بوابة الثانوية العامة المصرية

بوابة الثانوية العامة المصرية (https://www.thanwya.com/vb/index.php)
-   أرشيف المنتدي (https://www.thanwya.com/vb/forumdisplay.php?f=513)
-   -   موسوعة الأخلاق الإسلامية (https://www.thanwya.com/vb/showthread.php?t=511314)

محمد رافع 52 20-04-2013 10:58 AM

نماذج تطبيقيَّة مِن الأمم السَّابقة في التَّعاون
التَّعاون بين ذي القرنين وأصحاب السَّدِّ:
(لقد مكَّن الله عزَّ وجلَّ لذي القرنين في الأرض، وآتاه مِن كلِّ شيء سببًا، فتوفَّرت القدرة والسُّلطة، وتهيَّأت أمامه أسباب القوَّة والنُّفُوذ التي لم تتوفَّر لكثير غيره. وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا [الكهف:83-84]، ومع ذلك لم يستغن ذو القرنين عن معونة الآخرين حينما أراد أن يقوم بعمل كبير، وإنجاز عظيم: حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا [الكهف: 93-94]، فصارحهم ذو القرنين بأن مثل هذا العمل الضَّخم يحتاج إلى التَّعاون، ولا يتمُّ دونه؛ فقال: مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا [الكهف: 95].. الآيات، فماذا كانت نتيجة هذا التَّعاون العظيم؟ كانت نتيجته إتمام عمل عظيم، سدٌّ منيع، لا يستطيع مهاجموه أن يعلو ظهره، ولا أن يحدثوا فيه خَرْقًا.. والدَّرس الذي نخرج به أنَّ التَّعاون إذا أخلص له أهلوه، وبذلوا فيه بصدقٍ ما استطاعوا حقق لهم مِن النتائج ما يكفي ويشفي) .

محمد رافع 52 20-04-2013 11:00 AM

نماذج تطبيقية مِن حياة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في التَّعاون

- كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يسعى لقضاء حوائج المسلمين، ويحبُّ إعانتهم، والوقوف معهم فيما يلمُّ بهم مِن نوازل، وكان مجبولًا على ذلك مِن صغره وقبل بعثته، وقد بيَّنت ذلك أمُّنا خديجة رضي الله عنها عندما كانت تخفِّف مِن روع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم عند عودته مِن غار حراء بعد نزول الوحي عليه، وكان فزعًا، فقالت له: (كلا والله ما يخزيك الله أبدًا، إنَّك لتصل الرَّحم، وتحمل الكلَّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضَّيف، وتعين على نوائب الحقِّ) .
- وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يكون في مَهْنة أهله، فإذا حضرت الصَّلاة قام إلى الصَّلاة)) .
- وعن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: ((كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ينقل التُّراب يوم الخندق حتى أغمر بطنه أو أغبر بطنه يقول:


والله لولا الله ما اهتدينا***ولا تصدَّقنا ولا صلَّينا



فأنزلن سكينة علينا***وثبِّت الأقدام إن لاقينا



إن الأُلى قد بغوا علينا***إذا أرادوا فتنة أبينا



ويرفع بها صوته: أبينا أبينا)) .

محمد رافع 52 20-04-2013 12:49 PM

نماذج تطبيقيَّة مِن حياة الصَّحابة في التَّعاون

كان الصَّحابة رضوان الله عليهم مثالًا يُحْتَذى بهم في التَّعاون، وكانوا في ذلك المثل الأسمى، فكانوا كخليَّة النَّحل في تكاتفها وتعاونها، وكالجسد الواحد إذا اشتكى منهم عضو تداعى له سائر الجسد بالسَّهر والحمَّى، و(في الوقت الذي كان فيه أبو عبيدة بن الجرَّاح وسعد بن أبي وقَّاص، وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص يفتحون مصر والشَّام والعراق، كان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي يسوسون النَّاس، ويرعون شؤونهم، وكان معاذ بن جبل وابن عبَّاس وابن عمر يعلِّمون النَّاس، ويفتونهم ويربُّونهم، وكان أبو هريرة وأنس وعائشة يحفظون الحديث ويروونه، وكان أبو ذرٍّ وأبو الدَّرداء يعظون النَّاس والحكَّام وينصحونهم، فتعاونوا ولم يتعايبوا.. وتناصروا ولم يتدابروا) .
ونقف هنا وقفات مع نماذج مِن تعاون الصَّحابة رضي الله عنهم.
تعاون الصَّحابة رضي الله عنهم في حفر الخندق:
- نقل لنا الصَّحابيُّ الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه صورة مِن تعاون الصَّحابة وتكاتفهم في حفر الخندق، فيقول: ((جعل المهاجرون والأنصار يحفرون الخندق حول المدينة، وينقلون التَّراب على متونهم، ويقولون:


نحن الذين بايعوا محمَّدًا***على الإسلام ما بقينا أبدًا



والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يجيبهم ويقول:


اللَّهمَّ إنَّه لا خير إلَّا خير الآخرةْ***فبارك في الأنصار والمهاجرةْ))




تعاون أبي بكر وأهل بيته مع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في هجرته:
- جهَّز أبو بكر راحلتين عندما أعلمه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بالهجرة، وخاطر بنفسه وهاجر مع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وعندما وصلا غار ثور دخل أبو بكر أوَّلًا ليستبرأ الغار للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم كي لا يصيبه أذى، وأعدَّت أسماء بنت أبي بكر لهما جهاز السَّفر، وكان عبد الله بن أبي بكر يأتي لهما بأخبار قريش، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر يريح الغنم عليهما وهما في الغار ليشربا مِن لبنها، وفي طريقهما إلى المدينة كان أبو بكر إذا تذكر طلب قريش للرَّسول صلى الله عليه وسلم مشى خلفه، وإذا تذكر رصدها له مشى أمامه .
تعاون الصَّحابة رضوان الله عليهم في بناء المسجد النبوي:
- عندما قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لبني النَّجار: ((يا بني النَّجار ثامنوني بحائطكم هذا، قالوا: لا والله لا نطلب ثمنه إلَّا إلى الله، فقال أنسٌ: فكان فيه ما أقول لكم قبور المشركين، وفيه خربٌ وفيه نخلٌ، فأمر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بقبور المشركين، فنُبِشَت، ثمَّ بالخرب فسوِّيت، وبالنَّخل فقطِّع، فصفُّوا النَّخل قبلة المسجد، وجعلوا عضادتيه الحجارة، وجعلوا ينقلون الصَّخر وهم يرتجزون والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم معهم، وهو يقول: اللَّهمَّ لا خير إلَّا خير الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة)) .
تعاون الأنصار مع المهاجرين بعد الهجرة:
- قال عبد الرَّحمن بن عوف رضي الله عنه: ((آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبين سعد بن الرَّبيع، فقال لي سعد: إنِّي أكثر الأنصار مالًا، فأقاسمك مالي شطرين، ولي امرأتان، فانظر أيتهما شئت حتى أنزل لك عنها، فإذا حلَّت تزوجتها، فقلت: لا حاجة لي في ذلك، دلُّوني على السُّوق، فدلُّوني على سوق بني قينقاع، فما رحت حتى استفضلت أقِطًا وسمنًا)) .
- وقالت الأنصار للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: ((اقسم بيننا وبينهم النَّخل، قال: لا. قال: يكفوننا المئونة ويشركوننا في التَّمر. قالوا: سمعنا وأطعنا)) .
ومِن تعاون الصَّحابة أيضًا:
- موقفهم في قصَّة سلمان رضي الله عنه عندما كاتب سيِّده، وكان فقيرًا لا يملك ما كاتب عليه، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم للصَّحابة: ((أعينوا أخاكم)) فأعانوه، حتى تحرَّر مِن رقِّه، وأصبح حرًّا .
ميادين التَّعاون
(لقد أقام الإسلام التَّعاون بين المسلمين على أساس مُحْكَم، ومدَّ له في كلِّ ناحية مِن نواحي الحياة بسببٍ. فالتَّمثيل القرآني لأهل الإيمان أنَّهم كالبنيان المرصوص، وفي التَّمثيل النَّبوي كالجسد الواحد. فأمور الإسلام ومطلوباته لا تتحقَّق على وجهها إلَّا بالتَّعاون. ودين الله بنيان شامخ لا يقوم ولا يثبت إلَّا حين تتراص لبناته، وتتضامن مبانيه؛ لتسدَّ كلُّ لبنة ثغرتها.
وإذا كان الله سبحانه قد خَلَق الخَلْق لعبادته وطاعته فإنَّ هذه العبادات والطَّاعات أنواع: قلبيَّة عقليَّة كالإيمان، وبدنيَّة كالصَّلاة، وماليَّة كالزَّكاة، ومركَّبة مِن البدن والمال كالحجِّ والجهاد.
وكلُّ هذه العبادات بأنواعها لا تقام ولا تشاد إلَّا بوسائلها: مِن صحة الفكر، وسلامة البدن، وسعة ذات اليد. ولهذه الوسائل وسائل: مِن التَّفقُّه في الدِّين، والإحسان في الأعمال؛ مِن زراعة وصناعة وحرف، وإتقان في العلوم والمعارف؛ مِن الطِّب والحساب والهندسة والمعامل والمختبرات. ومِن المقطوع به -كما سبق- أنَّ الإنسان بمفرده بل حتى الرَّهط مِن النَّاس والجماعة المحدودة مِن القوم لا تستطيع بهذه الوسائل الانفراد بتحقيق هذه المقاصد. ومنه يتبيَّن حاجة النَّاس إلى الاجتماع والتَّآزر، فذلك ما تقتضيه الفطرة، ويتطلبه الدِّين، وتنتظم به الشؤون، وتستقيم به العلوم.
وهذا بعض البسط لصورٍ مِن التَّعاون في أحكام الإسلام وآدابه، وإذا استجلاها رجل الدَّعوة عرف ضرورة التَّعاون وحاجته إليه في ميدانه ومجاله.
فالصَّلوات الخمس جماعة وجمعة، وصلاة العيدين وآدابهما، والحجُّ بشعائره، وعقد النِّكاح بوليمته وآدابه، وعقيقة المولود، وإجابة الدَّعوى حتى للصَّائم، كلُّها مناشط عباديَّة اجتماعيَّة تعاونيَّة، ولا تكون صورتها الشَّرعية إلَّا كذلك.
وينضمُّ إلى اجتماع الأعياد اجتماع الشدائد والكرب في صلوات الاستسقاء والكسوف والجنازة.
إنَّه انتظام عجيب بين أهل الإسلام في مواطن السُّرور والحزن، ناهيك بصورة الأخوَّة، ومبدأ الشُّورى، وحقوق المسلمين فيما بينهم؛ في القربى والجوار والضَّيف وابن السَّبيل واليتامى والمساكين، مع ما يحيط بذلك مِن سياج الآداب الاجتماعيَّة؛ مِن إفشاء السَّلام، وفسح المجالس،...
أمَّا أنواع المعاملات والتَّعاملات فذلك جليٌّ في عقود المضاربة والعارية والهبة والمهاداة وفرض الدِّية على العاقلة.
وثمَّة صورٌ مِن المعاونات في كفِّ الظُّلم، ونصرة المظلوم، ودفع الصَّائل بسلاح أو مال. بل هل يقوم الجهاد، وتُقام الحدود، وتُستوفى الحقوق، ويقوم الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر إلَّا بالتَّعاون والتآزر.
وهناك التَّعاون بالرَّأي، بما يدلُّ على الحقِّ، ويخرج مِن الحيرة، وينقذ مِن المأزق والهلكة، في النَّصيحة والمشاورة، وقد يكون تعاونًا بالجاه؛ مِن الشَّفاعة لذي الحاجة عند من يملك قضاءها...
فإذا وضع المسلمون أيديهم على هذه الأسباب الوثيقة، يتقدَّمهم أولو الأمر والعلماء والدُّعاة، بلغوا المكانة المحفوفة بالعزَّة المشار إليها بقوله سبحانه: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون: 8]) .
(قال ابن خويز مندادٍ في أحكامه: والتَّعاون على البِرِّ والتَّقوى يكون بوجوهٍ، فواجبٌ على العالم أن يعين النَّاس بعلمه فيعلِّمهم، ويعينهم الغني بماله، والشُّجاع بشجاعته في سبيل الله، وأن يكون المسلمون متظاهرين كاليد الواحدة ((المؤمنون تتكافؤ دماؤهم ويسعى بذمَّتهم أدناهم وهم يدٌ على مَن سواهم)) . ويجب الإعراض عن المتعدِّي وترك النُّصرة له، وردُّه عمَّا هو عليه)) .

محمد رافع 52 20-04-2013 12:52 PM

أصناف النَّاس في التَّعاون
قال الماورديُّ: (تنقسم أحوال مَن دخل في عداد الإخوان أربعة أقسام: منهم مَن يعين ويستعين، ومنهم مَن لا يعين ولا يستعين، ومنهم مَن يستعين ولا يعين، ومنهم مَن يعين ولا يستعين.
فأمَّا المعين والمستعين فهو معاوضٌ منصف؛ يؤدِّي ما عليه ويستوفي ماله، فهو كالمقرض يُسْعِف عند الحاجة ويستردُّ عند الاستغناء، وهو مشكورٌ في معونته، ومعذورٌ في استعانته، فهذا أعدل الإخوان.
وأمَّا مَن لا يُعين ولا يستعين فهو متروك قد منع خيره وقمع شرَّه، فهو لا صديق يُرْجَى، ولا عدوٌّ يُخْشَى، وإذا كان الأمر كذلك فهو كالصُّورة الممثَّلة، يروقك حسنها، ويخونك نفعها، فلا هو مذموم لقمع شرِّه، ولا هو مشكور لمنع خيره، وإن كان باللَّوم أجدر.
وأمَّا مَن يستعين ولا يُعين فهو لئيم كَلٌّ، ومهين مستذلٌّ، قد قُطِع عنه الرَّغبة، وبُسِط فيه الرَّهبة، فلا خيره يُرْجَى، ولا شرُّه يُؤْمَن، وحسبك مهانة مِن رجل مستثقل عند إقلاله، ويستقلُّ عند استقلاله فليس لمثله في الإخاء حظٌّ، ولا في الوداد نصيب.
وأمَّا مَن يُعين ولا يستعين فهو كريم الطَّبع، مشكور الصُّنع، وقد حاز فضيلتي الابتداء والاكتفاء، فلا يُرى ثقيلًا في نائبة، ولا يقعد عن نهضة في معونة.
فهذا أشرف الإخوان نفسًا وأكرمهم طبعًا، فينبغي لمن أوجد له الزَّمان مثله، وقلَّ أن يكون له مثل؛ لأنَّه البَرُّ الكريم والدُّرُّ اليتيم، أن يثني عليه خنصره، ويعضَّ عليه بناجذه، ويكون به أشدَّ ضنًّا منه بنفائس أمواله، وسِنِي ذخائره؛ لأنَّ نفع الإخوان عامٌّ، ونفع المال خاصٌّ، ومَن كان أعمَّ نفعًا فهو بالادِّخار أحقُّ، ثمَّ لا ينبغي أن يزهد فيه لخُلُق أو خُلُقين ينكرهما منه إذا رضي سائر أخلاقه، وحمد أكثر شيمه؛ لأنَّ اليسير مغفور، والكمال مُعْوِز) .
فـــ(هذا تقسيم مِن الماورديِّ رحمه الله أشبه بالحصر العقلي. وهو تقسيم جميل لتصوير النُّفوس وأحوال النَّاس والشُّخوص. ولكن واقع النَّاس، وما قضت به سنَّة الله في هذه الحياة، مِن بناء الدُّنْيا، واستقامة المعاش على المشاركة والمعاونة، واتخاذ النَّاس بعضهم بعضًا سخريًّا،... يشوِّش على ما قرَّره الماورديُّ، فلا يُتَصَوَّر في الواقع مِن أحد -فيما نحن بصدده- أن يحقِّق مبتغاه إلَّا بتعاضد أطرافٍ مِن النَّاس، هذا جانب. ومِن جانب آخر، فإنَّ البَذْل مِن طرف واحد -على نحو ما ذكر الماورديُّ- لا يسمَّى إلَّا إحسانًا ومنَّة ونعمة، وهذا ليس مِن باب التَّعاون في شيء إلَّا مِن حيث الأثر والفائدة للمُحَسن إليه والمنْعَم عليه.
كما أنَّ مَن يستعين ولا يُعين قد رضي لنفسه أن يكون عالة على غيره، وجعل حياته مبنيَّة على السُّؤال والطَّلب والتَّطلُّع إلى ما في أيدي النَّاس.
وأمَّا مَن لا يعين ولا يستعين فتصوُّر وجوده في بني الإنسان بعيد، على نحو ما سبق في المقدِّمة مِن تقرير أنَّ التَّعاون ضرورةٌ إنسانيَّة. فالإنسان لا يستغني عن أخيه الإنسان، كما قضى الله عزَّ وجلَّ في سننه) .

محمد رافع 52 20-04-2013 12:54 PM

التَّعاون بين الحاكم والمحكوم

إنَّ الحاكم يحتاج إلى المعاونة والمساعدة، مثله مثل غيره مِن البشر، بل هو أشدُّ حاجةً إلى ذلك مِن غيره، بسبب الأعمال والتَّكاليف الكثيرة التي يواجهها في إدارة البلاد، ومحال أن يتصدَّر لكلِّ شئون البلاد ويديرها دون وجود المعين والمساعد، (فإنَّ الإمام ليس هو ربًّا لرعيته حتى يستغني عنهم، ولا هو رسول الله إليهم حتى يكون هو الواسطة بينهم وبين الله. وإنَّما هو والرَّعية شركاء يتعاونون هم وهو على مصلحة الدِّين والدُّنْيا، فلا بدَّ له مِن إعانتهم، ولا بدَّ لهم مِن إعانته، كأمير القافلة الذي يسير بهم في الطَّريق: إن سلك بهم الطَّريق اتبعوه، وإن أخطأ عن الطَّريق نبَّهوه وأرشدوه، وإن خرج عليهم صائلٌ يصول عليهم تعاون هو وهم على دفعه) .

محمد رافع 52 20-04-2013 12:59 PM

وصايا في الحثِّ على التَّعاون

- قال أبو هلال العسكري: (أجود ما قيل في التَّضافر والتَّعاون قول قيس بن عاصم المنقري يُوصي ولده وقومه: وجدت في كتاب غير مسموع لما حضر عبد الملك بن مروان الوفاة وعاينته، وقال: يا بني، أُوصيكم بتقوى الله، وليعطف الكبير منكم على الصَّغير، ولا يجهل الصَّغير حقَّ الكبير، وأكرموا مسلمة بن عبد الملك؛ فإنَّه نابكم الذي عنه تعبرون، ومِجَنَّكم الذي به تستجيرون، ولا تقطعوا مِن دونه رأيًا ولا تعصوا له أمرًا، وأكرموا الحجاج ابن يوسف؛ فإنَّه الذي وطَّأ لكم المغابر، وذلَّل لكم قارب العرب، وعليكم بالتَّعاون والتَّضافر، وإيَّاكم والتَّقاطع والتَّدابر. فقال قيس بن عاصم لبنيه:

بصلاح ذات البين طول بقائكم***إن مدَّ في عمري وإن لم يمدد



حتى تلين جلدوكم وقلوبكم***لمسود منكم وغير مُسَود



إن القداح إذا جمعن فرامها***بالكسر ذو حنق وبطش أيِّد



عزَّت ولم تكسر وإن هي بددت***فالوهن والتَّكسير للمتبدِّد)


- رُوِي أنَّ أكثم بن صيفي دعا أولاده عند موته، فاستدعى بضمامة مِن السِّهام، وتقدَّم إلى كلِّ واحدٍ أن يكسرها، فلم يقدر أحدٌ على كسرها، ثمَّ بدَّدها وتقدَّم إليهم أن يكسروها، فاستهلوا كسرها، فقال: كونوا مجتمعين؛ ليعجز مَن ناوأكم عن كسركم كعجزكم .
- و(دعا يزيد بن المهلَّب ولده حبيبًا ومَن حضر مِن ولده، ودعا بسهام، فحزمت، وقال: أفترونكم كاسريها مجتمعةً؟ فقالوا: لا. قال: أفترونكم كاسريها مفترقةً؟ قالوا: نعم، قال: هكذا الجماعة) .
التَّعاون في عالم الحيوانات والطُّيور:
توجد العديد مِن الأمثلة التي تدلُّ على التَّعاون والتَّآزر والتَّكافل بين الكائنات الحيَّة، وكثيرٌ مِن هذه الكائنات تعيش على شكل مجاميع وقطعان، لتكون قوَّة واحدة لحماية بعضها البعض، وللتَّصدِّي لأي خطر قد يُحْدِق بأحد أفرادها.
(مخلوقات جعل الله في فطرتها نوع تعاون، إمَّا لتأمين غذائها أو الدِّفاع عن نفسها وجماعتها، ويظهر ذلك في ***ي النَّمل والنَّحل.
فقد شُوهِد أنَّ النَّمل إذا عثر على عسل في وعاء، ولم يتمكَّن مِن الوصول إليه مباشرة؛ لوجود ماء أو سائل يحول بينه وبين هذا العسل، فإنَّه يتعاون بطريقة فدائيَّة انتحاريَّة؛ فتتقدَّم فِرَقٌ بعد أخرى فتلتصق بالسَّائل وتموت، وتتقدَّم غيرها مثلها حتى تتكون قنطرة مِن جثث النَّمل الميِّت يعبر عليها الأحياء الباقون، فيدخلون الوعاء، ويصلون إلى العسل، ويبلغون مأربهم. هذا في حال اليُسْر والغذاء.
أمَّا في حال العُسْر والتَّعرُّض للمخاطر: فإنَّ مجاميع النَّمل إذا تعرَّضت لتيَّار مائي داهم - مثلًا - فإنَّ بعضها يمسك ببعض ثمَّ تكوِّن كتلة كرويَّة متماسكة تتحمَّل اندفاع التَّيَّار، ثمَّ تعمل حركتين في آن واحد، إحداهما: تتحرَّك فيها الأرجل كالمجاديف في اتجاه واحد نحو أقرب شاطئ، والثَّانية: حركة دائريَّة مِن أعلى إلى أسفل؛ ليتم تقاسم التَّنفُّس بين الجميع، فإذا ما تنفَّس مَن في الأعلى حصل انقلاب؛ ليرتفع مَن في جهة القاع، فيأخذ حظه مِن النَّفس، وهكذا في حركة دائريَّة حتى يبلغوا شاطئ الأمان.
فسبحان الذي أعطى كلَّ شيء خَلْقَه ثمَّ هدى. وسبحان مَن وهب الإنسان العقل المفكِّر ليتأسَّى ويعتبر ويكتشف ويرقى بفكره - بعد هداية الله وتوفيقه - ليكون خيرًا مِن الأنعام.
أمَّا النَّحل فنظامه في تكوين مملكته، وإنتاج عسله، وترتيب الأعمال بين أفراد خليَّته، فعَجَبٌ عُجَاب في التَّعاون والتَّناوب، ولله في خلقه شؤون) .
فهذه الأمثلة وغيرها، تبيِّن عظيم قدرته سبحانه وتعالى في الكون، الذي فطر جميع المخلوقات على التَّعاون والتَّكافل والتَّآزر.

محمد رافع 52 20-04-2013 01:00 PM

حكمٌ وأمثالٌ في التَّعاون

- في الجريرة تشترك العشيرة.
يُضْرَب في الحثِّ على المواساة والتَّعاون .
- هل ينهض البازي بغير جناحٍ؟
يُضْرَب في الحثِّ على التَّعاون والوِفَاق .
- بالسَّاعدين تبطش الكفَّان.
يُضْرَب في تعاون الرَّجلين وتساعدهما وتعاضدهما في الأمر .
- بال حمارٌ فاستبال أَحْمِرَةً.
أي حملهنَّ على البول. يُضْرَب في تعاون القوم على ما تكرهه .

محمد رافع 52 20-04-2013 01:02 PM

مِن أقوال الحكماء

- مَن جاد لك بمودَّته فقد جعلك عديل نفسه، فأوَّل حقوقه اعتقاد مودَّته، ثمَّ إيناسه والانبساط إليه في غير محرَّم، ثمَّ نصحه في السِّرِّ والعلانية، ثمَّ تخفيف الأثقال عنه، ثمَّ معاونته فيما ينوبه مِن حادثة، أو يناله مِن نكبة، فإنَّ مراقبته في الظَّاهر نفاق، وتركه في الشِّدَّة لُؤْم .
- فضيلة الفلَّاحين التَّعاون بالأعمال، وفضيلة التِّجَّار التَّعاون بالأموال، وفضيلة الملوك التَّعاون بالآراء والسِّياسة، وفضيلة العلماء التَّعاون بالحِكَم .

محمد رافع 52 20-04-2013 01:10 PM

التَّعاون في واحة الشِّعر
قال الشَّاعر:


لولا التَّعاونُ بينَ النَّاسِ ما شرفتْ***نفسٌ ولا ازدهرتْ أرضٌ بعمرانِ



ويرحم الله شوقي حيث يقول:


إنَّ التَّعاون قوَّةٌ عُلويةٌ***تبني الرِّجالَ وتبدعُ الأشياءَ



وقال آخر:


لعمرُك ما مال الفتى بذخيرةٍ***ولكن إخوانَ الثِّقاتِ الذخائرُ



وقال آخر:


يُعرِّفُك الإخوانُ كلٌّ بنفسِه***وخيرُ أخٍ ما عرَّفتك الشدائدُ



وقال آخر:


أُعِين أخي أو صاحبي في بلائِه***أقومُ إذا عضَّ الزَّمانُ وأقعُدُ



ومَن يفردِ الإخوانَ فيما ينوبُهم***تَـنُـبْه الليالي مرَّةً وهو مفردُ



وقال حافظ إبراهيم:


لا تعجبنَّ لملكٍ عَزَّ جانبُه***لولا التَّعاونُ لم تنظرْ له أثرَا



وقال آخر:


أخاك أخاك إنَّ مَن لا أخًا له***كساعٍ إلى الهيجا بغيرِ سلاحِ



وإنَّ ابنَ عمِّ المرءِ - فاعلمْ – جناحُه***وهل ينهضُ البازي بغيرِ جناحِ



ولله درُّ القائل:


كونوا جميعًا يا بَنيَّ إذا اعترَى***خَطبٌ ولا تتفرَّقوا آحادَا



تأبى القِداحُ إذا اجتمعن تكسُّرًا***وإذا افترقن تكسَّرت أفرادَا



وقال آخر:


النَّاسُ للنَّاسِ مِن بَدوٍ وحاضرةٍ***بعضٌ لبعضٍ وإن لم يشعروا خدمُ



وقال آخر:


إذا العبءُ الثَّقيلُ توزَّعته***رقابُ القومِ خفَّ على الرِّقابِ



وقال آخر:


وإن قام منهم قائمٌ قال قاعدٌ***رشدتَ فلا غرمٌ عليك ولا خَذْلُ



وقال آخر:


إذا ما تأمَّلنا الأمورَ تبيَّنتْ***لنا وأميرُ القومِ للقومِ خادمُ



وقال آخر:


إذا سيِّدٌ منَّا ذَرَا حَدُّ نابِه***تَخَمَّطَ فِينا نابُ آخَرَ مُقْرَمِ



وقال أحد الشُّعراء:


همومُ رجالٍ في أمورٍ كثيرةٍ***وهمِّي مِن الدُّنْيا صديقٌ مساعدُ



نكونُ كروحٍ بينَ جسمين قُسمتْ***فجسماهما جسمان والرُّوحُ واحدُ



وقال آخر:


إنِّي رأيتُ نملةً***في حيرةٍ بين الجبال



لم تستطعْ حملَ الطَّعامِ***وحدَها فوق الرِّمال



نادت على أختٍ لها***تعينُها فالحملُ مال



لم يستطيعا حملَه***تذكَّرا قولًا يُقَال



تعاونوا جميعكم***فالخير يأتي بالوصال



نادت على إخوانِها***جاءوا جميعًا بالحبال



جرُّوا معًا طعامَهم***لم يعرفوا شيئًا محال



وقال حافظ إبراهيم:


إذا ألـمَّت بوادي النِّيلِ نازلةٌ***باتت لها راسياتُ الشَّامِ تضطربُ



وإن دعا في ثرى الأهرام ذو ألمٍ***أجابه في ذرا لبنان منتحبُ



لو أخلص النِّيلُ والأردنُ ودَّهما***تصافحتْ منهما الأمواهُ والعشبُ



وقال آخر:


وكلُّ عضوٍ لأمرٍ ما يمارسُه***لا مشي للكفِّ بل تمشي به القدمُ



وقال أحمد محرم:


وبلوتُ أسبابَ الحياةِ وقستُها***فإذا التَّعاونُ قوَّةٌ ونجاحُ



وقال آيضًا:


وإن ضاع التَّعاونُ في أناسٍ***عَفت آثارُهم في الضَّائعينا





محمد رافع 52 20-04-2013 01:13 PM

http://www.dorar.net/misc/akhlaq.jpg
التَّواضُع
معنى التَّواضُع لغةً واصطلاحًا
معنى التَّواضُع لغةً:
التواضع التذلل، يُقَال: وضَعَ فُلانٌ نَفْسَهُ وضْعًا، ووُضُوعًا بالضَّم، وَضَعَةً، بالفَتْحِ: أي أذلَّها. وتَوَاضَعَ الرَّجُلُ: إذا تَذَلَّلَ، وقيل: ذَلَّ وتَخاشَعَ .
معنى التَّواضُع اصطلاحًا:
التَّواضُع هو: (ترك التَّرؤس، وإظهار الخمول، وكراهية التَّعظيم، والزِّيادة في الإكرام، وأن يتجنَّب الإنسان المباهاة بما فيه مِن الفضائل، والمفاخرة بالجاه والمال، وأن يتحرَّز مِن الإعجاب والكِبْر) .
وقيل هو: (رضا الإنسان بمنزلة دون ما يستحقُّه فضله ومنزلته. وهو وسطٌ بين الكِبْر والضِّعَة، فالضِّعَة: وضع الإنسان نفسه مكانًا يزري به بتضييع حقِّه. والكِبْر: رفع نفسه فوق قدره) .
وقيل هو: (إظهار التَّنزُّل عن المرتبة لمن يراد تعظيمه، وقيل: هو تعظيم مَن فوقه فضله) .

محمد رافع 52 20-04-2013 01:18 PM

الفرق بين التَّواضُع وبعض الصِّفات

الفرق بين التَّواضُع والتَّذلُّل:
(أنَّ التَّذلُّل: إظهار العجز عن مقاومة مَن يتذلَّل له.
والتَّواضُع: إظهار قُدْرَة مَن يتواضع له، سواءً كان ذا قُدْرَة على المتواضع أو لا، ألا ترى أنَّه يُقَال العبد: متواضع لخَدمه، أي: يعاملهم معاملة مَن لهم عليه قُدْرَة، ولا يُقَال: يتذلَّل لهم؛ لأنَّ التَّذلُّل: إظهار العجز عن مقاومة المتَذَلَّل له، وأنَّه قاهر، وليست هذه صفة الملِك مع خدمه) .
الفرق بين التَّواضُع والخشوع:
(التَّواضُع: يعتبر بالأخلاق والأفعال الظَّاهرة والباطنة.
والخشوع: يقال باعتبار الجوارح، ولذلك قيل: إذا تواضع القلب خشعت الجوارح) .

محمد رافع 52 20-04-2013 01:21 PM

أولًا: في القرآن الكريم

- قال الله تعالى: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا [الفرقان: 63]، قال ابن القيِّم: (أي: سكينة ووقارًا، متواضعين غير أشرين ولا مَرِحين ولا متكبِّرين، قال الحسن: علماء حلماء. وقال محمَّد بن الحنفيَّة: أصحاب وقار وعفَّة، لا يسفِّهون، وإن سُفِه عليهم حلموا. والهَوْن -بالفتح- في اللُّغة: الرِّفق واللِّين، والهُون -بالضَّم-: الهَوَان فالمفتوح منه: صفة أهل الإيمان، والمضموم صفة أهل الكُفْران، وجزاؤهم مِن الله النِّيران) .
(وقال تعالى مخاطبًا رسوله، ممتنًّا عليه وعلى المؤمنين فيما أَلان به قلبه على أمَّته المتَّبعين لأمره، التَّاركين لزجره، وأطاب لهم لفظه، فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ [آل عمران: 159]) .
- كما أمره الله سبحانه وتعالى أن يلين جانبه للمؤمنين، وأن يتواضع لهم، فقال: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ [الحجر: 88].
قال القرطبيُّ في تفسير هذه الآية: (أي: أَلِن جانبك لمن آمن بك، وتواضعْ لهم) .
وقال عزَّ مِن قائل: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشُّعراء: 215].
- ووصف الله سبحانه وتعالى أصحاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بأنَّهم (يظهرون العطف والحُنُوَّ والتَّواضُع للمؤمنين، ويظهرون الشِّدَّة والغلظة والتَّرفُّع على الكافرين) حيث قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [المائدة: 54 ].
وقال ابن كثير: (هذه صفات المؤمنين الكُمَّل أن يكون أحدهم متواضعًا لأخيه ووليِّه، متعزِّزًا على خصمه وعدوِّه، كما قال تعالى: مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ [الفتح: 29]) .
وقال ابن القيِّم: (لـمَّا كان الذُّل منهم ذُلَّ رحمة وعطف وشفقة وإخبات، عدَّاه بأداة على تضمينًا لمعاني هذه الأفعال، فإنَّه لم يرد به ذُلَّ الهوان الذي صاحبه ذليل، وإنَّما هو ذُلُّ اللِّين والانقياد الذي صاحبه ذلول، فالمؤمن ذلول كما في الحديث: المؤمن كالجمل الذَّلول، والمنافق والفاسق ذليل) .
- وقوله تعالى: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء: 24]، (حيث أمر الله بالتَّواضُع للوالدين ذلًّا لهما ورحمة واحتسابًا للأجر) .
- وقال سبحانه: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص: 83].
قال ابن كثير: (يخبر تعالى أنَّ الدَّار الآخرة ونعيمها المقيم الذي لا يحول ولا يزول، جعلها لعباده المؤمنين المتواضعين لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ ، أي: ترفُّعًا على خلق الله وتعاظمًا عليهم وتجبُّرًا بهم، ولا فسادًا فيهم)

محمد رافع 52 20-04-2013 01:24 PM

ثانيًا: في السُّنَّة النبوية
رغَّب الإسلام في التَّواضُع وحثَّ عليه ابتغاء مرضات الله، وأنَّ مَن تواضع جازاه الله على تواضعه بالرِّفعة، وقد وردت نصوصٌ مِن السُّنَّة النَّبويَّة تدلُّ على ذلك:
- منها قوله صلى الله عليه وسلم: ((ما نقصت صدقة مِن مال، وما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلَّا عزًّا، وما تواضع أحد لله إلَّا رفعه الله)) .
قال القاضي عياض في قوله صلى الله عليه وسلم ((وما تواضع أحد لله إلَّا رفعه الله)): (فيه وجهان: أحدهما: أنَّ الله تعالى يمنحه ذلك في الدُّنْيا جزاءً على تواضعه له، وأنَّ تواضعه يُثْبِتُ له في القلوب محبَّةً ومكانةً وعزَّةً.
والثَّاني: أن يكون ذلك ثوابه في الآخرة على تواضعه) .
- وعن عياض بن حمار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ الله أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحدٌ على أحد، ولا يبغي أحدٌ على أحدٍ)) .
(يعني: أن يتواضع كلُّ واحد للآخر، ولا يترفَّع عليه، بل يجعله مثله أو يكرمه أكثر، وكان مِن عادة السَّلف رحمهم الله: أنَّ الإنسان منهم يجعل مَن هو أصغر منه مثل ابنه، ومَن هو أكبر مثل أبيه، ومَن هو مثله مثل أخيه، فينظر إلى ما هو أكبر منه نظرة إكرام وإجلال، وإلى مَن هو دونه نظرة إشفاق ورحمة، وإلى مَن هو مثله نظرة مساواة، فلا يبغي أحدٌ على أحد، وهذا مِن الأمور التي يجب على الإنسان أن يتَّصف بها، أي بالتَّواضُع لله عزَّ وجلَّ ولإخوانه مِن المسلمين) .
- وعن معاذ بن أنس الجهني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن ترك اللِّباس تواضعًا للَّه، وهو يقدر عليه دعاه الله يوم القيامة على رءوس الخلائق حتى يخيِّره مِن أيِّ حلل الإيمان شاء يلبسها)) .
قال ابن عثيمين: (وهذا يعني أنَّ الإنسان إذا كان بين أناس متوسِّطي الحال لا يستطيعون اللِّباس الرَّفيع، فتواضع وصار يلبس مثلهم، لئلَّا تنكسر قلوبهم، ولئلَّا يفخر عليهم، فإنَّه ينال هذا الأجر العظيم، أمَّا إذا كان بين أناس قد أنعم عليهم، ويلبسون الثِّياب الرَّفيعة لكنَّها غير محرَّمة، فإنَّ الأفضل أن يلبس مثلهم؛ لأنَّ الله تعالى جميل يحبُّ الجمال، ولا شكَّ أنَّ الإنسان إذا كان بين أناس رفيعي الحال، يلبسون الثِّياب الجميلة، ولبس دونهم فإنَّ هذا يُعَدُّ لباسَ شهرة؛ فالإنسان ينظر ما تقتضيه الحال) .
- وعن حارثة بن وهب رضي الله عنه أنَّه سمع النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: ((ألا أخبركم بأهل الجنَّة؟ قالوا: بلى. قال صلى الله عليه وسلم: كلُّ ضعيف متضعِّف، لو أقسم على الله لأبرَّه. ثمَّ قال:ألا أخبركم بأهل النَّار؟ قالوا: بلى. قال: كلُّ عتلٍّ جوَّاظٍ مستكبر)) .
قال القاضي عياض: (وقوله في أهل الجنَّة: ((كلُّ ضعيفٍ متضعِّف))... هو صفة نفي الكِبْرَياء والجبروت التي هي صفة أهل النَّار، ومَدَح التَّواضُع والخمول، والتَّذلُّل لله عزَّ وجلَّ، وحضَّ عليه) .
- عن أبي الدَّرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ابغوني في ضعفائكم، فإنَّما تُرْزَقون وتُنْصَرون بضعفائكم)) .
قال الطِّيبيُّ في معنى الحديث: (فيه نهيٌ عن مخالطة الأغنياء، وتحذيرٌ مِن التَّكبُّر على الفقراء، والمحافظة على جبر خواطرهم، ولهذا قال لقمان لابنه: لا تحقرنَّ أحدًا لخُلْقَان ثيابه؛ فإنَّ ربَّك وربَّه واحدٌ.
وقال ابن معاذ: حبُّك الفقراء مِن أخلاق المرسلين، وإيثارك مجالستهم مِن علامات الصَّالحين، وفرارك منهم مِن علامات المنافقين) .

http://lovely0smile.com/images/Card/620.jpg

محمد رافع 52 20-04-2013 06:11 PM

أقوال السَّلف والعلماء في التَّواضُع

- عن عائشة رضي الله عنها، قالت: (إنَّكم لتغفلون أفضل العبادة: التَّواضُع) .
- وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: (لا يبلغ عبدٌ ذُرَى الإيمان حتى يكون التَّواضُع أحبَّ إليه مِن الشَّرف، وما قلَّ مِن الدُّنْيا أحبَّ إليه ممَّا كَثُر، ويكون مَن أحبَّ وأبغض في الحقِّ سواء، يحكم للنَّاس كما يحكم لنفسه وأهل بيته) .
- و(سُئِل الفضيل بن عياض عن التَّواضُع، فقال: يخضع للحقِّ، وينقاد له، ويقبله ممَّن قاله) .
- وقال ابن المبارك: (رأس التَّواضُع أن تضع نفسك عند مَن هو دونك في نعمة الدُّنْيا حتى تُعْلِمه أن ليس لك بدنياك عليه فضل، وأن ترفع نفسك عمَّن هو فوقك في نعمة الدُّنْيا، حتى تُعْلِمه أنَّه ليس له بدنياه عليك فضل) .
- وعن إبراهيم بن أبي عبلة قال: (رأيت أمَّ الدَّرداء مع نساء المساكين جالسة ببيت المقدس) .
- وقال قتادة: (مَن أُعْطِي مالًا أو جمالًا وثيابًا وعلمًا، ثمَّ لم يتواضع، كان عليه وبالًا يوم القيامة) .
- وقال يحيى بن الحكم بن أبي العاص لعبد الملك: (أيُّ الرِّجال أفضل؟ قال: مَن تواضع عن رفعة، وزهد على قُدْرَة، وترك النُّصرة على قومه) .
- وقال إبراهيم بن شيبان: (الشَّرف في التَّواضُع، والعزُّ في التَّقوى، والحرِّية في القناعة) .
- وقال علوان بن داود البجلي: حدَّثني شيخٌ مِن همدان عن أبيه قال: (بعثني قومي في الجاهليَّة بخيلٍ أهدوها لذي الكَلَاع، فأقمت ببابه سنةً لا أصِلُ إليه، ثمَّ أشرف إشرافةً على النَّاس مِن غُرْفَة له، فخرُّوا له سجودًا، ثمَّ جلس فلقيته بالخيل، فقبلها، ثمَّ لقد رأيته بحمص وقد أسلم، يحمل بالدِّرهم اللَّحم، فيبتدره قومه ومواليه فيأخذونه منه فيأبى تواضعًا، وقال:

أفٍّ لذي الدُّنْيا إذا كانت كذا***أنا منها كلَّ يوم في أذى



ولقد كنت إذا ما قيل مَن***أنعم النَّاس معاشًا قيل ذا



ثمَّ بُدِّلت بعيش شقوة***حبَّذا هذا شقاء حبَّذا


- وعن صالح المرِّيِّ قال: (خرج الحسن ويونس وأيوب يتذاكرون التَّواضُع، فقال لهما الحسن: وهل تدرون ما التَّواضُع؟ التَّواضُع: أن تخرج مِن منزلك فلا تلق مسلمًا إلَّا رأيت له عليك فضلًا) .
- (وولي أبو هريرة رضي الله عنه إمارةً مرَّةً، فكان يحمل حزمة الحطب على ظهره، يقول: طرِّقوا للأمير) .
- وقال يحيى ابن أبي كثير: (رأس التَّواضُع ثلاث: أن ترضى بالدُّون مِن شرف المجلس، وأن تبدأ مَن لقيته بالسَّلام، وأن تكره مِن المدحة والسُّمعة والرِّياء بالبِرِّ) .

محمد رافع 52 20-04-2013 06:14 PM

فوائد التَّواضُع

1- أنَّ التَّواضُع يرفع المرء قدرًا ويُعْظِم له خطرًا ويزيده نبلًا .
2- التَّواضُع يؤدِّي إلى الخضوع للحقِّ والانقياد له .
3- التَّواضُع هو عين العزِّ؛ لأنَّه طاعة لله ورجوع إلى الصَّواب .
4- يكفي المتواضع محبَّة عباد الله له، ورفع الله إيَّاه .
5- التَّواضُع فيه مصلحة الدِّين والدُّنْيا، ويزيل الشَّحناء بين النَّاس، ويريح مِن تعب المباهاة والمفاخرة .
6- التَّواضُع يُكْسِب السَّلامة، ويورث الألفة، ويرفع الحقد، ويُذْهِب الصَّد .
7- ثمرة التَّواضُع المحبَّة، كما أنَّ ثمرة القناعة الرَّاحة، وإنَّ تواضع الشَّريف يزيد في شرفه، كما أنَّ تكبُّر الوضيع يزيد في ضِعَتِه .
8- التَّواضُع يؤلِّف القلوب، ويفتح مغاليقها، ويجعل صاحبه جليل القدر، رفيع المكانة.


جميع الأوقات بتوقيت GMT +2. الساعة الآن 11:50 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.