مشاهدة النسخة كاملة : طبيعة الحق في التعبير والثوابت الدينية


abomokhtar
30-04-2012, 11:32 AM
أول ما يرد الحديث بشأنه هو: ما هو "الحق في التعبير"؟ وما هي "الثوابت الدينية"؟ وأن تبين طبيعة كل منهما هو أول خطوات البحث في حدود العلاقة بينهما.
فالحق هو ما ثبت ووجب، أي هو الواجب الثابت، ويُطلق على المال والملك والوجود الثابت، وبمقتضى كونه واجبًا ثابتًا فهو يكون معينًا أو قابلاً للتعين. والحق في الفكر الوضعي هو سلطة يخولها القانون للشخص على شيء معين مثل حق الملكية، وهو سلطة تُخول شخصًا مُطالبة شخص آخر بإعطاء شيء أو بعمل أو بامتناع عن عمل، أو هو مصلحة يحميها القانون كما يقول البعض، وعلى كل الأحوال فهو بمُقتضى أي من هذه التعريفات ينبغي أن يكون مُعينًا.
فالحق يكون على أمر محدود كامتلاك شيء بعينه، أما ما يسمى "الحق في التملك" فهو "رخصة" وليس حقا بالمعنى المُتعين، والرخصة وجه من وجوه الإجازة، هي مكنة إتيان فعل ما، هي وجه من وجوه الإباحة، وهي تشير إلى المعنى الذي يُستخدم له اليوم لفظ "الحرية" فنقول بحرية التملك والتعاقد أو حرية الاعتقاد والتعبير؛ بمعنى أن الأمر يقع في مجال الجائز من الأمور.
أبيّن هذه المسألة لكي تتضح الفروق بين المعاني، فالحق ينبغي أن يُقتضى، وإذا تعارض حقان وكانا متساويين في الأحقية، وجب إزالة التعارض بينهما بما يحفظهما معا أو يحفظ أكبر قدر منهما معًا، أما الرُّخص فهي تدور في إطار المُباح والجائز، والحريات تقف عند حدود الحقوق، أي أن حريتي تقف عند أعتاب حق غيري، وحريتي في الحركة والتنقل تقف عند حدود ملك غيري، أرضًا كان أو سكنًا.
و"لاي" قال إنه بموجب حريتي في الحركة يكون لي أن أقتحم بيت جاري، ولا يكون بموجب رخصتي في التملك، فإنه يمكنني أن أبيع ملك غيري، وبالمثل فإن حريتي في التعبير، لا تَكفُل لي سب غيري بأن أنسب له ما يُشينه، ولا تَكفل لي القذف في حقه بأن أُلصق به من الجرائم ما لم يثبت أنه ارتكبها، فأضعه في موضع التهمة دون شبهة.
وللإنسان حُرَم وعصم، فالدول مثلا لا تمتلك البحار والمحيطات وليس لها عليها سيادة، ولكن لكل دولة مساحة في البحر تُعتبر مياها إقليمية، هذه المساحة هي المُتعارف على أن الغريب الداخل فيها بغير إذن يمكنه أن يُهدد أمن هذه الدولة، وعُرف نظام مثيل لذلك في البوادي، فكان للقبيلة "حمى" يحوطها خارج نطاق سكنها وعملها، وللبيت "حمى" يحوطه خارج أسواره.
ومن ثم فإن الرخص والمُباحات، أي الحريات تقف عند حدود حقوق الآخرين فلا يحل انتهاك حق للغير باسم الحرية، ما دام حقًّا مُعترفًا به من الجماعة أو الدولة.
وكذلك فإن هذه الحريات تقف عند حدود العصم والحُرَم التي للغير، أي هذا النطاق الذي يُحيط بالغير وبحقوقهم، ولا يحق انتهاكه طبقًا لما تتعارف عليه الجماعة المعنية.

منقول

abomokhtar
30-04-2012, 11:34 AM
ومن ناحية أخرى، فإن الحرية في التعبير هي أمر مكفول للشخص أو للفرد، ونحن نلحظ أن هذين اللفظين هما ما استخدمه كلٌّ من إعلان حقوق الإنسان والاتفاقية الدولية بشأن الحقوق المدنية والسياسية، ومن الطبيعي أن الجماعات يتكون كل منها من أفراد، ومن ثم فإن الحقوق والحريات المكفولة للفرد تصدق أيضا على الجمع من الأفراد، هذا من نوافل الأقوال، إنما ما أقصد الإشارة إليه أن حق الفرد إن تعارض مع حق الجماعة، وجب بذل الجهد للتوفيق بينهما، فإن لم يمكن التوفيق، أو فيما لم يمكن فيه التوفيق، وجب تقديم حق الجماعة، وكان حق الجماعة أولى بالمراعاة من حق الفرد.
لا أجد في نفسي حاجة لأن أثبت هذه المسألة، فهي في ظني ثابتة، سواء من وجهة نظر الفقه الإسلامي، أو من وجهة نظر الفكر الوضعي، والفقه الإسلامي يجعل حق الجماعة في مجال حقوق الله سبحانه؛ لأن ما يتعلق بالنفع العام للناس ويعود على مجموع الأفراد والجماعات إنما يُنسب إلى الله تعالى، من قبيل التعظيم لهذا الحق (لأن الله سبحانه مُستغن عن الناس وجماعاتهم)، ومن قبيل ألا يختص بهذا الحق واحد من الطغاة والجبابرة، فيدعي لنفسه القوامة عليه بسبب شيوعه.
كما أننا نعرف أن ما يُهم الجماعة مما يُعتبر في مرتبة الحاجات إنما ينزل بوصفه الجماعي منزلة الضرورات.. وهكذا. ومن حيث الفكر الوضعي، فإنه يكفي في هذا المجال ما أوردته الاتفاقية الدولية بشأن الحقوق الدينية والسياسية؛ إذ قررت في الفقرتين الأولى والثانية من المادة 18 حرية الفكر والضمير والديانة للفرد، وعدم جواز الإخضاع للإكراه في هذا الشأن، ثم نصت الفقرة 3 من المادة ذاتها "تخضع حرية الفرد في التعبير عن ديانته أو مُعتقداته فقط للقيود المنصوص عليها في القانون والتي تستوجبها السلامة العامة أو النظام العام أو الصحة العامة، أو الأخلاق أو حقوق الآخرين وحرياتهم الأساسية"، فإن لفظ "العامة" أو "العام" الموصوف به أي من النظام أو السلامة أو الصحة، صريح الدلالة في تعلقه بالجماعة، وهو يُفيد خضوع حرية الفرد في أي من ذلك لما تستوجبه مصلحة الجماعة.
وكذلك فإن المادة 19 من الاتفاقية ذاتها بعد أن أقرت حق الفرد في اتخاذ الرأي وحريته في التعبير، وما يشمله ذلك بالصيغة السابق إيرادها في بيان حقوق الإنسان، بعد ذلك نصت الفقرة 3 على أن مُمارسة هذه الحرية ترتبط "بواجبات ومسئوليات خاصة"، ومن ثم "فإنها قد تخضع لقيود معينة، ولكن فقط بالاستناد إلى نصوص القانون، والتي تكون ضرورية:

أ- من أجل احترام حقوق وسمعة الآخرين.
ب- من أجل حماية الأمن الوطني أو النظام العام أو الصحة العامة أو الأخلاق.
وبذلك يظهر أن الحقوق والحريات المذكورة ترتبط بواجبات ومسئوليات، فهي من بدئها ليست حقوقا طليقة من كل قيد، وإنها تخضع للقيود الضرورية، وإن هذه الضرورات لا يكفي بشأنها عدم المساس بحقوق الغير وسمعتهم، إنما يتعين أن تكون من أجل "احترام" هؤلاء الآخرين واحترام سمعتهم، وإنها مُقيدة بحقوق الجماعة، أمنًا ونظامًا وصحة وأخلاقًا. ومن هذا يبدو أن حق الفرد وحريته في التعبير إنما يتغير ويخضع لحقوق الجماعة ولما لها من حرم وعصم.

منقول