدًا للتقول..!
وتابعت اندفاعي غير منتظر قولاً له.. ولاردة فعل.. محاضرًا.. ومقررًا..
الحمار يا صاحبي ليس بليدًا.. ولا حتى تلاميذكم.. ولا هو خارج عن النظام، وليس به عيب يحط من قدره.. أو يصنفه في جانب سيئي السمعة!
لو كنت حمارًا لصرخت في وجوهكم.. كلكم «أنتم مفترون» انظروا إلى أفعالكم. نحن معشر الحمير نخجل أن نأتي مثلها!
أمال محدثي رأسه إلى الوراء.. وكأن بعض كربه قد انفرج، أو ظن أنه ظفر مني بانتكاسة مهينة، أو وقع على انتقاص من مروءتي: «كأنك تريد أن تنسب إلى جماعة الحمير».
وانفجر ضاحكًا بصوت مجلجل.. أثارني.. وأغرقني في اضطراب وحيرة! سكنت عضلات وجهه.. واقترب مني متوددًا، قال وهو يربت على كتفي وعيناه تمطراني بوابل من شماتة الغرور:
ـ مبروك عليك.. مبروك. وغادر مجلسه... دون وداع. أخذت أدير في رأسي.. أفكارًا لعلي أقتنص منها ما يصلح شأني في هذا المجتمع الجديد الذي اخترته لنفسي طواعية.. وزادني تمسكًا به شماتة صديقي.. وبركاته.
قال لي العارفون:
ـ اذهب إلى عمك الشيخ حسن فهو من أعرف الناس.
طرقت بابه .. باب الحوش الكبير.. وعندما لمحني حماره.. حياني على البعد، فشكرت له هذه المبادرة.. لما فيها من سبق لبعض بني البشر..!
على مائدة الشاي الساخن.. بالأعشاب البرية التي يعتني بها الشيخ عناية فائقة.. «لعل فيها أسرارًا.. أو سر ذلك العقل الحكيم».
تنهد وأخرج من صدره زفرة حرَّى.
ـ إيه يا بني.. علمت بأمرك.. وسررت لك. لأنك عرفت للحمير مكانتها.. وكرامتها.
قلت.. وقد أخذتني النشوة لهذا الإطراء الجميل:
ـ ليس هذا وحسب.. يا عم، بل إني انتسبت لجماعة الحمير..
ـ آه لو أنك لم تفعل.. فقد ذهبت بعيدًا في نفسك، وسوف تلقى عنتًا كبيرًا. فخطوتك لا يستسيغها عقل جماعتك.. إنهم مشغولون بالمظاهر عن البواطن.. ولا يكلفون أنفسهم عناء التفكير.
قلت له:
ـ علمني شيئًا يقويني ويزيدني عزمًا وصلابة.. فيما أنا فيه. قال لي: وهو يتفرس في وجهي كأنه يشفق عليّ.. أو يدعو لي: لا أعلم.
ـ الناس، يا بني، لم يضعوا الحمار في مكان «عليٍّ» إلا في واحدة عندما ذهب مثلهم:
«اللي ما يقدرش على الحمار.. يتشطر على البردعة».
فأوهموا السامع أن للحمار قوة وصولة تحفظه من الإهانة.. ولكنها يا بني، من التفكير الآدمي المخاتل.. الذي يترفع عنه تفكير الحمار..
قلت مندهشًا.
ـ أنا لا أفهم ما تقول. زدني إيضاحًا..
قال:
ستفهم فيما بعد.. لكن عليك أن تستخدم عقلك.. وانظر بعين الفاحص في الأحداث والوقائع تصل إلى عين الحقيقة.. لا محالة!
قلت.. بانكسار:
جئتك يا سيدي لتفتح لي الأبواب.. وها أنت تغلقها دوني!
قال مواسيًا:
ـ لا عليك.. لا عليك.
الحمار.. يا هذا يحتمل من الإهانات ما لا يطاق. بعض الآدميين يجعل مسمارًا في عصا.. فيصير مسمارًا داميًا ومؤلمًا.. وينجرح ظهر الحمار من سوء صنع البردعة.. ويصبح الجرح ملهبة مميتة.. وتزيدها الأحمال الثقيلة.. آلامًا مبرحة.. والمسكين صامت.. وقلب بني آدم لا يلين.
يجتر الحمار آلامه.. ويرضيه من كل هذا العذاب.. حفنة من شعير، وشربة من ماء..! ويجعل الإنسان طعامه ألوانًا.. وشرابه فنونًا..
الحمار صبور مسالم.. انظر حولك.. ماذا يفعل الناس.. وماذا تقترف أيديهم.. وإن سألتهم.. قالوا إنما نحن مصلحون؟!
هنيئًا لك يا بني.. إذ أخرجت نفسك من الآدمية إلى الحميرية حتى تنفض يديك من الدماء والآثام والظلم.. والظلمات.. التي يخبط فيها الإنسان كحاطب ليل..
هزتني هذه الكلمات هزًا عنيفًا.. وكأني قد وجدت الدماء الحميرية تغلي في عروقي.. نقية صافية.. وقد تطهرت من آثام آدميتي السابقة وفتحت نافذة الشيخ التي تطل على الشارع الكبير في وسط القرية.
وبأعلى صوتي: يا ناس.. يا عالم.. يا هو..
تقاطر الناس وشرعت النوافذ.. على مصاريعها وصار الناس آذانًا صاغية.
جعلت أصابعي في أذني وصحت: أنا حمار.
أنا حمار.. حمار.. حمار
وكونوا من الشاهدين
منقول