مشاهدة النسخة كاملة : متصدق رغم أنفه


abomokhtar
05-06-2015, 10:13 AM
متصدق رغم أنفه


لقد فتح الله عز وجل أبواب الخير والبِر لعباده، ووسَّع لهم مجال الصدقات (http://www.alukah.net/sharia/0/78964)، فكان مَن يلقى أخاه بوجه طلْق كأنه تصدَّق بذلك، ولكن العجيب مع كثرة طرُق الخير والبر تجد هناك هِممًا فاترةً، وأياديَ مغلولةً عن تقديم الخير والبر!

وكما هو معلوم، فإنَّ القرآن الكريم لما تحدَّث عن طائفة تمنَّت أن تعود بعد الموت، كان العجيب في تمني العودة أنهم ما تمنَّوْها ليُصلُّوا كثيرًا، أو يصوموا طويلاً، ولا ليحجُّوا، ولكن كان تمنِّي العودة للحياة ليتصدَّقوا، كما أخبر المولى سبحانه فقال: ﴿ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [المنافقون: 10، 11].

فإنَّ تلك الطائفة علمتْ ثواب وأجر الصدقات (http://www.alukah.net/sharia/0/46077)، وكيف أنها تملأ الميزان؛ لأنَّ الله عز وجل يتلقاها بيمينِه كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ فعن سعيد بن يسار أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما تصدَّق أحدٌ بصدقة من طيِّب - ولا يَقبل الله إلا الطيِّب - إلا أخَذَها الرحمن بيمينه وإن كانت تمرةً، فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل، كما يُربِّي أحدُكم فَلُوَّه أو فصيله))؛ رواه مسلم.

إذًا فالإنسان المؤمن لا بدَّ ألا يُغفِل أمر الصدقة (http://www.alukah.net/social/0/65293) والبِر والإحسان على قدْر ما آتاه الله من نعيم وسَعة، فإنْ ضاق به الحالُ سعى بسلامة جسده لإعانة الآخرين، بل إن ضاق به الحال فأقل شيء أن يكفَّ أذاه عن الآخرين، بل يُجدِّد نيته في النفقة على أهل بيته فتُكتب له صدقة؛ عن أبي مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أنفق الرجل على أهله يَحتسبها، فهو له صدقة))؛ رواه البخاري، ونجد أنَّ الإنسان المؤمن ربما يؤجر رغم أنفه، كيف ذلك؟

إنَّ الله عزَّ وجلَّ يحب لعباده الخير، ويحب أن يُؤجَروا على أعمالهم، ولقد جعل الله عز وجل مِن أقداره وقضائه على عباده مِن أمر البلاء خيرًا، فليس للعبد دخل ولا مَقدرة على دفع ضرٍّ قد قَضاه الله لعبده منذ الأزل؛ لذلك جعل الله لعبده في هذا الأمر ثوابًا ومنزلة عظيمة يوم القيامة، حين يُقدِّر الله عز وجل بلاءً على عبدٍ مِن عباده، فيصاب في نفسه أو ولده أو ماله أو أهل بيته، فإنَّ الله عز وجل حين يرى من عبده رضًا وصبرًا واحتسابًا فإنَّ الله عز وجل يُجزِل له العطاء؛ ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 155 - 157].

وعن صهيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عجبًا لأمر المؤمن، إنَّ أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابتْه سراءُ شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرًا له))؛ رواه مسلم.

وكذلك ما رُوي عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما يُصيب المسلم من نصَب ولا وصَب، ولا همٍّ ولا حزنٍ، ولا أذًى ولا غمٍّ، حتى الشوكة يُشاكها، إلا كفَّر الله بها من خطاياه))؛ رواه البخاري.

وعن أنس قال: "باكروا بالصدقة؛ فإن البلاء لا يتخطَّى الصدقة"؛ السنن الكبرى؛ للبيهقي.

ونجد أن العبد لا يحبُّ البلاء ولا يتمناه، بل ليس له أن يطلبه؛ لأنه ربما لا يستطيعه رغم ما في ذلك من خير وأجر أو استجارة من عذاب الآخرة.

في صحيح مسلم عن أنس أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عادَ رجلاً من المسلمين قد خفَت فصار مثل الفرْخ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هل كنتَ تدعو بشيء أو تسأله إياه؟))، قال: نعم، كنتُ أقول: "اللهمَّ ما كنتَ مُعاقبي به في الآخرة، فعجِّله لي في الدنيا"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سبحان الله! لا تُطيقه - أو لا تَستطيعه - أفلا قلتَ: اللهمَّ آتنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً، وقنا عذاب النار؟))، قال: فدعا الله له فشفاه.

فهذا العبد كان يسأل الله عز وجل تعجيل أمر العقوبة إن كانت مُقدَّرةً في الآخرة أن تكون في الدنيا، فنهاهُ نبيُّنا صلى الله عليه وسلم عن ذلك.

إذًا، قد تكون المنزلة العالية في بلاء مقدور تبعه صبر جميل؛ فعن أبي سنان قال: "دفنتُ ابني ومعي أبو طلحة الخولاني على شفير القبر، فلما أردت الخروج أخذ بيدي فأخرَجني، وقال: ألا أُبشِّرك؟ حدثني الضحاك بن عبدالرحمن بن عَرْزَب، عن أبي موسى الأشعريِّ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا مات ولد العبد المؤمن، قال الله للملائكة: قبضتم ولد عبدي؟ قالوا: نعم، قال: قبضتم ثمرة فؤاده؟ قالوا: نعم، قال: فما قال؟ قالوا: استرجَع وحمدك، قال: ابنوا له بيتًا في الجنة، وسمُّوه بيت الحمد))؛ رواه ابن حبان في صحيحه.

وعن ابن أبي فاطمة عن أبيه: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أيُّكم يحب أن يصحَّ فلا يسقم؟))، قالوا: كلنا يا رسول الله، قال: ((أتُحبُّون أن تكونوا كالحمير الضالة؟ ألا تحبون أن تكونوا أصحاب كفَّارات؟ والذي نفسي بيده، إنَّ العبد ليكون له الدرجة في الجنة لا يبلغها بشيء من عمله حتى يَبتليه الله بالبلاء ليبلغ به تلك الدرجة في الجنة، لا يبلغها بشيء من عمله))؛ رواه البيهقي في شُعب الإيمان.

الخطبة الثانية

الحمد لله حمدًا كثيرًا كما أمر، وصلاةً وتسليمًا على سيد الأنبياء وخير البشر، اللهمَّ صلِّ وسلم وبارك عليه ما اتَّصلت عينٌ بنظَر، وسمعتْ أذنٌ بخبَر.

إذًا أيها الأحبة الكرام، لا يتمنَّى الإنسان الضر ولا يسأله ربه، ولكن إن قُدِّر له ذلك فليَعلم أنَّ الله عز وجل يَختبره ويَصطفيه، بل ويَأجُرُه على ذلك بالأجر العظيم؛ ﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾ [العنكبوت: 2، 3].

وأذكِّركم أحبَّتي الكرام أن المسارعة لفعل الخير ودفع الفاقة والضيق والهم عن الآخرين من أفضل الأعمال التي نَنال بها الأجر والثواب، وتكون من أفضل الصدقات التي نتقرَّب بها إلى الله تعالى، وقد تكون سببًا في تخفيف أو صرف سوء القضاء عنا؛ كما أخبر بذلك نبيُّنا صلى الله عليه وسلم؛ فعن أبي ذرٍّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تبسُّمك في وجه أخيك لك صدقة، وأمرُك بالمعروف ونهيُك عن المُنكَر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، وبصرُك للرجلِ الرديء البصر لك صدقة، وإماطتك الحجر والشوكة والعَظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلْوِك في دَلْو أخيك لك صدقة))؛ رواه الترمذي.

وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن نفَّس عن مؤمن كربةً من كرب الدنيا، نفَّس الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة، ومَن يسَّر على مُعسِرٍ، يسَّر الله عليه في الدنيا والآخِرة، ومَن ستَر مُسلمًا، ستره الله في الدنيا والآخرة، واللهُ في عَون العبد ما كان العبد في عون أخيه))؛ رواه مسلم.

وعن الزهريِّ، عن سالم، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((المسلم أخو المسلم؛ لا يَظلمه، ولا يُسلمه، من كان في حاجة أخيه، كان الله في حاجته، ومَن فرَّج عن مسلم كربةً، فرَّج الله عنه بها كربةً من كرب يوم القيامة، ومَن ستَر مُسلمًا، ستره الله يوم القيامة))؛ البخاري ومسلم.

وعنه صلى الله عليه وسلم قال: ((صنائع المعروف تقي مَصارعَ السُّوء، والصدَقة الخفيَّة تُطفئ غضب الرب، وصِلَة الرحم زيادة في العمر، وكل معروف صدقة، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة))؛ رواه الطبراني في الأوسط بسند صحيح.

وفي لفظ عند الحاكم: ((صنائع المعروف تقي مصارع السوء، والآفات، والمهلكات، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة))؛ صحيح الجامع.

ولنا في موقف سيدنا موسى عليه السلام مع المرأتين من أهل مديَن حين سقى لهما الأسوةُ والقدوة؛ حيث فرَّج الله عنه، وآواه، وأكرم نزله؛ ﴿ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ * فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [القصص: 24، 25].

... الدعاء.




الشيخ حسن عبدالعال محمود (http://www.alukah.net/authors/view/home/10188/)