مشاهدة النسخة كاملة : الثقوب السوداء


ابو وليد البحيرى
31-05-2015, 01:13 PM
الثقوب السوداء

هالة رؤوف أحمد

مما لا شكَّ فيه أنَّ الكون من حولنا يَحْفل بالكثير من الألغاز والأسرار الغامضة، التي نقف إزاءَها مَذْهولين ومشدوهين أمام عظَمة الخالق - عزَّ وجلَّ - ولعلَّ مِن أشدِّ هذه الألغاز، وأكثَرِها غموضًا ما يُعرف باسم "الثُّقب الأسود" الخفيِّ الذي يبدو كما لو كان أحدَ الفجوات العميقة المنتَشِرة في الفضاء الخارجيِّ، وهو يعدُّ ظاهرةً غريبة ومُخيفة في عالم الفيزياء، بل إنَّ هذه الثُّقوب السوداء التي قد تصيب المرء بالانقباض لِمُجرَّد التفكير فيها تمثِّل نقاطَ رعبٍ مبهمةً وغيرَ مفهومةٍ في السماء، حيَّرَت الكثير من العلماء لسنوات طويلة؛ ما بين مُنكِرٍ ومؤيِّد لحقيقة وجودها، قبل أن تتيح لنا أجهزةُ الاستشعار الفيزيائيَّة الحديثة رؤيتَها والْتقاطها، وتحديدَ أماكن وجودِها، وتفسيرَ سبب تكوُّنِها بطريقةٍ شبه دقيقة.

وقبل أن نعرف ماهيَّة "الثُّقب الأسود" يجب أن نتعرَّض بإيجازٍ لكيفيَّة نشوء واستمرار حياةِ النجوم ثم موتِها وانهيارها؛ وذلك لأنَّ الثُّقوب السوداء هي - في واقع الأمر - بقايا أو أشباحُ أو جثثُ نجومٍ منهارة أو ميتة! فالنُّجوم تتكوَّن من سحابةٍ من غاز الهيدروجين (الأخفِّ وزنًا)، والقليل من الهيليوم (الأثقل وزنًا)، ويولد النَّجم عندما تتجمَّع ذرَّات هذه السحابة، وتتقارب، وتتكدَّس فوق بعضها البعض، ثم تبدأ بعد ذلك في الدَّوران حول نفسها بتأثير قوَّة ثقل ذرَّاتِها، ومع هذا التكاثف يزداد الضَّغط على نواتِها، ويسخن الغاز في هذه النواة حتى يصبح ساخنًا جدًّا إلى الدرجة التي تندمج فيها ذرَّات الهيدروجين معًا مكوِّنةً الهيليوم، وبِتكوُّن الهليوم يولد النَّجم الذي يشعُّ طاقة وضوءًا طيلة فترة حياته الطبيعيَّة، وبتوليده المستمرِّ للطاقة يكون قادرًا على توليد ضغطٍ خارجَ نواته يمنعها من الانهيار على نفسها، ولكن بعد فترةٍ من حياة النَّجم ينفَدُ وَقودُه من الهيدروجين - يتمُّ استهلاكه - ويُصبح مهددًا بالانهيار على نفسه؛ نتيجةً لضغط كتلته، وعندها يشرع في حرق الهليوم ثم الكربون، وأخيرًا الحديد، وبعدها يكون غيرَ قادر على دمج عناصره الأخفِّ وزنًا؛ ليكوِّن عناصِرَ أثقل وزنًا، فينهار على نفسه في انفجارٍ هائل، مُطْلِقًا كمية ضخمة جدًّا من الطاقة.

استمرار التفاعلات النوويَّة إذًا داخل باطن النَّجم هي ما يَمْنحه الحياةَ، وبانتهاء التفاعلات النوويَّة يدخل النَّجمُ مرحلةَ الشيخوخة، ثم مرحلة الموت، وبعد استهلاك النَّجم لطاقته دون أن يستطيع أن يُنتج المزيد منها، يتقلَّص حجْمُه، وتصبح قُوَى التَّنافر داخِلَه أقوى من قوى التَّجاذب، وعندها يَنهار وتتَّخذ طاقته الناتجة عنه أشكالاً معيَّنة، طبقًا لِكُتلته قبل انهياره، فإن كانت كتلة النَّجم المنهارِ غيرَ كبيرة؛ أيْ: تُقارب كتلة الشمس، أو أقل منها قليلاً، فإنه يتحوَّل وقتها لما يعرف باسم "القزم الأبيض"، والذي يكون حجمه مثل حجم الأرض تقريبًا، ويتَّخِذ صورةَ كتلةٍ غير مشعَّة، أمَّا إذا كانت كتلتُه أكثر كثافة، وأكبر من كتلة الشمس بحوالي 1.4، فإنه يتَهاوى تلقائيًّا عند نُضوب طاقته، وعند انْهِياره تتَّحِد إلكتروناته السالبة، وبروتوناته الموجبة؛ لِتُكوِّن نيوترونات متعادلة الشحنة، وبتوقُّفِ انهياره؛ يصبح ضغط النيوترونات عاليًا ومساويًا لِقُوى الجذب الداخليَّة له، ويتحوَّل وقتئذٍ لِما يعرف باسم "النَّجم النيوتروني" الذي يَصِل نصفُ قُطْرِه لعشرات الأميال.

أمَّا إذا كانت كتلةُ النَّجْم المنهارِ كبيرة جدًّا، وكثيفةً جدًّا؛ أيْ: ثلاثة أضعاف كتلة الشمس، فإن إلكتروناته وبروتوناته لا تتمكَّن من اتِّخاذ أي شكل، ولا تستطيع الاتِّحاد بأيِّ صورة من الصُّور، وعندها ينهار النَّجم ويظلُّ مستمِرًّا في انهياره حتَّى تنضغط جميعُ كُتلتِه في نقطةٍ ذات كثافة لا نهائيَّة تُسمَّى "نقطة التفرُّد"، وقبل الوصول لهذه المرحلة يَخْتفي النَّجم عن الأنظار، ويكون "ثقبًا أسودَ"، لا يُمكن إدراكه أو رؤيته بالعين المجرَّدة؛ وإنَّما يمكن تحديدُ موقعِه من خلال عدَّة طرق غير مباشرة، كأنْ يتِمَّ رصْدُ موجات عالية من الأشعة السينيَّة التي تُصْدِرها الأجرام الواقعة تحت تأثيره، أو يتم رصد اختفاء عددٍ آخر من الأجرام السَّماوية بِمُجرَّد اقترابها من مجال جاذبيَّتِه.


الثُّقوب السوداء إذًا هي ليست فراغاتٍ في الفضاء الخارجيِّ، وهي - بعكس ما يُوحي به اسْمُها - لا تمثِّل هوة أو فجوة من الفراغ الخاوي، بل هي في حقيقة الأمر كُتَل كبيرة ذات كثافة عالية جدًّا، انكمشت لكتل صغيرة جدًّا، وهي - بسبب هذه الكثافة الهائلة - تجذب كلَّ ما يدور في فلَكِها نحوها؛ لتضمَّه داخل كتلتها مهما كانت سرعتُه، فلا يستطيع أن يُفْلِت منها أيُّ ضوء أو مادَّة، أو إشارة من أيِّ نوع، وهي تتكوَّن عادةً كنتيجةٍ لانهيار النُّجوم العملاقة التي تستهلك طاقتها، ولكنَّها قد تتكوَّن في بعض الأحيان كنتيجةٍ لتمَرْكُز كتل كبيرة جدًّا من عشرات النُّجوم داخل جزءٍ صغير في قلب المجرَّة، والثقب الأسود يمتصُّ فوتونات الضوء المارَّة بجانبه؛ بسبب قوَّة جاذبيته؛ لذلك يبدو لمن يُراقبه من الخارج وكأنَّه منطقة من العدم، ولأنَّه لا يمكن لأيِّ إشارة أو موجةٍ الإفلاتُ من مَجال تأثيره؛ لذلك يبدو كما لو كان أسودَ اللَّون؛ بسبب عدم انعكاس أيِّ ضوء لهذه الإشارات أو الموجات المارَّة عليه، وبالإضافة لذلك: عادةً ما تظهر الثُّقوب السوداء في نفس مكان النَّجم المنفجر.

ربَّما من الأفضل أن يُطلَق على هذه الكتل المنكمشة ذاتِ الجاذبية الهائلة: "الجُزرُ الفضائيَّة المُعْتِمة" بدلاً من "الثُّقوب السوداء"، وتعتبر النظريَّة النسبية العامَّة لـ"ألبرت أينشتاين" من أكثر النَّظريات التي استطاعَت تقديم تفسير عِلمي مقنِع ومتماسك لأسبابِ تكوُّن الثقوب السَّوداء التي تم اكتشاف أول ثقب منها عام 1971، ويبلغ عدد الثُّقوب السوداء المعروفة حتَّى الآن 14 ثقبًا، أقرَبُها هو ثقب "سيجنوس" الذي يبعد عنَّا قرابة 8000 سنة ضوئيَّة، ولكي تتحوَّل الكرة الأرضيَّة لثقب أسود - فرضًا - يتطلَّب الأمر أن تتحول لكرة نصف قُطْرِها 0.9 سم؛ على أن تظلَّ كتلتها كما هي حاليًّا؛ أيْ: تنضغط مادَّتُها، وتَفْقد جميع الفراغات البينيَّة بين ذرَّاتِها وبين جُسَيمات هذه النواة، إلى أن تتحوَّل لكرةٍ في حجم كرة الطَّاولة، في الوقت الذي يظلُّ فيه وزنُها كما هو!

الثُّقوب السوداء هي مادَّة مثيرة لاهتمام العلماء، وأسبابُ اهتمامهم بها متعدِّدة، ولعلَّ أهم هذه الأسباب هو اعتبار الثُّقوب السوداء مصادِرَ هائلة للطاقة، فتَحطُّمُ - أو انفجارُ - نجمٍ ليشكِّل ثقبًا أسود، أو ابتلاعُ هذا الثُّقب الأسود لكمِّية هائلة من الموادِّ أو الغازات، أو اصطدامُ - أو اتِّحاد - ثقبين أسودين معًا، يُنتج في نهاية الأمر كميَّةً هائلة من الطاقة، يتَّخِذ أغلبُها شكل موجاتٍ تجاذبية، والجاذبية الشديدة داخل الثقوب السوداء تجعل منها محرِّكاتٍ فعَّالة، فعند تحرُّك هذه الثُّقوب السوداء في الفضاء الخارجي تصطدم في طريقها بأجسامٍ أخرى خارجيَّة، ونتيجةً لذلك تتحطَّم هذه الأجسام؛ مما يؤدِّي لتسخين المواد الموجودة بالقرب من الثُّقب، ولأنَّ هذه الأجسام تتحرَّك بسرعة شديدةٍ تُقارب سرعة الضوء؛ فإنه يلزَمُها أن تتنازل عن جزءٍ كبير من كتلتها؛ لتعود لموقعها الأوَّل، بعيدًا عن الثُّقب، وأثناء فقدها لكتلتها هذه تُطْلِق كمية كبيرة من الطاقة، وبهذا تتميَّز الثقوب السوداء بقدرتها على تحويل الكتل الساكنة لطاقة حرارية فعَّالة، تنطلق داخل الفضاء الخارجي.