مشاهدة النسخة كاملة : من محاسن كلام ابن الجوزي ودرره في "تلبيس إبليس"


ابو وليد البحيرى
29-05-2015, 05:28 AM
من محاسن كلام ابن الجوزي ودرره في "تلبيس إبليس"







بكر البعداني







الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على محمد وآله وصحبه.


أما بعد:





فبين يدي المحاسن:


يقول الإمام الذهبي - رحمه الله - في السير[1]: " وكان - يعني: ابن الجوزي رحمه الله - رأسًا في التذكير بلا مدافعة، يقول النظم الرائق، والنثر الفائق بديهًا، ويسهب ويعجب، ويطرب ويطنب، لم يأت قبله ولا بعده مثله، فهو حامل لواء الوعظ، والقيم بفنونه، مع الشكل الحسن، والصوت الطيب، والوقع في النفوس، وحسن السيرة، وكان بحرًا في التفسير، علامة في السير والتاريخ، موصوفًا بحسن الحديث، ومعرفة فنونه، فقيهًا، عليمًا بالإجماع والاختلاف، جيد المشاركة في الطب، ذا تفنن وفهم وذكاء وحفظ واستحضار، وإكباب على الجمع والتصنيف، مع التصون والتجمل، وحسن الشارة، ورشاقة العبارة، ولطف الشمائل، والأوصاف الحميدة، والحرمة الوافرة عند الخاص والعام، ما عرفت أحدًا صنف ما صنف".








ومن هنا رأيت أن ألخص ما وقفت عليه من الفوائد والمحاسن من كلام الإمام ابن الجوزي في كتابه الماتع تلبيس إبليس، وهي متناثرة في ثنايا كتابه، والتي كنت رقمتها وجمعتها، فعمدت إليها ولخصتها وهذبتها واختصرتها، وجمعتها في هذه الوريقات ليسهل على الراغب فيها الرجوع إليها، ومطالعتها وحفظها، والله - عز وجل - أسال أن ينفعني بها، وقارئها، والواقف عليها، كما نفع بأصلها، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل. وإلى ما عزمنا عليه، فأقول:





تعريفات:


• التلبيس: إظهار الباطل في صورة الحق.



• الغرور: نوع جهل يوجب اعتقاد الفاسد صحيحًا والرديء جيدًا، وسببه وجود شبهة أوجبت ذلك. وإنما يدخل إبليس على الناس بقدر ما يمكنه، ويزيد تمكنه منهم ويقل على مقدار تفطنهم وغفلتهم وجهلهم وعلمهم.



• اليد العليا هي: المعطية، هكذا فسره العلماء.



• الإخلاص: عمل القلب.



• الباطنية: سموا بذلك لأنهم يدعون أن لظواهر القرآن والأحاديث بواطن تجري من الظواهر مجرى اللب من القشر، وإنها بصورتها توهم الجهال صورًا جلية، وهي عند العقلاء رموز وإشارات إلى حقائق خفية، وأن من تقاعد عقله من الغوص على الخفايا والأسرار والبواطن والأغوار وقنع بظواهرها كان تحت الأغلال التي هي تكليفات الشرع، ومن ارتقى إلى علم الباطن انحط عنه التكليف واستراح من أعبائه.



• معنى التوكل: ثقة القلب بالله عز و جل.





عقائد وإلهيات:


• أعظم النعم على الإنسان العقل؛ لأنه الآلة في معرفة الإله - عز وجل - والسبب الذي يتوصل به إلى تصديق الرسل.



• الأنبياء - عليهم السلام - جاءوا بالبيان الكافي، وقابلوا الأمراض بالدواء الشافي، وتوافقوا على منهاج لم يختلف.



• الرسول - صلى الله عليه وآلهوسلم - أمر بالإيمان ولم يأمر ببحث المتكلمين، ودرجت الصحابة - رضي الله عنهم - الذين شهد لهم الشارع بأنهم خير الناس على ذلك.



• أول الخوارج وأقبحهم حالة ذو الخويصرة [التميمي]، ... فهذا أول خارجي خرج في الإسلام، وآفته أنه رضي برأي نفسه، ولو وفق لعلم أنه لا رأي فوق رأي رسول الله– صلى الله عليه وآلهوسلم.



• غلو الرافضة في حب علي - رضي الله عنه - حملهم على أن وضعوا أحاديث كثيرة في فضائله أكثرها تشينه وتؤذيه، وقد ذكرت منها جملة في كتاب الموضوعات، .... ومقابح الرافضة أكثر من أن تحصى.



• عذاب من يعلم أكثر من عذاب من لم يعلم، إذ زيادة العلم تُقوى الحجة.



• المؤمن لا يريد بعمله إلا الله - سبحانه وتعالى، وإنما يدخل عليه خفي الرياء فيلتبس الأمر، فنجاته منه صعبة.



• لخوف الرياء ستر الصالحون أعمالهم حذرًا عليها، وبهرجوها بضدها.



• التصوف مذهب معروف يزيد على الزهد، ويدل على الفرق بينهما أن الزهد لم يذمه أحد، وقد ذموا التصوف.



• أكثر ما يلبس به إبليس على العباد والزهاد خفي الرياء.



• لا رتبة أولى من رتبة النبوة.



• كانت النسبة في زمن رسول الله - صلى الله عليه وآلهوسلم - إلى الإسلام والإيمان، فيقال: مسلم ومؤمن.



• من خرج عن النقل والعقل فليس بمعدود في الناس، وليس أحد من الخلق إلا وهو مستدل.



• الأغلب في المُبتدعات أنها تصادم الشريعة بالمخالفة، و[2]توجب التعاطي عليها بزيادة أو نقصان.



• ما دام درع الإيمان على المؤمن، فإن نبل العدو لا يقع في م***.



• كل محنة لبس بها إبليس على الناس فسببها الميل إلى الحسن، والأعراض عن مقتضى العقل.



• دخل إبليس على هذه الأمة في عقائدها من طريقين: أحدهما: التقليد للآباء والأسلاف. والثاني: الخوض فيما لا يدرك غوره، ويعجز الخائض عن الوصول إلى عمقه.



• متى لم يرد بالعمل وجه الله - عز و جل - لم يقبل.



• من ضيق علم الرجل أن يقلد في اعتقاده رجلاً.



• أولى الناس أن يتلطف في الإنكار عليه الأمراء، فيصلح أن يقال لهم: إن الله قد رفعكم فاعرفوا قدر نعمته؛ فإن النعم تدوم بالشكر فلا يحسن أن تقابل بالمعاصي.



• الدخول على السلاطين خطر عظيم؛ لأن النية قد تحسن في أول الدخول، ثم تتغير بإكرامهم وإنعامهم أو بالطمع فيهم، فلا يتماسكُ عن مداهنتهم وترك الإنكار عليهم.








السلف - رضي الله عنهم -:


• لا ريب في أن أهل النقل والأثر المتبعين آثار رسول الله - صلى الله عليه وآلهوسلم - وآثار أصحابه - رضي الله عنهم - هم أهل السنة؛ لأنهم على تلك الطريق التي لم يحدث فيها حادث، وإنما وقعت الحوادث والبدع بعد رسول الله - صلى الله عليه وآلهوسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم.



• كان جمهور السلف - رضي الله عنهم - يكرهونه - يعني: الابتداع - وكانوا ينفرون من كل مبتدع - وإن كان جائزًا - حفظًا للأصل، وهو الاتباع.



• من نظر في سير السلف - رضي الله عنهم - من العلماء العاملين احتقر نفسه فلم يتكبر، ومن عرف الله - عز وجل - لم يراء، ومن لاحظ جريان أقداره على مقتضى إرادته لم يحسد.



• ليس كل ما كان في السلف- رضي الله عنهم - مما لا يتغير به قلوب الناس يومئذ، ينبغي أن يفعل اليوم.



• كان السلف- رضي الله عنهم - يدفعون عنهم كل ما يوجب الإشارة إليهم، ويهربون من المكان الذي يشار إليهم فيه.



• من ادعى رتبة تزيد على السنة وأفعال الأكابر- رضي الله عنهم - لم يلتفت إليه.



• من لم يطلع على أسرار سير السلف- رضي الله عنهم - وحال الذي تمذهب له، لم يمكنه سلوك طريقهم. وينبغي أن يعلم أن الطبع لص؛ فإذا ترك مع أهل هذا الزمان سرق من طبائعهم فصار مثلهم. وإذا نظر في سير القدماء- رضي الله عنهم - زاحمهم وتأدب بأخلاقهم.



• اتباع الشارع وصحابته- رضي الله عنهم - أولى.








قواعد وأصول:


• البعد عن العلم والعلماء يقوي سلطان الجهل.



• تسمية ما لم يسمه الشرع [واجب] واجبًا جناية عليه.



• الحق ثقيل والباطل خفيف.



• الشرع لا يأذن في شيء ثم يعاتب عليه.



• الشريعة سمحة سهلة.



• الشريعة سياسة إلهية، ومُحال أن يقع في سياسة الإله - عز وجل - خلل يحتاج معه إلى سياسة الخلق. قال الله - عز وجل-: ﴿ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الأنعام:38]. وقال - عز وجل-: ﴿ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ﴾ [الرعد:41]. فمدعي السياسة مدع للخلل في الشريعة، وهذا يزاحم الكفر.



• العاقل يعد للمستقبل.



• العلم عمل القلب، وعمل القلب أفضل من عمل الجوارح.



• لا محاباة في الحق.



• لا ينبغي أن يترك الشرع لقول معظم في النفس؛ فان الشرع أعظم، والخطأ في التأويل على الناس يجري، ومن الجائز أن تكون الأحاديث لم تبلغه.



• ما أقبح الجهل.



• متى كان الاسم مشتركًا بين مسميين، كان إطلاق الفتوى على أحدهما دون الآخر خطأ.



• معلوم أن البدن مطية الآدمي، ومتى لم يرفق بالمطية لم يبلغ.



• المقلد على غير ثقة فيما قلد فيه، وفي التقليد إبطال منفعة العقل؛ لأنه إنما خلق للتأمل والتدبر، وقبيح بمن أعطى شمعة يستضيء بها أن يطفئها ويمشي في الظلمة.



• من الأدب تقديم الاستدلال بالحديث - يعني: على القياس.



• النظر ينبغي أن يكون إلى القول لا إلى القائل.



• ينبغي للإنسان أن يعلم أن نفسه مطيته ولا بد من الرفق بها ليصل بها إلى المقصود، فليأخذ ما يصلحها وليترك ما يؤذيها.








فقهيات:


• كثرة استعمال الماء [يعني: في الطهارة] .. يجمع أربعة أشياء مكروهة: الإسراف في الماء، وتضييع العمر القيم فيما ليس بواجب ولا مندوب، والتعاطي على الشريعة إذا لم يقنع بما قنعت به من استعمال الماء القليل، والدخول فيما نهت عنه من الزيادة على الثلاث، وربما أطال الوضوء ففات وقت الصلاة، أو فات أوله الذي هو الفضيلة، أو فاتته الجماعة.



• الوسوسة في نية الصلاة سببها خَبَل في العقل، أو جهل بالشرع.



• المراد من الحج القرب بالقلوب لا بالأبدان، وإنما يكون ذلك مع القيام بالتقوى. وكم من قاصد إلى مكة همته عدد حجاته! فيقول: لي عشرون وقفة، وكم من مجاور قد طال مكثه ولم يشرع في تنقية باطنه!



• اذا كان الآمر بالمعروف جاهلاً فإن الشيطان يتلاعب به، وربما كان إفساده في أمره أكثر من إصلاحه.



• الدنيا لا تذم لذاتها، وكيف يذم ما من الله - تعالى - به وما هو ضرورة في بقاء الآدمي، وسبب في إعانته على تحصيل العلم والعبادة، من مطعم ومشرب وملبس ومسجد يصلي فيه. وإنما المذموم أخذ الشيء من غير حله، أو تناوله على وجه السرف لا على مقدار الحاجة، وتصرف النفس فيه بمقتضى رعوناتها لا بإذن الشرع.



• المذموم من الأكل إنما هو فرط الشبع، وأحسن الآداب في المطعم أدب الشارع.



• الإسراف ممنوع منه شرعًا.



• أما شرف المال فان الله - عز و جل - عظم قدره وأمر بحفظه؛ إذ جعله قوامًا للآدمي الشريف فهو شريف.



• إنما ذم القصاصُ؛ لأن الغالب منهم الاتساع بذكر القصص دون ذكر العلم المفيد، ثم غالبهم يخلط فيما يورده، وربما اعتمد على ما أكثره محال، فأما إذا كان القصص صِدقًا ويوجب وعظًا فهو ممدوح.



• إنما فضل العلماء بالعمل بالعلم، ولولا العمل به ما كان له معنى.



• يكفي في ذم العالم إذا لم يعمل قوله تعالى: ﴿ كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً ﴾ [ الجمعة : 5 ].



• كم من ساكت عن غيبة المسلمين إذا اغتيبوا عنده فرح قلبه، وهو آثم بذلك من ثلاثة أوجه: أحدها: الفرح فإنه حصل بوجود هذه المعصية من المغتاب. والثاني: لسروره بثلب المسلم. والثالث: إذا لم ينكر.



• الطبع يسرق من خصال المخالطين.



• القلوب لا تخشع بتكرار إزالة النجاسة والماء المتغير، وهي محتاجة إلى التذكار والمواعظ؛ لتنهض لطلب الآخرة، ومسائل الخلاف وإن كانت من علوم الشرع إلا أنها لا تنهض بكل المطلوب.








نصائح وتوجيهات:


• العمر قصير فينبغي إيثار الأهم والأفضل.



• اعلم أن الآدمي لما خلق ركب فيه الهوى والشهوة؛ ليجتلب بذلك ما ينفعه. ووضع فيه الغضب؛ ليدفع به ما يؤذيه. وأعطى العقل كالمؤدب؛ يأمره بالعدل فيما يجتلب ويجتنب.



• فتن الشيطان ومكايده كثيرة، ... ولكثرة فتن الشيطان وتشبثها بالقلوب، عزت السلامة.



• الانبساط إلى الأهل من العون على الآخرة.



• الويل للعلماء من الزاهد الجاهل: الذي يقنع بعلمه، فيرى الفضل فرضًا.



• ما أقبح بالجاهل إذا تعاطى ما ليس من شغله.



• اعلم أن الباب الأعظم الذي منه يدخل إبليس على الناس هو الجهل، فهو يدخل منه على الجهال بأمان، فأما العالم فلا يدخل عليه إلا مسارقة. وقد لبس إبليس على كثير من المتعبدين لقلة علمهم؛ لأن جمهورهم يشتغل بالتعبد ولم يحكم العلم.



• ما زال العلماء يبين كل واحد منهم غلط صاحبه قصدًا لبيان الحق لا لإظهار عيب الغالط. ولا اعتبار بقول جاهل يقول: كيف يرد على فلان الزاهد المتبرك به؛ لأن الانقياد إنما يكون إلى ما جاءت به الشريعة، لا إلى الأشخاص وقد يكون الرجل من الأولياء وأهل الجنة وله غلطات فلا تمنع منزلته بيان زللِه. واعلم أن من نظر إلى تعظيم شخص ولم ينظر بالدليل إلى ما صدر عنه، كان كمن ينظر إلى ما جرى على يد المسيح - عليه السلام - من الأمور الخارقة، ولم ينظر إليه فادعى فيه الإلهية. ولو نظر إليه وأنه لا يقوم إلا بالطعام لم يعطه ما لا يستحقه.








تساؤلات واستفسارات:


• كيف يصح صواب النصح للغير لمن لا ينصح نفسه؟



• إنما الفقه استخراج من الكتاب والسنة، فكيف يستخرج من شيء لا يعرف؟ ومن القبيح تعليق حكم على حديث لا يدري أصحيح هو أم لا؟





من كتاب تلبيس إبليس، لعبدالرحمن بن علي بن محمد أبو الفرج/ تحقيق: د. السيد الجميلي، دار الكتاب العربي - بيروت، الطبعة الأولى ، 1405هـ - 1985م.











[1] (21/368).





[2] في بعض النسخ: "إذ".