مشاهدة النسخة كاملة : الحياة في ظل الاهتداء بكتاب الله


abomokhtar
15-02-2017, 07:02 AM
الحياة في ظل الاهتداء بكتاب الله [1]
*
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ﴾ [النساء: 1]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾ [الأحزاب: 70 - 71].

أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي رسوله محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أيها الناس، إن الكلمة بقيتْ وستبقى سبيلاً لتعديل مسار الناس، من الشر إلى الخير، أو من الخير إلى الشر، وكلما كانت أكثر امتلاكًا لأدوات التأثير كانت أسرع وصولاً، وسيطرة على الأقوال والأعمال.
وذلك أن الخطاب والبيان وَقود للعقول والقلوب التي تنشأ عنها حركات الجوارح وسكونها.

ومن هذا بعث الله تعالى الأنبياء والرسل-عليهم الصلاة والسلام- وأيّدهم بوحي منه؛ حتى يخاطبوا الناس به مبشرين ومنذرين. قال تعالى: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [الأعراف:35].

ومن أولئك الرسل الكرام: رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، الذي أنزل الله تعالى عليه القرآن الكريم، قال تعالى: ﴿ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [النحل:44].

ففي ليلة قمراء اتّشحت بها آفاق غار حراء هبط رسول السماء إلى رسول الأرض سيد الأنبياء محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، فجاءه بطلائع النور الذي سينير لأهل الأرض طريقهم إلى ربهم تبارك وتعالى، حاملاً معه قول الله تعالى: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ [العلق: 1 - 5].

لقد حمل رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم في صدره تلك الكلمات المشرقة فجاء بها الناس نبيًا من عند الله تعالى؛ ليضيء بها الكون المتلفع بالظلمات المتراكمة، ﴿ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [المائدة: 15، 16].

أمّةَ القرآن، إن هذا القرآن العظيم الذي بين أيدينا هو كلام الله تعالى، أصدقُ قيلا، وأحسنُ حديثا، وأكمل نصحا، وأهدى طريقا، وأتم برهانًا وحجة، وأفصح بيانًا ومحجّة، ﴿ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [فصلت:42].

هو كلام الله تعالى العليم الخبير، البصير القدير، ليس ككلام البشر الذي يعتريه النقص والقصور، والعي والضعف، ويختلط فيه الحق بالباطل، والصدق بالكذب.

إن هذا الكتاب الكريم قد نزل بأفصح لسان، وأتم بيان، في عصر بلغت فيه العربية أوج عزها، وسنام مجدها، فأخرس الفصحاء، وأعجز البلغاء، وأعيا الشعراء، وأسكت العلماء. حتى إن منصفي فصحائهم شهدوا له بالقوة والفخامة، والإعجاز والبلاغة التي لا تُسبق، ولا يمكن أن تُلحق. قال الوليد بن المغيرة: "والله لقد سمعت من محمد كلاماً ما هو من كلام الإنس، ولا من كلام الجن، إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإنّ أسفله لمغدق، وإنّه يعلو وما يُعلى"[2].

وسمع أعرابي رجلاً يقرأ: ﴿ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ ﴾ [الحجر: 94] فسجد ،وقال: سجدت لفصاحة هذا الكلام، وسمع آخر رجلاً يقرأ: ﴿ فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا ﴾ [يوسف: 80] فقال: أشهد أن مخلوقًا لا يقدر على مثل هذا الكلام"[3].
كلامٌ ليس يشبهه كلام
وقولٌ فاقَ حقًا كلَّ قولِ
ولو صاغَ الورى أرقى بيانٍ
لَمالَ إلى الفهاهةِ كلَّ ميل

وصدق الله تعالى: ﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ [الإسراء:88].

أيها المسلمون، لقد أنزل الله تعالى القرآن الكريم كتابًا خالداً؛ ليبقى معجزة قائمة إلى نهاية الدهر، وهو بهذا الإعجاز سبيل هداية وإرشاد مع تغير الزمان والمكان والأجيال، فكل إنسان له طريقه في التأثر به وقبوله؛ ولهذا تعددت وجوه إعجازه، وطرق هدايته للنفوس.

فمن ذلك: أنه معجز بأسلوبه وفصاحته، وبيانه وبلاغته، وجودة سبكه، وحسن تأليفه، وهو معجز كذلك بإخباره عن المغيبات الماضية والمستقبلية، وهو معجز بقوة جذبه، وأخذه بمجامع العقول والقلوب، وهو معجز باشتماله على سبل صلاح الدنيا والدين.

فمن أجل ذلك بقي كتابَ هداية لكل البشر على اختلافهم، ويدل على هذا: أن بعض المقبلين من الكفر إلى الإسلام، ومن المعاصي إلى الطاعات يذكرون أن سبب رجوعهم إلى الله تعالى آيةٌ أو آيات قرأوها أو سمعوها، فمن ذلك: أن الفضيل بن عياض كان سبب توبته قبل أن يصير إمامًا في العبادة والعلم: أنه كان في طريقه إلى معصية فسمع قارئًا يقرأ قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [الحديد:16]، فرجع وتاب توبة نصوحًا، وصار علمًا من أعلام المسلمين[4]. وأسلم طبيب غربي عندما فُسِّر له قوله تعالى:* ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴾ [النساء:56]، والأمثلة على ذلك كثيرة.

عباد الله، إن من رحمة الله بنا: أن أنزل هذا الكتاب العظيم؛ ليكون نور حياتنا، وضياء طريقنا حتى نصل إلى الله تعالى من سفر الدنيا، ولكنه لا يكون كذلك إلا بالإيمان به، وقراءته وتدبره، وفهمه وتأمله، والعمل به، والاحتكام إليه. قال تعالى: ﴿ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ ﴾ [ص:29]، وقال: ﴿ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [محمد:24]، وقال: ﴿ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا ﴾ [النساء:82]، وقال: ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ [الزمر:23]، وقال: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [الأنفال:2].

أيها الأحباب الفضلاء، إن المسلم الموفق هو الذي يعمر حياته بالقرآن الكريم، فيصير تحركها مبنيًا على توجيهاته، وسكونها قائماً على هداياته، فمنه ينطلق، وإليه يعود. لأن هذا الكتاب العظيم هو خطاب الملك سبحانه لمملوكيه، ودستور الخالق لخلقه، ونداء الرب لعباده، وهو خطاب الرحيم الكريم، الذي رحم عباده بإنزاله عليهم، وعلم ما يصلح أحوالهم العاجلة والآجلة فأودعه فيه.

فلذلك صار القانونَ السماوي الشامل، والدستورَ الرباني الكامل، والحَكم الفصل العادل لجميع ما يحتاجه البشر في طريقهم إلى الله تعالى.
فبه يُوحّد الله، وبه يعبد، وبه يصلى ويزكى المال، وبه يصام وبه يحج البيت، وبه يجاهد في سبيل الله، وبه يُحكم في قضايا الأموال والأعراض والدماء والجنايات، وبه يتبين الحلال من الحرام في البيع والشراء وسائر المعاملات؛ كالمعاملات الأسرية، والعلاقات الدولية، وغير ذلك، مع بيان سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومن هذا يتبين لنا أن جميع مجالات حياتنا لا تستقر ولا تصلح إلا بالتمسك بالقرآن الكريم تمسكًا صادقًا يبرهن عن صدق ذلك واقع الأفعال والأقوال. فالحياة الدينية إذا بنيت على أساس من القرآن بناء صحيحًا قائماً على قلب خاضع، ودليل ناصع أثمرت صحة العقيدة، وسلامة الفكر، وحسن العمل والسلوك، وصواب التوجه والمعاملة مع الله تعالى، ومع النفس، ومع الخلق. والحياة السياسية إذا قامت على قواعد القرآن، ورسمت على منهاجه بحق وصدق أورثت راحة الراعي والرعية، واستقرار الشعوب الإسلامية، ورقي الحياة في جوانبها المختلفة. والحياة العسكرية إذا أُنشئت حسب توجيهات القرآن، وتوجّهت على وفق أوامر القرآن أنتجت عزَّ المسلمين، واستقرارهم، وأمنهم واطمئنانهم.

والحياة الاقتصادية إذا قامت على مبادئ القرآن في الكسب والإنفاق، والإيراد والإصدار أثمرت بركة في الرزق، ونماء في المال، وغنى في المجتمع، وازدهاراً اقتصاديًا، وتحصنًا من الجوائح والأزمات المالية، واستقلالاً عن التبعية لأعداء الأمة المحمدية. والحياة الاجتماعية إذا جرت على نهج القرآن عاش المسلمون حياة سعيدة، يحفها العدل والأمان، والطهر والنقاء. والحياة التربوية والعلمية إذا بنيت على أسس القرآن أخرجت أجيالاً متألقة علميًا، نافعة مجتمعيًا، مشرقة خلقيًا، بانية غير هادمة، صافية العقول غير مشوبة.

أيها الإخوة الأعزاء، إن هذا الواقع المشرق في مجالات الحياة السابقة هو حلم كل مسلم صادق، يريد أن يراه واقعًا في جميع بلاد المسلمين؛ لأنه يحب أن يكون القرآن هو حاكمَ الحياة كلها؛ لأن الله تعالى أنزله لذلك، ولم ينزله ليُقرأ لحظات معينة، ثم يُعاد إلى الرفوف. إن حال الأمة الإسلامية في زمان انحطاطها بسبب بعدها عن هدي القرآن، وبحثها عن حلول مشكلاتها في كل جهة أرضية؛ كحال الغريق الذي يطلب أيدي المنقذين، ولديه قارب نجاة فيأبى ركوبه، يناديه المنادي: اركب معنا، فيقول: سآوي إلى جبل يعصمني من الماء، ولكنه لم يجد جبلاً، ولا ركب قاربًا فكان من المغرقين، أو كحال من ضل عن الطريق ومعه الدليل غير أنه لا يلتفت إليه، قال تعالى: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الجمعة:5]، أو كحال الظمآن والماء فوق ظهره محمول.
ومن العجائب والعجائب جمَّةٌ
قُرْبُ السبيل وما إليه وصولُ
كالعِيْسِ في البيداء ي***ها الظما
والماءُ فوق ظهورها محمول

إن المسلم الحريص على النجاة الصادق في حب الله هو من يصبغ حياته كلها بصبغة القرآن الكريم، فيظهر أثره على اعتقاده، وعلى عمله، وعلى أخلاقه، وعلى مخبره ومظهره، فهو طويل الملازمة للتلاوة، كثير التدبر والتفكر فيه، يقرأه فيتأثر بآياته فيتجه عقبها إلى ميدان العمل بها، وليس كحال الذي يقرأ غير مبال بالعمل بما قرأ، وكأن القرآن يخاطب غيره، فعلاقته بالقرآن علاقة قراءة تنتهي بانتهائها فحسب!.

كما أنه من عمر حياته بالقرآن بحق فإنه سيحيا حياة روحية راقية، بحيث تحلِّق روحه في آفاق الفضائل، وتسارع إليها، وتنأى عن منحدرات الرذائل، وتكره قربانها، وترسم على جوارحه صور الصلاح حتى يقبل على فعل ما يُحمد، وترك ما يذم. وقد تمثل الحياة القرآنية بجميع فصولها: رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، فكان خُلقه القرآن، كأنه قرآن يمشي بين الناس.

أيها المسلمون، إن الحياة الحقيقة هي الحياة القرآنية، ﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام:122]، فلا سعادة حقيقة في الحياة إلا بعمارتها بكتاب الله تعالى، فمن جرّد حياته منه تخبّط في أودية الشقاء، وظلمات الحيرة، وتاه في فلوات النكد والضياع. والطريقة الصحيحة لجعل الحياة حياة قرآنية صادقة: أن يكون القرآن هو منطلق الإنسان في تصرفاته، وهو المرجع الذي يحتكم إليه في أموره، وهو المآل الذي ينتهي إليه لكشف همومه، وتفريج كروبه، وإخراجه من رحم مشكلاته وآلامه. ومن رجع إليه رجوعًا صادقًا وجده أنيسه في الوحشة، ورفيقه في الوحدة، وسلوته في الحزن، وفاتحَ ما انغلق من أبوابه، وحلاَّل ما هجم من المعضلات على حياته.
هو منهلٌ عذبٌ يسيل معينه
بفراتِ ماء للحياة نميرِ
هو حبلُ من يرجو النجاةَ من الردى
ويدُ الأمان من اغتيالِ شرور
حصن من الأعداء ما خانَ الذي
يأوي إليه لنجدةٍ وسرور
باقٍ على مر الدهور منارةً
تهدي الورى دومًا لخيرِ مصير

أيها الأحبة الفضلاء، في ظل الحياة القرآنية يغتسل القلب من أدرانه، ويُطلق من سجون أحزانه، وتنزل السعادة فيه، وتشرق جميع نواحيه، وفي ظل الحياة القرآنية يتحرر العقل من غثاء الأفكار المسمومة، ويسبح في آفاق صفاء المعقولات المحمودة. وفي ظل الحياة القرآنية تنطق لسان صاحبها بكل قول يحبه الله ويرضاه، وتسكت عن كل قول يسخطه ويأباه، وفي ظل الحياة القرآنية تنظر العين إلى ما أبيح لها، وتكف عن النظر إلى ما حرم عليها، وفي ظل الحياة القرآنية تنصت الأذن إلى ما يفيدها في صلاح أمرها، وتصم عن استماع ما يوصل إلى ضررها، وفي ظل الحياة القرآنية تعمل اليد كل عمل عند الله محمود، وتكف عن كل فعل في الشرع مردود، وفي ظل الحياة القرآنية تنطلق الرجل إلى ما يمدح الله المسير إليه، وتقف عن كل خطوة تردي صاحبها في المهالك، وتسلك به معوجّات المسالك.

بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
أيها المسلمون، وبعد هذا، فهل من عودة صادقة إلى نور القرآن؛ فإن الشرود عنه يورث ظلمات بعضها فوق بعض، ومن كانت طريقه خاليةً من نور القرآن لم يكد يراها، ومن لم يجعل الله له نوراً فماله من نور، وهل من عودة صادقة إلى هداية القرآن، فمن استهدى به فقد هُدي إلى صراط مستقيم، وهل من عودة صحيحة إلى جعل القرآن الكريم هو دستور الحياة الذي يسيّرها، ويقضي فيها؛ فإنه نعم الدليل إلى العيش الجميل.

فيا من لها عن القرآن منشغلاً بالدنيا أقبِلْ على كتاب ربك؛ فإن صلاح دنياك ودينك فيه، ويا من هجر القرآن فصار لا يعرفه إلا في رمضان، أو في يوم الجمعة، أو في لحظات الفراغ ارجع إلى ملازمة التلاوة المتدبرة؛ فإنها منجم حسنات، ومحرقة خطيئات، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: (آلم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف) [5]. ويا من يقرأ القرآن من غير تفكر اعلم أن قراءتك هذه قليلة الفائدة؛ لأن القرآن لا يؤثر في النفوس والأعمال إلا بتدبره وتأمله، وتفهُّمه وتعقُّله. عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: ( اقرأ علي ). قلت: آقرأ عليك أنزل؟! قال: ( فإني أحب أن أسمعه من غيري). فقرأت عليه سورة النساء حتى بلغت: ﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ﴾ [النساء: 41]، قال: ( أمسك ). فإذا عيناه تذرفان [6].

ويا من يقرأ القرآن ولا يُتبع قراءته بعمل تُبْ من هذا التفريط، واقرأ القرآن بنية العمل قائلاً: يا ربنا، سمعنا قولك، وأطعنا أمرك. ويا من يقرأ القرآن ومعاملته لأهل بيته، ولأقاربه، ولجيرانه، وللناس الآخرين تخالف هدي القرآن راجعْ قراءتك؛ فإن فيها خللاً. ويا من يقرأ القرآن ويتحاكم إلى ما يضاده ويعارضه اسمع قول ربك في القرآن يقول: ﴿ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾ [النساء:59]. فطوبى لمسلم جعل القرآن له دليلا، وما ارتضى لحياته بغيره بديلا، وطوبى لمسلم لازم تلاوة كتاب ربه، ورافق تلاوتَه حضورُ قلبه، وصار القرآن سميرَه وجليسه، وصاحبه وأنيسه، وطوبى لمسلم ظهرت عليه آثار القرآن، في أقواله وأفعاله، فإن قال فلا يخالف قولُه آياتِ الكتاب، وإن فعل كانت أفعاله موافقةً لما جاء به الكتاب. ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا * وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾ [الإسراء: 9، 10].

هذا وصلوا وسلموا على النبي المصطفى...

[1] ألقيت في مسجد ابن الأمير الصنعاني في 22/ 4/ 1438هـ، 20/ 1/ 2017م.
[2] الكشف والبيان، للثعلبي (10/ 72).
[3] النكت والعيون، للماوردي(1/ 30).
[4] الكشف والبيان، للثعلبي (9/ 242).
[5] رواه الترمذي، وهو صحيح.
[6] متفق عليه.

عبدالله بن عبده نعمان العواضي

particle760
17-02-2017, 11:11 PM
جزاك الله خيرا