مشاهدة النسخة كاملة : القضاة وميزان العدالة


simsim elmasry
15-02-2013, 07:57 PM
http://img6.imageshack.us/img6/3513/54645610.gif
القضاة وميزان العدالة
محمود علي
باحث دراسات إسلامية
كتب سيدنا عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما حين ولاه القضاء فقال: من عبدالله عمر أمير المؤمنين إلى عبدالله بن قيس أبي موسى الأشعري: سلام عليكم، أما بعد: فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة فافهم إذا أدلي إليك، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاد له، آس بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك؛ حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك.
http://www.alwaei.com/site/files/3113/5308/8727/55_opt.jpeg




على القاضى فهم ما يقال فهما لايساوره شك وأن يعرف لغة المتحدثين وطرائق كلامهم وطبيعة حياتهم
البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحًا أحل حرامًا، أو حرم حلالا، لا يمنعك قضاء قضيته اليوم فراجعت نفسك فيه، وهديت فيه لرشدك؛ أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل.
الفهم.. الفهم فيما يتلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنة، ثم اعرف الأمثال والأشباه، فقس الأمور عند ذلك، واعمد إلى أقربها إلى الله، وأشبهها بالحق.
يقول تعالى {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ المِيزَانَ. أَلاَّ تَطْغَوْا فِي المِيزَانِ. وَأَقِيمُوا الوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُوا المِيزَانَ} (الرحمن: 7-9)، والميزان يعني العدل، كما قال تعالى {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (الحديد: 25)، وهكذا قال سبحانه {ألا تطغوا في الميزان}، فخلق السموات والأرض بالحق والعدل لتكون الأشياء كلها بالحق والعدل فهما جوهر كل الشرائع وسياج أمن البشرية وأساس سعادتها.
والعدل صفة من صفات الحق سبحانه واسم من أسمائه الحسنى وقد أمر الله عباده بالعدل {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} (النحل: 90)، وأمر بالقسط وهو صنو العدل، فقال {كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} (المائدة: 8)، {قل أمر ربي بالقسط} (الأعراف: 29) {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ} (المائدة: 42)، وما أعظم محبة الله تعالى لعباده المقسطين {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (المائدة: 42) وقد وردت الآية ثلاث مرات في المصحف الشريف (1).
والعدل هو حلم الإنسان الدائب الذي لم يكف دومًا عن السعي إلى تحقيقه وكان سعيه قد كلل بخطوات من نجاح أكدت كل خطوة منها هذا التلازم الرفيع بين العدل وارتقاء الإنسانية في درجات سموها كما أكدت أن الإنسانية ليست ببالغة ذراها الرفيعة في قمة وجودها الذي يتجلى في القبس النوراني الكامن فيها إلا محمولة على راحة العدل وساعده.
العدل لغة
العدل لغة: الإنصاف، وعدل عدلا وعدولا وعدالة؛ واستقام الشيء عدلا أي أقامه وسواه، وعادل بين الشيئين أي وازن، واعتدال يعني توسط بين حالين في كم أو كيف أو تناسب، وجو معتدل من الحرارة والبرودة. ويقال حسنة الاعتدال أي القوام وتعادلا أي تساويا (2). http://www.alwaei.com/site/files/5713/5308/8839/file_8cb43cb8a0_24575_opt.jpeg
والقسط صنو العدل، فأقسط أي عدل ويقال أقسط في حكمه وفي الآية الكريمة {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي اليَتَامَى.... } (النساء: 3) والقسط يعني العدل، ويقال أيضًا ميزان القسط أو موازين قسط وفي الآية: {وَنَضَعُ المَوَازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيَامَةِ.... } (الأنبياء: 47) والقسط الحصة والنصيب (3).
ويأتي في معنى العدل أيضًا الإنصاف، ونصف الشيء نصفًا أي بلغ نصفه، وأنصف فلان أي عدل، وتناصف القوم أي أنصف بعضهم بعضًا والأنصف الأكثر إنصافًا (4).
والعدل أيضًا يعني التوسط والوسطية - فمن معاني الوسطية التي وصفت بها الأمة الكريمة وترتب عليها شهادتها على البشرية كلها - العدل الذي هو ضرورة لقبول شهادة الشاهد، فما لم يكن عدلا فإن شهادته مردودة مرفوضة، والعدل والتوسط والتوازن كلمات متقاربة المعنى، فالعدل حقيقة توسط بين الطرفين المتنازعين والأطراف المتنازعة دون ميل أو تحيز إلى إحداهما، وهو بعبارة أخرى موازنة بين الأطراف بحيث يعطى كل ذي حق حقه دون بخس أو جور.
ومما قاله المفسرون في قوله تعالى {قال أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ} (القلم: 28)، أوسطهم أي أعدلهم، ويؤكد هذا الإمام الرازي في تفسيره بقوله: «إن أعدل بقاع الشيء وسطه لأن حكمه في سائر أطرافه على سواء واعتدال، فالوسط يعني إذن العدل والاعتدال ويعني التعادل والتوازن بلا جنوح إلى الغلو أو التقصير (5).
العدل في القرآن الكريم
ورد لفظ العدل في مواضع عديدة من كتاب الله تعالى، وورد أيضًا القسط، فقد ورد لفظ عدل ومشتقاته نحو «عدلا، لأعدل، اعدلوا، تعدل، تعدلوا» اثنتين وعشرين مرة، وورد لفظ القسط ومشتقاته «أقسط، أقسطوا، القسط، يقسطوا، القسطاس، المقسطين» خمسا وعشرين مرة.
العدل والقضاء
إن الحكم بين الناس فيما ينشب بينهم من نزاعات وخلافات، أو فيما يقع من جرائم الدم والعرض والمال وغيرها هو من أخطر الأمور وأصعبها؛ ذلك لما فيه من مسؤوليات جسام تقع على عاتق القاضي، ليس فقط في الفصل والحكم ولكن من كل كلمة ينطق بها أمام الخصوم، بل وكل حركة أو تصرف في مجلس القضاء، فلابد أن يسوي بين خصومه في كل شيء، وتلك المسؤولية عظيمة أمام الله تعالى وأمام ضميره.
ولا غرو أن يتورع السلف عن تولي القضاء حتى كان الحاكم يحاول قهرهم على توليه بالحبس والضرب، وقد ورد في السنة النبوية ما يحذر من المسارعة إلى ولاية القضاء إلا لمتمكن من دينه، وكمال عقله، كما حذر المصطفى من السعي لدى ولي الأمر لتولي القضاء فلم يكن يولي أحدا شيئًا إذا طلبه، لما في توليته على تلك الحال من شائبة هوى النفس وحب الظهور وبعده عن حقيقة الولاية وهي الفصل في المنازعات وإيصال الحقوق إلى أصحابها لوجه الله تعالى، باعتبارها مسؤولية جسيمة وليست ترفًا واستعلاء على الغير ولا ذريعة لجلب مصلحة شخصية (7).
وعن أنس قال: سمعت رسول الله يقول: «من طلب القضاء واستعان عليه وكل إليه، ومن لم يطلبه ولم يستعن عليه أنزل الله ملكًا يسدده» (8).
ولعظم المسؤولية وجلالها قال المعلم الأول: «من ولي القضاء فقد *** بغير سكين» (9). وقيل إن المراد *** من حيث المعنى لأنه بين عذاب الدنيا إن رشد، وبين عذاب الآخرة إن فسد، وقال الخطابي: المراد ما يخاف عليه من هلاك دينه، فال*** بالسكين فيه إراحة للمذبوح وبغيرها يكون الألم أكثر تعبيرًا ليكون أبلغ في التحذير.
القضاة ثلاثة
والقاضي اسم من قضى بين اثنين، أو حكم بينهما سواء سمي خليفة أو سلطانًا أو نائبًا أو واليًا، والقضاة ثلاثة كما قال المصطفى " صلى الله عليه وسلم" : «قاضيان في النار وقاض في الجنة، فرجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار، ورجل قضى بين الناس على جهل فهو في النار، ورجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة»، ومن الحديث يتبين قدر المسؤولية وجسامتها، وبالتالي فمن يتولى القضاء يجب أن يكون نصب عينيه أنه واحد من ثلاثة وهو ليس بمفازة من النار إلا بأن يعلم الحق ويقضي به.
صفات القاضي العادل
وإذا ما كان القاضي أهلا لتولي القضاء، وجلس مجلس القضاء، فيجب أن تتوفر فيه الاستقامة والنزاهة، وسعة الصدر، وعفة اللسان، والتواضع والصبر والبشاشة، واستقلال الرأي، وهدوء الفكر، وهكذا نجد صفات الفضل كلها قد اجتمعت في القاضي، ويجب أن يخلص القضاء لله فمن أخلص قضاءه لله تعالى قذف في قلبه نورًا واستضاء به للحق فعرفه وحكم به.
كما لا يكفي في القاضي ورع بلا علم، ولا علم بلا ورع؛ فلا فضل لقاضٍ ورع أمن الهوى ولم يعلم الحق فقضى بغيره، ولا فضل لعالم عرف الحق وصده عنه الهوى فقضى بغيره.
والقاضي يجب أن يكون بشوش الوجه منفرج الأسارير رطب اللسان حلو الكلام يجيد مخاطبة كل إنسان بطريقة تناسبه وتلائمه دونما تقريظ أو تعجيز، فيجد لديه العامة وغيرهم الصدر الرحب لسماع وتلقي كل ما لديهم من مظالم دونما ضجر أو كدر. يقول سيدنا عمر في رسالته: إياك والغضب والقلق والضجر.
عدالة الشكل
إن الجلوس في مجلس القضاء يلقي كثيرًا من التبعات على صاحبه بدءًا من الالتزام التام بكل ما يفرضه جلال الموقف من ارتداء ثوب العدالة والتحلي بأخلاقها، وحسن معاملة المتقاضين، والمساواة بين الخصوم في كل شيء وأصغر شيء، فشكل العدالة بمعنى العدل في الأمور الشكلية- أولا- من أعظم الأمور التي تبث الطمأنينة في نفس وقلب المتقاضي، وتبعد عنه كل نوازع الخوف أو الرهبة ما يجعله يعرض مظلمته أو شكايته وهو مطمئن غير مرتبك أو مرتعد.
أما إن لاقى وجهًا عبوسًا ولفظًا فظًا وقلبًا غليظًا أو معاملة غير كريمة لأيقن باختلال ميزان العدالة من البداية واهتز يقينه، وجزعت نفسه، وبات فاقدًا أي أمل لنيل حقه.
فالعدالة عند القاضي مظهر وجوهر، قلب وقالب، شكل وموضوع، قول وفعل، هي كل حياته وهكذا يجب أن يكون (10).
يقول عمر بن الخطاب "رضي الله عنه" في رسالته لقاضيه أبي موسي الأشعري "رضي الله عنه" : «آس بين الناس في مجلسك وفي وجهك وقضائك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك».
القضاء في الموضوع
يجب على القاضي أن يفهم ما يدلى إليه فهمًا لا يخالطه شك، وهذا لا يتأتى إلا إذا كان عالمًا بلغة المتحدثين وطرائق كلامهم، وملمًا بكافة شؤون الحياة وما يدور فيها، بل وفاهمًا لطبيعة البلدة التي يقضي فيها وطبائع أهلها، فهي أمور تيسر له مهمته في النفاذ ببصيرة واعية للب القضية وجوهر النزاع ومن ثم الولوج فيها على وعي تام وعلم أتم. يقول سيدنا عمر في رسالته: «فافهم إذا أدلي إليك، وأنفذ إذا تبين لك.. والفهم الفهم فيما أدلي عليك مما ليس في قرآن ولا سنة، ثم قايس الأمور عندئذ، واعرف الأمثال ثم اعمد فيها ترى أقربها الى الله وأشبهها بالحق.
يقول العلامة ابن القيم الجوزية- يرحمه الله- في إعلام الموقعين: إن واجب القاضي أن يعلم ما يقع، وأن يحكم فيه بما يجب؛ الأول مداره على الصدق، والثاني مداره على العدل {وتمت كلمة ربك صدقًا وعدلا} (الأنعام: 115).
وفهم القاضي من نوع خاص فهو إنما يفهم في الله ولله، ويقيم هذا الفهم بالإضافة إلى الذكاء وسلامة الذوق ووفرة العلم بالقانون في أدق أحكامه وأخص أسراره وغاياته، ووقوف القاضي على طبائع الناس وأحوالهم وإلمامه بأعرافهم وعاداتهم، ويفسد هذا الفهم غلبة الميل والهوى والاستسلام للتعسف والتردد، وكثرة ما يقع فيه القاضي من السهو والغفلة.
وقيل لو اجتمع في القاضي قلة علم وسوء قصد وأخلاق سيئة وقلة ورع فقد تم خسرانه ووجب عليه أن يعزل نفسه ويبادر بالخلاص.
ويقول صلاح عبدالصبور في واقعة على لسان القاضي ابن شريح: «... القاضي لا يفتي بل ينصب ميزان العدل، لا يحكم في أشباح بل في أرواح أغلاها الله إلا أن تزهق في حق أو إنصاف، الوالي والقاضي رمزان جليلان للقدرة والحق لا تدنو من مرماها أفراس القدرة لا تبلغ غايتها إلا إن أمسك فرسان الحق بزمام أعنتها».
القاضي يقبل الصلح
يجب على القاضي أن يعرض الصلح على الخصوم، بل ويقبله منهم إذا كان فيه إنصاف للمظلوم طالما لا يحل حراما ولا يحرم حلالا؛ جاء في الرسالة: فالصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا أحل حراما أو حرم حلالا.
القاضي رجاع إلى الحق
إذا حكم القاضي حكمًا وتبين له فيما بعد أنه كان مخطئًا فيما قضى به وتبين له وجه الحق في الدعوى، فلا عليه إن عدل عن حكمه الخاطئ؛ جاء في الرسالة: «ولا يمنعك قضاء قضيته بالأمس وراجعت فيه نفسك وهديت فيه إلى رشدك أن تراجع فيه الحق، فالرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطلٍ.
الخاتمة
وهكذا يكون القاضي عادلًا إذا ما اهتدى إلى الحق واستنار قلبه بالعدالة، وقد حوت رسالة عمر بن الخطاب العديد من قيم وتقاليد القضاء التي لم يرد أحسن منها في التشريعات العصرية، وهكذا ستظل تلك الرسالة نبراسًا يقتدي به القضاة على مر العصور والأزمان، ولم لا وهي صادرة عن أمير المؤمنين وهو مضرب المثل في العدل، وصدق فيه القول: «حكمت فعدلت فأمنت فنمت يا عمر» رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين.
الهوامش
1- الآيات: (المائدة: 42، الحجرات: 9، الممتحنة: 8).
2- المعجم الوجيز ص: 409.
3- المرجع السابق ص: 501.
4- المرجع السابق ص: 619.
5- الخصائص العامة للإسلام. د. يوسف القرضاوي ص: 123.
6- المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم د. محمد فؤاد عبدالباقي ص: 550، 653.
7- هذا حلال وهذا حرام د. عبدالقادر أحمد عطا ص: 389.
8- أخرجه الترمذي وأبوداود.
9- أخرجه الترمذي وأبوداود.
10- قيم وتقاليد السلطة القضائية للمستشار: أمين طه أبوالعلا.


http://www.anaqamaghribia.com/Gallery/images/ne/0015.gif

ابونرمين
15-02-2013, 08:10 PM
http://img6.imageshack.us/img6/3513/54645610.gif
القضاة وميزان العدالة
محمود علي
باحث دراسات إسلامية
كتب سيدنا عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما حين ولاه القضاء فقال: من عبدالله عمر أمير المؤمنين إلى عبدالله بن قيس أبي موسى الأشعري: سلام عليكم، أما بعد: فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة فافهم إذا أدلي إليك، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاد له، آس بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك؛ حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك.
http://www.alwaei.com/site/files/3113/5308/8727/55_opt.jpeg




على القاضى فهم ما يقال فهما لايساوره شك وأن يعرف لغة المتحدثين وطرائق كلامهم وطبيعة حياتهم
البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحًا أحل حرامًا، أو حرم حلالا، لا يمنعك قضاء قضيته اليوم فراجعت نفسك فيه، وهديت فيه لرشدك؛ أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل.
الفهم.. الفهم فيما يتلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنة، ثم اعرف الأمثال والأشباه، فقس الأمور عند ذلك، واعمد إلى أقربها إلى الله، وأشبهها بالحق.
يقول تعالى {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ المِيزَانَ. أَلاَّ تَطْغَوْا فِي المِيزَانِ. وَأَقِيمُوا الوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُوا المِيزَانَ} (الرحمن: 7-9)، والميزان يعني العدل، كما قال تعالى {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (الحديد: 25)، وهكذا قال سبحانه {ألا تطغوا في الميزان}، فخلق السموات والأرض بالحق والعدل لتكون الأشياء كلها بالحق والعدل فهما جوهر كل الشرائع وسياج أمن البشرية وأساس سعادتها.
والعدل صفة من صفات الحق سبحانه واسم من أسمائه الحسنى وقد أمر الله عباده بالعدل {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} (النحل: 90)، وأمر بالقسط وهو صنو العدل، فقال {كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} (المائدة: 8)، {قل أمر ربي بالقسط} (الأعراف: 29) {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ} (المائدة: 42)، وما أعظم محبة الله تعالى لعباده المقسطين {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (المائدة: 42) وقد وردت الآية ثلاث مرات في المصحف الشريف (1).
والعدل هو حلم الإنسان الدائب الذي لم يكف دومًا عن السعي إلى تحقيقه وكان سعيه قد كلل بخطوات من نجاح أكدت كل خطوة منها هذا التلازم الرفيع بين العدل وارتقاء الإنسانية في درجات سموها كما أكدت أن الإنسانية ليست ببالغة ذراها الرفيعة في قمة وجودها الذي يتجلى في القبس النوراني الكامن فيها إلا محمولة على راحة العدل وساعده.
العدل لغة
العدل لغة: الإنصاف، وعدل عدلا وعدولا وعدالة؛ واستقام الشيء عدلا أي أقامه وسواه، وعادل بين الشيئين أي وازن، واعتدال يعني توسط بين حالين في كم أو كيف أو تناسب، وجو معتدل من الحرارة والبرودة. ويقال حسنة الاعتدال أي القوام وتعادلا أي تساويا (2). http://www.alwaei.com/site/files/5713/5308/8839/file_8cb43cb8a0_24575_opt.jpeg
والقسط صنو العدل، فأقسط أي عدل ويقال أقسط في حكمه وفي الآية الكريمة {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي اليَتَامَى.... } (النساء: 3) والقسط يعني العدل، ويقال أيضًا ميزان القسط أو موازين قسط وفي الآية: {وَنَضَعُ المَوَازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيَامَةِ.... } (الأنبياء: 47) والقسط الحصة والنصيب (3).
ويأتي في معنى العدل أيضًا الإنصاف، ونصف الشيء نصفًا أي بلغ نصفه، وأنصف فلان أي عدل، وتناصف القوم أي أنصف بعضهم بعضًا والأنصف الأكثر إنصافًا (4).
والعدل أيضًا يعني التوسط والوسطية - فمن معاني الوسطية التي وصفت بها الأمة الكريمة وترتب عليها شهادتها على البشرية كلها - العدل الذي هو ضرورة لقبول شهادة الشاهد، فما لم يكن عدلا فإن شهادته مردودة مرفوضة، والعدل والتوسط والتوازن كلمات متقاربة المعنى، فالعدل حقيقة توسط بين الطرفين المتنازعين والأطراف المتنازعة دون ميل أو تحيز إلى إحداهما، وهو بعبارة أخرى موازنة بين الأطراف بحيث يعطى كل ذي حق حقه دون بخس أو جور.
ومما قاله المفسرون في قوله تعالى {قال أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ} (القلم: 28)، أوسطهم أي أعدلهم، ويؤكد هذا الإمام الرازي في تفسيره بقوله: «إن أعدل بقاع الشيء وسطه لأن حكمه في سائر أطرافه على سواء واعتدال، فالوسط يعني إذن العدل والاعتدال ويعني التعادل والتوازن بلا جنوح إلى الغلو أو التقصير (5).
العدل في القرآن الكريم
ورد لفظ العدل في مواضع عديدة من كتاب الله تعالى، وورد أيضًا القسط، فقد ورد لفظ عدل ومشتقاته نحو «عدلا، لأعدل، اعدلوا، تعدل، تعدلوا» اثنتين وعشرين مرة، وورد لفظ القسط ومشتقاته «أقسط، أقسطوا، القسط، يقسطوا، القسطاس، المقسطين» خمسا وعشرين مرة.
العدل والقضاء
إن الحكم بين الناس فيما ينشب بينهم من نزاعات وخلافات، أو فيما يقع من جرائم الدم والعرض والمال وغيرها هو من أخطر الأمور وأصعبها؛ ذلك لما فيه من مسؤوليات جسام تقع على عاتق القاضي، ليس فقط في الفصل والحكم ولكن من كل كلمة ينطق بها أمام الخصوم، بل وكل حركة أو تصرف في مجلس القضاء، فلابد أن يسوي بين خصومه في كل شيء، وتلك المسؤولية عظيمة أمام الله تعالى وأمام ضميره.
ولا غرو أن يتورع السلف عن تولي القضاء حتى كان الحاكم يحاول قهرهم على توليه بالحبس والضرب، وقد ورد في السنة النبوية ما يحذر من المسارعة إلى ولاية القضاء إلا لمتمكن من دينه، وكمال عقله، كما حذر المصطفى من السعي لدى ولي الأمر لتولي القضاء فلم يكن يولي أحدا شيئًا إذا طلبه، لما في توليته على تلك الحال من شائبة هوى النفس وحب الظهور وبعده عن حقيقة الولاية وهي الفصل في المنازعات وإيصال الحقوق إلى أصحابها لوجه الله تعالى، باعتبارها مسؤولية جسيمة وليست ترفًا واستعلاء على الغير ولا ذريعة لجلب مصلحة شخصية (7).
وعن أنس قال: سمعت رسول الله يقول: «من طلب القضاء واستعان عليه وكل إليه، ومن لم يطلبه ولم يستعن عليه أنزل الله ملكًا يسدده» (8).
ولعظم المسؤولية وجلالها قال المعلم الأول: «من ولي القضاء فقد *** بغير سكين» (9). وقيل إن المراد *** من حيث المعنى لأنه بين عذاب الدنيا إن رشد، وبين عذاب الآخرة إن فسد، وقال الخطابي: المراد ما يخاف عليه من هلاك دينه، فال*** بالسكين فيه إراحة للمذبوح وبغيرها يكون الألم أكثر تعبيرًا ليكون أبلغ في التحذير.
القضاة ثلاثة
والقاضي اسم من قضى بين اثنين، أو حكم بينهما سواء سمي خليفة أو سلطانًا أو نائبًا أو واليًا، والقضاة ثلاثة كما قال المصطفى " صلى الله عليه وسلم" : «قاضيان في النار وقاض في الجنة، فرجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار، ورجل قضى بين الناس على جهل فهو في النار، ورجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة»، ومن الحديث يتبين قدر المسؤولية وجسامتها، وبالتالي فمن يتولى القضاء يجب أن يكون نصب عينيه أنه واحد من ثلاثة وهو ليس بمفازة من النار إلا بأن يعلم الحق ويقضي به.
صفات القاضي العادل
وإذا ما كان القاضي أهلا لتولي القضاء، وجلس مجلس القضاء، فيجب أن تتوفر فيه الاستقامة والنزاهة، وسعة الصدر، وعفة اللسان، والتواضع والصبر والبشاشة، واستقلال الرأي، وهدوء الفكر، وهكذا نجد صفات الفضل كلها قد اجتمعت في القاضي، ويجب أن يخلص القضاء لله فمن أخلص قضاءه لله تعالى قذف في قلبه نورًا واستضاء به للحق فعرفه وحكم به.
كما لا يكفي في القاضي ورع بلا علم، ولا علم بلا ورع؛ فلا فضل لقاضٍ ورع أمن الهوى ولم يعلم الحق فقضى بغيره، ولا فضل لعالم عرف الحق وصده عنه الهوى فقضى بغيره.
والقاضي يجب أن يكون بشوش الوجه منفرج الأسارير رطب اللسان حلو الكلام يجيد مخاطبة كل إنسان بطريقة تناسبه وتلائمه دونما تقريظ أو تعجيز، فيجد لديه العامة وغيرهم الصدر الرحب لسماع وتلقي كل ما لديهم من مظالم دونما ضجر أو كدر. يقول سيدنا عمر في رسالته: إياك والغضب والقلق والضجر.
عدالة الشكل
إن الجلوس في مجلس القضاء يلقي كثيرًا من التبعات على صاحبه بدءًا من الالتزام التام بكل ما يفرضه جلال الموقف من ارتداء ثوب العدالة والتحلي بأخلاقها، وحسن معاملة المتقاضين، والمساواة بين الخصوم في كل شيء وأصغر شيء، فشكل العدالة بمعنى العدل في الأمور الشكلية- أولا- من أعظم الأمور التي تبث الطمأنينة في نفس وقلب المتقاضي، وتبعد عنه كل نوازع الخوف أو الرهبة ما يجعله يعرض مظلمته أو شكايته وهو مطمئن غير مرتبك أو مرتعد.
أما إن لاقى وجهًا عبوسًا ولفظًا فظًا وقلبًا غليظًا أو معاملة غير كريمة لأيقن باختلال ميزان العدالة من البداية واهتز يقينه، وجزعت نفسه، وبات فاقدًا أي أمل لنيل حقه.
فالعدالة عند القاضي مظهر وجوهر، قلب وقالب، شكل وموضوع، قول وفعل، هي كل حياته وهكذا يجب أن يكون (10).
يقول عمر بن الخطاب "رضي الله عنه" في رسالته لقاضيه أبي موسي الأشعري "رضي الله عنه" : «آس بين الناس في مجلسك وفي وجهك وقضائك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك».
القضاء في الموضوع
يجب على القاضي أن يفهم ما يدلى إليه فهمًا لا يخالطه شك، وهذا لا يتأتى إلا إذا كان عالمًا بلغة المتحدثين وطرائق كلامهم، وملمًا بكافة شؤون الحياة وما يدور فيها، بل وفاهمًا لطبيعة البلدة التي يقضي فيها وطبائع أهلها، فهي أمور تيسر له مهمته في النفاذ ببصيرة واعية للب القضية وجوهر النزاع ومن ثم الولوج فيها على وعي تام وعلم أتم. يقول سيدنا عمر في رسالته: «فافهم إذا أدلي إليك، وأنفذ إذا تبين لك.. والفهم الفهم فيما أدلي عليك مما ليس في قرآن ولا سنة، ثم قايس الأمور عندئذ، واعرف الأمثال ثم اعمد فيها ترى أقربها الى الله وأشبهها بالحق.
يقول العلامة ابن القيم الجوزية- يرحمه الله- في إعلام الموقعين: إن واجب القاضي أن يعلم ما يقع، وأن يحكم فيه بما يجب؛ الأول مداره على الصدق، والثاني مداره على العدل {وتمت كلمة ربك صدقًا وعدلا} (الأنعام: 115).
وفهم القاضي من نوع خاص فهو إنما يفهم في الله ولله، ويقيم هذا الفهم بالإضافة إلى الذكاء وسلامة الذوق ووفرة العلم بالقانون في أدق أحكامه وأخص أسراره وغاياته، ووقوف القاضي على طبائع الناس وأحوالهم وإلمامه بأعرافهم وعاداتهم، ويفسد هذا الفهم غلبة الميل والهوى والاستسلام للتعسف والتردد، وكثرة ما يقع فيه القاضي من السهو والغفلة.
وقيل لو اجتمع في القاضي قلة علم وسوء قصد وأخلاق سيئة وقلة ورع فقد تم خسرانه ووجب عليه أن يعزل نفسه ويبادر بالخلاص.
ويقول صلاح عبدالصبور في واقعة على لسان القاضي ابن شريح: «... القاضي لا يفتي بل ينصب ميزان العدل، لا يحكم في أشباح بل في أرواح أغلاها الله إلا أن تزهق في حق أو إنصاف، الوالي والقاضي رمزان جليلان للقدرة والحق لا تدنو من مرماها أفراس القدرة لا تبلغ غايتها إلا إن أمسك فرسان الحق بزمام أعنتها».
القاضي يقبل الصلح
يجب على القاضي أن يعرض الصلح على الخصوم، بل ويقبله منهم إذا كان فيه إنصاف للمظلوم طالما لا يحل حراما ولا يحرم حلالا؛ جاء في الرسالة: فالصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا أحل حراما أو حرم حلالا.
القاضي رجاع إلى الحق
إذا حكم القاضي حكمًا وتبين له فيما بعد أنه كان مخطئًا فيما قضى به وتبين له وجه الحق في الدعوى، فلا عليه إن عدل عن حكمه الخاطئ؛ جاء في الرسالة: «ولا يمنعك قضاء قضيته بالأمس وراجعت فيه نفسك وهديت فيه إلى رشدك أن تراجع فيه الحق، فالرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطلٍ.
الخاتمة
وهكذا يكون القاضي عادلًا إذا ما اهتدى إلى الحق واستنار قلبه بالعدالة، وقد حوت رسالة عمر بن الخطاب العديد من قيم وتقاليد القضاء التي لم يرد أحسن منها في التشريعات العصرية، وهكذا ستظل تلك الرسالة نبراسًا يقتدي به القضاة على مر العصور والأزمان، ولم لا وهي صادرة عن أمير المؤمنين وهو مضرب المثل في العدل، وصدق فيه القول: «حكمت فعدلت فأمنت فنمت يا عمر» رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين.
الهوامش
1- الآيات: (المائدة: 42، الحجرات: 9، الممتحنة: 8).
2- المعجم الوجيز ص: 409.
3- المرجع السابق ص: 501.
4- المرجع السابق ص: 619.
5- الخصائص العامة للإسلام. د. يوسف القرضاوي ص: 123.
6- المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم د. محمد فؤاد عبدالباقي ص: 550، 653.
7- هذا حلال وهذا حرام د. عبدالقادر أحمد عطا ص: 389.
8- أخرجه الترمذي وأبوداود.
9- أخرجه الترمذي وأبوداود.
10- قيم وتقاليد السلطة القضائية للمستشار: أمين طه أبوالعلا.


http://www.anaqamaghribia.com/gallery/images/ne/0015.gif


موضوع رائع ،وفى وقتهِ
فالقضاء محنته شملت الأنام،وخصت الكرام ،ووجب على كل من أشتم روائح العقل وميز بين النقصان والفضل،أن ينفطر لها ألماً

simsim elmasry
15-02-2013, 08:19 PM
موضوع رائع ،وفى وقتهِ
فالقضاء محنته شملت الأنام،وخصت الكرام ،ووجب على كل من أشتم روائح العقل وميز بين النقصان والفضل،أن ينفطر لها ألماً

http://t1.gstatic.com/images?q=tbn:ANd9GcRUETRb3SrSWs3YLaHTwV0BR1-yN8MlcRIzCLqra0yYNyvmk9QA